ترجمة ابن العربي المالكي
والقاضي ابن العربي: أبو بكر محمد بن عبدالله، المتوفى سنة 543 من كبار الحفاظ والفقهاء البارعين... ترجم له ابن خلّكان في وفياته، والذهبي في تذكرته، وابن كثير في تاريخه... وإليك عبارة السيوطي بترجمته في طبقاته:
«ابن العربي العلاّمة الحافظ، القاضي أبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد الأشبيلي. ولد سنة 468، ورحل إلى المشرق، وسمع من طراد الزينبي، ونصر بن البطر، ونصر المقدسي، وأبي الحسن الخلعي. وتخرج بأبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي وأبي زكريّا التبريزي.
وجمع وصنف وبرع في الأدب والبلاغة وبعُد صيته.
وكان متبحراً في العلم، ثاقب الذهن، موطّأ الأكناف، كريم الشمائل، ولي قضاء أشبيلية فكان ذا شدّة وسطوة، ثّم عزل، فأقبل على التأليف ونشر العلم، وبلغ رتبة الاجتهاد.
صنف في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والأدب والنحو والتاريخ. مات بفاس في ربيع الآخر سنة 543»(1).
____________
(1) طبقات الحفّاظ: 468.
(3)
تأمّلات في متن الحديث ومدلوله
الاستناد إليه في العلوم
وهكذا ثبت بطلان هذا الحديث من الأساس... فيبطل كل ما بني عليه وفُرّع منه من قبل بعض الناس...
في علم الأخلاق
فالمؤلف في علم الأخلاق والسلوك يستدل به في مباحثه... فترى الغزالي يذكره فيما يستدل به في مباحث الزهد من كتابه (1).
في علم الحديث
ومن المحدثين من استند إلى هذا الحديث لتصحيح حديث غير صحيح !!
يقول القاري في الأحاديث الموضوعة:
«حديث مسح العينين بباطن أنملتي السبّابتين بعد تقبيلهما عند سماع قول المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، مع قوله: اشهد أن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد عليه الصلاة والسلام نبياً.
ذكره الديلمي في الفردوس من حديث أبي بكر الصديق أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من فعل ذلك فقد حلت عليه شفاعتي.
قال السخاوي: لا يصح.
____________
(1) إحياء علوم الدين 4|233.
قلت: وإذا ثبت رفعه إلى الصدّيق فيكفي العمل به!! لقوله عليه الصلاة والسلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين...»(1).
في علم الكلام
والمتكلمون منهم عندما يبحثون عن أدلة الإمامة وشروطها وأوصاف الإمام وحكم الخارج عليه... يقولون بحرمة الخروج على الإمام حتى في حال تغلبه على الأمر بالقهر والسيف، وحتى إذا صدر منه الفسق والجور والحيف... استناداً إلى أمثال هذا الحديث المختلق البيّن الزيف...
ولقد أفرط بعض النواصب المتعصبين فقال في قضية استشهاد الإمام الحسين السبط عليه السلام بما لا يتفّوه به أحد من المسلمين.. وهذه عبارته:
«وما خرج اليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن، وأقواله في ذلك كثيرة، منها قوله: إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان، فما خرج الناس إلآ بهذا وأمثاله.. ودع الأمر يتولاّه أسود مجدّع حسبما أمر به صاحب الشرع...».
قال: «وأخرج البخاري عن عبدالله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبدالملك بن مروان كتب: إني أقرّ بالسمع والطاعة لعبدالملك أمير المؤمنين على سُنّة الله وسنة رسوله ما استطعت. وإن بني قد أقرّوا بمثل ذلك»(2).
ومنهم من جعله من أدلة خلافة الخلفاء الأربعة، وذكره في مقابلة الأحاديث
____________
(1) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، للقاري: 306.
(2) العواصم من القواصم لابن العربي المالكي: 232 و 251.
في علم الفقه
وفي الفقه استدلوا بالحديث لتبرير بدع الخلفاء وما أحدثوه في الدين...
ولنذكر من ذلك نموذجين:
تحريم عمر، المتعتين
أحدهما: تحريم عمر المتعتين وقولته المشهورة المعروفة في ذلك (2)، حيث اضطرب القوم في كيفية توجيه هذا الذي أحدثه عمر في الدين، وعارضه فيه كبار الصحابة والتابعين، فالتجأ بعضهم إلى تبريره بحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»!!
قال ابن قيّم الجوزيّة في كلام له في ذلك:
«فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث.
وفيما ثبت عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج ؟!
قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون...»(3).
____________
(1) التحفة الاثنا عشرية في الردّ على الإمامية: 219.
(2) ذكرنا مصادر هذه الكلمة في بحثنا عن المتعتين.
(3) زاد المعاد في هدي خير العباد 2|184.
لنا في هذا الموضوع رسالة مستقلة، كانت الحلقة السابقة من هذه السلسلة فراجعها.
زيادة عثمان الأذان يوم الجمعة
والثاني: زيادة عثمان الأذان يوم الجمعة...
فقد أخرجوا عن السائب بن يزيد قوله: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم وأبي بكر وعمر إذا خرج الإمام أقيمت الصلاة، فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء».
وفي لفظ آخر: «فلما كان في خلافة عثمان وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك»(1).
ونصّ شراح البخاري على أن عثمان هو الذي زاد الأذان يوم الجمعة (2).
ونص الماوردي والقرطبي على أن الأذان الذي كان من عثمان «محدث» (3).
وقال ابن العربي بشرح الترمذي: «الأذان أول شريعة غيرت في الإسلام على وجه طويل ليس من هذا الشأن... والله تعالى لا يغير ديننا ولا يسلبنا ما وهبنا من نعمه»(4).
وقال المباركفوري بشرحه: «المعنى: كان الأذان في العهد النبوي وعهد أبي بكر وعمر أذانين، أحدهما حين خروج الإمام وجلوسه على المنبر. والثاني حين إقامة الصلاة، فكان في عهدهم الأذانان فقط، ولم يكن الأذان الثالث. والمراد بالأذانين:
____________
(1) أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما في أبواب أذان الجمعة.
(2) الكواكب الدراري 6|27، عمدة القاري 6|210، إرشاد الساري 2|178.
(3) تفسير القرطبي 18|100.
(4) عارضة الأحوذي 2|305.
هذا، وقد رووا عن ابن عمر قوله عما فعل عثمان أنه «بدعة»(2).
فهذا ما كان من عثمان... في أثناء خلافته... كما كان من عمر من تحريم المتعتين... في أثناء خلافته...
وقد اشتدت الحيرة هنا وكثر الاضطراب... كما كان الحال تجاه ما فعل ابن الخطاب...
1 ـ فالسرخسي أراح نفسه بتحريف الحديث !! قال: «... لما روي عن السائب ابن يزيد قال: كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم حين يخرج فيستوي على المنبر، وهكذا في عهد أبي بكر وعمر، ثم أحدث الناس الأذان على الزوراء في عهد عثمان»(3).
قال: «... هكذا كان على عهد رسول الله والخليفتين من بعده، إلى أن أحدث الناس الأذان على الزوراء على عهد عثمان» (4).
2 ـ والفاكهاني أنكر أن يكون عثمان هو الذي أحدث الزيادة فقال: «إن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد» (5).
3 ـ وشراح البخاري ادعوا قيام الإجماع السكوتي !! على المسألة... قالوا: شرع باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار فصار إجماعاً سكوتياً»(6).
4 ـ وقال ابن حجر: «الذي يظهر أن الناس اخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد
____________
(1) تحفة الأحوذي 3|48.
(2) فتح الباري 2|315.
(3) المبسوط في الفقه الحنفي 1|134.
(4) المبسوط في الفقه الحنفي 2|31.
(5) فتح الباري شرح البخاري 2|315، تحفة الأحوذي 3|48.
(6) إرشاد الساري 2|178، الكواكب الدراري 6|27، عمدة القاري 6|210.
5 ـ وقال بعض الحنفية: «الأذان الثالث الذي هو الاوّل وجوداً إذا كانت مشروعية باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار صار أمراً مسنوناً، نظراً إلى قوله: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» (2).
وأجاب هؤلاء ـ الدافعون عن عثمان ـ عما رووا عن عبدالله بن عمر، بما ذكر ابن حجر:
«أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار. ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي، وكل ما لم في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكن حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك».
قلت:
كانت تلك الوجوه التي ذكروها لتبرير ما فعله عثمان:
* فأما الوجهان الأول والثاني فلا يعبأ بهما ولا يصغى إليهما.
* وأمّا الوجه الثالث فقد اشتمل على:
أ ـ اجتهاد عثمان.
وفي الاجتهاد ـ واجتهادات الخلفاء خاصة ـ بحث طويل ليس هذا موضعه، وعلى فرض القبول فهل يجوز الاجتهاد في مقابل النص ؟!
ب ـ موافقة الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار
وفيه:
أوّلاً:
ما الدليل على سكوتهم وعدم إنكارهم ؟! فلقد أنكروا عليه يقيناً ولما ينقل كما نقل قول ابن عمر.
وثانياً:
إن السكوت أعم من القبول والرضا.
____________
(1) فتح الباري 2|315.
(2) تحفة الأحوذي 3| 50.
(3) فتح الباري 2|315.
ج ـ الإجماع السكوتي.
وفيه: اوّلاً:
في حجية الإجماع كلام.
وثانياً:
أنه يتوقف على السكوت الدال على الرضا والموافقة.
وثالثاً:
أنه يتوقف على حجية الإجماع السكوتي.
* وأما الوجه الرابع ففيه: إن أخذ الناس بفعل عثمان لا يقتضي مشروعية فعله، والخليفة إنما يطاع أمره إذا كان امرأ بما أمر الله ورسوله به، وبه أحاديث كثيرة.
* وأما الوجه الخامس ففيه: إنه يتوقّف:
أولاً:
على تمامية هذا الحديث سنداً.
وثانياً:
على تمامية دلالته على وجوب اتباع سيرة الخلفاء وإن كانت مخالفة لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
وثالثاً:
على أن يكون المراد من «الخلفاء الراشدين المهديين» شاملاً لعثمان أمثاله.
أما الأمر الأول فقد بيناه في الفصل السابق، وعرفت أن الحديث باطل موضوع.
واما الأمران الثاني والثالث فسنذكرهما في هذا الفصل.
لكن المحققين من القوم لم يوافقوا على دلالة الحديث على وجوب متابعة سيرة الخلفاء ـ حتى بناء على أن المراد خصوص الأربعة ـ فيما لو خالفت سيرتهم السيرة النبوية الكريمة ـ كما في مسألتنا هذه ـ فإن عثمان خالف فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخالف أيضاً أبا بكر وعمر، لا سيما وأن غير واحد منهم يخصّص حديث: «عليكم بسنتي...» بحديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(1).
فيكون قد أمر صلّى الله عليه وآله وسلّم بمتابعة سيرته وسيرة أبي بكر وعمر
____________
(1) وهذا الحديث موضوع الرسالة الثانية من هذه الرسائل.
وعلى هذا الأساس أبطلوا استدلال الحنفيّة وأجابوا عنه بكلمات قاطعة:
قال المباركفوري: «ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته.
وقال القاري في المرقاة: فعليكم بسنتي. أي بطريقتي الثابتة عنّي واجباً، أو مندوباً، وسنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم إما لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها.
وقال صاحب سبل السلام: أما حديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ». أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين.
ومثله حديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». أخرجه الترمذي وقال: حسن. وأخرجه أحمد وابن ماجة وابن حبّان، وله طريق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً.
فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها.
فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفةٍ راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي...
قال المباركفوري: إن الاستدلال على كون الأذان الثالث الذي هو من مجتهدات (1) عثمان أمراً مسنوناً ليس بتام...»(2).
ثم إنهم أطالوا الكلام عن معنى البدعة، فقال هؤلاء ـ في الجواب عما ذكر ابن حجر وغيره ـ بأنه:
____________
(1) كذا، ولعله: محدّثات.
(2) تحفة الأحوذي 3|50.
وتلخصّ أن لا توجيه لما أحدث عثمان، لا عن طريق هذا الحديث ـ على فرض صحته ـ ولا عن طريق آخر من الطرق المذكورة.
في علم الأصول
واستند الأصوليون إلى هذا الحديث في كتبهم، ولكن مع اختلاف شديد بين كلماتهم:
1 ـ فمنهم من استدل به للقول بحجية سنة الصحابة، كالشاطبي، حيث قال:
«سنة الصحابة سنة يعمل عليها ويرجع إليها، والدليل على ذلك أمور:
أحدها...
والثاني:
ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سننهم في طلب الاتباع كسنة النبي صلى اله عليه [وآله] وسلّم كقوله: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (2).
2 ـ ومنهم من جعله دليلاً على حجية رأي كل واحد من خلفائه الراشدين من غير حصر في الأربعة، كصاحب «سبل السلام» كما عرفت من عبارته، وكالمراغي وغيره كما ستعلم من عبارة شارح المنهاج.
3 ـ ومنهم من جعله حجة على قول كل واحد من الخلفاء الأربعة، ومن هنا جعلوا من السنة حرمة المتعتين لتحريم عمر، ووجوب الأذان الزائد يوم الجمعة لزيادة عثمان إياه.
____________
(1) تحفة الأحوذي 3| 50.
(2) الموافقات 4|76.
قال البيضاوي: «قال القاضي أبو خازم: إجماع الخلفاء الأربعة حجة لقوله عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (1).
قال شارحه السبكي: «ذهب القاضي أبو خازم من الحنفية ـ بالخاء المعجمةـ وكذا أحمد بن حنبل ـ في إحدى الروايتين ـ إلى أن إجماع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حجة، مستدلين بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الترمذي والحاكم في المستدرك ـ وقال: على شرطهما ـ من قوله: عليكم بسنتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. الحديث.
فإن قيل: هذا عام في كل الخلفاء الراشدين.
قيل: المراد الأربعة، لقوله عليه الصلاة والسلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثّم تصير ملكاً عضوضاً، وكانت مدة الأربعة هذه.
قيل: والصحيح أن المكمل لهذه المدة الحسن بن علي، وكانت مدة خلافته أشهر بها تكملت الثلاثون»(2).
وقال شارحه الأسنوي: «... وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه [واله] وسلّم أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين كما أمر باتباع سنته، والخلفاء الراشدون هم: الخلفاء الأربعة المذكورون. لقوله: الخلافة بعدي...»(3).
وقال شارحه البدخشي: «قال القاضي أبو خازم... أوجب اتباعهم إيجاب اتباعه، ولهذا لم يعتد أبو خازم بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام، وحكم برد أموال حصلت في بيت مال المعتضد بالله إلى ذوي الأرحام، وقبل المعتضد فتواه وأنفذ قضاءه.
____________
(1) المنهاج بشرح السبكي 2| 367.
(2) الإبهاج في شرح المنهاج 2|367.
(3) نهاية السؤول في شرح منهاج الوصول 3|267.
قال العبري: وفيه نظر، لأن العرف خصّصه بالأئمة الأربعة حتى صار كالعلم لهم.
أقول: وفيه نظر، لأن العرف طارئ فلا يخصّص عموم اللفظ الصادر قبل.
ثم عند الشيعة: إن إجماع الأربعة حُجّة لا من حيث هو، بل من حيث اشتماله على قول علي رضي الله عنه»(1).
أقول:
أما القول الأوّل فلا دلالة لهذا الحديث عليه أصلاً.
نعم، يدل عليه الخبر: «أصحابي كالنجوم فبايهم اقتديتم اهتديتم» لكنه حديث موضوع باطل (2).
وأما القولان الثالث والرابع فموقوفان على قيام الدليل القاطع على حصر المراد في الأربعة، سواء قلنا بحجية قول كلٍّ منهم على انفراد أو قلنا بحجية قولهم إذا اتفقوا...
ولا شيء من الدليلين على الحصر ـ وهما حديث «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» و«أن العرف خصّصه بالأئمة الأربعة فصار كالعلم لهم» ـ بحيث يصلح لرفع اليد به عن ظهور «الخلفاء» في العموم، ومن هنا قال الغزالي:
«قد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حُجّة مطلقاً، وقوم إلى أنه حجّة إن خالف القياس، وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله: اقتدوا باللذين من بعدي، وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا.
____________
(1) مناهج العقول في شرح منهاج الوصول 2| 402.
(2) كما في الرسالة الاولى من هذه الرسائل.
وحينئذ يبقى الحديث على ظهوره في وجوب اتباع سنة كل واحدٍ من الخلفاء الراشدين من بعده صلّى الله عليه وآله وسلم.
ولكن من هم ؟
وما معنى ذلك؟!
هذا ما سنبينه..
الاختلافات في متن الحديث
فلنعد إلى النظر في متن الحديث ودلالته... بعد فرض تمامية سنده وصحته...
فبالنسبة إلى المتن... قد اتفقت جميع ألفاظ الحديث على أنه «عهد» و«وصية» من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم...
واشتملت ألفاظه على أمور أربعة هي:
الأمر بتقوى الله عزّ وجلّ...
والأمر بالسمع والطاعة للحاكم كائناً من كان...
والتحذير من محدثات الأمور...
والأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده...
وليس في شيء من ألفاظ الحديث الوصيّة بالقرآن والعمل به..
وربما خلت بعض الألفاظ من الأمر بالتقوى...
ثم إن الأمور الثلاثة ـ عدا الأمر بالتقوى ـ تختلف فيها الألفاظ تقديماً
____________
(1) المستصفى في علم الأصول 1|260.
ولربّما جاءت كلمة «عضّوا عليها...» بعد «الطاعة» لا بعد «السنة»...
وربما قال: «وعضوا على نواجذكم بالحقّ».
لكن في أحد الألفاظ: «عليكم بتقوى الله... أظنّه قال: والسمع والطاعة» فالراوي غير متأكد من أنه قال ذلك ! ثّم لمن السمع والطاعة؟!
والحافظ أبو نعيم رواه بترجمة العرباض بسنده: عن الوليد بن مسلم، ثنا ثور ابن يزيد، عن خالد بن معدان، حدثني عبدالرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر، قالا:
«أتينا العرباض بن سارية ـ وهو مّمن نزل... ـ وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين»(1).
رواه إلى هنا ولم يزد عليه.
ورواه بترجمة خالد من أوله إلى آخره (2).
والأمر سهل...
ثم إنه جاء في بعض ألفاظ الحديث في آخره:
«فكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث: فإن المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد» (3).
لكن «أسد بن وداعة» ـ وهو من الذين كانوا يجلسون ويسبّون عليّ بن أبي طالب عليه السلام كما عرفت ـ لم يقع في شيء من طرق الحديث فبأي وجه كان يزيد في هذا الحديث ؟! وهل المؤمن كالجمل...؟!
فلما رأى بعضهم أن هذا تلاعبّ بالحديث بزيادة باطلة من رجل مبطل، وأن ذلك قد يكشف عن حقيقة حال الحديث... صحّفه إلى:
____________
(1) حلية الأولياء 2|13.
(2) حلية الأولياء 2|13.
(3) المستدرك 1|96.
لكن تبقى كلمة «يزيد» بلا فاعل... !
فرجح البعض الآخر إسقاط الجملة وإلحاق الكلام بالحديث، فقال:
«وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن...» (2).
وليته أسقط الكلام أيضاً، لكنه يقوّي المعنى ويؤكّد وجوب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر كائناً من كان !!
هذا ما يتعلق بالمتن...
معنى السنة
والأمر المهّم الذي اتفقت عليه جميع ألفاظ الحديث إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بالاختلاف الكثير من بعده، ثم أمره من أدرك ذلك باتباع سنته وسنة الخلفاء بلفظ «فعليكم».
ففي جميع الألفاظ: «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء...».
و«السنة» هي الطريقة والسيرة، يقال: سن الماء، وسنّ السبيل، وسنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا، أي: شرّعه وجعله شرعاً.
وسنته عند أهل الشرع: قوله وفعله وتقريره، ولهذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة. أي: القرآن والحديث (3).
وعلى الجملة، فمعنى السنة في الشريعة نفس معناها في اللغة لم يعدل بها عنها.
____________
(1) عارضة الأحوذي 10| 145.
(2) تهذيب الأسماء واللغات 3|156، النهاية «سن» المصباح المنير 1|312، إرشاد الفحول: 29.
(3) النهاية «سنن».
حجّيّة سُنّة النبيّ
وسُنّة النبي صل الله عليه وآله وسلّم الثابتة عنه بالطرق المعتبرة حجّة بلا كلام، وضرورة دينية لا يخالف فيها إلا من لا حظ له من دين الإسلام...
وقد استدلّوا عل حجيتها بآيات من الكتاب وأحاديث عن المصطفى، لكن لا يتّم الاستدلال بها إلا على وجه دائر كما لا يخفى...
فالعمدة في وجه الحجّيّة هي «العصمة» ومن هنا يتعرض العلماء ـ في بحثهم عن حجيّة السنة ـ لعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1).
معنى سُنّة الخلفاء:
قال ابن فارس: «وكره العلماء قول من قال: سنة أبي بكر وعمر، وإنما يقال: سنة الله وسنة رسوله» (2).
قلت:
وجه كراهية العلماء ذلك واضح، لأن كلمة «السنة» أصبحت في عرف المتشرعة مختصّةً بما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً وتقريراً، لأنه الحجّة بعد الكتاب، حيث يقال: الكتاب والسنة، لكنهم كرهوا هذا القول مع كون حديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» بمرأىً منهم ومشهد، فإن كانوا في شك من صدور الحديث عن النبي فلا بحث، وإلأ فبم يفسرونه ؟!
هنا مشاكل
1 ـ لقد ذكرنا أن «السنة» في اللغة بمعنى «الطريقة»، وهي بنفس المعنى في الشريعة بالنسبة إلى «سنة النبي» صلى الله عليه وآله وسلم، فهل تفسر «سنة الخلفاء» بنفس المعنى كذلك ؟!
____________
(1) لا حظ كتب الأصول كإرشاد الفحول: 29.
(2) فقه العربية «سنن».
3 ـ أمره باتباع سنتهم مطلق غير مقيّد كما هو الحال في وجوب اتباع سنته، وهكذا أمر يقتضي عصمة المتبوع بلا ريب، اما النبي فمعصوم بالإجماع، وأما الخلفاء فليس كلّهم بمعصوم بالإجماع، فكيف يؤمر ـ أمراً مطلقاً ـ باتباع المعصوم وغير المعصوم معاً؟!
هذه مشاكل حار القوم في حلها.. واضطربوا اضطراباً شديداً تجاهها...
قال الشوكاني: «إن أهل العلم قد أطالوا الكلام في هذا وأخذوا في تأويله بوجوه أكثرها متعسفة» (1).
المشكلة الأولى
أما الأولى فلا مانع من حلّها بتفسير «السنة» هنا أيضاً بـ «الطريقة» كما ذكر الشرّاح كصاحب «سبل السلام» والقاري والمباركفوري...
وهذا هو الذي اختاره الشوكاني حيث قال:
«الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه هو العمل بما يدلّ عليه هذا التركيب بحسب ما تقتضيه لغة العرب، فالسنة هي الطريقة، فكأنه قال: الزموا طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين، وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته، فإنهم أشدّ الناس حرصاً عليها وعملاً بها في كل شيء وعلى كل حال، كانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلاً عن أكبرها» (2).
____________
(1) إرشاد الفحول.
(2) إرشاد الفحول.
أقول:
وهكذا تنحل المشكلة الأولى، وقد أكّد كلهم على أنه «كانت طريقتهم نفس طريقته» متجاوزين ظهور الحديث في المغايرة، وقد أضاف الشوكاني بأن علّل اتخاد الطريقة بقوله: «فإنهم أشدّ الناس حرصاً عليها وعملاً بها في كل شيء وعلى كل حال، كانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلاً عن أكبرها».
قلت: لكنّا وجدنا الخلفاء الثلاثة ـ وكذا أكثر الأصحاب ـ يخالفونه في أكبر الأمور فضلاً عن أصغرها، حتى مع وجود النصوص الصريحة عنه صلى الله عليه وآله وسلّم، وقد سبق أن ذكرنا بعض الموارد المسلمة من تلك المخالفات... فالّذين كانت «طريقتهم نفس طريقته، فإنهم أشد الناس حرصاً عليها وعملا بها...» غير هؤلاء، فمن هم ؟!
المشكلة الثانية
وإذا كان المراد من «الخلفاء» غير الذين يقول بهم أهل السنة فالمشكلة الثانية منحلة أيضاً...
أما على قولهم فقد رأيتهم يتجاوزون هذه المشكلة... إلأ الشوكاني... فإنه قال بعد عبارته المذكورة:
«وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر، وهذا الرأي عند عدم الدليل هو أيضاً من سنته، لما دلّ عليه حديث معاذ لمّا قال له رسول الله: بما تقضي ؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسوله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: الحمد لله الذي وفق رسوله أو كما قال.
وهذا الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف، فالحق أنه من قسم الحسن لغيره وهو معمول به، وقد أوضحت هذا في بحثٍ مستقلً.
قلت: ثمرته أن من الناس من لم يدرك زمنه وأدرك زمن الخلفاء الراشدين، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنه حدث أمر لم يحدث في زمنه، ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردّد إلى بعض النفوس من الشك ويختلج فيها من الظنون.
فأقل فوائد الحديث أن ما يصدر منهم من الرأي وإن كان من سنته كما تقدّم، ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل.
وبالجملة فكثيراً ما كان صلى الله عليه [وآله] وسلم ينسب الفعل أو الترك إليه أو إلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه، لأنه محل القدوة ومكان الأسوة.
فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث، ولم أقف عند تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم. فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم» (1).
أقول:
لقد تنبه هذا الشيخ الجليل إلى أن القول بأن «طريقتهم نفس طريقته» يتنافى وظاهر الحديث الدال على «المغايرة»، ورفع اليد عن الظهور بلا دليل غير جائز، فنقل الكلام إلى حجيّة آراء الخلفاء واجتهاداتهم، وقال بذلك استناداً إلى حديث معاذ، ثّم ذكر في هذا المقام دلالة الحديث على المغايرة بصورة سؤال، وحاول الإجابة عنه بما هو في الحقيقة التزام بالإشكال !
وعلى الجملة، فإن الكلام في إثبات أنّ «طريقة الخلفاء نفس طريقة النبي»
____________
(1) إرشاد الفحول: 214.
امّا أن اجتهادات الخلفاء وآرائهم حجّة أو لا؟ فذاك بحث آخر ليس هذا موضعه، وخلاصة الكلام فيه أنه لا دليل عليه إلآ حديث معاذ الذي أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد عن «الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة قال: حدّثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ».
فمن الحارث ؟! ومن أصحاب معاذ؟!
ولذا اعترف الشوكاني بهوانه، بل عده بعضهم في (الموضوعات) كما لا يخفى على من يراجع شروح السنن والكتب المطولات...
والحاصل:
إن المشكلة الثانية باقية على أساس أهل السنة، وأن هذا الذي ظهر للشوكاني في تفسير الحديث ـ ولم يقف على ما يوافقه من كلام أهل العلم ـ يجب عليه أن يستغفر منه!
المشكلة الثالثة
قد ذكرنا أن الأمر المطلق بالإطاعة والمتابعة المطلقة دليل على عصمة المتبوع ... وقد نصّ على ذلك العلماء في نظائره، كقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) قال الرازي بتفسيره ما نصه:
«إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهى عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وإنه محال.
فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من