الإهداء
إلى من سفكت دماؤهم، وسبيت ذراريهم، ونهبت أموالهم، بفتاوى الشيخين ابن تيمية الحراني، ومحمد بن عبد الوهاب النجدي.
وإلى كل من يتعرض للاضطهاد السلفي المعاصر من أهل السنة والإمامية.
أقدم هذا الجهد العلمي المتواضع.
" إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف
فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالا، على غير دين الله. فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق، لم يخف على المرتادين ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى ". |
الإمام علي بن أبي طالب
[ نهج البلاغة، الخطبة 49 ]
كلمة المركز
اكتوى المؤلف، وهو باحث مغربي مختص في علم الاجتماع الديني، بنار الاختلافات التي شغلت أبناء الصحوة الإسلامية، وأدت إلى تخبط عقيدي وفقهي، تمثل في أزمة من مظاهرها الانقسام وتكاثر الفرق والتكفير. فعقد العزم على مواصلة مسيرة البحث لمعرفة أسباب هذه الأزمنة ونتائجها، وقرر السفر إلى الشرق حيث يجد المراجع والمصادر الخاصة بالمذاهب الإسلامية.
وكشف سفر المعرفة حقائق منها أن في العالم الإسلامي حدودا مذهبية أيديولوجية يتم الحفاظ عليها أكثر من الحفاظ على الحدود الجغرافية - السياسية وأن فيه " أصناما ذهبية براقة " ينبغي أن تعرف حقيقتها. وأثار هذا السفر أسئلة كثيرة تتعلق بدعاة سلفية جديدة يقفون وراء الفتن المذهبية التي تمزق وحدة المسلمين.
في سبيل الإجابة عن هذه الأسئلة كان لا بد من متابعة تاريخية تتبين نشوء المذاهب وتكونها، وتوضح طبيعة آراء السلفيين التي تصنف المسلمين بين " سلفي " مؤمن و " بدعي " كافر، بوصف هذه الآراء اختيارات مجتزأه محرفة، واجتهادات حرفية ظاهرية لا تمثل الحقيقة الإسلامية أو آراء السلف الصالح وأعماله. وإضافة إلى أنها كانت، ولا تزال، نتاج سياق تاريخي: سياسي، اجتماعي، أخرجها إلى الوجود لتحقيق أهداف معينة.
تركزت الإجابات في هذا الكتاب الموسوم بعنوان: " السلفية بين أهل السنة والإمامية "، وهو يتألف من قسمين كبيرين:
القسم الأول يبحث في " السلفية: الخلفيات التاريخية والمذهبية "، ويتضمن بحث عدة قضايا: أولاها تعريف السلفية والحشوية وأهل السنة والجماعة والشيعة الإمامية، وثانيتها تعريف المذهب الحنبلي (رحم الحشوية)، ودور السياسة في انتشار المذاهب الفقهية، وأحمد بن حنبل وعصره والمذهب الفقهي والأصولي المنسوب إليه، وثالثتها تقي الدين، أبو العباس بن تيمية الحراني الحنبلي ودوره في " عقلنة الحشو " وفي إثارة الحروب والفتن بين المسلمين وعلاقته بالتصوف،
والقسم الثاني يبحث في " أهل السنة والإمامية في مواجهة السلفية "، ويتضمن بحث عدة قضايا منها: مواقف أهل السنة والشيعة الإمامية من السلفية، والجديدة منها بخاصة، وآراؤهم في ما تذهب إليه في مختلف الأمور.
ويبدو واضحا، منذ البداية، أن أتباع هذه السلفية لا يقتنعون بالحجة الساطعة لأن سلطانهم له حجتان قاطعتان عليهما يعتمد، وهما: الحسام البتار والدرهم والدينار.
ويعود المؤلف في بيا ن ذلك إلى جزور الصراع وتاريخيته منذ " فدك " المغتصبة إلى محنة التشيع في أيام الأمويين والعباسيين، ويتوقف عند يوميات الصراع السلفي مع الشيعة الإمامية، ومنها بخاصة فتاوى ابن تيمية وما آلت إليه في من فتن ومذابح، وصولا إلى ما يعانيه شيعة المنطقة الشرقية في نجد، وإلى أكاذيب السلفية وهجمتهم الإعلامية الشرسة على الجمهورية الإسلامية وإلى محاربة الكتاب الشيعي. ثم يورد ردود المستبصرين المسلمين على دعاة السلفية في ما يتعلق بإمامة أهل البيت والشيعة والصحابة: إضافة إلى أن الكتاب يتضمن ثبتا بالمؤلفات التي ترد دعاوى السلفيين.
يهدف هذا الكتاب، كما يبدو، إلى تحصيل معرفة تضئ وتكشف، وتبين، فيميز المسلم ويختار، وهو على بينة من أمره، وبهذا يسهم في الجهد الرامي إلى تجاوز الأزمة القائمة في العالم الإسلامي.
مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المقدمة
قبل عقد ونصف من الزمن كنت في زيارة لأحد أقاربي، شيخ طاعن في السن و " مقدم " في الطريقة التيجانية، يقيم في منزله حلقات الذكر والدعاء، فكان أتباع هذه الطريقة يؤمون بيته في كل وقت للذكر والزيارة. وقد صادف يوم زيارتي أن جاءه رجل في الخمسينات من عمره، وبعد أن سلم وجلس بجوار الشيخ بدأ يحدثه عن زيارته للأماكن المقدسة. قال الرجل أنه زار مكة والمدينة وقد التقى بالشيخ أبو بكر الجزائري الواعظ السلفي المشهور.
حيث دار بينهما نقاش طويل حول زيارة القبور والتوسل بالأولياء. قال الرجل إنه أفحم الواعظ السلفي فلم يجد ما يرد به عليه إلا اعتراضه على حلق اللحية وقد كان الرجل حليقا. فقال له، إنك لو تترك لحيتك فستكون مسلما جيدا.
لكن هذا المريد التيجاني رد عليه بقوة قائلا: إن الله سبحانه وتعالى لم يقل أنه ينظر إلى لحاكم بل قال إنه ينظر إلى قلوبكم، فحار الشيخ أبو بكر الجزائري في جوابه وانتهى الحوار.
كان الرجل يحدث أصحابه بفخر واعتزاز وقد ظهرت الغبطة والسرور على وجوه الحاضرين ومنهم شيخ الطريقة، وكأنه يحدثهم عن انتصار مهم في معركة حامية الوطيس، انتقل الحاضرون بعد ذلك لنقاش بعض القضايا، فسمعت اسم ابن تيمية يتردد على ألسنتهم، قال أحدهم إن الرحالة ابن بطوطة ذكر في رحلاته أن ابن تيمية ذكر حديث النزول، نزول الله إلى سماء
وتابع الحاضرون نقاشاتهم بين مستنكر لما قاله ابن تيمية وبين معلق عليه...
لم أكن أعرف وقتها أن هناك صراعا عقائديا مريرا بين هؤلاء الطرقيين وبين المذهب الفقهي والأصولي المنتشر في جزء كبير من شبه الجزيرة العربية، لأنني كنت في بدايات تحصيلي العلوم الدينية. كما أن الكتب التي كانت تغزو الساحة آنذاك ومن بينها فتاوى ابن تيمية لم تكن تدعو لمذهب فقهي أو أصولي معين، أو معروف لدى أبناء الصحوة الإسلامية. وإنما هي دعوة للتشبث بالسنة النبوية والعمل بمقتضاها ورفض التقليد في الدين. وقد واكب ذلك انتشار كبير لآراء وفتاوى تخالف المذهب المالكي وأشهرها القبض في الصلاة بدل الاسبال.
أما الحوارات الفقهية والأصولية التي كانت تدور في ساحات الجامعة وداخل الفصول، فكانت تثير الكثير من التساؤلات، وذلك لوجود طلبة ممن لديهم اطلاع جيد على العلوم الإسلامية. فالآراء الجديدة كانت تجد معارضة قوية ويتحول النقاش في أحيان كثيرة إلى خصام واتهام الطرف الآخر بالجهل وقلة الاطلاع. وبعد ذلك ينقسم الطلبة إلى تيارين مختلفين ومتنافسين، ويبدأ كلا الفريقين في الدعوة لاختياراته الفقهية بالخصوص وتكثير الأتباع.
لقد شاركت في الكثير من هذه الحوارات والنقاشات الساخنة، وانتصرت لبعض الآراء الفقهية معتمدا على ما تجود به المكتبات من كتب حديثه طبعت في بيروت والقاهرة وفي بعض الأحيان في السعودية، ولم نكن نعرف عن أصحابها شيئا اللهم إلا ابتدائها ببسم الله الرحمان الرحيم، واحتضانها عشرات الأحاديث النبوية والآيات القرآنية ! ؟.
كنا نعتقد ونحن نناقش ونجادل أن حججنا قوية بما فيه الكفاية، وأن المخالف لنا إنما هو معاند ومكابر، متشبت بتقليد الآباء والأجداد دون علم أو تحقيق. لكن أحدا منا لم يكن يخطر بباله أن حقائقه الجديدة التي يدعو لها
لكن السؤال الكبير الذي لم نكن نجد له جوابا شافيا، كان في حل هذا التناقض والاختلاف العلمي والنظري الذي بدأ يقسم الساحة إلى تيارين مختلفين ومتصارعين. فأغلب الفقهاء المالكية على سبيل المثال لا يقبضون في الصلاة بل يسدلون أيديهم. كما يؤيدون ما تقوم به الزوايا من مراسيم واحتفالات سنوية بالأولياء. بل إن الكثير منهم يشارك مشايخ الطرق الصوفية مجمل عقائدهم في التوسل والشفاعة ودعاء الأولياء وبناء القبور والأضرحة، هذه العقائد والاختيارات الفقهية درج الجميع عليها منذ قرون خلت.
وإذن كيف لم تصلهم هذه الأحاديث التي اكتشفناها نحن مؤخرا وعملنا بها ؟ ! ! في التوحيد والشرك ومحاربة البدع وصولا إلى القبض في الصلاة وغير ذلك من المسائل الفروعية ؟ !.
لن أكون مجانبا للصواب إذا قلت بأن مسألة التمذهب والمذهبية أو الاختيارات الفقهية والأصولية. كانت قضايا مبهمة لدينا ولدى غالبية الملتزمين الشباب من جيلنا. أولا لندرة الكتب التي تعالج هذه القضية الشائكة، ثانيا لعدم معرفتنا بتفاصيلها وخلفياتها التاريخية ونحن في بداية التحصيل العلمي الديني. زد على ذلك خلو الساحة من أي تعدد مذهبي فقهي أو أصولي، لأن منطقة المغرب العربي هي منطقة نفوذ تاريخي للمذهب المالكي. لذلك كانت معرفتنا بباقي المذاهب الفقهية والأصولية الأخرى
إن هذه الاختلافات الفروعية والأصولية التي شغلت أبناء الصحوة الإسلامية مبكرا، كانت تبشر بأزمة خطيرة بدأت ملامحها تظهر وتتعمق، ليس فقط على مستوى التعدد الحركي أو الانتماءات السياسية، ولكن في التمزق الفكري الديني. كل شاب يختار الالتزام بتعاليم الدين عليه أن يقرأ الكتب الإسلامية في العقائد والفقه بمفرده، أن يدرس ويفهم ثم يختار ويطبق ما توصل إليه من مفاهيم وآراء في العقيدة وفي الإسلام ككل. ويهون الخطب لو كان الأمر ليقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه في أغلب الأحيان، لأن ما سيتوصل إليه هذا الشاب الملتزم سيتحول إلى ميزان وقانون يحاكم به المجتمع والأفراد من حوله. فمن قبل بما توصل إليه من آراء وفتاوى فهو على الحق، ومن خالفه فهو بالتأكيد على الباطل ؟ !.
من هنا بدأ التمزق يغزو كيان الصحوة الإسلامية داخل كل بلد، وتعددت الخلافات وكثرت الأحكام الفقهية المتناقضة والمتضاربة. وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام أبناء الصحوة دون شرط أو قيد، سوى امتلاك كتب الحديث النبوي والقدرة على القراءة والفهم. وبين عشية وضحاها يصبح الشاب المراهق فقيها مجتهدا، يقضي في الدماء والأعراض والأموال. ولنا أن نتصور ماذا كانت النتيجة، ظهور مذاهب فقهية وأصولية بعدد أبناء الصحوة، لأن كل ملتزم أو متدين يلتحق بصفوف الصحوة هو مشروع فقيه مجتهد، ومفكر إسلامي يحمل هموم الأمة الإسلامية ويفكر في إيجاد الحلول لمشاكلها المستعصية ! !.
هذا التخبط والاختلاف العقائدي والفقهي العقيم الذي بدأ يمزق جسد الصحوة الإسلامية كان سببا في انتشار موجة من القلق الفكري والروحي داخل صفوف أبناء الصحوة، دفع البعض إلى التحرر تدريجيا من الالتزام
الواقع أنني كنت ممن اكتوى بنار هذا الاختلاف وأصابه شرر من لهيبها المتطاير، أيام بل شهور وشهور من القلق الفكري والعقائدي كادت أن تعصف بكياني الإيماني والالتزامي. لكن العناية الإلهية أدركتني في الوقت المناسب فانتشلتني من هذا التخبط الذي حشرت فيه، وأمدتني بالقوة والعزم الكافيين لمواصلة مسيرة البحث والدراسة لمعرفة أسباب الخلاف وعوامله ومن يقف وراءه. فعقدت العزم لدراسة المذاهب الإسلامية المتعددة والتعرف على رجالاتها وكتبهم والبحث عن الدراسات المهمة التي تعالج قضية المذهبية وتاريخ المذاهب. ولما لم يكن ذلك متيسرا في وطني لقلة المراجع والمصادر الخاصة بالمذاهب الإسلامية المختلفة قررت السفر إلى الشرق لتحقيق هذا الغرض.
لن أسترسل في ذكر تفاصيل أسفاري وقراءاتي وتخصصي في علم الاجتماع الديني، لكنني قد أكون اكتشفت حقائق كثيرة كانت غائبة عني وعن أبناء جيلي من أبناء الصحوة. منها أن العالم الإسلامي لا تتوزعه جغرافية سياسية فقط، وإنما هناك جغرافية مذهبية وأيديولجية كذلك. حدود خفية ودقيقة يتم الحفاظ عليها وحراستها أكثر من الحدود السياسية الجغرافية.
فالجزائر مثلا كان أريد لها أن تصبح سلفية ؟ !. فكان ذلك وأغرقت الأسواق بالمنتجات الفكرية السلفية التي غذت نهم أبناء الصحوة للمعرفة. ولبست
إن البحث والدراسة العميقة لتاريخ الإسلام بشكل عام وتاريخ المذاهب الفقهية والأصولية بشكل خاص وعلاقة ذلك بالاجتماع والسياسة، يكشف عن حقائق مهمة وخطيرة تنزل أصناما ذهبية براقة من عليائها لترمي بها في مزابل التاريخ، لأنها العار الأبدي على جبين الإنسانية، ورمز للانحراف والظلم اللذين شيدا صروح النفاق والكفر.
أما هذا الكتاب وفصوله الستة فيأتي كمساهمة في إيجاد إجابات لمئات التساؤلات التي تطرحها مسيرة الصحوة الإسلامية اليوم على المستوى العقائدي والمذهبي، ومحاولة لتسليط الضوء على أسباب وعلل الاختلاف الديني، ومن يقف وراء الفتن المذهبية والحروب الطائفية التي تمزق وحدة المسلمين في الوقت الراهن. كل ذلك من خلال متابعة تاريخية شاملة لنشوء المذهب الحنبلي في الفقه والعقائد، ورصد ليومياته في الدعوة والانتشار وعلاقته بخصومه ومخالفيه من المذاهب الإسلامية الأخرى، مع عرض لبعض خصوصياته العقائدية والفقهية.
هذا المذهب الذي انبعث فجأة من مقبرة التاريخ، نافضا غبار السنين، مستفيدا من الظروف المؤاتية، ليكتسح الساحة الإسلامية. ليس كمذهب اجتهادي في الفقه والأصول، ولكن كحقيقة إسلامية مطلقة تقسم جماعة المسلمين إلى " سلفي " مؤمن و " بدعي " كافر ! !.
سيجد القارئ أن هذه المتابعة التاريخية الطويلة والضرورية هي جديد هذا الكتاب، وتجاوز للنقص الذي شكت منه الكتب والدراسات التي عالجت هذا الموضوع، من زاوية أن الفكر الوهابي أو السلفي يقف مباشرة وراء هذا التمزق العقائدي والفقهي العميق الذي تعيشه الساحة الإسلامية السنية خصوصا. فالتركيز على معالجة قضايا التوحيد والشرك وحصرها في إطار مسائل التوسل والشفاعة وبناء القبور، والدخول في مناقشات عقيمة مع أتباع
والسبب كما قلت يرجع إلى إهمال وعدم اعتبار الخلفية التاريخية والمذهبية للآراء والأفكار. فلو علم أبناء الصحوة أن مجمل ما يصلهم اليوم وبشكل عام ويقرأونه ويؤمنون به على أنه رأي الصحابة وعمل السلف الصالح، ليس سوى اختيارات المذهب الحنبلي في العقائد والفقه، واجتهادات رجالاته عبر التاريخ ؟ ! في مقابل آراء واجتهادات واختيارات المذاهب الأخرى التي ظهرت للوجود قبل المذهب الحنبلي، بل قبل أن يولد مجتهدوه الكبار بقرون عدة. والكل يدعي ارتباطه بالسلف الصالح والصحابة ويسند أقواله وأفعاله لهم ؟ ! !
ولو أتيح لغالبية أبناء الصحوة سبيل الاطلاع ومعرفة آراء وأفكار مذاهب أخرى لا يعرفون عنها شيئا، فمما لا شك فيه أنهم سيراجعون عددا لا بأس به من أفكار قدمت لهم على أنها عمل السلف الصالح ومعتقد صحابة رسول الله (ص)، بالتالي الحقيقة الإسلامية.
لذلك وتأكيدا لهذه الحقيقة ارتأيت في الفصل الأخير وأنا أرد على إتهامات السلفية للشيعة الإمامية أن أترك المجال لمجموعة من أبناء أهل السنة والسلفية لترد على هرطقات دعاء السلفية، إنطلاقا من اطلاعهم الجديد على مذهب التشيع، واقتناعهم بحقائقه التي كانت غائبة عنهم أو لنقل غيبت عنهم، فاعتنقوا عقائد التشيع بعدما عرفوها وأصبحوا دعاتها والمدافعين عنها بكل حزم وقوة.
إن الخلفيات التاريخية والمذهبية والسياسية وكذا الاجتماعية هي التي تعطي للفكرة أو منظومة الأفكار الأبعاد الداخلية العميقة والصورة الشكلية
جهد كذلك ولو بشكل غير مباشر على إزاحة بعض الأقنعة عن وجوه ورجالات وكيانات مذهبية وسياسية مختلفة، حيث تتشابك المصالح المادية مع الأهواء الشيطانية وصراع الإرادات الشريرة، لتصنع تاريخا مزيفا ودينا محرفا، وواقعا تتخبط فيه الأنفس والأرواح من شدة والقلق.
السيد محمد الكثيري
بيروت 6 / 3 / 1996 م
الباب الأول
السلفية
الخلفيات التاريخية والمذهبية
الفصل الأول
التعاريف
السلف والسلفية في اللغة والاصطلاح
تعريف السلفية:
يقول ابن منظور في مادة سلف:
سلف: سلف يسلف سلفا وسلوفا: تقدم، والسالف: المتقدم: والسلف والسليف والسلفة الجماعة المتقدمون وقوله عز وجل: فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين. وقال الفراء: يقول جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون.
ويقول الجوهري: سلف يسلف سلفا مثال طلب يطلب طلبا، أي مضى.
والقوم السلاف: المتقدمون. وسلف الرجل: آباءه المتقدمون، والجمع أسلاف وسلاف... والسلف أيضا: من تقدم من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل، وأحدهم سالف. وقيل، سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح (1).
قال ابن فارس: " سلف: س ل ف، أصل يدل على تقدم وسبق فالسلف.
الذين مضوا والقوم السلاف: المتقدمون " (2). وفي أنساب السمعاني: السلفي:
بفتح السين واللام في آخرها الفاء. هذه النسبة إلى السلف، وانتحال مذهبهم " حتى " عرفت به جماعة " (3). قال ابن الأثير في النهاية: سمي الصدر
____________
(1) ابن منظور، لسان العرب، ج 6 ص 330 - 331، دار إحياء التراث العربي، بيروت ط 1 1988 م.
(2) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة سلف.
(3) علي حسين الجابري، الفكر السلفي عند الشيعة الاثنا عشرية، ص 15 - 16.
من خلال هذه التعاريف يظهر أن السلف لغة، تعني التقدم الزمني " فكل زمن من الأزمان سالف بالنسبة إلى الأزمنة الآتية في أعقابه وخلف بالنسبة إلى الأزمنة التي سبقته ومرت من قبله " (7). لكن الاختلاف ظهر في تحديد مفهومه الاصطلاحي وربط ذلك بفترة زمنية محددة أطلق عليها اسم " السلف ". والمعنى الاصطلاحي المستقر لهذه الكلمة كما ذهب إليه البوطي:
" هو القرون الثلاث الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية " (8). وذهب غيره إلى " اتفاق رأي العلماء بأن السلف يراد بهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون عليهم رحمة الله، وتابعوا التابعين رحمهم الله " (9). وقيل ما قبل الخمسمائة (10).
أما المراد بمذهب السلف فيقول أحمد بن حجر: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم وما كان عليه أعيان التابعين لهم بإحسان وما كان عليه أتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة. وعرف عظيم شأنه في الدين وتلقى الناس لكلامهم خلفا عن سلف. كالأئمة الأربعة والسفيانيين والليث بن سعد
____________
(4) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث 2 / 190، المطبعة الخيرية القاهرة 1323 ه.
(5) التهانوي، الكشاف، مادة سلف.
(6) الفكر السلفي، مصدر سابق، ص 16.
(7) محمد سعيد رمضان البوطي، السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، دار الفكر - دمشق، ص 9.
(8) نفس المصدر.
(9) د. عبد الحليم محمود، السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 9 - 10.
(10) الفكر السلفي، مصدر سابق، ص 17.
السلف والخيرية:
انطلاقا من مضمون هذا الحديث - بصرف النظر عن صحته أو ضعفه - نرى أن رسول الله (ص) جعل خير الناس وأفضلهم، معاصريه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، دون تحديد سبب لهذه الأفضلية أو الخيرية، سوى ما هو متبادر من ظاهر الحديث، قرب هؤلاء الناس من الرسول وتواجده بين ظهرانيهم، فأفضلهم من عايشوا الرسول (ص) وهم الصحابة، ثم من عايش الصحابة وهم " التابعون "، ثم من عايش " التابعين ". وقد سمي هؤلاء التابعين - كما مر معنا في التعاريف - بالسلف الصالح.
لكن الملاحظ إن هذه " الأفضلية " و " الخيرية " التي ذكرها الحديث مطلقة وتشمل كل من عاصر الرسول وأصحابه والتابعين، دون تحديد. فهل يشير الحديث ضمنا إلى فئة أو شريحة متميزة من الناس لها مواصفات معينة وهي
____________
(11) السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. نقلا عن العقائد السلفية، لأحمد بن حجر آل أبو طامي. ص 11.
أما الجمهور فيرون أن الخيرية ثابتة لأفراد هذه القرون الثلاث جميعا، على اختلاف درجاتهم وتفاوتهم في الصلاح والاستقامة. وذهب ابن عبد البر إلى أنها ثابتة لمجموع المسلمين في تلك العصور الثلاث، أما الأفراد فقد لا تنطبق الخيرية على بعضهم، بل قد يأتي فيمن بعدهم من هو أفضل منهم (12).
وعليه فقد تبين من خلال هذه التعاريف أن عصر الرسول أو قرنه والقرنين اللذين تلياه، هي أفضل القرون في تاريخ الإسلام والمسلمين (13).
وإن الخيرية قد استوعبت مجموعهم إما أفراد أو مجموعات. وهذه النتيجة هي التي اعتمدها الخلف الذين جاؤوا بعد هذه القرون الثلاث، حيث تم تقديس هذه المرحلة الزمنية واحترم أصحابها واعتبروا سلف هذه الأمة الصالح الذين يجب علينا اتباعهم واقتفاء أثرهم حذو النعل بالنعل.
على أن مفهوم " السلف " - وإلى حدود القرن الرابع الهجري - لم يكن له سمات واضحة، جلية ومحددة في العقائد والسلوك، من التزم بها نسب إلى السلف. وإنما ارتبط مفهوم السلف وازداد استخدامه والإشارة إليه عندما بدأت معالم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية تتغير عما عرف أو كان عليه مجتمع الرسول وصحابته.
لقد انطلق العرب المسلمون من الجزيرة العربية مبشرين بالإسلام وفاتحين الدول، حيث تم القضاء على إمبراطوريتين عريقتين في الحضارة والتمدن، وقد انتقل إرثهما الكامل لهؤلاء الفاتحين اللذين لم يتطبعوا بمدنية من قبل وإنما كان سكن أغلبهم الخيام، وأكلهم التمر ولحوم الإبل. فما كاد القرن الأول يلفظ أنفاسه الأخيرة حتى أصبح العرب الفاتحون، الزعماء الجدد لعدد كبير من المجتمعات والقوميات المختلفة الأعراف والأديان، فكان إن بدأ التغير ينساب
____________
(12) السلفية للبوطي، مرجع سابق، ص 10.
(13) روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك: " لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه ".
فظهرت معالم التحول واضحة في المدن الجديدة التي اختارتها القيادات الإسلامية والعربية لتكون حواضر المدنية الجديدة.
لقد بدا هذا التحول الشامل وكأنه انسلاخ عما ألفه العرب المسلمون الأوائل من أساليب الحياة، والتي ربط البعض بينها وبين تعاليم الدين الجديد، فشكل اللباس وطريقة الأكل والمسكن التي كان عليها الرسول وأصحابه الأول، بدأت تنحصر وتتراجع لتنسخها طرق وأساليب حياة جديدة ومختلفة، مستوحاة من طرائق الحياة لدى الأمم المفتوحة، والتي اعتنق أغلب سكانها الإسلام. وأصبحوا مع مناطقهم الجغرافية يشكلون المجتمع الإسلامي الكبير.
لقد انطلقت منذ ذاك الحين دعوات ونداءات من طرف بعض الناس، تنبه لهذا التحول وتحذر منه، وتدعو للرجوع إلى ما كان عليه الرسول ومجتمع الصحابة الأول.
فأمام حركة الترف والتنعم بملذات الدنيا وخيراتها، من امتلاك للمزارع الكبيرة، وبناء الدور والقصور الفخمة، واقتناء الجواري والعبيد والخدم والحشم الخ.. ظهر تيار مناهض لهذه المظاهر وندد بها، داعيا للتقشف والزهد في الحياة الدنيا. على أن ذلك من صميم الدين وسيرة السلف الصالح، وهناك محاورة بين الإمام الصادق وسفيان الثوري وكلاهما ينتسب لعصر التابعين، تظهر لنا عدم تقبل الكثير من الملتزمين بالدين الجديد - خصوصا من العرب - بعض العادات الجديدة في الملبس والمأكل والمسكن. فقد دخل سفيان الثوري على الإمام الصادق عليه السلام وكان عليه جبة خز دكناء، قال سفيان:
فجعلت أنظر إليها متعجبا. فقال لي: يا ثوري. ما لك تنظر إلينا، لعلك مما رأيت ؟ قال فقلت: يا بن رسول الله ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك.
فقال لي: يا ثوري، كان ذلك الزمان مقفرا مقترا، ثم حسر عن ردن جبته وإذا
من خلال هذه المحاورة التاريخية بين اثنين من أقطاب السلف وهما الإمام الصادق وسفيان الثوري وهو من كبار الزهاد في عصره، يتبين لنا مدى التحول الذي بدأ يتجلى في الحياة الاجتماعية العامة لدى المسلمين. فلبس الخز من طرف الإمام الصادق إنما هو مسايرة لما عليه الأغلبية في لباسهم، ونحن نعلم أن من الصحابة من لم يكن يلبس إلا المرقع من خشن اللباس، وذلك للفقر الذي عاشه المسلمون الأوائل قبل الانتصار الكبير للإسلام. لذلك استنكر سفيان هذا اللباس وقال للإمام الصادق ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك.
لقد شهد عدد من المحدثين والفقهاء الاختلاف الذي سرى وتعمق في الحياة العامة للمسلمين والعرب منهم بالخصوص. وإنهم ابتدعوا كثيرا عما كان عليه السلف (والمقصود به في ذلك الزمن الصحابة) وكانت جل الملاحظات والانتقادات لا تعدو كما ذكرنا: طرائق الحياة من ملبس ومسكن، وإن كان هناك تغير وتحول إن لم نقل انحراف عقائدي تزعمه ملوك بني أمية، الذين حولوا الخلافة إلى ملك عضوض. لكن مع مرور الزمن وما عرفه المجتمع الإسلامي من أحداث جسام، خصوصا على الصعيد السياسي وما نجم عنه من تقاتل وسفك للدماء. ونشوء الفرق السياسية بادئ الأمر، والكلامية بعد ذلك، وبداية التأسيس الحضاري في مجالات العلوم الدينية والعلمية، والذي اكتمل بنيانه مع
____________
(14) أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، م 2 ص 302.
(15) بداية الفرق نهاية الملوك، الشيخ محمد رضا الحكيمي، ص 71.
كل ذلك وغيره جعل الدعوة إلى اقتفاء أثر السلف الصالح من (الصحابة والتابعين) تأخذ بعدا آخر، أكثر عمقا وأبعد أثرا. لقد خطى المجتمع الإسلامي أشواطا بعيدة في المدنية، جعل الدعوة لتقليد السلف في ملبسهم وسلوكياتهم العامة، خطا أو تيارا خاصا متميزا في الوسط الإسلامي بجانب التيارات الأخرى. لكن هذه الدعوة ستأخذ ابتداء من القرن الرابع الهجري بعدا فكريا ونظريا، بالإضافة للدعوة إلى الالتزام بما كان عليه الصحابة من مظاهر خارجية تمس الحياة اليومية الاعتيادية من ملبس ومأكل، إلى اقتناء وتقليد آرائهم ومذاهبهم الفكرية والاعتقادية.
لقد كانت هذه الحركة بداية تفجر الاختلاف الكبير حول مفهوم السلف وتحديد الفترة الزمنية التي يمكن أن يطلق عليها لغة واصطلاحا " السلف "، ومن هم رجالات السلف الذين سنقتفي أثرهم ونعتنق آراءهم ومذاهبهم ؟
وهل يعتبر العلماء والفقهاء ممن ظهر مؤخرا ولم يلتقي بالتابعين، " سلف " لنا يمكن الاقتداء بهم، وقد أصبح للكثير منهم مكانة علمية مرموقة، سواء في الفقه أو الحديث، وباقي العلوم الإسلامية. كما حازوا احترام العامة فقلدوهم في كل ما يذهبون إليه من أفكار وفتاوى فقهية ؟. وإذا كانت الخيرية قد اعتبرت في القرون الأولى خاصة، بنص الحديث النبوي. فما قولنا فيمن جاء بعد تلك القرون ؟.
الاختلاف حول مفهوم السلف والخيرية وتحديد الفترة الزمنية:
إن تحول التقليد والاقتداء بالسلف وتطوره من مفهوم المتابعة السلوكية إلى المتابعة في الاعتقادات النظرية والفكرية، قد فجر عدة مشاكل نظرية وعملية.
خصوصا مع ظهور تيار خاص، اتخذ من هذه المتابعة أو التقليد مذهبا مميزا عن باقي التيارات والفرق التي كانت تموج بها الساحة الفكرية الإسلامية.
ما المقصود بالخيرية التي ذكرها الحديث، على فرض صحته ؟ وهل هذه الخيرية قصد بها بيان المنزلة الخاصة للذين عايشوا الرسول من الصحابة، ومن عايشهم من التابعين، الذين أتوا بعدهم، لتوجيه الأنظار والتدليل على اتباعهم واقتفاء أثرهم في كل ما راموه من فعل أو قول ؟ لقد كان في الصحابة والتابعين المنافقون والفسقة، ومنهم من انحرف زمن الرسول، ومنهم من انحرف بعده، واشتهر من بينهم الوضاعون والكذبة، وارتد البعض منهم عن الإسلام وأصبح كافرا معلنا العداوة للإسلام وأهله ! ؟.
وقد توزع الصحابة في الأمصار وأحدثوا كثيرا من القضايا التي اختلف حولها المسلمون. وحارب بعضهم بعضا ؟ ! وعليه فمفهوم السلف هنا إذا قصد به الصحابة أو التابعون لهم. لا بد وأن يختص به جماعة أو أفرادا متميزين منهم، من استقام على الإسلام ولم يبدل تبديلا حتى لقي ربه.
ومعرفة هؤلاء ونعتهم بالأسماء مما اختلفت الأمة قاطبة حوله، وافترقت الفرق من جراء الفصل فيه ! ؟.
لقد أختلف في تحديد الفترة الزمنية التي وجد فيها هؤلاء " السلف " الواجبي الاقتفاء والتقليد. فإن كان البعض قد حصرهم في التابعين وهؤلاء لم يكن أحد منهم حيا أواخر القرن الثالث، فقد ذهب البعض الآخر إلى اعتبار السلف ما قبل القرن الخامس. ومنهم من أعطى مفهوم السلف بعدا نظريا لا علاقة له بالزمن أو فترة زمنية محددة، فكل من سلك طريقا معينا في الأصول أو الفروع وبرع فيه حتى أصبح رائدا واتبعه الناس وقلدته العوام فهو من السلف، وينتسب إليهم، وإن كان هؤلاء قد وضعوا له محددات خاصة
وإذا كان السلف هم المسلمون الذين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى، وإننا ملزمون باقتفاء أثرهم واتباع سبلهم وطرائق حياتهم الفكرية والعملية، فإن ذلك لن ينجم عنه إلا الإيمان بكل الفرق والمذاهب والحركات التي ذكرها الشهرستاني في ملله ونحله. والتي حاول جهده أن يوصلها إلى ثلاثة وسبعين فرقة، ليخرج منها فرقة " أهل السنة والجماعة ". باعتبارهم الفرقة الناجية التي ذكرها الحديث (16)، والباقون في النار ؟ !.
وهذا المفهوم لن يستقيم لما يذهب إليه من اعتبروا أن السلف تيار أو فرقة مخصوصة من ضمن الفرق الإسلامية، وأنهم المقصودون بالفرقة الناجية ؟ !.
وعليه فادعاء كون " السلفية " فرقة متميزة، يعني تحديد مفهوم السلف في أشخاص معينين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم إلى يومنا هذا. لقد ظهرت جل الفرق والحركات والمذاهب التي عرفها المجتمع الإسلامي، خلال القرون الثلاثة الأولى. وكان فيما بينها من اختلافات الأصولية والفروعية ما أباح تجريد السيف وسفك الدماء وإباحتها، وكفرت كل فرقة من ناوءها أو خالفها الرأي والمعتقد.
لقد افترق المجتمع الإسلامي الأول مباشرة بعد وفاة الرسول (ص) إلى فرقتين، فمن الصحابة من آمن بولاية علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة، لا على أساس القرابة وفضل الجهاد. وإنما على أساس النص والتعيين النبوي (17)، بالإضافة إلى ادعائه عليه السلام نفسه بكونه الولي الشرعي المنصوص عليه من طرف الله ورسوله.
____________
(16) فقد روي عن الرسول (ص): " تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة ".
(17) أنظر تعريف " الإمامية الاثنا عشرية " ضمن هذا الفصل.
ظهر التيار الجبري الأموي، وفي مقابله وضده انطلق القدريون دعاة للحرية الإنسانية بشكل متطرف. وإلى جانب الفرق التي جادلت في بعض القضايا الخاصة بمشكلات عقائدية (18) لها جذور في النص القرآني والحديثي، أو كانت محل إثارة وجدال لدى الأديان والمذاهب السابقة على الإسلام، مثل التشبيه والتجسيم. وقامت فرق أخرى للرد على تلك الفرق، المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث بفرقهم من معتدلين وحشوية، كما ظهرت المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها مما اندثر وعفى عنه الزمن.
إن هذه الفرق وغيرها كثير، والتي حاولنا ذكرها بإجمال في هذه العجالة، قد سجل ظهورها في القرن الأول أو الثاني والثالث. بالإضافة إلى أحداث أليمة متمثلة في حروب دامية أكلت الأخضر واليابس، شارك فيها الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين، أي قامت في عهد السلف، وتحت إمرة من يعتبرون من أعاظم السلف، وسفكت فيها دماء الكثير من السلف الصالح، فقد قتل الخليفة الثاني على يد مولى لأحد الصحابة، وقتل الصحابة وبعض التابعين عثمان بن عفان
____________
(18) مثل مشكل الصفات الخبرية، والمتشابه والمحكم في القرآن.
إن اعتبار السلف الواجب الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم هم من عايش هذه الفترة. لا يستقيم إلا بالانتقاء الشديد والخاص، يغدو معه مفهوم " السلف " ضيقا جدا ومنحصرا في عدة أسماء، لا يقبل به من يدعو نفسه اليوم أو في الماضي بأنه من أتباع السلف، أو من حاول إعطاء " السلف " مفهوما مرتبطا بحقبة زمنية أعطيت ميزة الأفضلية والخيرية لمن عايشها أو وجد حيا أثناءها، لقد ماجت القرون الثلاث الأولى بفرق ومذاهب كفرت بعضها بعضا واستحل كل فريق دم ومال وعرض الآخر، وادعت كل فرقة أنها على ما كان عليه الرسول (ص) وأصحابه (19)، وأن غيرها منحرف ضال.
لذلك نرى أن عددا من التعاريف التي ذكرناها لتحديد مفهوم " السلفية " و " السلف " لا تستقيم بحال. نذكر منها على سبيل المثال - وإن كنا سنفصل في هذه المواضيع وغيرها في البحوث القادمة، إن شاء الله.
____________
(19) إشارة للحديث الذي يقول فيه الرسول " ما أنا عليه وأصحابي " عندما سئل بعد قوله:
عليكم بالجماعة فقيل من هم يا رسول الله ؟ قال: "... الحديث ".
تعاريف متناقضة:
فقد جاء في تعريف الدكتور السلفي المعاصر علي عبد الحليم محمود حول مذهب السلف قوله: " ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم " وقد قلنا سابقا بأن الصحابة انقسموا في مسألة الخلافة إلى علويين " شيعة يؤمنون بالنص والتعيين النبوي المباشر لعلي بن أبي طالب، وآخرون انتصروا لأبي بكر وعمر وعثمان وآمنوا بشرعية خلافتهم، وغيرهم رام الحياد. وإن تطور هذا التيار فيما بعد ليصبح ما عرف بالعثمانية. وهذا الخلاف ليس بالهين لأن السيف قد جرد فيه. وتبادل الفريقين التكفير والتضليل، فمن تبع الفريقين إذن، يكون متبعا للسلف غير منحرف عن نهجهم. أما أعيان التابعين فقد ذهبوا مذاهب شتى متنافرة ومتناحرة، وكتب تاريخ الفرق تدل بوضوح على ذلك. فليس صاحب نحلة أو مذهب في الدين أو السياسة، إلا ويرجع أصل مقولته لهؤلاء السلف من الصحابة والتابعين.
أنظر ما يقوله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة عن الإمام
علي عليه السلام: " ما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل
فرقة، وتتجاذبه كل طائفة... فإن المعتزلة - الذين هم أهل التوحيد والعدل
وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته وأصحابه... وأما
الأشعرية فينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم، وهو علي بن أبي
طالب... وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر... ومن العلوم علم الفقه،
وهو عليه السلام أصله وأساسه. وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه
ومستفيد من فقهه، " وأبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل " هؤلاء الفقهاء
الأربعة. وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر... ومن العلوم علم تفسير القرآن،
وعنه أخذ... ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت
أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون، وقد
صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري، وأبو يزيد البسطامي، وأبو محفوظ