عقلنة الحشو
قلنا سابقا في تعريف " الحشوية " أو أهل الحشو: لقب تحقير أطلق على أولئك الفريق من أصحاب الحديث الذين اعتقدوا بصحة الأحاديث المسرفة في التجسيم من غير نقد، بل فضلوها على غيرها وأخدوها بظاهر لفظها (21) كما نزعوا إلى الفهم الحرفي لتلك الأحاديث مما أدى بهم إلى الوقوع في التجسيم الصريح، والتشبيه أي تشبيه صفات المخلوقات والأشياء المادية الجسمية إلى الله سبحانه وتعالى (22).
كان هؤلاء المحدثين وبسطاء الرواة الذين استهوتهم تلك الأحاديث، بادئ الأمر شرذمة مختلفة المشارب والنزعات تتقاذفهم المذاهب والتيارات. إلى أن التأم شملهم مع ظهور المذهب الحنبلي للوجود. حيث سينضمون إليه زرافات، جعلت هذا المذهب المختلق لا يعرف إلا بهم. بل أصبح الإطار المذهبي الذي يستظلون به ويصدرون عنه. لذلك نجد المؤرخ الصفدي عندما تعرض لهذا المذهب - أي الحنبلي - يقول في أتباعه " والغالب في الحنابلة الحشوية ". كما أن جل المؤرخين متسالمون على وصف غالبية أتباع هذا المذهب بأنهم حشوية مجسمة (23).
وقد احتضن هذا المذهب بالفعل، مجموعة المصادر التي احتفظت وجمع فيها تراث الحشو بكامله تقريبا وهي كما ذكرنا سابقا وأوردنا بعضا من
____________
(21) دائرة المعارف الإسلامية، دار المعرفة، بيروت، مادة الحشو، ج 7، ص 439.
(22) المدخل إلى دراسة علم الكلام، مرجع سابق، ص 76.
(23) أنظر التعاريف " الحشوية ".
إن هذا التراث العقائدي الحشوي الموغل في التشبيه والتجسيم والذي جمع في كتب ومصادر سيكتب له البقاء والحياة بفضل عناية رجال تولوا حرسه وحفظه خصوصا لما أعتبر كتراث نظري للمذهب الحنبلي. على رغم الهجومات التي تعرض لها من طرف علماء أهل السنة وفقهائهم.
لقد ولد ابن تيمية ابنا شرعيا للمذهب الحنبلي، فنشأ وترعرع متشبعا بأجوائه العقائدية والفروعية. فكان أن اطلع على هذا الكم الهائل من الحشو وغيره من تراث المذهب الحنبلي. فدرسه وآمن به وطفق من ثم يدعو له وينافح عنه مجادلا خصومه، بفضل ما أوتي من اطلاع واسع على الكثير من مجالات المعرفة العربية والإسلامية، ليتمكن من إعطائه بعض الاعتبار الجديد،
____________
(24) هو أحمد بن محمد الأثرم، كان من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل. كان معه تيقظ حتى نسبه يحي بن معين ويحي بن أيوب المقابري فقال: أحد أبوي الأثرم جني " أنظر ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة، ص 38.
(25) إن السجزي أول من اجترأ بالقول: " أن الله لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته. فكيف على عرش عظيم " أنظر مقدمة الأسماء والصفات للبيهقي.
(26) أغرق القاضي أبو يعلى في التشبيه عند كلامه في الصفات حتى قيل في شأنه: " لقد شأن أبو يعلى الحنابلة شيئا لا يغسله ماء البحار ؟.
أما ابن الزاغوني الفقيه الحنبلي المتوفى سنة 527، فقد ألف كتابا في أصول الاعتقاد سماه " الإيضاح " قال فيه بعض العلماء: " إن فيه من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه " أنظر بحوث في الملل والنحل، ج 4، ص 124.
وإذا كان مجمل ذلك التراث الحشوي يفتقر إلى العقلانية فإن ما سيقوم به ابن تيمية ليس إلا محاولة لعقلنته ووضعه في إطار يمكن أن يجادل به عنه لإثبات شرعيته أولا، وتزويده بمنهج ينهض به ثانيا.
فكانت المحاولة وجاءت النتائج مخيبة للآمال، غارقة في الضبابية والغموض. لم يستطع فهمها أو استيعابها أتباع الرجل فضلا عن خصومه.
ولم يشفع لتلك الآراء التي صدرت عنه هذه المحاولة - محاولة العقلنة - نسبتها إلى السلف الصالح صدقا أو كذبا، كما لم يعضدها حسم الرجل وجرأته على الفعل وادعاؤه " إجماع السلف " أو " مذهب الجمهور "، وقول " الأئمة قاطبة " أضف إلى ذلك ترسانته الإرهابية، من تكفير وتضليل وتبديع لمن رام مخالفته أورد عليه بحجة شرعية أو عقلية.
ابن تيمية وإثبات الجهة:
جاءت الفتوى الحموية التي امتحن بسببها ابن تيمية ونوظر وسجن، بمثابة إعلان من اعتقاد الرجل الصريح والواضح بالجهة. وذلك بإثبات أن الله جل وعلى في جهة من الجهات. وهي جهة العلو. وهو معتقد الحشوية قبله، وقد ألف الذهبي كتاب العلو للعلي الغفار وأورد جملة من الأحاديث تنتصر لهذا المعتقد. يقول ابن تيمية في جواب أهل حماة. المسمى " بالعقيدة الحموية ".
" فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره. وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شئ وعلى كل شئ، وإنه فوق السماء، مثل قوله تعالى. * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) *، * (إني متوفيك ورافعك إلي) *... * (ثم استوى على العرش) * في ستة مواضع * (الرحمان على العرش استوى) *...
ليجزم قائلا في تحد وجرأة قل نظيرها "... ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، ولا عن أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا، ولم يقل أحد منهم قط أن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه ليس في كل مكان. ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل. ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر أن النبي لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره رسول الله. جعل يقول: ألا هل بلغت ؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء، وينكبها إليهم فيقول: اللهم إشهد، غير مرة، وأمثال ذلك كثيرة (27).
وبذلك يكون قد أثبت لله جهة هي جهة العلو. والذي يقرأ كلامه في حمويته، يخيل إليه أن الحق كل الحق هو ما نطق به، وأن على خصومه التسليم. لأن كل القرآن وكل السنة وكل علماء السلف وأئمة المذاهب يذهبون مذهبه. لكن الحقيقة إنك ستجد نفسك مندهشا لجرأة هذا الرجل على قول ذلك، وهاهي كتب خصومه تزخر طافحة بما تضمنته من نقول عن المصادر الحديثية وأقوال الصحابة ورجال السلف والأئمة بما يخالف ما ذهب إليه جملة وتفصيلا !.
فقد ذهب كثير من علماء السلف والخلف إلى تنزيه الله تعالى عن الجهات الست، بمعنى أنه لا تحويه جهة منها، بل كلها متساوية عنده تعالى. فالجهات
____________
(27) العقيدة الحموية الكبرى، الرسالة الحادية عشرة، من مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية، ص 429 - 432، بتوسط بحوث في الملل والنحل، ج 4 ص 116.
وجاء في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام: " إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصقن قبل وجهه. فإن الله قبل وجهه إذا صلى "، ومعنى هذا أن الله ليس في جهة الفوقية.. وقوله عليه الصلاة والسلام " أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى في سجوده " فلو كان الله في جهة العلو لكان الإنسان في سجوده أبعد، فعلم من هذا أن الجهات كلها متساوية عند الله تعالى.
قال علي رضي الله عنه في هذا المعنى:
" إن الله قريب في بعده بعيد في قربه، فوق كل شئ، ولا يقال شئ تحته وتحت كل شئ ولا يقال شئ فوقه تعالى جنابه أن يوصف بالاستقرار على العرش أو التمكن أو المماسة، فهو مستغن عن الكون والمكان... ولما سئل الإمام أبو حنيفة وهو من التابعين عن قوله تعالى * (الرحمن على العرش استوى) * قال: من حصر الله في الجهات الفوقية، أو التحتية فقد كفر، بل الاستواء معلوم والإيمان به فرض والكيف مجهول " (28)، وغير ذلك من النصوص القرآنية والحديثية وآراء علماء السلف مما سنذكره مفصلا في محله.
وإذن فقول ابن تيمية بأن نصوص القرآن والسنة وآراء جميع علماء السلف والصحابة والتابعين تؤيد اعتقاده بالجهة ليس له تفسير إلا ما قاله ابن جهبل (29) المعاصر له: " وفي هذا الفريق " الحشوية السلفية " من يكذب على
____________
(28) هذه عقيدة السلف والخلف في ذات الله تعالى، م س، ص 108 - 109 - 110، بتصرف.
(29) هو الشيخ شهاب الدين بن جهبل الحلبي الأصل ثم الدمشقي. درس فقه الشافعية وتضلع فيه وامتحنه فيه كثير من المؤرخين كالذهبي وغيره. كان معاصر لابن تيمية يقوم بالتدريس في مدارس دمشق ولما أعلن ابن تيمية عقيدته في الجهة وامتحنه الفقهاء، قام ابن جهبل بكتابة رسالة في الرد عليه سماها. " الحقائق الجلية في الرد على ابن تيمية فيما أورده في الفتوى الحموية "، ولد ابن جهبل سنة 670 وتوفي سنة 733 ه.
لقد تضمنت الفتوى الحموية بالإضافة إلى القول بالجهة، اعتقاد ابن تيمية الخاص فيما يتعلق بالصفات الخبرية. فكل ما جاء فيها من نقول واستدلالات من القرآن والنصوص الحديثية وآراء العلماء والفقهاء المختارة إنما يهدف إلى أن هذه الصفات يجب أن تجري على الله سبحانه بحرفيتها وظهورها التصوري دون تفصيل وتأويل، بإرجاعها إلى المعاني المجازية أو الكنائية (31).
لقد اختلف علماء الكلام والمحدثون في تفسير الصفات الخبرية وبالخصوص ما ورد منها في القرآن الكريم وذهبوا مذاهب مختلفة منها:
الفريق الأول: يرى عدم البحث في تفسير لها باعتبارها آيات متشابهة، يجب إيكال علمها لله سبحانه وتعالى وهؤلاء هم المفوضة ولم يعرف عنهم تجاوز لهذا الموقف. إلا أنهم يعتقدون بتنزيه الله عز وجل وتقديسه عن التشبيه أو الجسمية.
الفريق الثاني: يرى أن هذه الآيات والأحاديث يجب أن تحمل على معاني تليق بتنزيه الذات الإلهية، سواء عن الحوادث أو الأجسام أو صفات المخلوقين بشكل عام. لأنه * (ليس كمثله شئ) * فالاستواء مثلا المذكور في الآية يمكن أن نحمله على الاستيلاء، وهذا المعنى تؤيده لغة العرب. وكذا " صفة اليد " فهي كناية عن القدرة. وهذا مذهب أغلب علماء الكلام وخصوصا مدرسة
____________
(30) الحقائق الجلية في الرد على ابن تيمية، شهاب الدين أحمد بن جهبل الحلبي، ص 32.
(31) السبحاني، م س، ص 118.
أما الفريق الثالث: وهم حشوية أهل الحديث، فإنهم يذهبون إلى أن آيات الصفات وجل الأحاديث الواردة في هذا الباب يجب أن تفهم على حقيقتها بغير تأويل. على أساس أن الكلمة المستعملة إذا كانت تحتوي على معنيين تصلح للدلالة على كل منها: أحدهما قريب للذهن والآخر بعيد، يجب أن نحمل اللفظ على معناه القريب المتبادر إلى الذهن على سبيل المثال فإن الاستواء يطلق على التمكن من الشئ والجلوس عليه ويطلق كذلك على الاستيلاء. لكن دلالة الاستواء على الجلوس أقرب، فيحمل اللفظ على معناه القريب. ويلزم هذا المذهب القول بالتجسيم ما دام لا يحتمل التأويل. وأقر به بعضهم كابن الزاغوني وابن حامد وابن مسنده ممن ينتسبون إلى المذهب الحنبلي ولم يخالفوا في أن يتصف الله بالجسمية (32).
ولما كان ابن تيمية صادرا عن هذا المذهب متشبعا بآرائه، فإنه سيحاول الالتفاف على هذا القول الصريح في التجسيم. يقول في الفتوى الحموية:
" ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه الحسنى يحرفون الكلم عن مواضعه. أما المعطلون، - لا يقصد بهم المعتزلة أو الجهمية فقط بل كذلك كل من أول تلك الصفات من أهل السنة - فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو لائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثلوا أولا وعطلوا آخرا... (33).
____________
(32) الحقائق الجلية، م س، أنظر الهامش ص 55 - 56.
(33) العقيدة الحموية، ص 440، بتوسط السبحاني، ج 4 ص 119.
نفي التكييف أو " البفلكة ":
وإذا كان المجسمة من حشوية الحنابلة يؤمنون بجري تلك الصفات على الله عز وجل بنفس حقيقتها اللغوية، لكنهم يضيفون أن صفاته تعالى لا تشبه صفة خلقه، فإن ابن تيمية سينحو في ذلك الاتجاه. إلا أنه سيبتدع فكرة نفي التكييف أو ما اصطلح عليه ب " البفلكة " أي بلا كيف. فالاستواء عند أسلاف ابن تيمية هو الجلوس والاستقرار على العرش والمماسة له، وما يتبع ذلك من نزول وصعود كما جاء في الروايات التي يعتقدونها.
أما عند ابن تيمية فإن ذلك الجلوس والاستقرار حقيقة، لكنه جلوس واستقرار يليق بالذات الإلهية من غير تكييف ولا تمثيل.
وإذا كانت هذه هي عقيدة السلف من الصحابة والأئمة وقد حكاها عنهم فإنه سيدعمها. بأدلة عقلية تمثلت في استدلاله بالقياس. فإذا كنا نقول في سائر الصفات كالحياة والعلم والقدرة، بأن له سبحانه علم ليس كعلم البشر وحياة ليست كحياتهم، فلماذا لا نقول أنه له عز وجل يدا ليست كاليد البشرية ووجها ليس يشبه وجه البشر.
وهذا القياس الذي استند إليه ابن تيمية يشكل خطرا على العقائد فضلا عما أحدثه في الفقه من خلاف ومنازعات. بالإضافة إلى أن هذا القياس لا يقوم عند الاستدلال، لأنه قياس مع وجود الفارق. فالصفات كالعلم والقدرة والحياة، موضوعة لمعاني غير مقيدة بالجسمية أو المادة. أما الصفات التي وردت في الخبر كالوجه واليد والقدم فإنها موضوعة لكيفيات مادية محسوسة ومتجسدة، في وجه الإنسان أو الحيوان وما أشبه. إلا أن تؤول أو تأخذ مفهوما مجازيا آخر ليس غريبا على لغة العرب بل درجوا على استعماله، فاليد تأتي بمعنى الجارحة وتأتي بمعنى النعمة وكلا المعنيين جائز لغة، والقرآن نزل بلغة العرب واستخدم الكثير من مجازاتهم وكناياتهم. لذلك فسر أهل التنزيه اليد وغيرها من الصفات الخبرية بما وجدوه في استخدام العرب، أولا لأنه
إن هذا المذاهب الجديد في قراءة الحشو سيبدو غريبا وغامضا وغير مفهوم لدى علماء أهل السنة القدماء والمعاصرين، فالقدماء يصمونه بالتجسيم والتشبيه وإن تستر ب " بلا كيف " أو البفلكة " (34).
لأن صفات كاليد والرجل والنزول والجلوس موضوعة لغة على معانيها المتكيفة بكيفيات جسمانية. فاليد هي الجارحة المعروفة من الإنسان والحيوان، وهكذا الرجل والقدم، ومثلها النزول، فإنها موضوعة للحركة من العالي إلى السافل، والحركة من صفات الجسم، فالكيفية مقومة لمعاني هذه الألفاظ والصفات فاليد والرجل بلا كيفية ليستا يدا ورجلا بالمعنى اللغوي المتبادر عرفا، وعلى ضوء ذلك فليس هنا إلا سلوك أحد طريقين.
1 - جريها بنفس معانيها اللغوية التي تتبادر منها المفاهيم المتكيفة، وهو نفس القول بالتجسيم.
2 - جريها بمفاهيمها المجازية، ككون اليد كناية عن القدرة، كما في قوله سبحانه:
* (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * فهذا هو قول المؤولة، أو المعطلة اصطلاح ابن تيمية، وليس هنا معنى ثالث ينطبق على ما يتبناه ابن تيمية، وهو إجراؤها على الله بنفس مفاهيمها، لكن من غير تكييف، وذلك لما
____________
(34) يقول الزمخشري في كشافه يهجو من يتستر بالبفلكة:
أنظر، شرح جوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم اللقاني، ص 115.
وهو ما لا يقبله ابن تيمية وأتباعه. ولو صح حمل هذه المفاهيم عليه سبحانه بالتذرع ب " بلا كيف " و " لا تمثيل " لصح توصيفه سبحانه بكل شئ فيه أدنى كمال ونقول: إنه جسم لا كالأجسام، وله قلب لا كهذه القلوب، وله لسان ناطق لا كهذه الألسنة (35).
تهافت البفلكة:
إن ما سيصل إليه هذا المجتهد الحنبلي هو التشبيه بعينه، فهو يثبت الأعضاء والأجزاء كالتي للإنسان إلا أنه يقول: " هذا لا يشبه هذا ! فهل يا ترى وجد أحدا يقول بأن الله تعالى كبعض خلقه ؟ إن أكثر من قال بالتجسيم لم يقل بهذا. بل يكرر دائما * (ليس كمثله شئ) *، ثم يثبت له تعالى ما أثبته ابن تيمية من الأعضاء والحالات. ثم يعود فيقول: ليست هي كأعضاء المخلوقات، ولا كحالاتهم. لكن ابن تيمية لا يرى هذا من التشبيه بل هو عنده الاعتقاد الصحيح، ويقول أن السلف إنما كانوا يذمون المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي (36).
لقد أعلن ابن تيمية مذهبه هذا ليس فقط في فتوى أهل حماه. بل نشر تفاصيله من على منبر الجامع وأثناء تدريسه. ولم يفهم منه العامة إلا التجسيم الذي هو أقرب إلى أذهانهم. فعندما قال: " إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، كنزولي هذا ونزل درجة على المنبر لم يقل بلا كيف، أو بلا تمثيل، لأنه كيف ومثل. وحتى لو قال ذلك فإن العامة لن تفهم ما يقصده من بفلكته تلك
____________
(35) السبحاني، م س، ج 4، ص 121 - 122.
(36) ابن تيمية، م س، ص 130، أنظر الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية.
أما تلميذه ابن قيم الجوزية، فقد كان صريحا في نقله عقيدة أستاذه في أوضح صورة: يقول صاحب أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل في بيان إرخاء العمامة بين الكتفين. قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية إنه ذكر شيئا بديعا وهو أنه (ص) لما رأى ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة، قال العراقي ولم نجد لذلك أصلا. أقول بل هذا من قبيل رأيهما وضلالها إذ هو مبني على ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له والحط على أهل السنة في نفيهم له وهو إثبات الجهة والجسمية لله تعالى عما يقول الظالمون والجاهدون علوا كبيرا (37).
والحقيقة أن العوام معذورن في أخذهم عنه عقائد التجسيم لأن مذهبه قد استعصى فهمه على العلماء فكيف بالعوام. يقول الدكتور طه الدسوقي: وهذا مذهب في الحقيقة غير مفهوم إذ المعنى القريب من الاستواء الجلوس المادي والبفلكة تنفيه. وهضم هذه المسألة على هذا النحو صعب (38).
أما الشيخ أبو زهرة الذي ألف كتابا حول ابن تيمية ورام الدفاع عنه في أكثر من موضع، فإنه عندما يعرض لعقيدته في الصفات يصاب بالحيرة والارتباك، يقول الشيخ: " ولا تتسع عقولنا لإدراك الجمع بين الإشارة الحسية بالأصابع، وللإقرار بأنه في السماء، وأنه يستوي على العرش، وبين تنزيهه المطلق عن الجسمية والمشابهة للحوادث. وأن التأويل (حملها على المجاز والكناية) بلا شك في هذا يقرب العقيدة إلى المدارك البشرية، ولا يصح أن
____________
(37) السيد محسن الأمين، كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب، ص 131. ويتابع المؤلف قوله: " ولهما - أي ابن تيمية وابن القيم - في هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما يصم عنه الأذان ويقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان قبحهما الله وقبح من قال بقولهما والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرؤون عن هذه الوصمة القبيحة وهي كفر عند كثيرين " إنتهى.
(38) الحقائق الجلية، م س، أنظر الهامش ص 56.
وخلاصة القول أن ابن تيمية فيما بذله من جهد كبير لعقلنة الحشو أو تراث التجسيم والتشبيه، سيصل في تحقيقه ومعالجته للصفات الخبرية إلا أن:
المذهب الحق الذي عليه السلف الصالح إزاء هذه الصفات هو إثباتها إثباتا حقيقيا لله تبارك وتعالى (40)، وأن هذا الإثبات الحقيقي بلا كيف ولا تمثيل ولا يؤدي إلى التجسيم أو التشبيه كما يتوهم خصومه من أهل السنة والجماعة.
لقد نوقش ابن تيمية في عقيدته هذه، كما نوظر في غيرها من الفتاوي التي خالف فيها إجماع المذاهب الأربعة. بالإضافة إلى ما انفرد به عن جميع طوائف الأمة، وذلك بخصوص تحريمه شد الرحال لزيارة قبر الرسول (ص).
لقد كانت الردود سريعة ومتنوعة من طرف علماء المذاهب السنية، فمنهم من ألف كتبا ورسائل نقضت ما جاء به ابن تيمية، ومنهم من أصدر فتاوى تدينه ولا تعترف له بأي أعلمية أو اجتهاد. بل وصل الحال ببعضهم إلى تكفيره أو اتهامه بالزندقة. سنحاول تتبع بعض آراء علماء أهل السنة في الرجل سواء من عاصره أو ممن جاء بعده واطلع على عقائده.
____________
(39) ابن تيمية حياته وعصره، م س، ص 270.
(40) الدكتور أحمد بن عطية الغامدي وموقفه من الإلهيات، المجلس العلمي لإحياء التراث الإسلامي، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ص 259.
آراء علماء أهل السنة في ابن تيمية
ابن جهبل: ابن تيمية يخالف الكتاب والسنة:
يقول ابن جهبل في مقدمة رده على ابن تيمية: " مذهب الحشوية في إثبات الجهة واه ساقط، يظهر فساده من مجرد تصوره، حتى قالت الأئمة: لولا اغترار العامة بهم لما صرف إليهم عنان الفكر ولا خط القلم في الرد عليهم، وهم فريقان:
فريق لا يتحاش في إظهار الحشو * (يحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون) * (المجادلة 17)، وفريق يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله، أو حطام يأخذه أو هوى يجمع عليه الطغام الجهلة، والرعاع السفلة، لعلمه أن إبليس ليس له دأب إلا خذلان أمة محمد (ص).
ولذلك لا يجمع قلوب العامة إلا على بدعة وضلالة يهدم بها الدين ويفسد بها اليقين. إلى أن يقول: " ادعى - أي ابن تيمية - أنه يقول بما قاله الله ورسوله (ص) والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
ثم إنه قال ما لم يقله الله ولا رسوله ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولا شيئا منه. فأما الكتاب والسنة فسنبين مخالفته لهما. وأما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار فذكره لهم في هذا الموضوع استعارة للتهويل، وإلا فهو لم يورد من أقوالهم كلمة واحدة. لا نفيا ولا إثباتا، وإذا تصفحت كلامه (أنظر العقيدة الحموية) عرفت ذلك. اللهم إلا أن يكون مراده بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار مشايخ عقيدته دون الصحابة (41).
____________
(41) الحقائق الجلية، ص 31 - 32 و 47 - 48.
الحافظ السبكي: ابن تيمية نقض دعائم الإسلام:
ثم يستطرد عارضا رأي السلف وعقيدة أهل السنة، بما يخالف ما ذهب إليه ابن تيمية ومن تبعه من الحشوية.
أما الحافظ السبكي فيقول في خطبة كتابه " الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية " ما هذا لفظه: " أما بعد فإنه لما أحدث ابن تيمية في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد. بعد أن كان متسترا بتبعية الكتاب والسنة، مظهرا أنه داع إلى الحق، هاد إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع، وشد عن جماعة المسلمين بخلافة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة، وإن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت، ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزم بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة، والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل، ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة وكل ذلك وإن كان كفرا شنيعا، لكنه تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع (42).
يلاحظ في هذه المقدمة جرد لجل الآراء التي نادى بها ابن تيمية وخالف بها عقائد أهل السنة قاطبة. جعلت السبكي لا يجد حرجا في تكفيره، دون ما أحدثه في الفروع.
اليافعي: من كان على عقيدة ابن تيمية حال ماله ودمه:
ويقول اليافعي في مرآة الجنان: كان ابن تيمية يقول: (إن الله على العرش
____________
(42) بحوث في الملل والنحل، م س، ج 4 ص 42.
أبو بكر الحصيني: ابن تيمية يتبع المتشابه ويبتغي الفتن:
أما أبو بكر الحصيني الدمشقي فيقول: " فاعلم أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ، المتتبع ما تشابه من الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن أراد الله عز وجل إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به، ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره، لما فيه من تكذيب رب العالمين، في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين، وكذا الازدراء بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين، وأتباعهم الموفقين، فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمة المتقون، وما اتفقوا عليه من تبعيده وإخراجه ببغضه من الدين (44).
ابن حجر العسقلاني: من العلماء من ينسبه إلى النفاق:
أما شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني فيقول في ترجمته في كتابه " الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ": ومنهم من ينسبه إلى الزندقة، لقوله: إن النبي لا يستغاث به، وإن في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم النبي، ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله أنه كان مخذولا حيثما توجه، وأنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها، إنما قاتل للرئاسة لا للديانة، ولقوله
____________
(43) مرآة الجنان، ج 4 ص 277، أنظر المرجع السابق، ج 4 ص 42 - 43.
(44) دفع شبه من شبه وتمرد، بتوسط بحوث في الملل والنحل، م س، ج 4 ص 45 - 46.
الشيخ المولوي الهندي: لقد تجاوز ابن تيمية الحد:
وقد أجمل الشيخ المولوي عبد الحليم الهندي في " حل المعاقد حاشية شرح العقائد " كل الاعتراضات حول الشيخ قائلا: " كان تقي الدين ابن تيمية حنبليا لكنه تجاوز عن الحد وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحق تعالى وجلاله فأثبت له الجهة والجسم. وله هفوات أخر. كما يقول، أن أمير المؤمنين سيدنا عثمان (رض) كان يحب المال وأن أمير المؤمنين سيدنا عليا (رض) ما صح إيمانه فإنه آمن في حال صباه. تفوه في حق أهل بيت النبي صلى الله عليه وعليهم ما لا يتفوه به المؤمن المحقق وقد وردت الأحاديث الصحاح في مناقبهم. وانعقد مجلس في قلعة الجبل وحضر العلماء الأعلام والفقهاء العظام ورئيسهم قاضي القضاة زين الدين المالكي وحضر ابن تيمية فبعد القيل والقال بهت ابن تيمية وحكم قاضي القضاة بحبسه سنة 705 ه ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه...
كذا في مرآة الجنان للإمام أبي محمد عبد الله اليافعي، ثم تاب وتخلص من السجن (سنة 707 ه) وقال إني أشعري ثم نكث عهده وأظهر مرموزه فحبس حبسا شديدا. ثم تاب وتخلص من السجن، وأقام في الشام وله هناك واقعات كتبت في كتب التواريخ ورد أقاويله وبين أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر الكامنة والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين. والمرام إن ابن تيمية لما كان قائلا بكونه تعالى جسما قال بأنه ذو مكان، فإن كل جسم لا بد له من مكان على ما ثبت ولما ورد في الفرقان
____________
(45) بحوث في الملل والنحل، م س، ج 4 ص 47 - 48.
الحافظ الذهبي: لقد بلع ابن تيمية سموم الفلاسفة وتصنيفاتهم:
وإذا كانت الأقوال التي عرضناها هي لخصوم الرجل من " أهل السنة والجماعة " فإن التاريخ قد حفظ لنا اعتراضا قويا لأحد المحبين له، إنه الحافظ شمس الدين الذهبي مؤرخ الشام ومحدثها الكبير. المتوفى سنة (748 ه) والذي بعث لابن تيمية رسالة ينصحه فيها ومما جاء فيها:
" الحمد لله على ذلتي يا رب ارحمني وأقلني عثرتي، واحفظ علي إيماني واحزناه على قلة حزني، وأسفاه على السنة وذهاب أهلها...
إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك ؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعبارتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس ؟ مع علمك بنهي الرسول (ص): " لا تذكروا موتاكم إلا بخير، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " بل أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك... يا رجل بالله عليك كف عنا، فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام، إياكم والغلوطات في الدين، كره نبيك (صلى الله عليه وآله) المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال:
" إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان " وكثرة الكلام بغير زلل، تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفية وتلك الكفريات التي تعمي القلوب، والله قد صرنا
____________
(46) كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب، م س، ص 132.
يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال، ولا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانيا، لكنه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه، وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه.
فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل ! أو عامي كذاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر ؟ أو ناشف صالح عديم الفهم ؟ فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار ؟ إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار ؟ إلى كم تعظمها وتصغر العباد ؟ إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد ؟ إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح - والله - بها أحاديث الصحيحين ؟ يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك. بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار أو التأويل والإنكار أما آن لك أن ترعوي ؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب ؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل ؟ بلى - والله - ما أذكر أنك تذكر الموت، بل تزدري بمن يذكر الموت...
فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي، بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات، وتقطع لي أذناب الكلام، ولا تزال تنتصر حتى أقول البتة سكت، فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد، فكيف حالك عند أعدائك ؟ وأعداؤك - والله - فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء، كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر، قد رضيت منك بأن تسبني علانية، وتنتفع بمقالتي سرا فرحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي، فإني كثير العيوب، غزير الذنب، الويل لي إن أنا لا أتوب، وافضيحتي من علام
إن المتتبع لمجمل آراء علماء أهل السنة والجماعة وغيرهم في ابن تيمية يمكن أن يستنتج التالي:
1 - لم يكن ابن تيمية إلا حشويا متسترا بتبعيته للسلف الذين جعل لهم مذهبا موحدا يرجع إليه.
2 - سقط في أخطاء عقائدية وأصولية نتيجة دراسته للفلسفة، خالف بها ما أجمعت عليه الأمة وخصوصا علماء أهل السنة والجماعة من أشاعرة وماتريدية.
3 - كان كثير الكذب على السلف في نقله أقوالهم وآرائهم وإجماعهم في بعض المسائل العقائدية، مع تعمده التحريف وعدم الضبط في نقل النصوص.
4 - لم يكن أتباعه من عقلاء الأمة أو علمائها وإنما جلهم من العوام الجهلة، وقد انتصر بهم وبالسطان فحقن دمه واكتفي فقط بسجنه إلى أن مات فيه.
5 - عدم الاعتراف له بالأعلمية التي تؤهله للاجتهاد، فقد كان سطحيا في فهمه للنصوص، مؤمنا بظواهرها الابتدائية. وهذا خلاف ما عليه المحققون من رجال الشريعة.
6 - إن آراءه العقائدية الشاذة ترمي به بعيدا عن الجماعة، وإذا أضفنا ما ابتدعه من فتاوي ضالة في الفقه وآرائه في الصحابة فهو إن لم يحكم عليه بالكفر الصراح فلا شك في زندقته ونفاقه (48).
____________
(47) بحوث في الملل والنحل، م س، ص 39 - 40، نقلا عن تكملة السيف الصقيل، للمحقق المعاصر الكوثري، ص 190 - 192.
(48) رد العلاء البخاري الحنفي على ابن تيمية، وقال في حقه: " إن من سمى ابن تيمية =
____________
= شيخ الإسلام فهو كافر " وذهب غيره، إلى أن " من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كان كافرا ". لا تصح الصلاة وراءه. أنظر كتاب " الرد الوافر للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي.
ص 60 و 21، كما اعترض الشيخ زاهد الكوثري على هذه التسمية.
ابن تيمية والتصوف
بداية الصراع:
إحتدم الصراع بين ابن تيمية وخصومه من أهل السنة والجماعة ومقلدي المذاهب الأربعة في الشام ومصر حول قضايا التوحيد وبالخصوص الصفات الخبرية، بالإضافة إلى اجتهاداته الفقهية التي خالف فيها إجماع المذاهب الأربعة كفتواه بأن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة. وإذا كان قد أدخل بسبب ذلك السجن ومكث فيه مدة. فإنه سيخوض صراعا جديدا ومتواترا مع طائفة إسلامية أخرى، لها جذورها الفكرية وامتداداتها الاجتماعية وقوتها التي يحسب لها الحساب.
وذلك عندما نفي إلى الإسكندرية حيث سيركز حملاته على الصوفية ناسبا بعضهم إلى الكفر، متهما الآخرين بالضلال وركوب البدع مما أثار عليه الشيوخ والعامة. ووقعت هناك فتن كثيرة استمرت مدة إقامته وبعدها.
موقف ابن تيمية من التصوف والحياة الروحية:
لقد اختلف الباحثون في موقف ابن تيمية من الصوفية اختلافا كبيرا فالمستشرق ماكدونالد يرى أنه العدو اللدود للصوفية والحياة الروحية سواء (49).
والبعض الآخر يذهب مذهبا مناقضا يثبت في انتساب الشيخ لإحدى
____________
(49) موقف أئمة الحركة السلفية من التصوف والصوفية، عبد الحفيظ بن ملك المكي، دار السلام للطباعة والنشر، ط 1 1988 م، ص 196.
لكن الباحث في كلامه بشكل عام سيجد إلى جانب ذلك قدحه في الغزالي وابن الفارض، وتعرضه لابن عربي بالسب والتضليل والتبديع بل إلى درجة اتهامه بالكفر الصريح. كما تهجم على كثير من رجالات الصوفية وذم طريقتهم ووصفها بالابتداع في الدين، وأن الكثير مما درج عليه هؤلاء - أي الصوفية - من ذكر وحلقات وطرق مخصوصة في الدعاء والعبادة ليس له أصل في الشرع - أي القرآن والسنة -.
رأيان متناقضان:
وهذا الادعاء هو الذي أثار عليه زعماء هذا الطريق ودارت بينهم مساجلات ومخاصمات كثيرة، وإذا حاولنا تلخيص رأيه من خلال كتاباته التي بين أيدينا فسنصل إلى رأيين مختلفين ومتناقضين بل ربما وصلنا إلى آراء متعددة وغير واضحة تماما. فهو كما يرى عبد الحفيظ المكي قد تعامل بنفس الأسلوب الذي تعامل به مع الفقهاء والمذاهب الفقهية وعلماء الكلام، إذ يرى أن شيوخ التصوف الأوائل قيدوا علومهم وتربيتهم بالكتاب والسنة. أما المتأخرون فقد ضل كثير منهم بتأثير الأفلاطونية الجديدة التي تسربت إلى الفكر الإسلامي عامة خلال ترجمة العلوم اليونانية وانحرفوا بعيدا عن الطريق
____________
(50) المرجع السابق، ص 196.
فابن تيمية حسب هذا الرأي لم يرفض التصوف جملة وتفصيلا وإنما انتقد ما طرأ عليه من خروج على الأهداف ومناهج تربية الإسلامية الأصيلة. يقول ابن تيمية: وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد والأعمال أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية حتى صار المنحرفون صنفين: صنف يقر بحقها وباطلها، وصنف ينكر حقها وباطلها. كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه. والصواب: إنما هو الإقرار بما فيها وفي غيرها من موافقة الكتاب والسنة والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة (52).
وهذا الرأي الذي ذكره الشيخ الحراني فيه من الوضوعية ما فيه، وقد شاركه فيه عدد ممن درس التصوف وتعرض لعلاج مشكلاته العقائدية والسلوكية.
فأغلب الفقهاء يقفون موقفا معاديا لعقائد الحلول ووحدة الوجود والاتحاد التي وصم بها ما يسمى التصوف الفلسفي مع ابن عربي وابن سبعين والحلاج وعمر بن الفارض وغيرهم.
وإن كان هؤلاء وأتباعهم قد جنحوا إلى التأويل، أي صرف ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات عن معناها الظاهري، الذي قد يفهم منه الحلول والاتحاد أو وحدة الوجود.
قد يعتقد البعض أن ما ذمه ابن تيمية في طريقة أهل التصوف هو ما يعرف عنهم من شطحات وأحوال غربية تطرأ على بعضهم فتخرجه عن الحال المألوف، فمنهم من يتفوه بكلمات غير مفهومة حال جذبه، وقد تكون تلك الكلمات أو العبارات تخالف بمنطوقها بعض عقائد الإسلام، كما ويصدر عن بعضهم أفعال تتعارض مع ما ندبت إليه الشريعة، كتمزيق الثياب والصياح والغيبوبة لساعات بل ربما لأيام كثيرة. بالإضافة إلى طريقتهم في المأكل
____________
(51) المرجع السابق، ص 198.
(52) المرجع السابق، نقلا عن الفتاوى، ج 10 ص 82.
وحتى هذا الفعل منهم والذي قد يعزى إليه السبب في حملة الشيخ عليهم، تجد له في كتاباته وصفا وشرحا، فيه الكثير من الفهم والتبرير. أنظر إلى قوله يصف هذه الأحوال: " فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الغناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره، وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله، ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم (53).
ومن يقرأ هذا الكلام وغيره في فتاوى الشيخ وكتبه لا يشك في موضوعية الشيخ وأنه قد أنصف القوم وتكلم بلسانهم. فهذا الذي قاله واصفا، هو أقصى ما يمكن أن يتفوه به من يروم الدفاع عن طريقة أهل التصوف وسلوكهم وحالاتهم. بل لقد سجل قلمه قولا، فصلا يمكن أن نضعه حدا أو فيصلا في الصراع المرير القائم الآن بين الصوفية أصحاب الطرق التعبدية وبين تلامذة ابن تيمية الجدد أي " السلفية " أو أتباع السلف.
يقول الشيخ: " من جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع " (54). وهذه الكلمات الثلاث الأخيرة من كلام الشيخ هي نفسها الأوصاف المتداولة بين السلفيين اليوم
____________
(53) مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي النجدي، مطبعة الرياض، ط 1 ج 11 ص 5. ضمن جوابه عن الصوفية أنظر عبد الحفيظ المكي، ص 202.