ثانيها: أن بعض الصحابة الذين أكثروا من النقل عنه، والذين قد أثرت عنهم عبارات تدل على أنهم نشروا عن أحمد مسائل قبل أن يروه، فحرب الكرماني وهو ممن أكثر الرواية عن أحمد، ذكر أنه نشر أربعة آلاف مسألة بالسماع قبل أن يراه، بل إن الذي روى هذا الفقه وهو أبو بكر الخلال يحكي أن المسائل التي رواها عن حرب، وهي أربعة آلاف هذه قد رواها حرب من غير تلق عن أحمد، وإليك نص ما يقول الخلال: " قال لي: كنت أتصوف قديما، فلم أتقدم في السماع، وقال لي: هذه المسائل حفظتها قبل أن أقدم إلى أبي عبد الله، وقبل أن أقدم إلى إسحاق بن راهويه، وقال لي: هي أربع آلاف عن أبي عبد الله، وإسحاق بن راهويه، ولم أعدها " (82).
وإذا كان الخلال كما يقول الشيخ أبو زهرة وهو يعد كأسد بن الفرات وسحنون في رواية المذهب المالكي، قد روى مسائل لم يتلقها عن صاحبها وهو حي وأن عددها كبير جدا فمن حق العلم أن يتظنن في النقل، وألا يسلم من غير أن يزيل ذلك الريب.
ثالثها: إن المروي عن ذلك الإمام الأثري الذي كان يتحفظ في الفتيا، فيقيد نفسه بالأثر، ويتوقف حيث لا أثر ولا نص بشكل عام - ولا يلجأ إلى رأي إلا في الضرورة القصوى التي تلجئه إلى الافتاء - كان المروي كثيرا جدا والأقوال المروية عنه متضاربة. وذلك لا يتفق مع ما عرف عنه من عدم الفتوى
____________
(81) طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى، ص 17.
(82) نفس المرجع، ص 103.
رابعها: إن أحمد قد اشتهر أنه رجع عن مسائل كثيرة نشرت عنه بخراسان فجردها من نسبتها إليه، فكيف ينسب إليه ما جرد نفسه منه، ونفاه، وأعلن أنه ليس برأي له، وأنه لا يصح نقله عنه.
خامسها: إن الفقه المنقول عن أحمد قد تضاربت أقواله فيه تضاربا يصعب على العقل أن يقبل نسبة كل هذه الأقوال إليه ! وافتح أي كتاب من كتب الحنابلة، واعمد إلى أي باب من أبوابه تجده لا يخلو من عدة مسائل اختلفت فيه الرواية بين لا ونعم، أي بين النفي المجرد، والإثبات المجرد - كما يقول الشيخ أبو زهرة -، ولنفتح مثلا كتاب الفروع. في باب من أبوابه، وقد وقع نظرنا على باب من أبواب الزكاة، وهو حكم الزيادة التي يأخذها جامع الزكاة. أتحتسب من زكاة العام المقبل أم لا تحتسب، ثم أتحتسب الهدايا للعامل من الزكاة أم لا تحتسب ؟ فقال: " وإن أخذ الساعي فوق حقه اعتد بالزيادة من سنة ثانية، نص عليه، وقال أحمد رحمه الله يحسب ما أهداه للعامل من الزيادة، وعنه لا يعتد بذلك... وإن زاد في الخرص (أي التقدير بالظن) هل يحتسب بالزيادة من الزكاة ؟ فيه روايتان " (83).
وهكذا كلما سرت مطمئنا قليلا عثرت باختلاف الروايات كثيرا ثم محاولة التوفيق بتوفيق مقبول، وقريب أو بعيد، وأن ذلك من شأنه أن يثير الريب حول النسبة (84). إن هذه النقاط الخمس التي ذكرها الشيخ أبو زهرة بخصوص الفقه المنسوب لأحمد تعتبر من الإشكالات الوجيهة والتي لم يستطع الحنابلة الإجابة عنها بأجوبة علمية.
أما في ما يخص الاختلاف وكثرة التناقض في الروايات المنسوبة لأحمد
____________
(83) الفروع، ج 1 ص 925.
(84) أحمد بن حنبل، لأبي زهرة، ص 168، 169، 170.
وقد يضطر (أحمد) إلى القياس أي الرأي وأوجه الرأي مختلفة ومتضاربة، وقد يتعارض في نظره وجهان من أوجه الرأي ويذكر الاحتمالين فينسب الرواة إليه قولين. من أجل هذا اختلفت الآراء الفقهية المنسوبة إليه (85).
والحقيقة أن هذا التخريج لأسباب الاختلاف والتناقض، فيه بعضا من الصواب كما أن فيه الكثير من التهافت والتلفيق، ويجعل من أحمد أحد الفقهاء المشتغلين بكثرة الفتوى والردود، والواقع التاريخي عكس ذلك تماما.
فأحمد بن حنبل كان يبتعد كثيرا عن الافتاء. وإنما أغلب أجوبته روايات ونقل للأخبار والأحاديث. وهذه لا ينطبق عليها الاختلاف الكثير عند النقل كما هو موجود في الفتوى الفقهية المبنية على الاجتهاد.
أما المعضلة الأخرى التي حيرت أرباب هذا المذهب والقيمين عليه.
فتمثلت في اختلافهم في تفسير عبارات وردت على لسان أحمد في إجابته عن مسائل سئل عنها. فكانت عباراته ليست صريحة في إثبات الحرمة، أو في بيان أن الحكم هو الطلب على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب، فمثلا كلمة " لا ينبغي " في كثير من إجاباته، فقد ذكروا أنه يستحب فراق غير العفيفة واحتجوا بقول أحمد: لا ينبغي أن يمسكها، فحملوا ذلك على الكراهة. ومسألة أبو طالب: عن الرجل يصلي إلى القبر والحمام والحش. فقال أحمد: لا ينبغي: قال أبو طالب، فإن كان ؟ قال: يجزيه.
____________
(85) المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب، ج 3 ص 195، 196.
قال ابن أبي يعلي: وليست جوابات إمامنا في الأزمنة والأعصار إلا بمثابة ما يروي عن النبي (ص) من الآثار، لا يسقط نهايتها موجبات بدايتها إلا بأمر صريح بالنسخ أو التخفيف، فإذا عدم ذلك كان على موجبات رعايته، فكذلك في جواباته إذ العلماء أنكروا على أصحاب الشافعي من حيث الجديد والعتيق، وأنه إذا ثبت القول فلا يرد إلا باليقين، فكذلك في جوابات إمامنا (86).
إن وجود ألفاظ مثل: " يعجبني ولا يعجبني وأكره ولا ينبغي " بشكل غامض وغير محدد في أجوبة أحمد يدعم القول بكونه ليس فقيها متمرسا كباقي الأئمة، وإلا لأستخدم مصطلحات فقهية واضحة في فتاويه. ولكنه كان محدثا يحفظ مئات بل الألوف من الأحاديث. ولما اشتهر أمره بعد المحنة انهال عليه العامة وقصدوه بأسألتهم فكان يجيب بطريقته الخاصة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كان أحمد كما يقول أصحابه كان لا يفتي إلا اعتمادا على الأثر. لماذا وضع الحنابلة في حيرة عند ترجيح أقواله ومعرفة ما يقصد به من قوله: يعجبني ولا ينبغي، لماذا لا يرجع إلى الأثر لمعرفة حقيقة الأمر ؟.
والواقع أن المطلع على سيرة هذا الرجل بتمعن وتأمل، يلاحظ أنه كان مجرد محدث يطلب العلم عبر حفظ الحديث ونشره وروايته. وأنه أقحم في محنة خلق إقحاما، وقد انفرجت هذه المحنة على اشتهاره، فوجد الخليفة
____________
(86) أسد حيدر، م 2، ص 511 - 512.
لذلك يمكننا أن نرجح أن ابن حنبل لربما جاء كضرورة تاريخية، خاصة بأهل الحديث الذين كانت تتجاذبهم مذاهب فقهية وأصولية شتى متفرقة ومتناقضة. فكان يراودهم حلم ما بظهور وبروز شخصية منهم تتوفر فيها الشروط الذاتية والموضوعية، لجمع شملهم ووضعهم تحت قيادة واحدة، وتنظيمهم في تيار موحد، يشبه مثلا مذهب الاعتزال. فكان أحمد بن حنبل وكان السعي الحثيث من طرف أهل الحديث لتحقيق هذا الهدف والتمني.
لقد كان أحمد محدثا وحافظا تستوعب ذاكرته آلاف الروايات، وكان لا يختلف في عقائده الأساسية مع أهل الحديث إلا ما كان من إيمانه بخلافة الإمام علي، وحب أهل بيته. فإن أصحاب الحديث كانت لهم مذاهب مختلفة في الإمام علي، أكثرها اعتناقا عدم القول بإمامته. وإذا كان تيار الحشو سائدا، بل غلب على أهل الحديث ومذاهبهم، وكانوا يتعرضون لغمز العلماء وانتقادهم، فقد ظهرت الفرصة سانحة مع أحمد بن حنبل، فبدأت أفواجهم بالانضواء تحت مذهبه وإعلان انتسابها له، بعد ما صنع له مذهب في الأصول والفروع، ولم يعد الحشوية بعدها فرقة أو تيار ضمن أهل الحديث ولكن أصبح كل حنبلي موسوما بالحشوية، كما عرف كل حشوي بانتمائه لهذا المذهب.
في الأصول:
إذا كان العلماء قد ناقشوا نسبة أحمد إلى الفقه ونفوا عنه أن يكون فقيها مجتهدا، كما شككوا في معظم ما نسب إليه من فقه، فإن الصراع سيحتدم من جديد حول عقائد أحمد وما كان يؤمن به ويعتقده، فقد تضاربت الأقوال
بعض العلماء من خارج المذهب الحنبلي وبعضهم من داخله ينفون نفيا قاطعا أن يكون أحمد على عقائد التشبيه أو التجسيم، كما هو الحال لدى الحشوية أتباع مذهبه. ويتذرعون بأن أحمد كان متبعا للسلف في عقائده، ولم يكن السلف مشبهة أو مجسمة. بل كان أغلبهم متوقفون مفوضة فيما يخص تأويل آيات الصفات الخبرية، التي قد يفهم من ظاهرها نوع ما من التشبيه أو التجسيم تعالى الله عن ذلك.
ولكن ما بال هذه الأحاديث والأقوال التي يتداولها الحنابلة في كتبهم المعتمدة في العقائد. وهي تنضح بهذه الإسرائيليات والموضوعات، وكيف تنسب لأحمد ومن ثم للسلف. الواقع أن انضواء جماهير المحدثين تحت لواء أحمد بن حنبل واحتمائهم أو تسترهم وراء مذهبه الذي صنعوه له قد جعلهم يحملون تراثهم الحديثي معهم، ومن ضمنه الحجم الهائل للروايات المحشوة فيه من عقائد التجسيم والتشبيه المتسربة إليهم من أهل الكتاب.
وإذا علمنا أن أحمد بن حنبل نفسه قد روى كثيرا منها أو رويت عنه فلا يبقى هناك مجال للشك في أن تراث الحشوية قد ضم بالكامل إلى مصادر المذهب الحنبلي وأصبح معتمد المقلدين. لذلك تعرض الحنابلة على طول التاريخ لتهمة التشبيه والتجسيم، ولم تنفك عنهم. ليس فقط من خصومهم.
ولكن كذلك من بعض علماء هذا المذهب الذين اعتبروا تقليده في الفروع وتبنوا عقائد أهل السنة والجماعة من الأشاعرة في الأصول، أو تتلمذوا على عقائد الاعتزال والتصوف.
ابن حنبل وعقيدة التجسيم:
يقول صاحب الفكر السامي: قد رموه هو (أي ابن حنبل) وأصحابه بالحلول والتجسيم وبالجهة حيث قال بالفوقية والعلو الواردين في النصوص
يقول عن المذهب الحنبلي:
ويقول الذهبي في كتابه " زغل العلوم " وقد ذكر الحنابلة وما ينقم عليهم ما لفظه: والعلماء يتكلمون في عقيدتهم ويرمونهم بالتجسيم، وبأنه يلزمهم، وهم بريئون من ذلك إلا نادرا (89).
والحقيقة أنهم كذلك إلا قليلا منهم، وقد عكس الذهبي الحقيقة والعلماء الذين ذكروهم لا يفترون عليهم. ومنهم ابن الجوزي الحنبلي كما سيأتي.
ولقد انبرى كما قلت سابقا بعض العلماء لنفي هذه التهمة عن أحمد باعتباره رابع الأئمة المعترف بتقليدهم. ولكن محاولاتهم راحت أدراج الرياح. يقول الحشوية إن أحمد بن حنبل يقول كذا أو روي عنه كذا، ويقول غيرهم أن ما يقولونه منكر من القول، لا يصح أن ينسب لهذا الإمام السلفي الأثري، لكنهم أصحابه وأقرب الناس إليه كما يدعون وأعلم بمذهبه من غيره.
أليسوا هم من صنعه وأقام صرحه.
يقول الشيخ أبو زهرة: إن ابن تيمية يقرر أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية واستواء على العرش. ووجه ويد ومحبة وبغض. وما جاء في السنة من ذلك أيضا من غير تأويل، وبالظاهر الحرفي.
فهل هذا مذهب السلف حقا ؟.
ونقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا. وادعوا إن ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك
____________
(87) الفكر السامي، ج 2 ص 22.
(88) المرجع نفس، ص 23.
(89) العواصم والقواصم، ج 4 - ص 325.
رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصح، فصنعوا كتبا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات، وفما ولهوات وأضراسا، وأضواء لوجه، ويدين وإصبعين وكفا وخنصرا وإبهاما، وصدرا وفخذا وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس، وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل. ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر من صفات الحدث. ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل، حتى قالوا صفة ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا لا نحملها على توجيه اللغة، مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجئ وإتيان على معنى بر ولطف.
ولا ساق على شدة، بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشئ إنما يعمل على حقيقته إن أمكن، فإن صرف صارف حمل على المجاز، ثم يتحرجون من التشبيه، ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه. وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع، وقلت لهم يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر " أحمد بن حنبل " رحمه الله يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل، فإياكم أن تبتدعوا من مذهبه ما ليس منه، ثم قلتم في الأحاديث، تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات، وينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له
لم يستمع الحشوية لنصيحة ابن الجوزي أو غيره من العلماء، بل أكثروا الكذب على أحمد بن حنبل ورووا عنه مجمل عقائدهم وأدخلوا كل ما جمعوه من أحاديث أهل الكتاب من اليهود والنصارى وجعلوها أسس وقواعد مذهبه الأصولي. فاعتقدوها ودعوا العامة للإيمان بها، وكفروا من خالفهم في ذلك، سواء كان حنبليا أم لا.
وعليه يحق لنا أن نؤكد، إن ما يعرف بالمذهب الحنبلي أو ما يوصف اليوم بالمذهب السلفي، ما هو إلا عقائد الحشوية وآراؤهم، جمعت ودونت ونسبت لهذا المحدث الذي اختارته الظروف التاريخية ليتبوأ الزعامة داخل تيار أصحاب الحديث. فليس لابن حنبل في مذهبه إلا الاسم، ونزر قليل إن وجد من آرائه واختياراته، وقد اختلط وضاع ضمن الكم الهائل لآراء هؤلاء الحشوية وخصوصا في العقائد.
مسند ابن حنبل: الزيادة والتحريف:
لم يسلم " المسند " الكتاب الذي اشتهرت نسبته لأحمد من التحريف والزيادة فهذا ابن تيمية يقول في كتابه منهاج السنة عن المسند، إن عبد الله قد زاد فيه زياداته ثم زاد أبو بكر القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة فظن الجهال (91) إن ذلك من رواية أحمد رواها في المسند...
____________
(90) أبو زهرة، ابن تيمية، ص 322 - 323 - 324.
(91) إن قول ابن تيمية " فظن الجهال " فيه سوء أدب من الشيخ كما لا يخفى. فيكف يتسنى لطالب العلم أو عالم أن يقرأ كتاب المسند ويطالع مروياته ثم يقول: هذه رواها أحمد، هذه زيادة ابنه عبد الله أو غيره، وليس هناك ما يشير إلى ذلك. نعتقد أن قوله هذا =
وقول ابن تيمية هذا فيه الكثير من المغالطة وقد خالفه العراقي في هذا وقرر أن في المسند أحاديث ضعيفة كثيرة، وأحاديث موضوعة قليلة، وناقض ابن تيمية في قوله، إن الموضوع من زيادات القطيعي لا من رواية أحمد أو ابنه. وأيد مناقضته بدليل مادي. فأورد عددا محدودا من الأحاديث التي قال أهل الشأن إنها من الأحاديث الموضوعة وهي من رواية أحمد ورواية ابنه (93).
وقد رد ابن الجوزي دعوى الذين يزعمون أن المسند ليس فيه ضعيف، وهم ليسوا من علية العلماء، فقال: " سألني بعض أصحاب الحديث هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح، فقلت نعم، فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت فكر ذلك، وإذا بهم قد كتبوا فتاوى، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء الهمداني، يعظمون هذا القول، ويردونه، ويقبحون قول من قاله، فبقيت دهشا متعجبا وقلت في نفسي: واعجبا ! ! صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضا، وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث. ولم يبحثوا عن صحيحه من سقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد، وليس كذلك، فإن أحمد روى المشهور والجيد والردئ، ثم هو قد رد كثيرا مما روي، ولم يقل به ولم يجعله مذهبا له " (94).
____________
= واعترافه الصريح بالزيادة في المسند ليس مرده البحث الموضوع أو الإنصاف، وإنما ليتسنى له تضعيف ورفض ما روي في المسند من فضائل علي بن أبي طالب وأهل بيته، فإنه كان لا يجد حديثا يخصهم إلا ورام تضعيفه، أو بحث له عن علة تجرحه. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد ورث الأمويون بغضهم عليا وآل بيته المجتمع الإسلامي عامة، وبعضا ممن ينتسب لأهل العلم.
(92) المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب، ج 3 ص 190.
(93) أحمد بن حنبل، ص 166.
(94) المرجع نفسه، ص 166 - 167.
والمعتقد أن ما أضافه ابن أحمد هو ما سبق أن سمعه من أبيه ولكن لم يمكن مما أملاه أحمد عليهم عند إملاء المسند (95).
وأحمد بن حنبل عندما عمل المسند وأمر بكتابته مع أنه كان يكره الكتابة، قام بهذا العمل، ليجعل من المسند للناس إماما (96)، إذا ما أختلف في سنة الرسول. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، حين اعتبر أن الحديث - كما يروي عنه أصحابه - إذا لم يوجد في المسند فلا عبرة به.
أما كتاب " الرد على الجهمية " (المعتزلة)، والمنسوب إليه أيضا فقد أكد العلماء أن هذه النسبة لا تصح، يقول الشيخ زاهد الكوثري: وفي كتاب الرد على الجهمية المنسوب إلى أحمد إن هذه الآية * (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) * من المتشابه وهي كلمة خبيثة تبرأ منها عهدة الإمام أحمد، بل هذه الآية من المحكمات التي ترد إليها المتشابهات، ونسبة الكتاب إليه نسبة كاذبة كما دللنا على ذلك فيما علقناه على السيف الصقيل، وإلا ففيه
____________
(95) المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب، ج 3 ص 189، نقلا عن أحمد محنة الدين والدنيا.
(96) ولكن السلفيين لم يتخذوه إماما، وهم مع غيرهم من باقي المسلمين يقدمون عليه صحيحي البخاري ومسلم. بل إن غيره من مجامع السنة أكثر شهرة منه في التداول، مثل جامع الترمذي. والحقيقة أن هذا طعن عملي في إمامة صاحبهم حتى على مستوى المجال الذي عرف واشتهر به، وهو علم الحديث. أما بخصوص المسند فهو ليس بمستوى صحيح البخاري مثلا في شروط القبول أو الرفض للراوي. قال عبد الله سألت أبي عن حديث ربعي بن خراش عن حذيفة قال: الذي يرويه عبد العزيز بن داوود، قلت: نعم.
قال: الأحاديث بخلافه. قلت: فقد ذكرته في المسند. قال: قصدت في المسند المشهور، ولو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرو في هذا المسند إلا الشئ بعد الشئ اليسير، ولكن يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف إذا لم يكن في الباب شئ يدفعه. أنظر المصدر السابق، ص 190.
والحقيقة أن هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي شيوع وانتشار الكذب في كل ما يتعلق بالمذهب الحنبلي، فأقواله الفقهية والأصولية أغلبها مكذوب عليه، والكتب التي نسبت له ثبت عند التحقيق أنها ليست له، والكتب التي اشتهرت له زيد فيها وربما نقص كذلك، لذلك أشار أكثر من واحد إلى أن من مميزات هؤلاء الحشوية الذين صنعوا مذهب أحمد أنهم لا يتورعون عن الكذب. يقول الكوثري ولهذه الفئة (الحشوية) ولع شديد بافتراء الأباطيل ونسبتها إلى أكابر هذه الأئمة، ولو استقريت القرون منذ نجمت هذه البدعة، لرأيت في كل قرن إلى زمانك هذا من هذه الطائفة فلولا تشاغب وتموه وبإزائهم جيوشا من أهل السنة بحق تدافع وتبين (98).
ويصرح الشيخ الأزهري ابن خليفة في وجوه خلفهم، ويتهمهم بالافتراء والكذب. يقول: " وما سمعناه من أفواه الحشوية الحنبلية في البلاد الشامية، الداعين للسلفية، وما قرأناه في كتب أسلافهم القدامى، فكم من باطل سربلتموه بلباس الحق، وكم فرية ألصقتموها بالصحابة وأتباعهم مضادة للصدق وكم حذرتم وأنذرتم وكفرتم وتوعدتم المسلمين الآمنين المسالمين.
الذين لم يقولوا ببدعتكم. ولو يمالقوا سفهاءكم (99)... ".
وإذن ماذا يبقى من المذهب الحنبلي، وهل غابت عن المحققين كل هاته الحقائق ؟ كيف وجد هذا المذهب طريقه نحو التقليد فاعتنقته العامة ؟ وما هي الإغراءات التي عرضها أصحابه حتى زين في أعين البعض فقلدوه ؟.
أعتقد أن الإجابة عن السؤال الأول يجدها القارئ مبثوثة في طيات
____________
(97) الأسماء والصفات، للبيهقي، تعليق الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي وكيل مشيخة الإسلام بالإستانة سابقا. دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 277 الهامش.
(98) نفس المرجع، ص 17 - 18.
(99) هذه عقيدة السلف، م س، ص 7.
ونحن هنا لا نستهين بشخصه ولا ننتقصه. فالله سبحانه وتعالى أعلم وأخبر بورعه وتقواه، ولا يستطيع أحد منا أن يقول فلان أتقى وأورع من الآخر انطلاقا من بعض المظاهر والسلوكيات العملية، فنحن لا نعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وهو سبحانه أعلم بسرائر خلقه ومكانتهم عنده. أقول إن الحشوية بالغوا حقا في وصف هذا الإمام، ويظهر ذلك مما رووه في فضائله. وكان غرضهم إبرازه وجعله متميزا في الساحة العلمية والعملية، حتى يتسنى لهم اعتماده كإمام، فينضوون تحت لوائه. وإلا فقد رأينا أقوال العلماء فيه ووصفهم إياه، وأنه كان من جملة المحدثين، حافظا معتدل الحفظ. وإذا كان غيره قد حكمت الظروف التاريخية عليهم بالخمول فقد ابتلى هو بالشهرة، وكان كارها لها غير راغب فيها. قال الخلال: أخبرنا المروذي: سمعت أبا عبد الله، يقول الخوف منعني أكل الطعام والشراب، فما أشتهيه وما أبالي أن لا يراني أحد ولا أراه، وإني لأشتهي أن أرى عبد الوهاب. قل لعبد الوهاب أخمل ذكرك. فإني قد بليت بالشهرة (100).
الرؤى والمنامات للدعوة إلى تقليد المذهب الحنبلي:
لقد بدأت حركت الوضع عن أحمد بعد وفاته مواكبة أولا، انتصار
____________
(100) العواصم والقواصم، ج 4 ص 233.
أما سهولة نقدها والتأكد من وضعها فبسبب احتوائها على بعض القضايا العقائدية التي كان المحدثون يخوضون صراعا مريرا مع خصومهم حول إثباتها مثل مسألة رؤية الله.
حدث إبراهيم الحربي قال: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنه خارج من باب مسجد الرصافة وفي كمه شئ يتحرك، فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال غفر لي وأكرمني، فقلت: ما هذا الذي في كمك ؟ قال: قدم علينا البارحة روح أحمد بن حنبل فنشر عليه الدر والياقوت: فهذا مما التقطت.
قلت: ما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ؟ قال: تركتهما وقد زارا رب العالمين ووضعت لهما الموائد، قلت فلما لم تأكل معهما ؟ قال: قد عرف هوان الطعام علي فأباحني النظر إلى وجهه الكريم " (102).
أنظر أباحه النظر إلى وجهه الكريم، ولا ندري سبب التقاطه للدر والياقوت وهل يحتاج الناس إليهما في الجنة لغرض ما ؟ !.
وقال أحمد بن محمد الكندي: رأيت أحمد بن حنبل في المنام فقلت: يا أبا عبد الله ما صنع الله بك ؟ قال غفر لي ثم قال: يا أحمد ضربت في ؟ قال:
قلت نعم يا رب قال: يا أحمد هذا وجهي فانظر إليه فقد أبحتك النظر
____________
(101) يقول عبد المتعال الصعيدي: " يقال إنه (أي المتوكل) كان يظاهر فريقا مخصوصا من أهل السنة وهو فريق الحشوية الذين كانوا يحسبون من أهل السنة في ذلك العهد " مجلة رسالة الإسلام، ج 3 السنة 3، العدد 1، ص 60.
(102) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان، دار صادر، بيروت، ج 1، ص 65.
أما ما وضع وقيل في تفضيل أحمد والدعوة إلى تقليد مذهبه في الفروع والأصول، فهو كثير. وقد استدل به على ترجيح مذهبه. يشهد لذلك قول أبي الخطاب المتوفى سنة 476 ه:
ويقول بعضهم: رأيت أبا الخطاب في المنام فقلت: ما فعل الله بك ؟ فأنشد:
ومحفوظ هو اسمه وهو كلواذ، وكان من شيوخ الحنابلة وأعيانهم، لما مات دفن إلى جنب قبر أحمد. وكثرت المنامات التي تعطي مؤداها صورة عن عظمة شخصية أحمد وتعلق العامة به (105).
وقال عبد الوهاب الوراق: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أقبل فقال لي:
ما لي أراك محزونا فقلت: وكيف لا أكون محزونا وقد حل بأمتك ما قد ترى ؟ فقال لي: لينتهين الناس إلى مذهب أحمد بن حنبل، لينتهين الناس إلى مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله (106).
ونقل ابن الجوزي عن علي بن إسماعيل أنه قال: رأيت أن القيامة قد قامت وكان الناس قد جاؤوا إلى موضع عند قنطرة، لا يترك أحد يجوز حتى يجئ بخاتم، ورجل ناحية يختم للناس ويعطيهم. فمن جاء بخاتم جاز، فقلت، من
____________
(103) طبقات الحنابلة، ص 11.
(104) أسد حيدر، ج 4 ص 469، نقلا عن طبقات الحنابلة، ج 1، ص 47.
(105) المرجع نفسه، ص 469.
(106) طبقات الحنابلة، ص 154.
وقد سبقتهم الحنفية لهذه المنقبة في الاختراع، فقد ذكر المكي في المناقب أن أبا حنيفة رؤي على سرير في بستان، ومعه رق يكتب جوائز قوم فسئل عن ذلك فقال: إن الله قبل عملي ومذهبي وشفعني في أمتي، وأنا أكتب جوائزهم فقيل له: إلى أي غاية يكون علمه حتى تكتب جائزته ؟ فقال أبو حنيفة: إذا علم أن التيمم لا يجوز بالرماد. كما أن المالكية يدعون أن مالك يمنع منكرا ونكيرا عن مسائلة أصحابه في القبر.
وعن يحيى الحماني قال: رأيت في المنام كأني في صفة لي إذ جاء النبي (ص) فأخذ بعضادتي الباب، ثم أذن وأقام: وقال: نجا الناجون وهلك الهالكون فقلت: من الناجون ؟ قال: أحمد بن حنبل وأصحابه (108). ويحيى الحماني معروف بالكذب والوضع.
إلى غير ذلك من المنامات والأطياف التي وضعها أنصار المذهب الحنبلي ليوجهوا الناس إليه في عصر طغى فيه تيار التعصب، وجعلت الطائفية أداة لأغراض الولاة. وستارا تعمل من ورائه الأيدي العابثة التي تحمل معول الهدم وأداة التخريب.
وقد استخدموا القصاصين في استثمار هذه الوسائل تحقيقا للهدف، ونيلا للغرض الذي يحصل من وراء ذلك، فتراهم يقومون في الأندية، والمساجد والطرقات، يحدثون بما يعضد المذهب وانتشاره، فهذا يقص عمن لا يعرفه:
بأنه رأى في المنام بعض الصالحين في النوم فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال:
غفر لي. قيل: من وجدت أكثر أهل الجنة ؟ قال: أصحاب الشافعي: فقال له:
فأين أصحاب أحمد بن حنبل، فأجابه: إنك سألتني عن أكثر أهل الجنة وما سألتني عن أعلى عليين، أصحاب أحمد في أعلى أهل الجنة، وأصحاب
____________
(107) مناقب أحمد لابن الجوزي، ص 446، أنظر أسد حيدر، ج 4 ص 470.
(108) المناقب لابن الجوزي، ص 504.
ويظهر أن هذه الرؤية وضعت أيام الوئام بين الشافعية وحشوية الحنابلة، أما بعد انفجار الصراع بينهما فلم يكن الحشوية يكتفون بتكفير الشوافع، وإنما ترصدوا لهم في الطرقات وقتلوهم واعتدوا عليهم.
ومع كثرة هذه الرؤى والمنامات التي ترغب في مذهبهم، بدأ التصعيد نحو الغلو والمتطرف، الغرض منه التقليل من شأن باقي العلماء والحط من مكانتهم، وجعل إمامة أحمد بن حنبل وكأنها واجبة الاتباع دون غيره. روى بعض الحنابلة، قال الشافعي رضي الله عنه: أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة (110).
والغريب أن من كانت هذه حقيقته، كيف لم يذكر العلماء ذلك منه. و لماذا لم يعترفوا بإمامته في الفقه ولا في الحديث، فنحن لا نعلم أحدا أطلق عليه اسم أمير المؤمنين في الحديث إلا البخاري، كما أطلق على غيره لقب الحافظ، ولم نسمع أحدا أطلق على أحمد بن حنبل لقبا من هاته الألقاب.
ويقولون أنه انعقد الاجماع على أصوله التي اعتقدها والأخذ بصحة الأخبار التي اعتمدها حتى من زاغ عن هذا الأصل كفروه، وحذروا منه وهجروه (111). وقالوا " من أبغض أحمد بن حنبل فقد كفر " (112). ويبلغ الغلو مداه البعيد حين يقول أحمد بن حسين: سمعت رجلا من خراسان يقول: عندنا أحمد بن حنبل يرونه أنه لا يشبه البشر، يظنون أنه من الملائكة.
وقال رجل: نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة (113).
____________
(109) أسد حيدر، ص 470 - 471.
(110) طبقات الحنابلة، ص 3.
(111) المرجع نفسه، ص 8.
(112) نفسه.
(113) أسد حيدر، م 4، ص 471.
وهذا الغلو والتطرف لم تقل به بعض طوائف الشيعة، التي تتهمها الحشوية بالغلو في أئمتها، يقول الساجي وهو زكريا بن يحيى: أحمد بن حنبل أفضل عندي من مالك والأوزاعي والثوري والشافعي، وذلك أن هؤلاء لهم نظراء، وأحمد بن حنبل لا نظير له (115). لم يكتف الحنابلة بالدعوة لتقليد مذهبهم بطرق غير مباشرة كتمجيد إمامهم وبيان فضله بل دعوا إلى ذلك مباشرة، يقول عبد الله الأنصاري الهروي، أحد شيوخ الحنابلة الكبار.
قلنا سابقا إن أصحاب الحديث لم يكن لهم مذهب خاص يجمعهم أو إمام ينضوون تحت لوائه. ولما ظهر أحمد بن حنبل واجتمعت له المكانة العلمية في مجتمعهم والشهرة الاجتماعية، لملم أصحاب الحديث أمرهم وبدأت حركة الانتساب إلى مذهبه، ونقل على إثرها أهل الحديث والحشوية منهم خاصة تراثهم الحديثي وعقائدهم وضموها لآراء ومواقف هذا الإمام. ومن هذا الخليط، مما نسب لأحمد وما يرويه المحدثون ويعتقدونه تكون المذهب الحنبلي.
وإذا كان للحشوية عقائدهم الخاصة وكتبهم المعتمدة عندهم، فإن ذلك التراث سيصبح المصدر الذي سيستقي منه الحنابلة أفكارهم وعقائدهم، وسيصبح المذهب الحنبلي فيما بعد رحم الحشوية الجديد الذي منه يصدرون، والعش الذي يحتضن كبارهم وعلماءهم. وسنقوم بحول الله برصد بعض من هذه المصادر، ومعرفة ما احتوته من عقائد الحشو. لأنها نفسها مصادر المذهب الحنبلي الخاصة. ليتبين لنا كما قلنا سابقا بأن المذهب الحنبلي قد صنع ليكون رحم الحشوية الجديد.
____________
(114) البداية والنهاية، ج 10 ص 350.
(115) طبقات الحنابلة، ص 10.
(116) مختصر طبقات الحنابلة، ص 68.
الوضع العام للمذهب الحنبلي في العقائد
يقول الصفدي: " والغالب في الحنابلة الحشوية " (117).
____________
(117) الغيث المنسجم للصفدي، ج 2 ص 47. وراجع ضحى الإسلام لأحمد أمين، ج 3 ص 71. أنظر بحوث في الملل والنحل للسبحاني، ج 1 ص 124.
المذهب الحنبلي رحم الحشوية الجديد
حركة الوضع في الحديث ونتائجها:
يقول الجرجاني: " وسميت الحشوية حشوية لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله (ص) قال: وجميع الحشوية يقولون بالجبر والتشبيه، وتوصيفه تعالى بالنفس واليد والسمع والبصر، وقالوا، إن كل حديث يأتي به الثقة من العلماء فهو حجة أيا كانت الواسطة " (118) لا شك أن الحديث النبوي يعتبر الدعامة الثانية للإسلام، بحيث لا تكتمل الشريعة بدونه. فهو الذي شرح مجملات القرآن وفسرها، وعن طريق الحديث اكتمل التشريع في الأمور التي لم يذكرها القرآن مفصلا. وإذا كان الرسول لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحى فكل ما قاله أو سمع عنه، سيأخذ طابعا إلزاميا تعبديا، مثله مثل القرآن الحكيم. لذلك اهتم الصحابة الأوائل بحديث رسول الله وحفظوه وكتبه بعضهم في حياة الرسول. لكن نهى الخليفة الثاني عن كتابة الحديث بعد وفاة رسول الله ستكون له سلبيات كبيرة. حيث كثر الوضع والكذب على رسول الله بعد ذلك. واختلط مع ما صح عنه (ص) ورواه عنه أصحابه. وإذا كان الصحابة قد توزعوا في الأمصار فإن معرفة صحيح الحديث من ضعيفه قد أصبحت صعبة المنال. فاغتنم رواة
____________
(118) التعريفات، للجرجاني، ص 341، والحور العين، ص 204. ومعرفة المذاهب ص 15.
أنظر بحوث في الملل والنحل، ج 1 ص 124. يقول ابن الجوزي الحنبلي يصف أصحابه ممن ينتسبون للمذهب الحنبلي: " قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روي. والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم ولا حول ولا قوة إلا بالله ".
كما أن متأسلمة اليهود والنصارى لما فسح لهم المجال على عهد الخليفتين (119) عمر وعثمان وخلال الحكم الأموي، فإنهم لم يألوا جهدا في إدخال مجمل عقائدهم المنحرفة إلى الإسلام عبر الحديث. والكتب الحديثية المعتمدة لدى الحشوية " السلفية " والتي سنعرفها بعد قليل، تزخر بهذه الروايات الإسرائيلية، وبالحشو المنكر والفظيع. الذي شوه عقائد الإسلام الأصيلة والصافية من كل شائبة تخالف التوحيد الحقيقي.
عقائد " الحشوية السلفية " من خلال مصادرهم الحديثية:
قلنا سابقا في تعريفنا للحشوية، بأنهم كانوا يحشون الأحاديث التي لا أصل لها، أو من مرويات أهل الكتاب في أحاديث النبي (ص). وأن أغلب هذه الأحاديث في التشبيه والتجسيم، وذلك بوصف الذات الإلهية باليد والرجل والنفس والذراع والحقو، وكذا وصفها بما يخص الحوادث من النزول والصعود والتحيز والمكانية، وعندهم أن ذلك إثبات للصفات. وسنعرض لبعض هذه الروايات من كتبهم المعتمدة حتى يتبين للقارئ مدى الانحراف الذي أصاب عقيد التوحيد والتنزيه على يد هؤلاء الحشوية " السلفية " وأهل الحديث.
____________
(119) ذكر ابن سعد صاحب الطبقات أن رجلا دخل المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن القيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ. الطبقات ج 7 ص 79. وهذا لعمري مخالفة صريحة لنهي الرسول عن قراءة كتب أهل الكتاب وخصوصا اليهود.
فكيف سمح لهذا الحبر المعتنق للإسلام أن يحدث في مسجد رسول الله بأحاديث بني إسرائيل المحرفة ؟.
في التشبيه والتجسيم:
جاء في مجموعة التوحيد: " والنصوص الدالة على إثبات الصفات كثيرة جلدا. وقد صنف أهل السنة من المحدثين والعلماء مصنفات كبارا، ومن ذلك كتاب " السنة " لعبد الله ابن أحمد، ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين والأئمة. وكتاب " التوحيد " لإمام الأئمة محمد بن خزيمة وكتاب " السنة " للأثرم صاحب الإمام أحمد وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي. وكتاب " السنة " للخلال، وكتاب " العلو " للذهبي وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ولله الحمد والمنة (120).
ونحن سننتخب من هذه المصادر المذكورة قليلا من كثير، مما روى أصحابها ويخص التشبيه والتجسيم، وسنبدأ بكتاب " السنة " لعبد الله بن أحمد (121) لخصوصيته عندهم ومكانة أبيه لديهم.
كتاب " السنة " لعبد الله بن أحمد:
يقول عبد الله ابن أحمد في صفة الاستواء والجلوس على العرش:
حدثني أحمد بن سعيد أبو جعفر الدارمي، سمعت أبي خارجة يقول:
الجهمية (122) كفار بلغوا نساءهم أنهن طوالق. وأنهن لا يحللن لأزواجهن،
____________
(120) مجموعة التوحيد، رسائل لابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما. تحقيق بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان، ط 1 1987، ج 1 ص 59.
(121) هو عبد الله بن أحمد بن حنبل، ولد عام 213 ه. وتوفي عام 290 ه. روى أحاديث أبيه. وكان ملازما له. وكان أبوه لا يأكل من طعامه لأنه كان يقبل جوائز المتوكل وعطاياه والتي كان أحمد يرفضها ويقول: لو كنت أعلم أنها جلبت من حلال لأخذتها.
وكتابه السنة طبعته أول مرة المطبعة السلفية سنة 1349، وهو أحد الكتب المهمة في روايات التجسيم والتشبيه وكذا الإسرائيليات. وقد طبع ونشر ووزع من طرف " السلفية الوهابية " هو وغيره من المصادر الحشوية.
(122) يقصد المحدثون بكلمة جهمية " المعتزلة " لأن جهم كان معطلا في نظرهم، والمعتزلة يلتقون معه في التعطيل أو التنزيه ؟ !.
"... حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا علي بن الحسين بن سقيف سألت عبد الله بن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا قال: على السماء السابعة على عرشه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هنا في الأرض " (124).
ولسنا ندري ما يقصدون بالجهمية فإنهم يوردونها ويقصدون بها المعتزلة حينا وغيرهم حينا آخر، ولا نعرف للمعتزلة قولا بأن الله هنا في الأرض وهم أصحاب التنزيه وفرسانه ؟ !.
"... وحدثني أبي حدثنا عبد الرحمان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر قال:
إذا جلس على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد (125). قال الذهبي في " العلو للعلي الغفار ": " الأطيط الواقع بذات العرش من جنس الأطيط الحاصل في الرحل فذلك صفة للرحل وللعرش ومعاذ الله أن نعده صفة لله عز وجل، ثم لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت " (136).
وعن عبد الله ابن خليفة عن عمر قال إذا جلس الرب على الكرسي، فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع فغضب وكيع وقال أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها (127). أنظر التجسيم الصريح
____________
(123) السنة لعبد الله بن أحمد، تحقيق أبو هاجر محمد زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1 1985 م، ص 13.
(124) المصدر السابق، ص 13.
(125) المرجع نفسه، ص 79.
(126) العلو للعلي الغفار، ص 39.
(127) السنة، ص 79.
"... وعن أبي موسى قال: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل " (128). سبحانه وتعالى عما يصفون.
"... وعن عبد الله بن خليفة قال: جاءت امرأة إلى النبي فقالت: أدع الله أن يدخلني الجنة قال: فعظم الرب وقال وسع كرسيه السماوات والأرض إنه ليقعد عليه فما يفضل منه إلا قيد أربع أصابع وإن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب " (129). أنظر قوله " ليقعد عليه " فهل هناك حشو أخطر من هذا الذي يجعل الله جسما يقعد ويحدث صوتا عند قعوده، وهذا العرش تصوروه وكأنه كرسي ملك كما هو معروف لدى الملوك والأباطرة، والحقيقة أن هذه الرؤية وهذا التصور لا يوجد له نظير سوى لدى اليهود خاصة.
وهناك أحاديث أخرى صارخة في التجسيم منها:
"... عن أبي عطاف قال: كتب الله التوراة لموسى بيده وهو مسند ظهره إلى الصخرة في الألواح من در يسمع صريف القلم ليس بينه وبينه إلا الحجاب " (130). والأحاديث في كتابة الله التوراة بيده كثيره جدا والغرض واضح من ذلك، وهو أعطاء خصوصية للتوراة اليهودية المحرفة. وكذلك ذكر الحديث الصخرة وهي من معتقداتهم المهمة.
"... وعن خالد بن معدان أنه كان يقول: إن الرحمان ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش " (131). ولسنا ندري ماذا يقصد الراوي بقيام المشركين،
____________
(128) السنة، ص 79.
(129) السنة، ص 80.
(130) السنة، ص 76.