الصفحة 175
فالمعروف أن أول الناس استيقاظا المؤمنون للصلاة ؟ والحقيقة أن الحشو لا يناقش إنما يعرض ليتأمله القارئ ويستعيذ بالله من الكذب والافتراء والتحريف لدين الله.

وروى في نزوله سماء الدنيا قال: عن كعب قال: إن الله ينزل كل عشية ما بين العصر إلى صلاة المغرب ينظر إلى أعمال بني آدم (132). وسئل النبي عن الوتر فقال " أحب أن أوتر نصف الليل، إن الله يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مذنب ؟ هل من مستغفر ؟ هل من داع ؟ حتى إذا طلع الفجر ارتفع " (133).

أنظر إلى قوله " ارتفع " سبحانه وتعالى وتنزه عن الحركة والانتقال.

والأحاديث في النزول كثيرة جدا في كتب القوم وغيرهم، وإن كان المنزهون من أهل السنة أولوا ما صح لديهم منها، فإن الحشوية أبوا إلا فهمها على ظاهرها.

أما رؤية يوم القيامة فقد أكثروا من وضع الأحاديث للانتصار لها لأنها كانت من عقائدهم المتميزة.

"... حدثني أبي عن أسلم العجلي عن أبي مرية عن أبي موسى، وكان يعلمهم من سنتهم قال:

" فبينما يحدثهم إذ شخصت أبصارهم قال ما أشخص أبصاركم عني ؟

قالوا القمر قال فكيف إذا رأيتم الله جهرة ؟ " (134).

أما ما رواه عبد الله بن أحمد في باقي الصفات مثل الكف واليمين والذراع والفم والقدم والعينين فنورد منه ما يلي:

في صفة الكف ".. عن بعض أصحاب النبي (ص) أن النبي (ص) خرج

____________

(132) السنة، ص 170.

(133) السنة، ص 172.

(134) السنة، ص 173.

الصفحة 176
عليهم ذات غذاة وهو طيب النفس مسفر الوجه أو مشرق الوجه، فقلنا يا نبي الله والله إنا نراك طيب النفس مسفر الوجه أو مشرق الوجه فقال " وما يمنعني وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة فقال: يا محمد قلت لبيك وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت لا أدري أي رب، قال ذلك مرتين أو ثلاثا قال: فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي حتى تجلى لي بما في السماوات وما في الأرض ثم تلا هذه الآية * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * (135).

وفي صفة اليمين عن ربيعة الجرشي في قول الله * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) * قال ويده الأخرى خلو ليس فيها شئ (136).

وعن صفة الذراع، عن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر (137). أنظر ! جعلوا لله ذراعين، وصدرا كذلك.

أما الفم فروى ابن أحمد: "... حدثني أبو معمر حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرضي قال: كأن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمان يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه، من قبل ذلك " (138).

وفي صفة القدم أو الرجل يقول: "... عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص)، " يلقي في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليها فتقول قط قط " (139).

ولإمامهم ابن خزيمة كلام لطيف في هذا المقام سنورده عند ذكر مروياته وحشوه في التجسيم والتشبيه.

____________

(135) السنة، ص 179.

(136) السنة، ص 185.

(137) السنة، ص 172.

(138) السنة، ص 28.

(139) السنة، ص 184.

الصفحة 177
وأما العينين: " عن عقبة بن عامر أنه قال رأيت رسول الله (ص) وهو يقرأ الآية في خاتمة النور وهو جاعل أصابعه تحت عينيه يقول * (بكل شئ بصير) * " (140).

وقبل أن ننتقل إلى عرض ما احتوته مصادر الحشوية " السلفية " الأخرى، من روايات التشبيه والتجسيم، لا بأس من إيراد بعض ما تضمنه كتاب " السنة " لعبد الله بن أحمد من روايات إسرائيلية خالصة وخرافات منكرة، كل ذلك الخليط العجيب والحشو الفظيع سيسمى " سنة " وستنسب مضامينه العقائدية للسلف. وستتخذه السلفية المعاصرة مذهبا وأصلا.

"... عن جرير بن جابر الخثعمي أنه سمع كعبا يقول: لما كلم الله موسى كلمه بالألسن كلها قبل لسانه فطفق موسى يقول يا رب والله ما أفقه هذ حتى كلمه آخر ذلك بلسانه مثل صوته، فقال موسى هذا يا رب كلامك فقال الله: (لو كلمتك كلامي لم تكن شيئا) أو قال (لم تستقم له) قال أي رب فهل من خلقك شئ يشبه كلامك قال لا وأقرب خلقي شبها بكلامي أشد ما يسمع الناس من الصواعق (141).

وروى، سمعت وهبا يقول وذكر من عظمة الله فقال: إن السماوات السبع والبحار لفي هيكل وإن الهيكل لفي الكرسي وإن قدميه لعلى الكرسي وهو كمل الكرسي وقد عاد الكرسي كالنعل في قدمه. وسئل وهب ما الهيكل ؟ قال شئ من أطراف السماء محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط. وسئل وهب عن الأرضين كيف هي ؟ قال هي سبع أرضين ممهدة بين كل أرضين بحر والبحر الأخضر محيط بذلك والهيكل من وراء البحر " (142). إنه عالم خيالي عجيب يتكلم عنه وهب بن منبه وهو من

____________

(140) السنة، ص 213.

(141) السنة، ص 72.

(142) السنة، ص 172 - 173.

الصفحة 178
مسلمة اليهود وكان مطلعا على كتب أهل الكتاب فحدث بما شاء له هواه واستقبل أقواله ومروياته رعاع الرواة والمحدثين فحشو بها أحاديث رسول الله (ص). وانظر في الحديث الكلام حول الهيكل، ولا شك أن للهيكل رمزية خاصة لدى اليهود من قديم الأزمان وإلى الآن (143).

أما إذا تصفحنا كتاب " التوحيد وإثبات صفات الرب " لابن خزيمة (144)، فسيأخذنا العجب من كثرة ما فيه، ليس فقط من روايات التجسيم والتشبيه، ولكن في الدفاع عنها وشرحها وجعلها عقائد السلف. مما أثار عليه العلماء من أهل السنة والجماعة فانتقدوه انتقادا لاذعا. يقول الشيخ الكوثري: ألف ابن خزيمة " كتاب التوحيد " وليته اقتصر فيه على جمع الأحاديث المتشابهة ولكنه فسرها بما لا يصح أن يعتقد في الله تعالى، ولا يقول به المحققون من سلف ولا خلف، وقد طعنه الإمام فخر الدين الرازي طعنة أرداه قتيلا (145).

يقول الرازي في شرحه لقوله تعالى * (ليس كمثله شئ) * احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له. وذلك باطل بصريح قوله تعالى * (ليس كمثله شئ) *. ويقول بعد ذلك: واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد وهو في الحقيقة كتاب شرك. واعترض عليها. وأنا أذكر حاصل

____________

(143) أنظر عقيدة اليهود في الهيكل وعلاقته بملك سليمان في المصادر الخاصة.

(144) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، توفي سنة 321. وكتابه هذا يعتبر أهم مصدر لدى المشبهة والمجسمة. وقد أولاه حشوية الحنابلة اهتماما خاصا، وخصوصا الوهابية " السلفية ". فقاموا بطباعته ونشره على نطاق واسع كسابقه كتاب " السنة " لعبد الله بن أحمد بن حنبل. وسيجد القارئ بعض الأحاديث التي نقلناها عنه ليتبين الحشو الذي انطوى عليه هذا الكتاب.

(145) الأسماء والصفات، بتعليق الكوثري، ص 18.

الصفحة 179
كلامه بعد حذف التطويلات. لأنه كان رجلا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل (146). ثم ساق كلامه وهو كلام لا يقوله محقق نافذ البصيرة في معرفة ربه (147).

ويقول أحد أصحابه: " وهذا محمد بن إسحاق بن خزيمة المتوفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، له الإمامة في الحفظ والعلم بالعلل في المتون والأسانيد وفنون سوى علم الكلام. قال فيه الأستاذ الأجل أبو سهل الصعلوكي المجمع على إمامته في الحديث وأصول الدين وفروعه المتوفى سنة تسع وستين وثلاثمائة. وهو أحد الرواة عنه - حين ألف كتابه الذي سماه التوحيد -: إن شيخنا تكلم في ما لا يعنيه " (148). وكلامه هذا فيما لا يعنيه ولا يحسنه تلقفه الحشوية السلفية وادعوا أنه قول السلف واعتقادهم وآمنوا به وكفروا من خالفه.

والغريب أن هذا الرجل شعر بزلته وعرف مقدار ورطته فهو يقول عن نفسه: " إذا كان العطار لا يحسن غير ما هو فيه فما تنكرون على فقيه راوي حديث أنه لا يحسن الكلام (149).

وعلق الشيخ الكوثري على كلامه هذا بقوله: وقد أنصف من نفسه حيث اعترف أنه يجهل علم الكلام، وكان الواجب على مثله أن لا يخوض في الكلام فتزل له قدم، ومع هذا الجهل ألف كتاب التوحيد فأساء إلى نفسه. ومن أهل العلم من قال عنه إنه كتاب الشرك. ومن جملة مخازيه فيه استدلاله على إثبات الرجل له تعالى بقوله سبحانه * (ألهم أرجل يمشون بها) * وهذا غاية في السقوط، وأسقط منه من

____________

(146) التفسير الكبير، للإمام الفخر الرازي، ص 27 - 28، ص 150، تفسير قوله تعالى:

* (ليس كمثله شئ) *. سورة الشورى: الآية 11.

(147) الأسماء والصفات، ص 18.

(148) الأسماء والصفات، ص 13.

(149) الأسماء والصفات، ص 267.

الصفحة 180
يسعى في إذاعة كتابه هذا (150).

بعد أن رأينا أقوال أهل العلم في هذا الرجل، سنعرض لبعض ما رواه وقال به في كتاب التوحيد هذا، لتكتمل الصورة لدى القارئ وليتحقق من صدق قول العلماء فيه.

روى بطرق مختلفة عنه (ص) قال: " يتجلى لنا ربنا عز وجل يوم القيامة ضاحكا " (151).

قال ابن خزيمة " باب ذكر إثبات ضحك ربنا عز وجل ": بلا صفة تصف ضحكه - جل ثناؤه - لا ولا يشبه ضحكه بضحك المخلوقين وضحكهم كذلك. بل نؤمن بأنه يضحك كما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم ونسكت عن صفة ضحكه جل وعلى، إذ الله استأثر بصفة ضحكه لم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي صلى الله عليه وسلم مصدقون بذلك بقلوبنا، منصتون عما لم يبين لنا، مما استأثر الله تعالى بعلمه (152).

والمشكل هنا أن كلامه الذي أورده تعليقا على حديث الضحك إنما يقنع به العامة وجماهير الحشوية منهم - لأن المسألة في كون هذا الكلام هل يصح عن الرسول أم لا ؟ وليست المسألة في التصديق بما ورد عنه (ص). فإن جميع طوائف المسلمين والمنزهة منهم يؤمنون بما صح عنه (ص) ولا يمكنهم رفضه بحال، إذ رفضه أورده يخرجهم عن الملة. أما قوله لا نعلم كيفية ضحك ربنا، فإنه تمويه على العوام أيضا. إذ المتبادر عند وصف الضحك لغة وعرفا وجود فم وأضراس ولهوات، وابن خزيمة وحزبه من الحشوية يعتقدون بأن الله مثل هذه الصفات. ولما حاول بعض علماء أهل السنة من الأشاعرة البحث عن

____________

(150) الأسماء والصفات، ص 267 - 268 الهامش. ولا شك أن الذي يسعى اليوم في نشره هم " الحشوية السلفية " أو ما يطلق عليهم البعض " الوهابية ".

(151) التوحيد، ص 236.

(152) التوحيد، ص 230 - 231، بتوسط بحوث في الملل والنحل، ج 1 ص 136.

الصفحة 181
تأويل لهذه الصفة وغيرها يليق بتقديسه سبحانه وتنزيهه عن مشابهة خلقه، رفض الحشوية ذلك التأويل ووصفوا أصحابه بالجهمية المعطلة. يقول الشيخ الكوثري: والمجسمة يحملون الضحك والعجب والتبشيش على إبداء الأضراس واللهوات وفغر الفم وكثر الأسنان ونحو ذلك جريا على الوثنية الأولى بعد الإسلام (153).

واستدل ابن خزيمة بما ورد من أن الله بصير، على أن له عينين، قال: " نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى وما بينهما من صغير وكبير. إلى أن قال: كما يرى الله عرشه الذي هو مستو عليه.

وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون بها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم مما لا حجب ولا ستر بين المرئي وبين أبصارهم... واستطرد في ذكر نواقص عيون بني آدم ثم قال:

فما الذي يشبه - يا ذي الحجا - عين الله الموصوفة بما ذكرنا، عيون بني آدم التي وصفناها بعد (154). والحقيقة أن الإنسان ليصاب بغم شديد وحزن طويل، عندما ينسب مثل هؤلاء إلى العلم ويعتبرون من الأئمة. ولقد صدق من قال إن الأعور في بلد العميان ملك.

ويذكر كذلك عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): " لما تجلى ربه للجبل رفع خنصره وقبض على مفصل منها، فانساخ الجبل، فقال حميد:

أتحدث بهذا ؟ فقال: حدثنا أنس عن النبي (ص) وتقول: لا تحدث به " (155).

لقد كانت في هذا الإمام الحشوي غفلة بالغة، ولم يتجنب الحقيقة من وصفه " بالجاهل كما مر معنا فهو يرد على من استنكر عليه حديثه، وفيه ذكر ليس

____________

(153) الأسماء والصفات، م. س، ص 478، أنظر الهامش.

(154) المرجع نفسه، ص 50 - 51، بتوسط السبحاني، ج 1 ص 138.

(155) نفسه، ص 113.

الصفحة 182
لليد أو الكف بل " الخنصر " - وليس بعد هذا التجسيم والتشبيه مبلغ آخر - يرد عليه بأن الحديث رواه أنس بن مالك وهو صحابي، ولكن من حدث ابن خزيمة بهذا الحديث وهل سمعه من أنس مباشرة. " إنه يقول " حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال حدثنا حماد بن سلمة، قال حدثنا ثابت عن أنس بن مالك وأورد الحديث. ولكنه الحشو المرادف للحمق فهل يستطيع عاقل أن يناقش أحمقا. نعوذ بالله من كل شر.

وقد روى ابن خزيمة مثل هذه الأحاديث. وغيرها في إثبات صفات الرب، وأن له كلاما وصوتا. أما حديث الرجل أو القدم فقد رواه ابن خزيمة كذلك عن أبي هريرة، عن رسول الله (ص) قال: " وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها فتقول قط قط، فهنالك تمتلئ الحديث ". وهو حديث اختصام الجنة والنار وأشار إلى أنه مستفيض (156).

والأخبار في وضع الله رجله في النار كثيرة جدا وقد اعتمدها الحشوية الحنبلية في عقائدهم وفسروها بظاهرها. يقول ابن الزاغوني الحنبلي: إنما وضع قدمه في النار ليخبرهم أن أصنامهم تحترق وأنا لا أحترق. قال ابن الجوزي:

وهو حنبلي كذلك مخالف للحشوية " وهذا تبعيض وهو من أقبح الاعتقادات.. وقد صرح بتكذيبهم فقال: " لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها " فكيف يظن بالخالق أن يردها ! تعالى الله عن تجاهل المجسمة (157).

وكلمة ابن خزيمة في التوحيد " باب إثبات الرجل لله عز وجل " وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية، مما يفضي بمحو اسمه من ديوان العلماء، قال ابن الجوزي: رأيت أبا بكر بن خزيمة قد جمع كتابا في الصفات وبوبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السماوات على أصابعه، باب إثبات الرجل، إن رغمت المعتزلة. ثم قال: قال الله تعالى: * (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد

____________

(156) التوحيد ص 93 - 95. بتوسط السبحاني (ج 1 ص 141).

(157) ابن الجوزي، دفع شبه التشبيه، ص 60.

الصفحة 183
يبطشون بها) * فأعلمنا أن ما لا يد له ولا رجل كالأنعام. قال: ابن عقيل وهو حنبلي مخالف للحشوية تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة وليس الحق تعالى بذي أجزاء وأبعاض فيعالج بها. ثم إنه أليس يعمل في النار أمره وتكوينه حتى يستعين بشئ من ذاته، ويعالجها بصفة من صفاته. وهو القائل " كوني بردا وسلاما " فما أسخف هذا الاعتقاد، وأبعده عن مكون الأملاك والأفلاك.

ولأهل السنة والجماعة تأويلات كثيرة لصفة القدم التي وردت في الأحاديث، توقفوا في رفضها - لأن كبار الحافظ وعلماء الحديث عندهم أثبتوها في كتبهم - وصرفها عن معنى الحسية الظاهرة نوع من أنواع الرفض لأن غرضهم التنزيه وهذه الأحاديث صريحة في التجسيم (158).

ومن الخرافات العجيبة ما ذكر في الكتابين " السنة " و " التوحيد ": أن حملة العرش أربعة ملائكة، أحدهم على صورة إنسان والثاني على صورة ثور، والثالث على صورة نسر، والرابع على صورة أسد (159). وعلق عليه في الحاشية بأن هذا لم يرد في حديث صحيح، ولعل الراوي أخذه من كعب الأحبار أو غيره من مسلمة أهل الكتاب (160). ومع ذلك فقد ورد في الكتابين وأخرجه ابن حنبل في مسنده (161) بالإسناد إلى عكرمة مولى ابن عباس: أن رسول الله (ص) أنشد قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:

رجل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليث مرصد (162)

ورواه في كتاب السنة (163) بزيادة: " فقال رسول الله (ص): صدق

____________

(158) أنظر فصل السلفية وأهل السنة ففيه بعض التأويلات لهذه الصفة.

(159) السنة، ص 161 والتوحيد ص 92.

(160) التوحيد، ص 62.

(161) مسند أحمد بن حنبل، ج 1 ص 256.

(162) التوحيد، ص 90، مع أبيات أخر.

(163) السنة، ص 187.

الصفحة 184
صدق " (164).

كتاب " العلو للعلي الغفار " للذهبي:

أما كتاب " العلو للعلي الغفار " للذهبي والذي ذكره النص الخاص بمصادر الحشوية في إثبات الصفات، فقد جاء كما أراد له صاحبه، أراد أن يثبت لله صفة العلو وأنه في السماء، فكان له ذلك وزيادة. وأمد عقائد التشبيه والتجسيم بحبل طويل ينتهي آخره عند مصادر أهل الكتاب. ولقد صدق فيه قول الكوثري لما اتهمه بالسقوط في التشبيه والتجسيم والتبعية لشيخ الإسلام بن تيمية (165). خصوصا في كتابه هذا الذي أثبت فيه هذه الصفة له سبحانه ومما جاء فيه:

"... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت يحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقال فلان، فيقال مرحبا بالنفس الطيبة، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى " (166). أنظر قوله السماء التي فيها الله ؟ !.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله (ص): " إن الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة جاء الرب تبارك وتعالى إلى المؤمنين فوقف عليهم على كور. فقالوا لعقبة ما الكور ؟ قال المكان المرتفع. فيقول هل تعرفون

____________

(164) بحوث في الملل والنحل، ج 1 ص 143.

(165) ابن ناصر الدين الدمشقي، الرد الوافر، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1393 ه‍، ص 20.

(166) الذهبي، العلو للعلي الغفار، ص 22، ذكر الحديث وقال: رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وقال هو على شرط البخاري ومسلم. ورواه أئمة عن أبي ذئب.


الصفحة 185
ربكم ؟ قالوا إن عرفنا نفسه عرفناه، فيتجلى لهم ضاحكا في وجوههم فيخرون له سجدا. نقول هذا حديث حسن أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد عن الفلاس عن الحنفي وعنده (على كوم) " (167). ولا ندري كيف إن الله سبحانه وتعالى يقف على كور أو كوم ولماذا ؟ ! إن من يفعل ذلك من الناس إنما يطلع على القوم المخاطبين ليرونه ؟ !.

وجاء فيه كذلك "... سمعت رسول الله يقول: " إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وآتي باب الجنة فآخذ حلقته فيقول من هذا ؟ فأقول أنا محمد فيفتحون لي، فأدخل فأجد الجبار مستقبلي فاسجد له " (168). وهذا الحديث يجعل الله في الجنة يوم القيامة وليس على عرشه.

وعن ابن مسعود قال: قال رجل يا رسول الله ما المقام المحمود ؟ قال: ذلك يوم ينزل الله على عرشه (169). وفي أحاديث أخرى خاصة بمشكلة تفسير المقام المحمود، ادعى الحشوية أن ذلك يعني، أن الله يجلس نبيه (ص) معه على عرشه. وفي هذا الحديث ينزل، فلا ندري هل يجلس الرسول على العرش وينزل سبحانه عنه أم ماذا ؟. نعوذ بالله من الخرف والجهالة.

وقد وقعت بسبب تفسير قوله تعالى * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * فتنة كبيرة بين الحشوية وأهل السنة من الأشاعرة. يقول ابن الأثير عن سنة (317) " وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين غيرهم من العامة. ودخل كثير من الجند فيها، وسبب ذلك أن أصحاب المروذي قالوا في تفسير قوله تعالى * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * هو أن الله يقعد النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش

____________

(167) المرجع السابق، ص 25.

(168) نفسه، ص 83.

(169) رواه أبو الشيخ الحافظ في كتابه " العظمة "، وعثمان ضعيف. راجع سنده، وقد حذفنا سند معظم الأحاديث اختصارا للتطويل.

الصفحة 186
وقالت الطائفة الأخرى: إنها الشفاعة فوقعت الفتنة، واقتتلوا فقتل بينهم قتلى كثيرة (170).

وهذا الحديث وهذه الحادثة التاريخية لا تترك مجالا للشك أو الإنكار، فالتشبيه والتجسيم يلزم الحنابلة أو الحشوية السلفية ولا يمكنهم التنصل منه.

لذلك نفر منهم العلماء من أهل السنة والجماعة وناصبوهم العداء وردوا على انحرافهم.

ومن الأحاديث العجيبة في التجسيم والتي رواها الذهبي في كتابه: العلو:

"... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تدرون ما هذه التي فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال: فإنها الرفيع، سقف محفوظ وموج مكفوف، هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ؟ قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام. وبينها وبين السماء الأخرى مثل ذلك.

حتى عد سبع سماوات وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام. ثم قال: هل تدرون ما هذه التي تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم قال: فإنها الأرض وبينها والأرض التي تليها مسيرة خمسمائة عام، حتى عد سبع أرضين، وغلظ كل أرض خمسمائة عام، ثم قال: والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السابعة لهبط على الله، ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) * ".

يقول الذهبي رواته ثقات وقد رواه أحمد في مسنده. ولا أعرف وجه قوله: لهبط على الله يريد معنى الباطن. ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث كيف تلا ذلك مطابقا لقوله تعالى: * (وهو معكم أينما كنتم) *

____________

(170) الكامل، ج 8 ص 73، انظر النهج الأحمد، م س، ص 38.

الصفحة 187
أي بالعلم.. وهذه بلية تحير السامع كتبتها استطرادا للتعجب، وهو من قبيل اسمع واسكت (171).

لقد تعمدت إيراد تعليق الذهبي على حديثه الذي رواه ولا شك أن القارئ قد ارتسمت على محياه علامات التعجب والاستفسار من الحديث الذي يقول راويه بعدما ذكر عوالم غريبة جدا ولكنها محدودة بالكم والزمن. وكذا التصور العام لشكل العالم والكون الدائري بحيث لو دلى بعض الحشوية حبلا عبر الأراضي السبع وقطع مسافة خمسمائة عام بين الأرض، والأرض لنزل حبله على " الله " - سبحانه وتعالى عما يصفون -. وهذا الحديث جعل الله ضمن هذا العالم وعند تقاطع السماوات والأرض، أي محددا ضمن زمان ومكان معين، وهذا مبلغ علم الحشوية. ولكن العجب والاستغراب ليس فقط في الحديث ولكن في تعليق من كتبه وجاء به ليثبت صفة العلو للعلي الغفار، وأنا شخصيا لم أفهم ماذا يعني بقوله: رواه التقات وأحمد بن حنبل، فهل هي إشارة لكونه صحيحا. وما علاقة ذلك بقوله تعالى * (وهو معكم أينما كنتم) * الذي ادعى أن الرسول (ص) تلاها. إن في تعليقه خبط وخلط غير مفهوم، جعلني أشك في نصه، فلربما كان له تعليق آخر وطالته يد الحشوية فحرفته عندما نقلوه فجاء تحريفهم مضطربا، يجوز ! ؟

ولكن ما معنى قوله وهو يوجه " لهبط على الله " يريد معنى الباطن، أي باطن هذا ؟ ! إنها تساؤلات لن توجد لها أجوبة مقنعة، إلا كما قال هو بنفسه، في الأخير، اسمع واسكت ! أي لا تقول هذا افتراء على الله ورسوله والحقيقة، لا تقول ذلك ؟ وإلا اتهمك الحشوية بالتعطيل والجهمية، والحقيقة أن علينا عندما نقرأ مثلا هاته الأساطير المنسوبة لدين التوحيد، أن نقول سبحانك هذا افتراء وكذب على دينك، وإنا نعوذ بك أن نضل أو ننحرف عن جادة التوحيد الخالص والتنزيه الذي يليق بذاتك المقدسة سبحانك ؟ !.

____________

(171) العلو للعلي الغفار، ص 60 - 61.

الصفحة 188
وينقل الذهبي من حديث الأعمش: عن سالم بن أبي الجعد * (إن ربك لبالمرصاد) * قال وراء الصراط جسور. جسر عليه الأمانة، وجسر عليه الرحم، وجسر عليه الرب عز وجل " يقول الذهبي رواه العسال بإسناد صحيح (172).

وإذا كان إسناده صحيحا فمعناه أن متنه صحيح أيضا، وإذا كان كذلك فإنه التجسيم بعينه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم من جسارة الحشو وأهله وافترائهم على الله جل وعلا وتنزهه عما يصفونه به.

كتاب " رد الإمام الدارمي على عثمان المريسي ":

أما من يطلع على ما كتبه الدارمي ردا على بشر المريسي فسيجده انتصارا مبالغا فيه، لعقائد هؤلاء الحشوية ليس إلا. وإن كان رده هذا قد عمق مشكلة الاختلاف حول اللفظ التي انتبه لها ابن قتيبة وألف فيها كتابا. كما يجد القارئ في الكتاب رواية كل ما ذكرناه من أحاديث التشبيه والتجسيم وشرحها والدفاع عن فهم الحشوية لها واعتقادهم فيها. نذكر منها:

" حدثنا عبد الله بن رجاء أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال:

" أتت امرأة إلى النبي (ص) فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب فقال: إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه، فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع، ومد أصابعه الأربع، وأن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركبه من ثقله " (173). أنظر قوله وأنه ليقعد عليه ؟ !.

____________

(172) المرجع نفسه، ص 96.

(173) رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشير المريسي العنيد. صححه وعلق عليه محمد حامد الفقي. دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 - 1358 ه‍، ص 74. قارن بين هذا الحديث والحديث الآخر الذي رواه الذهبي في كتابه " العلو للعلي الغفار " ليتضح لك مدى تسرب فكر أهل الكتاب إلى عقائد أهل الحديث ومروياتهم. يقول الذهبي: " أتى كعب رجل وهو في نفر فقال: يا أبا إسحاق ! حدثني عن الجبار عز وعلا. فأعظم القوم، =

الصفحة 189
وفيه أيضا: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا عن النبي (ص) قال:

" آتي باب الجنة فيفتح لي، فأرى ربي وهو على كرسية، تارة بذاته على العرش، وتارة يكون بذاته على الكرسي، فيتجلى لي فأخر له ساجدا " (174).

ومن الخرافات العجيبة ما رواه في اختصام الجنة والنار. " فعن عبيد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " أن النبي (ص) قال " إفتخرت الجنة والنار فقالت النار: يا رب يدخلني الجبارون والملوك والأشراف، وقالت الجنة يدخلني الفقراء والضعفاء والمساكين. فقال الله للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء. وقال للجنة: أنت رحمتي وسعت كل شئ، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فيلقي فيها وتقول هل من مزيد، ثلاث مرات، حتى يأتيها فيضع قدمه عليها. فتقول: قد، قد، ثلاثا " (175).

لست أدري كيف تختصم الجنة والنار وكيف أن الجنة تقول آسفة " ما لي لا يدخلني إلا سفلة الناس وسقطهم.. " كما جاء في حديث آخر رواه. وهل الأنبياء والأولياء من سفلة الناس ؟ وهل للجنة ميزان غير الميزان الإلهي الذي يرفع المؤمن مهما كان فقيرا من الذهب والفضة، ويسقط وينزل الكافر مهما

____________

= فقال كعب: دعوا الرجل. فإنه إن كان جاهلا تعلم، وإن كان عالما ازداد علما. أخبرك أن الله عز وجل خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، ثم جعل بين كل سماءين كما بين السماء والأرض وجعل كثفها مثل ذلك، ثم رفع العرش فاستوى عليه فما من السماوات والأرض إلا لها أطيط كأطيط الرحل في أول ما يرتحل... يقول الذهبي: " وذكر كلمة منكرة لا تسوغ لنا، والإسناد نظيف، أبو صالح لينوه وما هو بمتهم بل سئ الإتقان ".

ص 93. أنظر لهؤلاء المتأسلمة من اليهود والنصارى كيف سنحت لهم الفرصة ليعلموا المجتمع الإسلامي عقائد، التوحيد، وحقائق الوحي في الوقت الذي كان فيه علماء أهل البيت وورثة علم الرسول (ص) تفرض عليهم الإقامة الجبرية. ومن ثم ترسل لهم، وتحت جنح الظلام، جنود من عسل لتسممهم وتقتضي عليهم. وبذلك تطوى صفحات العلم والحقيقة، فتجد غربان الجهل الفرصة مواتية لتبيض وتفرخ الانحراف العقائدي من تشبيه وتجسيم.

(174) المرجع السابق، ص 71 - 72.

(175) المرجع السابق، ص 70.

الصفحة 190
امتلك من مال وجاه ؟ ! ونحن نعجب كيف جسدوا وجسموا الجنة والنار وجعلوا لهما لسانا يختصمان به ؟ ! وكيف أن النار تفتخر على الجنة بالكفار، وهم في ميزان الحق نجس، لا يستحقون كرم الله وعطفه، وقد أخرجهم من رحمته بكفرهم وظلمهم وأدخلهم دار ابتلائه. فهو معرض عنهم غير راض بما كسبوه من الكفر. ولكنه الحشو الذي يصعب على العاقل فهمه أو إدراكه.

ومن الأحاديث الغريبة والتي يشتم منها رائحة أهل الكتاب من اليهود خصوصا ما نقله: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال " إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده " (176) (. والحديث كما ذكرنا سابقا إن كانت فيه ميزة فإنها لا شك تخص التوراة اليهودية المحرفة بنص التنزيل المحكم.

ولا يدع الدارمي مجالا للشك في أنه يعتقد الجسمية، عندما يذكر في " باب الحد والعرش " قال: قال: أبو سعيد: والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره. ولا يجوز أن يتوهم لحده غاية في نفسه. ولكن نؤمن بالحد. ونكل علم ذلك إلى الله. والمكانة أيضا حد، وهو على عرشه فوق سماواته، فهذان حدان اثنان (177).

يقول المحقق في الهامش: كلمة حد لم ترد في الكتاب ولا السنة. ونحن لا ننسب إلى الله صفة ولا لفظ إلا ما ورد نصا عن الله ورسوله، مع أننا لا نقول فيها بالرأي ولا القياس. وإنما نرد علم حقيقتها إلى الله على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.

وإذا كان لفظ " الحد " لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة فكيف قال به هؤلاء الذين يدعون أنهم متمسكون بالآثار لا يحيدون عنها، وأنهم على

____________

(176) المرجع السابق، ص 35.

(177) المرجع السابق، ص 23.

الصفحة 191
ما كان عليه سلف هذه الأمة بخلاف باقي الفرق والطوائف الإسلامية ؟ !.

ويبلغ التشبيه والتجسيم في روايات الدارمي مداه، وهو يناقش المريسي ومن سلك مسلكه في نفي الرؤية الحسية. يقول:: فمن ذلك: ما حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) " آتي يوم القيامة باب الجنة، فيفتح لي، فأرى ربي وهو على كرسيه، أو سريره، فيتجلى لي، فأخر له ساجدا " فهذا أحد الحواس وهو النظر بالعين والتجلي، رواه هؤلاء المشهورون عن ابن عباس على رغم بشر (178) كانت هذه مقتطفات من كتب ومصادر الحشوية " السلفية " المعتمدة، أوردناها للتدليل على معتقدات القوم، وأن عقيدة التشبيه والتجسيم تلزمهم وأن وصف العلماء لهم بالمجسمة صحيح وهو عين الحقيقة.

وهاهو القاضي أبو يعلى أحد كبراء الحنابلة ابن الزاغوني الفقيه الحنبلي يكشفان عن حقيقة معتقدهما مما لا يدع مجالا للشك في حقيقة عقائد هؤلاء الحشوية الحنبلية المتسمين بالسلفية. جعلت العلماء من أهل السنة والجماعة يردون عليهما وينقضون عقائدهما.

ابن الجوزي يرد على أصحابه الحنابلة:

وإذا كان أتباع المذهب الحنبلي قد توزعوا عقائديا بين مذاهب شتى، فإن من تأثر منهم بمناهج أهل السنة والجماعة وارتضاها بدل الحشو المفضي إلى التشبيه والتجسيم، سيقوم بالرد على هؤلاء المشبهة، أولا لدفع شبههم الاعتقادية، ولنفي انتسابهم ثانيا لمذهب الإمام أحمد. حيث أكد ابن الجوزي إن ما يقوله الحشوية ليس من اعتقاد أحمد بن حنبل، وأن كل ما يخالف التنزيه أو التفويض إنما هو افتراء هؤلاء المنتسبين للمذهب على إمامهم. وهو

____________

(178) المرجع السابق، ص 14.

الصفحة 192
براء مما ينسبونه له من عقائد التجسيم والتشبيه. لذلك ألف ابن الجوزي (179) رسالة في هذا المجال سماها ب‍ " الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب " وقد طبع تحت عنوان آخر هو " دفع شبه التشبيه "، ولكن محقق النسخة التي بين أيدينا وهو محمد منير الإمام يقول:

" ولكنني لما عرضته على الأصول المخطوطة وجدت النص نفسه ولكن باسم: الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب " الذين خالفوا مذهب ومعتقد الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ونسبوا له ما لا يعتقده، وافتروا عليه بما لا يقله أدنى مسلم فكيف بهذا الإمام العظيم (180).

ويقول أيضا في تقدمته للكتاب: " رأيت كتاب ابن الجوزي هذا قاصما لظهور المشبهة، مشتتا لبدع المجسمة، ضاربا حججهم الواهية بسيف الشرع، طاعنا أفكارهم برمح العقل السليم الذي هو شاهد للشرع، قاذفا آرائهم بمقلاع الحجج والبراهين. كاشفا ستار الجهل والضلال، مبينا للعامة أضاليلهم وتمويهاتهم " (181).

والذي يتصفح هذا الكتاب الذي تحول إلى وثيقة تاريخية، ثم حفظها من أيدي التحريف أو الإعدام. يجد أن ابن الجوزي يرد كثيرا قول وفهم القاضي أبي يعلى بخصوص مسألة الصفات. كما ويعضد قوله بأقوال ابن عقيل الحنبلي، الذي خالف الحشوية ونادى بالتنزيه، وذلك لأنه تتلمذ على يد المعتزلة في العقائد وأخذ عنهم. ومن خلال ذلك يظهر جليا أن هناك تياران يمثلان المذهب الحنبلي في العقائد، وبالخصوص في مسألة الصفات. وكل يدعي أن معتقده ورأيه هو قول الإمام أحمد بن حنبل ومذهبه. وسوف نورد

____________

(179) هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، إمام الحنابلة في عصره، توفي في بغداد سنة 597 ه‍.

(180) ابن الجوزي، الباز الأشهب المنقض على مخالف المذهب، دار الجنان، ص 6.

(181) نفسه، ص 5.

الصفحة 193
بعض الفقرات من رد ابن الجوزي على المشبهة والحشوية ممن يدعي انتسابه لأحمد، ليتبين للقارئ حجم الادعاء، ومدى الاختلاف بين التيارين والمعتقدين.

يقول ابن الجوزي: الحديث الثالث عشر، روى القاضي عن مجاهد أنه قال: إذا كان يوم القيامة يذكر داود ذنبه فيقول الله: " كن أمامي، فيقول:

يا رب ذنبي، فيقول: كن خلفي، فيقول: يا رب ذنبي. فيقول: خذ بقدمي ".

قال: وفي لفظ عن ابن سيرين قال الله تعالى: " ليقرب داود حتى يضع يده على فخذه ".

قلت: والعجب من إثبات صفات الحق سبحانه وتعالى بأقوال التابعين، وما تصح عنهم. ولو صحت فإنما يذكرونها عن أهل الكتاب، كما يذكر وهب بن منبه.

قال القاضي (أبو يعلى): نحمله على ظاهره، لأننا لا نثبت قدما ولا فخذا هو جارحة وكذلك لا نثبت الأمام. قلت: واعجبا لقد كملوا هيئة البدن بإثبات فخذ وساق، وقدم، ووجه، ويدين وأصابع، وخنصر وإبهام وجنب، و حقو وصعود ونزول، ويقولون تحمل على ظاهرها وليست جوارح، وهل يجوز لعاقل أن يثبت لله تعالى خلفا وأماما وفخذا... ؟ ما ينبغي أن يحدث هؤلاء.

ولأنا قد عرفنا الفخذ فيقال: ليس بفخذ، والخلف ليس بخلف، ومثل هؤلاء لا يحدثون، فإنهم يكابرون العقول، وكأنهم يحدثون الأطفال (182).

الحديث الثامن: روى سليمان قال: " وإن الله تعالى لما خمر طينة آدم ضرب بيده فيه، فخرج كل طيب في يمينه، وكل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ".

____________

(182) نفسه، ص 87 - 88.

الصفحة 194
قلت: وهذا مرسل وقد ثبت بالدليل أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بمس شئ، فإن صح فضرب مثل لما جرت به الأقدار.

وقال القاضي: تخمير الطين وخلط بعضه ببعض مضاف إلى اليد التي خلق بها آدم.

قلت: وهذا التشبيه المحض.. ؟ (183).

الحديث الخامس عشر، روى القاضي أبو يعلى: عن عبد الله بن عمر موقوفا أنه قال: " لما خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر ".

قلت: وقد أثبت به القاضي ذراعين وصدرا لله عز وجل... وقال: ليس بجوارح، وهذا قبيح، لأنه حديث ليس بمرفوع ولا يصح، وهل يجوز أن يخلق مخلوق من ذات الله القديم... ؟ هذا أقبح مما ادعاه النصارى... ؟ (184).

ويقول ابن الجوزي بعد ذكر حديث النزول:

قال ابن حامد: هو على العرش بذاته، مماس له، وينزل من مكانه الذي هو فيه فيزول وينتقل.

قلت: وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على الله تعالى.

وقال القاضي: النزول صفة ذاتية، ولا نقول نزوله انتقال. قلت: وهذا مغالطة، ومنهم من قال: يتحرك إذا نزل، ولا يدري أن الحركة لا تجوز على الخالق. وقد حكوا عن أحمد ذلك وهو كذب عليه. ولو كان النزول صفة لذاته، لكانت صفاته كل ليلة تتجدد وصفاته قديمة (185).

الحديث السابع والعشرون: روى القاضي عن عكرمة أنه قال: " إذا أراد الله عز وجل أن يخوف عباده أبدى عن بعضه الأرض فعند ذلك تتزلزل، وإذا أراد أن يدمدم على قوم تجلى لها ".

____________

(183) المرجع السابق، ص 78.

(184) نفسه، ص 91 - 92.

(185) نفسه، ص 97.

الصفحة 195
قال القاضي: أبدى عن بعضه، هو على ظاهره، وهو راجع إلى الذات على وجه لا يفضي إلى التبعيض.

قلت: ومن يقول أبدى عن بعض ذاته، وما هو بعض لا يكلم، ثم إثبات البعض بكلام تابعي لو صح يخالف إجماع المسلمين فإنهم أجمعوا أن الخالق لا يتبعض وإنما المراد أبدى عن آياته (186).

الحديث التاسع والثلاثون: روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سئل رسول الله (ص) عن المقام المحمود قال: " وعدني ربي بالقعود على العرش ".

قلت: هذا حديث مكذوب لا يصح عن رسول الله (ص). قال ابن حامد:

يجب الإيمان بما ورد من المماسة والقرب من الحق لنبيه في إقعاده على العرش. قال: وقال ابن عمر: " وأن له عندنا لزلفى ".

قال: ذكر الله الدنو منه حتى يمس بعضه.

قلت: وهذا كذب على ابن عمر ومن ذكر تبعيض الذات كفر الإجماع.

قال القاضي: يقعد نبيه على عرشه بمعنى يدنيه من ذاته ويقربه منها ويشهد له قوله " فكان قاب قوسين أو أدنى ". وقال ابن عباس: كان بينه وبينه مقدار قوسين.

قلت: هذا عن جبريل لا عن الله سبحانه ومن أجاز القرب من الذات أجاز الملاصقة وما ذهب إليه القاضي صريح في التجسيم (187).

الحديث الستون: روى جابر رضي الله عنه عن النبي (ص) أنه قال: " إذا رأيتم الريح فلا تسبوها فإنها من نفس الرحمان، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فاسألوا الله خيرها واستعيذوا من شرها ".

قلت: النفس بمعنى التنفيس عن المكروب، ومثله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) أنه قال: " إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن ".

____________

(186) نفسه، ص 109.

(187) نفسه، ص 124 - 125.

الصفحة 196
يعني تنفيسه عن المكروب بنصرة أهل المدينة (إياي والمدينة) من جانب اليمن، وهذا شئ لا يختلف فيه المسلمون.

وقال أبو حامد: رأيت بعض أصحابنا يثبتون لله وصفا في ذاته بأنه يتنفس.

قال: وقالوا الرياح الهفافة مثل الرياح العاصفة، والعقيم والجنوب والشمال والصبا والدبور مخلوقة، إلا ريحا من صفاته هي نسيم حياتي، وهي من نفس الرحمان.

قلت (أي ابن الجوزي): على من يعتقد هذا اللعنة، لأنه يثبت جسدا مخلوقا وما هؤلاء بمسلمين (188).

بعد استعراض هذه المقتطفات من كتاب ابن الجوزي في رده على الحشوية " السلفية " ممن يعلنون انتسابهم لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، يظهر جليا أن هؤلاء القوم يمثلون فعلا تيار أهل التشبيه والتجسيم بشكله الواضح خصوصا مع القاضي الحنبلي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن حامد الذي تولى ابن الجوزي الرد عليهم، ونقض أوهامهم ونسف أحلامهم وما اعتمدوه من أحاديث أهل الكتاب من يهود ونصارى، وما اختلقه أعراب الرواة ونسبوه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو براء منه. كما يكشف هذا الكتاب الذي أضحى وثيقة تاريخية. زيف ادعاء هؤلاء الحشوية انتسابهم للإمام

____________

(188) نفس المصدر، ص 140 - 141. يقول بن الجوزي في خاتمة الكتاب: " قال المصنف: ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم يعجبهم لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم المجسمة، فقالوا:

ليس هذا المذهب، قلت: ليس بمذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ونفيت عنه كذب المنقولات وهذيان المعقولات.. " يقول الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى، في المسألة التاسعة من التكفير في المشبهة ما لفظه: " كفرهم شيوخنا وأكثر أهل السنة والأشعرية لأنهم شبهوا الله تعالى بخلقه في الجلوس والقعود والصعود والنزول وذلك كفر... " ولم يكفرهم صاحب " المعتمد " المعتزلي.

وهو اختيار الرازي من الأشعرية، قال: لأنهم عالمون بذات الصانع القديم على الجملة وبصفاته، ومقرون به وبصفاته وبكافة الأنبياء والكتب، فجاز أن لا يبلغ عقابهم عقاب الكافر.. " انظر العواصم والقواصم ج 4 ص 193.