وخرجت عائشة إلى قتال أمير المؤمنين (ع)، ومعلوم أنها عاصية بذلك (1).
أما أولا: فلأن الله قد نهاها عن الخروج، وأمرها بالاستقرار في
____________
(1) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 1 ص 4: أما أصحاب الجمل، فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشة، وطلحة، والزبير، فإنهم تابوا، ولولا التوبة لحم لهم بالنار، لإصرارهم على البغي.
أقول: لم يثبت عند أحد من المسلمين توبتهم، واقتداؤهم بعلي حق الاقتداء، والروايات في باب الإمارة والخلافة، كما في صحيح مسلم، والبخاري، وغيرهما تدل على أن الخروج على الإمام حرام، وإطاعته إطاعة النبي، وعصيانه عصيان النبي صلى الله عليه وآله والعصيان لرسول الله مساوق للخروج عن صراط الحق.
وأما ثانيا: فلأنها ليست ولي الدم حتى تطلب به، ولا لها حكم الخلافة، فبأي وجه خرجت للطلب؟!
وأما ثالثا: فلأنها طلبته من غير من عليه الحق، لأن أمير المؤمنين عليه السلام لم يحضر قتله، ولا أمر به، ولا واطأ عليه، وقد ذكر ذلك كثيرا.
وأما رابعا: فلأنها كانت تحرض على قتل عثمان، وتقول: " اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا " (2)، فلما بلغها قتله فرحت بذلك، فلما قام أمير
____________
(1) قال تعالى: " وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " الأحزاب: 23
روى عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله، في حديث طويل يقول فيه: إن يوشع ابن نون وصي موسى (ع) عاش بعد موسى ثلاثين سنة، وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى (ع)، فقالت: أنا أحق منك بالأمر فقاتلها، فقتل مقاتليها، وأحسن أسرها، وإن ابنة أبي بكر ستخرج على علي في كذا وكذا ألفا من أمتي، فيقاتلها، فيقتل مقاتليها، ويأسرها فيحسن أسرها، وفيها أنزل الله تعالى: " وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " يعني صفراء. ولذا لما قرئت هذه الآية، بعد هذه الوقعة بكت عائشة حتى بلت خمارها، كما في الدر المنثور ج 5 ص 196
(2) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 2 ص 77: " قال كل من صنف في السير والأخبار:
إن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان، حتى أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله صلى الله عليه وآله، فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين إليها: هذا ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله لم يبل، وقد أبلى سنته، وقالوا: إن عائشة أول من سمى عثمان نعثلا، وكانت تقول:
اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا، وفي لفظ ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج 1 ص 52: اقتلوا نعثلا فقد فجر، وفي لفظ ابن الأثير في الكامل ج 3 ص 105 والطبري في تاريخه: اقتلوا نعثلا فقد، فقال لها ابن أم كلاب:
فمنك البداء ومنك الغير | ومنك الرياح، ومنك المطر |
وأنت أمرت بقتل الإمام | وقلت لنا: إنه قد كفر |
إلى آخر الأبيات، وقال الفيروزآبادي في القاموس ج 4 ص 60: النعثل: الشيخ الأحمق، وكان بالمدينة رجل لحياتي كان يشبه به عثمان. وقال ابن الأثير في نهاية اللغة ج 5 ص 79: كان أعداء عثمان يسمونه نعثلا، ومنه حديث عائشة: " اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا "، تعني عثمان.
ثم إنها جعلت بيت رسول الله صلى الله عليه وآله مقبرة لأبيها، ولعمر، وهما أجنبيان عن النبي صلى الله عليه وآله، فإن كان هذا البيت ميراثا، فمن الواجب استئذان جميع الورثة، وإن كان صدقة للمسلمين، فيحب استئذان المسلمين كافة، وإن كان ملك عائشة، كذبهم ما تقدم، مع أنه لم يكن لها بيت، ولا مسكن، ولا دار في المدينة.
وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " ما بيني وبين منبري روضة من رياض الجنة " (1).
وقد روى الطبري في تاريخه: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري في بيت على شفيرة قبري " (2).
وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، عن عائشة قالت:
ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وآله ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط، ولكن كان يكرر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها حصصا، ويبعثها إلى أصدقاء خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت لي، ولي منها ولد (3).
____________
(1) ورواه أحمد في المسند ج 3 ص 4
(2) منتخب كنز العمال ج 4 ص 314 في هامش مسند أحمد، وصحيح مسلم ج 3 ص 615
(3) صحيح البخاري ج 5 ص 48 وصحيح مسلم ج 3 ص 119.
وأفشت سر رسول الله صلى الله عليه وآله كما حكاه الله تعالى (2).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين: أن عمر خليفة أبيها شد عليها بذلك (3).
ونقل الغزالي سوء صحبتها لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال: إن أباها أبا بكر دخل يوما على النبي صلى الله عليه وآله، وقد وقع منها في حق النبي صلى الله عليه وآله أمر مكروه، فكلفه النبي صلى الله عليه وآله أن يسمع ما جرى، ويدخل بينهما، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: تتكلمين أو أتكلم؟ فقالت: بل تكلم ولا تقل إلا حقا (4).
فلينظر العاقل إلى هذا الجواب، وهل كان عنده إلا الحق؟ وينظر في الفرق بين خديجة وعائشة.
وقد أنكر الجاحظ، من أهل السنة في كتاب " الإنصاف " غاية الانكار على من يساوي عائشة بخديجة، أو يفضلها عليها.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين: أن ابن الزبير دخل على عائشة في مرضها، فقالت له: " إني قاتلت فلانا "، وسمت المقاتل برجل قاتلته عليه، وقالت: " لوددت أني كنت نسيا منسيا " (5).
____________
(1) تاريخ الخميس ج 2 ص 277 وفي تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 172: أنه قتل في ذلك اليوم نيف وثلاثون ألفا.
(2) ذكره المفسرون في أول سورة التحريم، ورواه البخاري في الصحيح، في كتاب الطلاق، وفي صحيح مسلم، في كتاب الرضاع.
(3) ذكره البخاري في الصحيح، والخازن في تفسيره ج 4 ص 306
(4) رواه الغزالي في إحياء العلوم، وقرره الفضل في المقام.
(5) ورواه ابن الأثير في النهاية ج 5 ص 50 وأحمد في مسنده.
قال البخاري في صحيحه (2)، وقال إبراهيم بن موسى عن هشام:
" لن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا ".
وهذا يدل على نقصها في الغاية.
وفيه: " أن عائشة حدثت: أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته: والله لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها " (3). ولم ينكر عليه أحد.
وهذا يدل على ارتكابها ما ليس بسائغ.
وفيه: عن ابن عباس قال: لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني (4).
وهذا يدل على استحقاقها الهجران.
وفيه: عن نافع، عن ابن عمر، قال: قام النبي صلى الله عليه وآله خطيبا، فأشار إلى مسكن عائشة، وقال: ها هنا الفتنة، ثلاثا، من حيث يطلع
____________
(1) الآيات في سورة التحريم، وما رواه الحميدي ذكره المفسرون والمحدثون في كتبهم:
منها: صحيح البخاري ج 7 ص 175، والتاج الجامع للأصول ج 4 ص 266 وقال:
رواه الثلاثة.
(2) صحيح البخاري ج 7 ص 76 والتاج الجامع للأصول ج 4 ص 267
(3) رواه في كتاب الأدب ج 8 ص 25
(4) ورواه أحمد في مسنده وأقر به الفضل في المقام، وأغمض عنه.
وفيه: قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله من بيت عائشة، فقال: رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان (2).
إيضاح خرافة الجبر
أفلا ينظر العاقل بعين الإنصاف، ويجتنب التقليد، واتباع الهوى، والاستناد إلى اتباع الدنيا، ويطلب الخلاص من الله تعالى، ويعلم أنه محاسب غدا على القليل والكثير، والفتيل والنقير، فكيف يترك اعتقاده؟
ويتوهم أنه يترك سدى؟ أو يعتقد بأن الله تعالى قدر هذه المعصية وقضاها، فلا يتمكن من دفعها، فيبرئ نفسه قولا لا فعلا، فإنه لا ينكر صدور الفعل من الإنسان إلا مكابر جاحد للحق، أو مريض العقل، بحيث لا يقدر على تحصيل شئ البتة.
ولو كان الأمر كما توهموه، لكان الله تعالى قد أرسل الرسل إلى نفسه، وأنزل الكتب على نفسه، فكل وعد ووعيد جاء به يكون متوجها إلى نفسه، لأنه إذا لم يكن فاعل سوى الله تعالى، فإلى من أرسل الأنبياء، وعلى من أنزل الكتب، ولمن تهدد ووعد وتوعد، ولمن أمر ونهى!.
ومن أعجب الأشياء وأغربها: أنهم يعجزون عن إدراك استناد أفعالهم إليهم، مع أنه معلوم للصبيان، والمجانين، والبهائم، ويقدرون على تصديق الأنبياء، والعلم بصحة نبوة كل مرسل، مع استناد الفساد، والضلال، والتلبيس، وتصديق الكذابين، وإظهار المعجزات على أيدي المبطلين إلى الله تعالى.
____________
(1) رواه في كتاب الجهاد، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله ج 4 ص 98 والتاج الجامع للأصول ج 5 ص 310 وقال: رواه الشيخان، والترمذي.
(2) التاج الجامع للأصول ج 5 ص 311 وقال: رواه مسلم.
قال الخوارزمي: حكى قاضي القضاة، عن أبي علي الجبائي: أن المجبر كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، ومن شك في كفر من شك في كفره، فهو كافر!!
وكيف لا يكون كذلك، والحال عندهم ما تقدم، وأنه يجوز أن يجمع الله الأنبياء، والرسل، وعباده الصالحين في أسفل درك الجحيم، يعذبهم دائما، ويخلد الكفار والمنافقين، وإبليس وجنوده في الجنة والنعيم أبد الآبدين؟.
وقد كان لهم في ذم غير الله متسع، وفيمن عداه مقنع، وهلا حكى الله اعتذار الكفار في الآخرة: بأنك خلقت فينا الكفر، والعصيان، بل اعترفوا بصدور الذنب عنهم، وقالوا: " ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل " (1)، ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا فإنا ظالمون " (2)، " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت " (3)، " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " (4)، " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا، فأضلونا السبيلا " (5)، " ربنا آتهم ضعفين من العذاب، والعنهم لعنا كبيرا " (6)، " ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس، نجعلهما تحت أقدامنا، وما أضلنا إلا المجرمون " (7).
ثم إن الشيطان اعترف بأنه استغواهم، وشهد الله تعالى بذلك، فحكى عن الشيطان: " إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني
____________
(1) فاطر: 37
(2) المؤمنون: 107
(3) المؤمنون: 99 - 100
(4) الزمر: 56
(5) الأحزاب: 67 و 68
(6) الأحزاب: 67 و 68
(7) فصلت: 29.
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله سبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذ وجدت صبيا في السبي، فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، قال: الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها (3).
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، بين الإنس والجن، والبهائم، والهوام، فيما يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها يعطف الوحش على ولدها، فأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة (4).
وفيه: عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: إن الله يقوم يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني قال: يا رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن فلانا مرض فلم تعده؟ أم علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ قال: إنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب، كيف أسقيك، وأنت رب العالمين؟
قال: استسقاك عبدي فلان، فلم تسقه. أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟ (5).
____________
(1) إبراهيم: 29
(2) محمد: 25
(3) التاج الجامع للأصول ج 5 ص 157 وقال: رواه الشيخان.
(4) وفي البخاري، كتاب الأدب ج 8 ص 9 وفي التاج الجامع للأصول ج 5 ص 156
(5) صحيح مسلم ج 3 ص 181.
الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة، ففقد راحلته، فطلبها حتى اشتد عليه الحر والعطش. ما شاء الله تعالى. قال:
أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده " (1).
وقد صرح الله تعالى في كتابه، في عدة مواضع، برحمته وإحسانه، وتفضله، وكيف يتحقق ذلك ممن يخلق الكفر في العبد ويعذبه عليه، ويخلق الطاعة في العبد، ويعاقبه أيضا عليها.
فهذه حال أصولهم الدينية، التي يدينون الله تعالى بها، فيجب على العاقل: أن ينظر في نفسه: هل يجوز المصير إلى شئ منها؟ وهل يجوز له القول ببعضها؟.
____________
(1) صحيح مسلم ج 4 ص 247 والبخاري ج 2 ص 84 والتاج الجامع للأصول ج 5 ص 150.
المسألة السادسة
في المعاد
إن الحشر في المعاد هو لهذا البدن المشهود
هذا أصل عظيم، وإثباته من أركان الدين، وجاحده كافر بالإجماع، ومن لا يثبت المعاد البدني، ولا الثواب، والعقاب، وأحوال الآخرة فإنه كافر إجماعا.
ولا خلاف بين أهل الملل في إمكانه، لأن الله تعالى قادر على كل مقدور، ولا شك في أن إيجاد الجسم بعد عدمه ممكن، وقد نص الله تعالى عليه في قوله: " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاق العليم " (1)، وقال تعالى: " من يحيي العظام وهي رميم، قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم " (2).
والقرآن مملوء من ذكر المعاد، وإن اختلفوا في كيفية الإعادة والاعدام، وتفاصيل ذلك ذكرناها في كتبنا الكلامية، لكن البحث ها هنا عن شئ واحد، وهو أن القول بإثبات المعاد البدني، الذي هو أصل الدين وركنه، إنما يتم على مذهب الإمامية.
____________
(1) يس: 78 و 79 و 81
(2) يس: 78 و 79 و 81.
نعوذ بالله من هذه المقالات التي توجب الشك في الإسلام!.
استحقاق الثواب والعقاب
ومنعت الأشاعرة من استحقاق الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية (3)، وخالفوا في ذلك نص القرآن، وهو قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " (3)، وقال تعالى:
" اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " (4): " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " (5)، " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " (6)، والقرآن مملوء من ذلك.
وخالفوا أيضا المعقول، وهو قبح التكليف المشتمل على المشقة من غير عوض، لأن الله تعالى غني عن ذلك، ولولا العقاب لزم الاغراء بالقبيح، لأن لنا ميلا إليه، فلولا الزجر بالعقاب لزم الاغراء به، والاغراء بالقبيح قبيح.
ولأنه لطف، إذ مع العلم يرتدع المكلف من فعل المعصية، وقد ثبت وجوب اللطف.
____________
(1) أنظر الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 42 و 94 تجد فيه مقالة الأشاعرة، وشرح العقائد للتفتازاني.
(2) أنظر الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 42 و 94 تجد فيه مقالة الأشاعرة، وشرح العقائد للتفتازاني.
(3) الزلزال: 7 و 8
(4) غافر: 17
(5) الجاثية: 28
(6) الرحمن: 60.
وهل يرضى العاقل لقاء الله سبحانه باعتقاد أنه ظالم، خالق للشر، مكلف بما لا يطاق، قاهر للعبد، مكذب لما ورد في القرآن العزيز، من قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (1) " وما ربك بظلام للعبيد " (2)، إلى غير ذلك من الآيات؟...
وما وجه اعتذاره عند رسول الله صلى الله عليه وآله، وغيره من الأنبياء المتقدمين، في اعتقاده أنهم غير معصومين؟، وأنه يجوز عليهم الخطأ والغلط، والسهو، والمعصية؟.
وأن النبي صلى الله عليه وآله وقع منه في صلاته، حيث قال: تلك الغرانيق العلا، منها الشفاعة ترتجى؟!
وأنه بال قائما!!
وأنه قال: إن إبراهيم كذب ثلاث مرات، فإن ارتضى لنفسه ذلك، كفاه خزيا وعارا، والحمد لله أولا، وآخرا، وظاهرا، وباطنا.
____________
(1) الطلاق: 7
(2) فصلت: 46.
المسألة السابعة
فيما يتعلق بأصول الفقه
وفيه فصول:
الأول: في التكليف
وفيه مباحث:
الأول: في الحكم.
مذهب الإمامية فيه هو الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، أو الكراهة، أو التحريم المستند إلى صفة يقع الفعل عليها توجب أحدها.
وقالت الأشاعرة: " حكم الله تعالى خطابه المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء، أو التخيير (1).
فلزم التناقض، والقول بالمحال.
أما التناقض، فلأن الحكم حادث لتعلقه بالمكلف الحادث.
ولأنه يصدق، حلت المرأة والجارية بعد أن لم تكن، وحرمت بعد أن لم تكن.
ولأنه معلل بأفعال المكلف، كالطلاق والبيع وغيرهما.
____________
(1) المستصفى ج 1 ص 42 وحاشية العلامة البناني على متن جمع الجوامع، مع تقرير الشربيني ج 1 ص 46.
والخطاب كلام الله تعالى، وكلامه قديم عندهم فيكون الحكم قديما وحادثا، وهو تناقض.
وأما المحال، فلأن الحكم أمر يرجع إلى الفعل وصفاته، فيقال:
هذا واجب، أو حرام، أو مباح، إلى غير ذلك، وكلام الله تعالى صفة قائمة بذاته عندهم، وعندنا: أنه عبارة عن حروف وأصوات قائمة بالأجسام، لا مدخل للأفعال في حلولها فيها.
الثاني: في الواجب الموسع.
العقل، والنقل متطابقان على وقوعه.
أما النقل، فقوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل " (1) وأما العقل، فلأنه ممكن، لعدم استحالة أن يوجب الله تعالى فعلا في وقت يفضل عنه، ويتخير العبد في إيقاعه في أي جزء شاء من ذلك الوقت.
ثم إذا لم يفعله إلا في الأخير يضيق عليه حينئذ، ولا امتناع في ذلك، بل يجب لتعذر ضبط وقت الصلاة، فإنه يمتنع أن يفعل العبد الصلاة في وقت لا يفضل عنها، إما بالنسبة إليه، أو إلى غيره.
فالقول باتساع الوقت أمر ضروري، في نظر الشارع.
وقال بعض الجمهور: إنه يجب الفعل في أول الوقت، فإن أخر الوقت صار قضاء (2).
وقال بعض الحنفية: إنه يجب في آخره، فإن قدمه كان نفلا (3).
____________
(1) الإسراء: 78
(2) المستصفى ج 1 ص 44 و 45، وشرح المحلى لجمع الجوامع ج 1 ص 190 وذكره الفضل في المقام
(3) المستصفى ج 1 ص 44 و 45، وشرح المحلى لجمع الجوامع ج 1 ص 190 وذكره الفضل في المقام.
الثالث: في الواجب على الكفاية.
ذهبت الإمامية، ومن تابعهم من الجمهور إلى أن الواجب على الكفاية واجب على الجميع، بمعنى أنه إذا فعله البعض سقط عن الباقين، لأن المقصود للشارع تحصيله، كالجهاد الذي قصد الشارع به حراسة المسلمين، فإن حصل بالبعض سقط الواجب عن الآخرين، وإن لم يفعله أحد أثم الجميع.
وقال بعض السنة: إنه واجب على واحد غير معين " (1).
وهذا باطل بالضرورة، فإن قضية الواجب وحكمة الله إذا فعل استحق فاعله الثواب، وإذا ترك استحق تاركه العقاب، وإثابة واحد غير معين، وعقاب واحد غير معين غير ممكن، فلا يتحقق الوجوب حينئذ، وقد فرض ثبوته.
الرابع: في الواجب المخير.
ذهبت الإمامية إلى إمكانه، والعقل دل عليه، والسمع دال على وقوعه، فإنه غير مستبعد في الحكم إيجاب شئ من ثلاث، على معنى: أنه إذا فعل واحدا منها خرج عن العهدة، ولا يجوز له الاخلال بالجميع، ولا يجب عليه فعل الجميع، والسمع دل عليه بقوله تعالى: " ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك " (2)، أوجب أحدها لا بعينه، وحرم ترك الجميع، وقال تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون
____________
(1) حاشية البناني ج 1 ص 184 وجمع الجوامع ج 1 ص 182
(2) البقرة: 196.
ووافقهم على ذلك بعض الجمهور.
وقال: بعضهم: الجميع واجب.
وقال آخرون منهم: الواجب ما يفعله المكلف.
وقال آخرون منهم: الواجب واحد معين، ويسقط به وبالآخر (2).
والكل باطل.
أما الأول: فالاجماع على خلافه، إذ المقتضي للثواب فعل أحدهما، فلا يكون الباقي واجبا، وأنه ينافي التخيير حينئذ. وإيجاب الجميع يستلزم عدم الخروج عن العهدة إلا بفعله، فكيف التخيير حينئذ؟.
وأما الثاني: فلاستلزامه اختلاف المكلفين فيه، مع أن الاجماع واقع على تساوي جميع المكلفين فيه، فلا ينافي التكليف. ولأن الوجوب سابق على الفعل، فلا تتحقق بعده، وإلا دار.
وأما الثالث: فلأن الثلاثة متساوية في أصالة الوجوب، وليس البعض بالتبعية والآخر بالأصالة أولى، بالإجماع. وأن المسقط للوجوب مساو للواجب، فيكون واجبا.
الخامس: في وجوب ما لا يتم الواجب إلا به.
ذهبت الإمامية وبعض الجمهور إليه، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، أو خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا، لأن المقدمة لو لم تكن واجبة جاز تركها، على تقدير الترك، إن كان التكليف بالفعل باقيا لزم تكليف ما لا يطاق، لامتناع وقوع الفعل حال عدم شرطه، وإن لم يجب سقط الوجوب، فخرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.
____________
(1) المائدة: 89
(2) جمع الجوامع ج 1 ص 175 والمستصفى ج 1 ص 43.
السادس: في امتناع الوجوب والحرمة.
ذهبت الإمامية، ومن تابعهم من الجمهور إلى امتناع أن يكون الشئ واجبا وحراما من جهة واحدة، وإلا لزم التكليف بالنقيضين، وهو محال.
وخالف في ذلك أبو هاشم، حيث حرم القعود على من دخل دار غيره غصبا، وحرم الخروج أيضا (2)، فلزم الجمع بين الضدين، وهو محال بالضرورة.
وخالف الكعبي من الجمهور أيضا، فجوز أن يكون الشئ الواحد واجبا وحراما معا، كالزنا، واللواط، وغيرهما (3).
وهو ضروري البطلان أيضا.
وكذلك يمتنع أن يكون الشئ الواجب واجبا من جهة، وحراما من جهة أخرى، مع تلازم الجهة، فلم تذهب الإمامية إلى صحة الصلاة في الدار المغصوبة.
وخالف فيه الجمهور إلا من شذ، وجعلوها واجبة وحراما (4).
ولزمهم ما قدمناه من التكليف باجتماع النقيضين.
السابع: في أن الكفار مخاطبون بالشرائع.
ذهبت الإمامية وجماعة من الجمهور إلى أن الكفار مخاطبون بالشرائع أصولها وفروعها، وأنهم مخاطبون بالإيمان.
____________
(1) جمع الجوامع ج 1 ص 192 والمستصفى ج 1 ص 46 و 570.
(2) المستصفى ج 1 ص 50 و 51 و 57، وجمع الجوامع ج 1 ص 172 و 202 و 203
(3) المستصفى ج 1 ص 50 و 51 و 57، وجمع الجوامع ج 1 ص 172 و 202 و 203
(4) المستصفى ج 1 ص 50 و 51 و 57، وجمع الجوامع ج 1 ص 172 و 202 و 203.
وقد خالف في ذلك العقل والنقل:
أما العقل: فلأن المقتضي لوجوب التكليف هو الزجر عن فعل القبائح، والبعث على فعل الطاعات، واشتماله على اللطف ثابت في حق الكافر، كما هو ثابت في حق المسلم، فيجب اشتراكهما في المعلول.
وأما النقل: فقوله تعالى: " وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة (2) وقوله تعالى: " فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى " (3)، وقوله تعالى: " ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين " (4)، وقال تعالى: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما " (5)، وأشار إلى ما تقدم من الشرك وقتل النفس، والزنا.
ولأنه لو كان حصول الشرط الشرعي شرطا في التكليف، لم يجب الصلاة على المحدث، ولا قبل النية، ولا أكبر قبل الله، ولا اللام قبل الهمزة.
وذلك معلوم البطلان بالإجماع.
ولزم أيضا أن لا يعصي أحد، ولا يفسق، لأن التكليف مشروط بالإرادة، والفاسق والعاصي لا يريدان الطاعة، فلا يكونان مكلفين بهما، فينتفي الفسق والعصيان والكفر، وهو باطل بالإجماع.
____________
(1) جمع الجوامع ج 1 ص 212 والمستصفى ج 1 ص 58 وفصله الفضل في المقام.
(2) فصلت: 6 - 7
(3) القيامة: 13
(4) المدثر: 42 إلى 46
(5) الفرقان: 68.