الصفحة 436
بهذه الطريقة على ترويج أسباب الفرقة وزرع الضغائن واختلاق المثالب أو تجسيمها مع التغاضي الكامل عن كل محاسن الدولة (98).

طبعا لقد تابع القارئ النصوص التي اقتطفناها من هذه المذكرة ولا أظنه بعد ذلك سيوافق على ما جاء في بيان الرد. فأين هي " أسباب التفرقة وزرع الضغائن واختلاق المثالب " في ما كتبه هؤلاء من وصف لواقع ملموس أتوا عليه بالشواهد والأمثلة الحية، وهل عندما تشير المذكرة على أن كثيرا من القوانين المنظمة للاقتصاد مثلا، مأخوذة من المصادر الأجنبية غير الإسلام تكون بذلك تزرع الضغائن ؟ ! لست أدري كيف ! ؟.

وعندما تتكلم المذكرة عن الوضع المزري لحقوق الإنسان وما تقوم به وزارة الداخلية من خرق لهذه الحقوق، تكون بذلك تختلق المثالب. إن بيان الرد على المذكرة جاء هزيلا ومتناقضا ويثير الضحك والسخرية لدى كل من قرأ المذكرة. وهذا إن دل فإنا يدل حقيقة مهمة وخطيرة ذكرناها في مقدمة الفصل الثاني وهي أن السلطات السياسية في العالم الإسلامي قد ساهمت في الماضي في صنع المذاهب والمؤسسات الفقهية والدينية، ليس لخدمة الدين والحقيقة، ولكن لتحريف هذا الدين وتزوير الحقيقة والكذب على الناس وتضليلهم وإبعاد الحقائق عن أعينهم، كي يضل الوضع على ما هو عليه من الظلم والجور والاستبداد.

يا أبناء الصحوة الإسلامية إحذروا:

واليوم تؤكد هيئة كبار العلماء السلفيين كمؤسسة دينية في المملكة السعودية هذا الواقع. فعلى أبناء الصحوة الإسلامية أن ينتبهوا إذن لكل ما يصدر عن هؤلاء العلماء الكبار من أقوال وفتاوى واستنباط. وإذا وصف الله سبحانه وتعالى مكر اليهود بأنه مما تنهد منه الجبال فإن من غير المستبعد أن

____________

(98) مجلة الجزيرة العربية، عدد 21 أكتوبر 1992 م، ص 47.

الصفحة 437
تتكفل المخابرات الأمريكية والبيت الأبيض من الآن فصاعدا وقبل الآن ؟ !

بإملاء ما يجب على أبناء الصحوة الإسلامية أن يفعلوه بل يمكنهم رسم الخط العام والخاص الذي يجب أن تسير فيه هذه الصحوة.

فالقرار قد يصدر هناك فتحمله الرجال أو الأقمار الصناعية، وقد يصل إلى المتنفذين والمتعاونين مع الغرب " عدو الصحوة " ومن ثم يجد طريقه إلى عقول رجال الدين المشرفين على المؤسسات الدينية الذين تؤدي رواتبهم الدولة وتشرف على أعمالهم، فيتحول ذلك القرار أو الأمر إلى استنباط من كتاب الله وسنة رسوله (ص) أو اجتهاد إسلامي إذا أخطأ صاحبه فله أجر وإذا أصاب فله أجرين ؟ !

وهذا الواقع والمثال ليس حكرا على المؤسسة الدينية السلفية. وإنما يجد له الأمثلة والنماذج المماثلة في باقي بلدان العالم الإسلامي.

وقد وقفت يوما مذهولا وأنا أقرأ نص الحوار الذي أجرته إحدى المجلات العربية مع مفتي مصر. حيث سألته المجلة عن حقيقة التهم يوجهها الأصوليون " أبناء الحركة الإسلامية " في مصر للدولة من أنها تنشر الفساد بترخيصها بيع الخمور، وغضها الطرف على انتشار الدعارة المنظمة. فكان رد المفتي، استغرابا واستنكارا وقال هذا الكلام غير صحيح أنا لا أرى خمرا تباع ولا فساد في مصر.

إن هذا الرجل الذي وضعته الدولة في موقع يمكنه أن يحلل الحرام ويحرم الحلال، يسكن برجا عاليا جدا لا يسمع فيه ضجيج المجتمع. وهو مع ذلك قد أغمض عينيه وأغلق أذنيه ولم يعد يرى أو يسمع سوى ما تمليه عليه الإرادة السياسية للحكومة القائمة. طبعا هذا الكلام عندما يسمعه جمهور الناس وخصوصا البسطاء منهم يضحكون ويستهزئون في نفس الوقت على السذاجة المتعمدة لهؤلاء العلماء والفقهاء. ولو نزل السيد المفتي ونزع لباسه الديني وسأل في الشارع أي مواطن عن مخمر أو مكان قريب بياع فيه الخمر.


الصفحة 438
لدلوه على عشرات الأمكنة ولربما كان إحداها لا يبعد عن منزله سوى بضعة أمتار. أما بيوت الدعارة وأماكن بيع الهوى، فيعرفها الخاص والعام.

ونحن هناك لا نعرض لواقع انتشار الخمر وبيوت الدعارة في مصر لأن ذلك أصبح ظاهرة تعم معظم البلدان العربية في الوقت الحاضر، وهذا ليس مما أحدثه الاستعمار كما يدعي البعض، فظاهرة انتشار بيع الخمر وبيوت الدعارة ظاهرة لازمت التاريخ العربي والإسلامي منذ صدر الإسلام وإلى يوم الناس هذا. ففي عهد عمر بن الخطاب مثلا استفحلت ظاهرة الخمر في المدينة مما استدعى البحث عن حد السكران وكيف إن الصحابة اختلفوا في تحديد هذا الحد.

إن هذه المؤسسات الدينية التي تنشؤها الحكومات يجب أن تفقد مصداقيتها عندما تتعرض للفروع وجزئيات الأمور الدينية. لأنها لو أصغي لها في هذه الأمور البسيطة، فيستخذ رجالها من ذلك مقدمة وأرضية للتعرض للقضايا الكبرى والفصل فيها، من ترجيح وتحريم أو تحليل، وهذه هي الطامة الكبرى التي تنذر بالانحراف الكبير. وقد كان بنو إسرائيل كما حكى عنهم القرآن يحرفون كلام الله وحكمه بعد ما عقلوه. وجاءت الأحاديث النبوية بأن هذه الأمة ستتبع خطأ أهل الكتاب بحيث " لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " (99).

وعليه فالحكم بكفر المعارضات السياسية للأنظمة الحاكمة وإصدار الفتاوى في حق بعض المفكرين أو المصلحين لأنهم مفسدون في الأرض وغير ذلك من الأحكام الجائرة والظالمة والتي يعصى فيها الله إرضاء لرجال الحكم. يجب أن لا يأخذها المجتمع مأخذ الجد، بل يتهمها ويتهم أصحابها. وأن ينظر إليها بكثير من الشك والريبة حتى يتبين له الحق من الباطل. فإن الخوف على هذه

____________

(99) قال رسول الله (ص): " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟.

الصفحة 439
الأمة. كما أخبر الحديث من " منافق عليم اللسان ".

أرجع بعد هذا الاستطراد الطويل لمتابعة الردود الرسمية والعلمائية التي أقامتها الدولة لاحتواء تداعيات " مذكرة النصيحة " فإن البيان بعد ما شكك بالواقع الذي ذكرته، اتهم كتاب المذكرة بالارتباط بالجهات الأجنبية وباعتناق أفكار منحرفة، هذا مع العلم أن المذكرة مشحونة كعادة السلفيين - عند الكتابة - بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويزداد الطين بلة عندما يوقع الشيخ ابن باز على هذا البيان الاستنكاري وهو الذي زكى المذكرة قبل ذلك ؟ ! وهناك ملاحظة طريفة جدا وتتمثل في غياب عدد كبير من علماء الهيئة ورجالها عند توقيع بيان الاستنكار. فسبعة من العلماء على الأقل لم يحضروا التوقيع وتغيبوا لظروف صحية. وكأن الحمى المالطية قد اجتاحت مجلس الهيئة فجأة فأصابت مجموعة من رجاله ؟ !.

ومضمون البيان الاستنكاري إذا قورن بأقوال الفقهاء والعلماء والدكاترة السلفيين الذين حاورتهم جريدة " عكاظ " يبدو هادئا ويروم نحو الاتزان التلميح بدل التصريح. فقد وصف أحد السلفيين بأن الموقعين على المذكرة هدفهم زعزعة الأمن والعبث بمقدرات المسلمين.

بل ذهب الشيخ قاسم بن علي الشماخي إلى أن أصحاب المذكرة ليسوا من الإسلام في شئ وأضاف: " إن كتابة مذكرة النصيحة ليس من الإسلام، فالإسلام برئ من مثل هؤلاء وندعو لهم بالهداية " وقال مثل ذلك الدكتور طلال البكري " مثل هؤلاء لا يفقهون من الدين شيئا ولا علم لهم بالدين ".

حد الحرابة:

أما الشيخ مطر الزهراني فقد طالب ضمنيا بإنزال العقوبة بحق الموقعين على المذكرة باعتبار إن المراد بالمذكرة - حسب قوله - هو: " زعزعة النفوس وأحداث القلاقل وتفريق شمل الأمة الإسلامية في هذا البلاد... ويجب أن

الصفحة 440
يعاقب فاعله وينال جزاءه إذا تحقق من هذا إن المراد به إحداث الفتنة والقلاقل " وزاد على ذلك بالقول بأن " السير وراء أنصاف المتعلمين ومدعي العلم وبعض الجهلاء فإن ذلك مفسدة يجب درؤها " (100).

وبذلك يطل " حد الحرابة " (101) برأسه من جديد، ويحوم السيف السلفي الوهابي الذي قطع كثير من رؤوس أهل السنة والإمامية، حول رؤوس فئة متنورة ولدت في قلب الدولة السلفية. فليس هناك ما يمنع من تكفير ثلاثة وأربعين دكتورا في العلوم الإسلامية، كلهم يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية شيخه وقدوته في الدين والدنيا.

لقد وقع هؤلاء وغيرهم ممن وقع على المذكرة، في المحضور، فالشيخ السلفي الشماخي يقول " إن كتابة مذكرة النصيحة ليس من الإسلام "، فكيف يحق لهم أن ينصحوا ولاة الأمر ؟ ! وكيف سمحت لهم أنفسهم أن يقولوا أن التعذيب ومنع الخطباء من الدعوة انتهاك لحقوق الإنسان ؟ ! إن ذلك ليس من الإسلام السلفي في شئ وهو حرام ومحضور، يجب عقاب مرتكبيه بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف لأنهم يحاربون الله ورسوله ؟ ! ويستمر الهراء وتتلاعب الأهواء السياسية بالواقع الديني والحياتي في العالم الإسلامي ؟ !.

لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية:

لقد أحدثت " المذكرة " ضجة إعلامية لا بأس بها وأعقبتها حركة من الردود والنقاشات، لكنها لم تصل إلى تحقيق ما توخاه " أصحابها من استنصاح ولاة الأمر، وإحداث تغيرات أو إصلاحات في المرافق التي تعاني من فساد لأن

____________

(100) المرجع السابق، ص 47.

(101) هذا يذكرنا بالأسلوب التاريخي لتعامل الأنظمة السياسية مع أي معترض أو ناقد وكذا الحدود التي لا يمكن لرجل الدين أو المفكر أن يتجاوزها. يقول كشك: " عندما احتج فيصل الدويش على طول ثوب " الإمام " - أي الملك - أعطاه المقص وتركه يقص ما يتجاوز حد الدين. ولكن لما هدد الدويش النظام قص رقبته ".

الصفحة 441
الحكومة والأمراء أداروا لها ظهرهم ولم يعتبروا إن لهؤلاء المفكرين الحق في الإملاء على الأسرة الحاكمة ما يجب أن تفعله، لذلك ستأخذ المبادرة مجموعة أخرى من العلماء والمفكرين وسيقومون بإعلان عن تأسيس " لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية " في 3 / 5 / 1993 م.

وبعد كتابة عريضة التأسيس وقع عليها كل من محمد الصليفيح من كبار رجال التعليم معروف بنشاطه السياسي والاجتماعي. عبد الله بن سليمان المسعري، قاضي متقاعد ورئيس ديوان المظالم " أمين اللجنة " عبد الله بن عبد الرحمان الجبرين، من كبار العلماء في المملكة وعضو رسمي للإفتاء، عبد الله الحامد، حامل الدكتوراه وعضو هيئة تدريس في جامعة الإمام.

سليمان بن إبراهيم الرشودي، أول من زاول مهنة المحاماة في المملكة. عبد الله بن حمود التويجري، أستاذ في جامعة الإمام ورئيس قسم أكاديمي فيها (102).

أما العريضة فقد جاء فيها: " فقد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب حفظ كرامة الإنسان وحقوقه الشرعية، كما فرضت الشريعة على المسلمين نصر المظلوم ورفع الظلم فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:

أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع، وذكر منها " نصر المظلوم " متفق عليه... ولما كان أهل العلم الشرعي وطلبته أولى الناس بالقيام بفرائض الدين فإننا نعلن في هذا البيان، استعدادنا للمساهمة في كل ما من شأنه رفع الظلم ونصر المظلوم والدفاع عن الحقوق التي فرضتها الشريعة للإنسان، جاهدين أن نتحرى الوسائل الشرعية وأن نلتزم هدي الكتاب والسنة. بناء على ذلك فإن من يرغب أن يوافينا بمظلمة أو معلومة موثقة تعين على رفع الظلم ونصرة المظلوم والدفاع عن " الحقوق الشرعية فإننا مستعدون لاستقبالها على العناوين والهواتف المذكورة أدناه... " (103).

____________

(102) مجلة الجزيرة العربية، عدد 29 يونيو 1993 / ذي الحجة 1413 ه‍، ص 6.

(103) نقلت وكالة رويتر عن محمد المسعري قوله، إن اللجنة شكلت إثر اعتقال اثنين من =

الصفحة 442
وإذا كان مجلس هيئة كبار العلماء قد تصدى " للمذكرة السابقة وأصدر بيانا يندد بها فإنه سيقوم بنفس العمل بخصوص لجنة الدفاع. معلنا استغرابه واستنكاره لهذا العمل ويقرر بالإجماع عدم شرعية قيام هذه اللجنة وعدم جواز إقرارها " (104) أما الأسباب التي ذكرها البيان الاستنكاري فلا تعدو التذكير بأن المحاكم الشرعية منتشرة في المملكة وتقوم بهذا الدور. وذكر أن أصحاب هذه اللجنة يعلمون ذلك.

ولكن هذا البيان الاستنكاري نسي أن مذكرة النصيحة قد تعرضت لهذه المحاكم وانتقدتها بشدة وقدمت المقترحات لتطويرها كما أن هذه اللجنة وخصوصا مشاركة المسعري فيها وهو قاض ورئيس ديوان المظالم يؤكد حقيقة وضع الحقوق الشرعية داخل المملكة. أما بخصوص عدم شرعيتها من الناحية الدينية فإن الشيخ بن جبرين وهو أحد الموقعين على بيان التأسيس، عضو رسمي للإفتاء، ويكفي وجوده وإمضاؤه للاستدلال على شرعيتها. أما مسألة انسحابه من اللجنة بعدما أثيرت حولها الزوابع وكثرت الضغوطات على أصحابها فإن هذا الموقف يطعن في مصداقية هؤلاء العلماء الذين

____________

= رجال الدين السعوديين هما الشيخ محمد الدبيان والشيخ محمد عبود العسيري وأضاف، إن الدبيان اعتقل للمرة الثالثة في نهاية أبريل الماضي، وإن العسيري معتقل منذ عدة أشهر. ولم يذكر المسعري الآراء التي اعتقل بسببها الدبيان والعسيري، إلا أنه قال أنها لا تبرر المعاملة التي يتلقيانها. وقال إن قضيتهما لم تكن الوحيدة التي أدت إلى تشكيل اللجنة ولكن يمكن القول إنها كانت " الشرارة التي أطلقت الموضوع " واختتم المسعري تصريحه لرويتر، إن اللجنة غير مرتبطة بجماعات حقوق الإنسان في الغرب مثل منظمة العفو الدولية لأنها قائمة على العقيدة الإسلامية. لكنه أضاف إن هذا لا يمنع قيام تعاون مع هذه الجماعات في المستقبل. أنظر المرجع السابق.

(104) أفتى الشيخ بن جبرين - قبل أن ينسحب من اللجنة - بأن الأخيرة مكلفة شرعا بالدفاع عن حقوق البشر وإنصافهم من المظالم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الفكرية أو العرقية، ولذلك فإن اللجنة ستهتم بالدفاع عن كل من يتظلم لها ممن يسكنون المملكة أو يتواجدون فيها.

الصفحة 443
يقدمون رضا الحكومة على الحق، عند كل اختبار يقعون فيه سواء أكان إراديا أو اضطراريا. كما أن خروجه من اللجنة لا يسحب منها الشرعية أبدا إذا كان - هذا العالم - قد أفتى عمليا بشرعيتها وشارك فيها (105).

كما أن هذا البيان يطرح تساؤلا كبيرا حول مفهوم " الشرعية " (106)، فهل كل ما لا ترغب فيه الحكومة يعتبر غير شرعي ؟ ! وما علاقة الإسلام بذلك ؟ !

فأصحاب اللجنة علماء دين ! بل منهم من يعتبر من كبار العلماء والمفتين. ولو كانت اللجنة مخالفة للإسلام لما قام هؤلاء بتأسيسها. ولكن يظهر كما أشرنا إلى ذلك من قبل، بأن هناك مفهومان للإسلام، إسلام رسمي حكومي لا أحد يعرف كيف يتم استنباط الأحكام من خلال نصوصه ؟ ! وما هي حدود الحلال والحرام لدى أصحابه ؟ وما هي الظروف والعوامل التي تجعل من عمل ما حرام وغير شرعي في الصباح لكنه يغدو بعد الظهر حلالا يأتم من لم يفعله !.

هذه المفارقة واكبت تاريخ الإسلام منذ فجره وإلى الآن وهي السبب في ظهور مصطلحات ومفاهيم مثل " وعاظ السلاطين " و " فقهاء النظام ". لذلك لم يكن الشيخ سلمان العودة مجانبا للصواب عندما انتقد البيان الاستنكاري لقيام اللجنة ووصف العلماء الذين كتبوه بأنهم " موظفون لدى الحكومة ".

____________

(105) المرجع السابق، ص 7.

(106) لما اجتمع أمير الرياض بالأعضاء المؤسسين للجنة " أبلغهم على الفور تنديد العائلة الحاكمة والحكومة السعودية بمثل هذا الإجراء وطالبهم بالتراجع عنه لأنه مخالف للشرعية السياسية والشرعية الدينية في نفس الوقت. فرد أعضاء اللجنة بأنهم - وهم من الحقوقيين والعلماء - على يقين بأن هذا الأمر لا يخالف الإسلام، بل يحض الإسلام عليه ويكلف به المؤمنين به بالدفاع عن المظلومين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهددهم الأمير بأنه سيطلب من المؤسسة الدينية إصدار بيان يندد بهم ويبين حكم الشرع في مثل هذا الأمر ؟ ! أنظر مجلة الجزيرة، عدد 29 يونيو 1993 م، ص 12.

الصفحة 444

الهجوم على اللجنة وأصحابها:

وإذا كانت " مذكرة النصيحة " قد أثارت استنكار الأسرة المالكة التي حاولت استيعاب تداعياتها. فإن الموقف تجاه " لجنة الحقوق الشرعية " كان صارما وغير متوقع، إذ صدرت التعليمات بفصل خمسة من أعضاء اللجنة من وظائفهم ولم يسلم ابن جبرين من الفصل من الرئاسة العامة للإفتاء رغم تراجعه وانسحابه. أما الباقي فقد منعوا من التدريس بالجامعات. " كما صدرت التعليمات بسحب رخص المحاماة والاستشارات وما يتعلق بها، الممنوحة لكل من عبد الله بن سليمان المسعري وسليمان بن إبراهيم الرشودي وإغلاق مكتبيهما وفروعهما في المدن السعودية (107). بالإضافة إلى مضايقات أمنية.

وقد استدعي أمين اللجنة المسعري للتحقيق ومنع من إعطاء أي تصريح أو مقابلة مع الإعلام الأجنبي. هذه الإجراءات وغيرها قوبلت باستنكار واسع النطاق داخل صفوف التيار السلفي خصوصا المؤمنين بضرورة التغيير، ومنع على أثر ذلك عدد من الخطباء من إلقاء خطبهم لأنهم نددوا بتصرف الحكومة مع أصحاب اللجنة. وإذا كانت أصداء " مذكرة النصيحة " محدودة نوعا ما فإن خبر هذه اللجنة الحقوقية قد تداولته الصحافة العالمية. كما تابعت منظمة ليبرتي الحقوقية يوميات وأخبار هذه اللجنة وأصحابها. وقد زاد اللقاء الذي عقده أعضاء من السفارة الأمريكية في الرياض مع رئيس اللجنة المسعري في زيادة الاهتمام بأخبار اللجنة ورجالها مما أربك الحكومة. وازداد الوضع الداخلي توترا مع زيادة التأييد الداخلي للجنة فقد وصلت إلى اللجنة خطابات تأييد من أكثر من أربعمائة (400) شخصية علمية وفكرية.

إن لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية إجراء عملي لتحقيق ما دعت إليه مذكرة النصيحة، وإعادة صياغة محتوياتها بشكل وإطار آخر من خلاله سيتم

____________

(107) مجلة الجزيرة، م س، ص 7.

الصفحة 445
استعراض كل المشاكل ومواطن الفساد في الدولة الحالية. يؤكد ذلك ما جاء في نص الحوار الذي أجرته (بي. بي. سي) القسم العربي سكرتير اللجنة الدكتور محمد المسعري، فقد تكلم عن " التجاوزات التي تصدر من شخصيات بارزة " وعن ضمان الحقوق المدنية للأقليات الدينية المتواجدة داخل السعودية. والتي ما فتئ علماء السلفية يلهجون بتكفيرها ورميها بالضلال والانحراف (108). كما تعرض الحوار للوعود التي قدمتها الأسرة الحاكمة بشأن تطوير الحياة السياسية، وأن شيئا لم يتحقق في هذا الاتجاه ! ؟ بالإضافة إلى الحديث عن الشورى والديمقراطية وفكرة التحديث العام، والمجتمع المدني.

لقد عرف تأسيس هذه اللجنة صدى واسعا في الداخل والخارج، وإن كانت الحكومة قد تعاملت معه بخشونة وصراحة. إلا أن ذلك لم ينه الموضوع، لأن بعض أعضاء اللجنة سيغادرون المملكة إلى الغرب للإعلان عن استمرارية اللجنة. ومتابعة أصحابها الأهداف التي أعلنوها التأسيس، لذلك فموضوع هذه اللجنة ما زال حيا ولم تستطع الحكومة أن تقبره. بل بين الحين والآخر تتعرض وسائل الإعلام العالمية لأنشطة هذه اللجنة وأخبارها ؟ !.

____________

(108) في الحجاز هناك العديد من أتباع المذاهب الأخرى بجميع اتجاهاتها. كما أن غالبية المسلمين السنة في الأحساء يتبعون المذهب المالكي شأنهم في ذلك شأن معظم الخليجيين الآخرين في الكويت وقطر والإمارات، كما أن معظم السكان في تهامة الجنوبية وعسير والباحة يتبعون المذهب الشيعي الإسماعيلي، أما في المنطقة الشرقية فإن غالبية السكان من الشيعة الإمامية. ولكل من هذه المذاهب علماء يدرسون غالبا في الخارج، ولا زال خريج الجامع الأزهر يعتبر في مساجد الحجاز أرفع شأنا من نظيره المتخرج من الجامعات الدينية السعودية، ويميل العلماء من هذه المذاهب وأتباعهم إلى التسامح عادة، كما أنهم أكثر انفتاحا على التيارات الثقافية والاجتماعية الجديدة، وربما كان مرجع ذلك هو إحساسهم بالاضطهاد، ومحدودية الفرص المتاحة لهم للتعبير عن معتقداتهم. ويتعرض هؤلاء لعداء الخط الديني التقليدي كما الخط السلفي. وقد حكم على الشيخ محمد بن علوي المالكي وهو عالم دين بارز من مكة المكرمة بالمروق من الدين، لأنه أجاز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.. " أنظر مجلة الجزيرة العربية، عدد فبراير 1991 م، ص 39.

الصفحة 446

الخلاف في تصاعد مستمر:

بعد هذه التتبع المقتضب لمسيرة الوفاق والاختلاف بين الأسرة السعودية والحركة الوهابية يتبين أن الخط الخلافي الذي تأسس على قاعدة اتفاقية في تصاعد مستمر نحو المواجهة والاختلاف الحدي، مع ملاحظة، ليس فقط حجم الصراع وتوسعه ولكن نوعية الصراع ونضجه، لأن مما لا شك فيه أن أسباب الخلاف التي فجرت الصراع بين الإخوان والملك عبد العزيز في النصف الأول من هذا القرن، ليست هي نفسها التي تضمنتها مذكرة النصيحة. كما أن فكرة تأسيس لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية تعتبر تجاوزا للفكر السلفي الوهابي التقليدي. كما وقد أفصحت هذه المعارك والصراعات على انشقاقات في التيار السلفي العام، وميزت المؤسسة الدينية الرسمية المستوعبة من طرف الحكومة، عن الفئات المتنورة التي ولدت داخل هذا التيار والتي تربت داخل الجامعات وتعرفت على العالم الخارجي.

لكننا سنسجل بكل أسف وحسرة انحصار ذا الخط التنويري داخل التيار السلفي ومحاصرته من طرف المؤسسة التقليدية وعلمائها والحكومة المتربصة والخائفة من هذا التطور. أما أسفنا فبسبب انتشار الدعوة السلفية في أوساط الصحوة الإسلامية بشكل مثير، ومدى الوعي الذي تنشره هذه الدعوة داخل هذا الوسط، فالاهتمامات التقليدية لهؤلاء السفليين المنتصرين والذين يتلقون الدعم والتأييد الحكومي لا تعدو، إرخاء اللحى وتقصير الثوب والاهتمام بالجزئيات الفقهية أثناء الدعوة.

بالإضافة إلى إثارة الفتن المذهبية ورمي فئات واسعة من المسلمين بالكفر والشرك، لأنهم لا يقلدون المذهب الوهابي في الأصول. أما هذا الخط السلفي المتنور فقد أظهر من خلال إنتاجه وتصريحات أصحابه أنه يحتضن

الصفحة 447
وعيا متقدما بعض الشئ في معالجته لقضايا المسلمين العامة (109)، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحررا بعض الشئ من جزئيات وشكليات لم يستفد منها المسلمون سوى ضياع الطاقات وإهدار الإمكانيات، وتفجير الصراعات والأحقاد الطائفية لا غير.

***

____________

(109) إن ما تحدثنا عنه من تطور في الوعي السياسي والاجتماعي لدى هذه الفئة المتنورة من الوهابية (السلفية) قد شمل الكثير من القضايا إلا أن موقفهم الطائفي لم يتغير وخصوصا تجاه المذهب والمجتمع الإمامي الذي يسمونهم (رافضة) مع أن الدولة السعودية نفسها سجلت تغيرا ملحوظا في موقفهم بعد حرب الخليج الثانية. فأحد رجالات هذا التيار الجديد وهو الشيخ فهد سلمان العودة اعتبر في محاضرته (أسباب سقوط الدول) المذهب الشيعي مذهبا باطنيا خبيثا، وقال إن اليهود والنصارى كان لهم دور في نشوء الفرق (الروافض والخوارج) ويقول الدكتور سفر الحوالي في رسالة مطولة له: "... يجب على علمائنا الكرام التنبيه إلى الخطر الرافضي القادم، وبيان فداحة الخطأ الذي تقع فيه الحكومة السعودية عندما تؤيد المعارضة العراقية الرافضية وتسميها (المعارضة الإسلامية)، وتصف آيات الله خلالها بأنهم علماء الإسلام، في حين تهاجم بلا هوادة جبهة السودان وجبهة الجزائر وأمثالها من الحركات الإسلامية التي مهما أخطأت فهي لا تقارن بخطر الرافضة ".

عجيب ! إن لهؤلاء السلفية تصورا غريبا تجاه الشيعة الإمامية، لا أحد يعلمه ! فأي خطر يمثله هؤلاء الشيعة ؟ وعلى من ؟ وكيف ؟ فالحقيقة الوحيدة التي يعرفها أبناء الصحوة الإسلامية هي أن الشعب الإيراني وشيعة لبنان هم أعداء الغرب وأمريكا، وأنهم وحدهم لا غير يمكنهم أن يهددوا مصالح الغرب الاستعماري والوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية، ولا أدل على ذلك من أن كل البنادق أسكتت إلا بندقية الشيعي اللبناني الذي ما زال يصوبها تجاه إسرائيل وعملائها في جنوب لبنان.

الصفحة 448

السلفية دعوة عالمية

لقد كان لانتصار الحركة الوهابية المسلحة وسيطرتها على مكة والمدينة، المدينتان المقدستان اللتان يحج إليهما عشرات الألوف من المسلمين كل سنة، أثره الفعال والمهم في انتشار الفكر الوهابي خارج الجزيرة العربية. وعليه فقد غدا موسم الحج السنوي الفرصة الأكثر حيوية لدعاة الوهابية لنشر مذهبهم في التوحيد ومحاربة بدع التوسل والاستغاثة ؟ !.

فإلى جانب الخطب المنبرية والجلسات التفقيهية والوعظية المنظمة بمناسبة الحج، اهتم القائمون على الدعوة الوهابية بنشر كتب الشيخين ابن عبد الوهاب وابن تيمية. وعدد كبير من الكراسات والمحاضرات التي تشرح أصول المذهب الوهابي التوحيدي الجديد، وتوزيعها مجانا على الحجاج. كما أن التصرفات الغربية والشاذة التي كانت تصدر من بعض دعاة الوهابية أو القائمين على رعاية الأماكن المقدسة كانت تثير ردود فعل مختلفة في طرف الحجاج وخاصة عندما كان الوهابيون يمنعونهم من مقاربة ضريح الرسول (ص) بحجة أن ذلك " شرك " وإن من تمسح بالقبر أو وضع يده على الشباك المحيط بالقبر الشريف، فقد أشرك. ينادون على من يفعل ذلك يا مشرك ؟ ! كل هذه التصرفات كانت تثير لدى الحجاج تساؤلات عدة تدفع المتعلمين منهم للسؤال والبحث. وقد تعرف الكثير منهم على العقائد الوهابية من جراء ذلك.

أما انتشار الوهابية في دول العالم الإسلامي فيعزى إلى طائفة من العلماء والفقهاء زاروا مكة والمدينة للحج فتعرفوا على عقائد الوهابية والتقوا معها في

الصفحة 449
مسألة محاربة البدع والخرافات العقائدية التي كانت منتشرة، ومن ثم شكلوا النواة الأولى للدعوة الوهابية في بلدانهم لما رجعوا من حجهم. بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الطلبة الذين استوعبتهم الجامعات الدينية الوهابية، المؤسسة لتعليم المذهب الحنبلي وعقائده. ولقد كانوا فعلا رسل المذهب وسفراءه في بلدانهم، ومن ثم بدأت أفكار الشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب تعرف طريقها نحو العالمية.

كما أن الدولة السعودية وبحكم تعلقها بالشرعية " الدينية السياسية " وارتباطها بالدعوة الوهابية، قد بذلت جهودا كبيرة لدعم هذا المذهب ونشره داخل الجزيرة وخارجها. وقد خصص لهذا الغرض ميزانية ضخمة تصرف على طباعة الكتب الخاصة بالعقيدة الحنبلية " بصيغتها الوهابية ". يقول الدكتور صالح بن عبد الله: وكم لهم من يد طولى في نشر كتب السلف الصالح وطباعتها وبذل الأموال الطائلة على التعليم ونشر الإسلام في الآفاق... فمنذ الملك عبد العزيز وكتب السلف تطبع وتنشر وتوزع مجانا، وهذه مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، والدرر السنية. ومجموعة فتاوى ابن تيمية وكتب ابن القيم وكتب الفقه والتفسير والحديث في ذلك بين أيدينا شاهدة على آثارهم (110).

لقد اغنانا هذا الكاتب عن التعليق على قوله " نشر كتب السلف الصالح " فقد أوضح المقصود بذلك السلف الصالح ! أي ابن تيمية وابن قيم الجوزية.

أما كتب الحديث فقد نشروا وطبعوا كل الكتب التي تدعم عقيدة التشبيه والتجسيم والتي هي من تراث الحنابلة خاصة. وقد أشرنا إليها في الفصل الثاني من هذا الكتاب ونقلنا عنها بعض الأحاديث الخاصة بهذا الموضوع.

____________

(110) د. صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن العبود. عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، المجلس العلمي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط 1 1408 ه‍. ص 623.

الصفحة 450
وهذا النشر والطباعة لتراث الحنابلة وتوزيعه مجانا، لم يقتصر فيه على المملكة الوهابية نشرا وتوزيعا. وإنما تمت الاستفادة من أغلب دور النشر في مصر وبيروت ودمشق وبغداد والهند. وبذلك اتسعت رقعة التوزيع لتحيط بالسوق العربية والإسلامية للكتاب. وبما أن الكتاب السلفي الوهابي لا يشكل أية مشكلة بالنسبة لجهات المراقبة على الكتاب الإسلامي في الوطن العربي بالخصوص، فقد أغرقت الأسواق بهذا الكم الهائل من " كتب السلف الصالح ". والتي أصبح من المتعذر عدم وجود بعضها ضمن مكتبات أبناء الصحوة الإسلامية.

كما تجدر الإشارة إلى أن المراكز الثقافية التابعة للحكومة السعودية والمنتشرة في جميع الدول الإسلامية تقوم بدور فعال في هذا المجال خصوصا تزويد الطلبة بفتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية (111).

بالإضافة إلى المراكز الإسلامية التي دأبت الدولة السعودية على افتتاحها في العواصم الدولية وتزويدها بالكتب السلفية والخطباء والعلماء الوهابية. وإذا أضفنا إلى ذلك ظهور تيارات حركية سلفية داخل العالم الإسلامي، تابعة للمؤسسة الدينية السعودية. تكون الصورة قد اكتملت حول حجم ظاهرة الدعوة السلفية التي واكب ظهورها وانتصارها وسيطرتها على الحجاز والمدينتين المقدستين. بروز وتشكل الصحوة الإسلامية العالمية، حيث أدى التأثير السلبي على هذه الصحوة إلى إجهاض كثير من مشاريعها المستقبلية، وسقوط أتباعها في متاهات عقائدية وخلافية عمقت حالة التمزق والتشرذم داخل الجسد الإسلامي.

***

____________

(111) قامت مؤخرا سفارة المملكة العربية السعودية في الرباط بطباعة فتاوي ابن تيمية على نفقتها. وذلك لتوزيعها على المؤسسات الإسلامية أو من يطلبها من الطلبة والباحثين.

الصفحة 451

أسلوب الدعوة

يوميات المذهب الحنبلي في الدعوة:

لا بد لمن أراد أن يعرف طرق ووسائل الدعوة " لمذهب السلف " أن يستحضر الماضي، ونقصد به تاريخ المذهب الحنبلي. لأن من لم يعرف طريقة الحنابلة في الدعوة لمذهبهم لا يمكنه أن يحيط بكل مظاهر الدعوة السلفية المعاصرة. أو أن يعرف أساليب أصحابها في نشر أفكارهم وبث معتقداتهم.

وقد احتفظ لنا التاريخ بعدة وقائع تصف حركة هؤلاء الحنابلة وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وكيف كانوا يجوبون الأسواق في تظاهرات مفاجئة يهجمون خلالها على المواخير وبيوت الغناء والرقص في بغداد، ويحدثون جلبة وفوضى، تستدعي تدخل الجيش السلطاني لإعادة الأمن وتفريق جماعات العوام المشاركة في هذا العمل الدعوي والاستنكاري.

لكن الأمر لم يكن ليقف عند هذا الحد، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل تعداه كما يقول صاحب النهج الأحمد: " لكنهم تجاوزوا ذلك كله، وذهبوا إلى محاربة من يخالفهم في بعض الآراء سواء في ذلك المسائل الأصولية أو المسائل الفروعية " (112).

مثل محاربتهم للأشاعرة وإعلان تكفيرهم والتهجم على علمائهم. فقد تعرضوا لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي وكفروه، وحملوا على ابن جرير

____________

(112) النهج الأحمد، ج 1 ص 37. يقول المؤلف: " فقد كنا في عهد الصبا نسمع الرجل يصف رجلا آخر، فإذا أراد أن ينعته بضيق الصدر والتزمت وصلابة الرأي وعدم انقياده للحديث يلقى إليه قال " إنه حنبلي " ولا يزال الناس إلى يومنا هذا يذكرون هذه العبارة في مثل هذا المعرض "، ص 21.

الصفحة 452
الطبري صاحب التاريخ والتفسير ومنعوا من دفنه لما مات، فكان أن دفن في داره ليلا. يقول ابن خزيمة " ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة " (113). أما ابن عقيل الحنبلي فله معهم قصة طويلة ذكرها أصحاب التواريخ. لقد كان ابن عقيل يتردد على بعض شيوخ المعتزلة ويأخذ عنهم ولما علم الحنابلة بدلك، وقيل أنهم اطلعوا على كتب له فيما تعظيم للمعتزلة وترحم على الحلاج. طلبوه وأرادوا أذيته، فاختفى عنهم مخافة التنكيل به. لكن الرجل لم يستطع الاستمرار في الاختفاء " فكتب بخطه كتابا يقر على نفسه بالخطأ ويبرأ منه ويعطي إمام المسلمين الحق في التنكيل به إذا ظهر منه فيما بعد شئ مماثل لما كان عليه (114).

لكن لا بد من الإشارة إلى أن هذا الإرهاب الفكري والعقائدي، لم يجعل ابن عقيل يتنازل عن أفكاره ومعتقداته، وإن كان قد كتب توبته منها. فقد ذكر ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة. عند ترجمته لابن عقيل بأنه كان " يظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول بعض الصفات.

ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله " (115).

وإذن فقد كانت توبته تقية وخوفا من الحنابلة. وابن رجب عندما يقول " وتأول لبعض الصفات " إنما يعني مخالفته لاعتقادهم التشبيه والتجسيم، وقد تبرأ من هذه العقيدة ابن الجوزي كذلك وهو من الحنابلة ورد على عامة أهل المذهب. كما تعرضوا ليحيى بن معين وعلي المدني وغيرهم من علماء وفقهاء المذاهب الإسلامية. فهذا عبد الله الأنصاري الهروي الذي كان يوصي الناس بأن يتحنبلوا " يلعن الأشعري " والأشاعرة، لأنهم لا يعتقدون إن الله عز وجل

____________

(113) المرجع نفسه، ج 1 ص 38، عن العبر، للذهبي ج 2 ص 146.

(114) نفس المصدر، ص 37.

(115) نفس المصدر، ج 1 ص 33.

الصفحة 453
في السماء و " إن القرآن في الصحف " (116).

وقد كان الأحناف والشوافع معه في بلاء مستمر، وكانوا يقولون: " نحن في يد هذا الرجل في بلية من استيلائه علينا بالعامة " (117).

أما إذا رجعنا إلى " الكامل في التاريخ " لابن الأثير فسنجد أن فتنا كثيرة وقف وراءها الحنابلة بحجة الدعوة إلى مذهبهم أو محاربة من لا يعتقد نحلتهم.

يقول ابن الأثير في حوادث سنة 317 ه‍: " وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين غيرهم من العامة، ودخل كثير من الجند فيها. وسبب ذلك أن أصحاب المروذي قالوا في تفسير قوله تعالى * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * هو أن الله يقعد النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش، وقالت الطائفة الأخرى إنما هو الشفاعة فوقعت الفتنة، واقتتلوا فقتل بينهم قتلى كثيرة " (118). وهذه ليس الفتنة الوحيدة التي ذكرها ابن الأثير بل هناك حوادث دامية كثيرة أشعل نارها الحنابلة باسم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وراح ضحيتها عشرات القتلى.

لقد طال النزاع والصراع بين الحنابلة والشافعية وتعمقت الكراهية بين الفريقين. لدرجة أن الحنابلة كانوا يقفون في الطرقات ويترصدون الشوافع وينكلون بهم ضربا وتهجما، كل ذلك بقي أثره الواضح في التاريخ والكتابة والفكر. يقول صاحب النهج الأحمد: كل فريق منهما يؤلب على الفريق الآخر حتى صارت الكراهية التقليدية أنه إذا كتب فيما بعد واحد من

____________

(116) مختصر طبقات الحنابلة، لابن الشطي، ص 70، قال أبو الحسن الكوفي شيخ الشافعية في بلاده: أنه - أي الهروي - أنشد في معرض النصيحة لأهل السنة:

كن إذا ما حاد عن حد الهدى * أشعري الرأي شيطان البشر
شافعي الشرع سني الحلا * حنبلي العقد، صوفي السير

(117) المرجع السابق، ص 70.

(118) الكامل ج 8 ص 83، أنظر النهج الأحمد، ص 38.

الصفحة 454
الشافعية عن واحد من الحنابلة، غمزه ونال منه. إن لم يستطع بصريح العبارة فلا أقل من الكناية والتحريض، وكذلك لو كتب واحد من الحنابلة عن الشافعية، وكتب التراجم مليئة بالأمثلة والشواهد (119). ومن يتصفح " المنتظم " لسبط ابن الجوزي يستغرب بل يستهول حجم الفتن وكثرتها والتي كان الحنابلة يشعلونها بين الحين والآخر. فتارة مع أهل السنة من الأشاعرة وتارة مع الشيعة، أما أسباب الخلاف فالمسائل العقائدية والخصوصيات المذهبية. والبادئ دائما لإشعال هذه الفتن والتعدي على الآخرين هم " حشوية الحنابلة ".

لقد أحدث الحنابلة جفوة بالغة بينهم وبين سائر الفرق كما يقول صاحب النهج الأحمد بسبب أسلوبهم في الدعوة، حيث الخشونة والعنف والإرهاب من أبرز سمات تحركاتهم الدعوية. بالإضافة إلى انتصارهم بالعوام والطبقات الدنيا من المجتمع، حيث يسود الجهل والأمية ويصعب على أي عاقل فضلا عن المفكر أو العالم أو يوصل بعض الحقائق إلى عقول هؤلاء العامة، أو أن يمد جسرا للتفاهم معهم وتوضيح الأمر لهم، بشكل تستوعبه عقولهم البسيطة. ولقد كان الحنابلة يدركون ذلك جيدا ويستفيدون من العامة لتحقيق انتصارات مذهبية.

لقد وصف الحنابلة أنفسهم بأنهم " قم تقلصت أخلاقهم عن المداخلة ".

لذلك فقد اتسمت دعوتهم بالعنف والشدة والإرهاب، يقول الشيخ محمد أبو. زهرة " وفي سبيل دعوتهم يعنفون في القول. حتى إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور " (120).

____________

(119) النهج الأحمد، ص 40.

(120) المذاهب الإسلامية، م س، ص 354، وجاء في البداية والنهاية لابن كثير، إن الحنابلة في بغداد عام 447 ه‍ قوى جانبهم على الأشاعرة وحالوا بينهم وبين شهود الجمعة والجماعات كما حاول الحنابلة منع الشافعية من الجهر ببسم الله الرحمان الرحيم، والترجيع في الأذان والقنوت، وكادت تحصل فتنة كبيرة لولا أن حملوا على السكوت =

الصفحة 455
وهذا الأسلوب في الدعوة هو الذي يفسر سبب انحصار المذهب الحنبلي في التقليد واقتصاره على مناطق محدودة مثل بغداد ونجد ودمشق. ويمكن أن يلاحظ بوضوح أن ساكنة هذه المناطق وخصوصا بلاد نجد عرف عنهم الجلافة والغلظة والخشونة، رسختها وزادت في حدتها الطبيعية الصحراوية القاسية.

وإذا رجعنا إلى دعاة السلفية " حشوية الحنابلة " اليوم فسنجد أن هذه الصفات الشاذة تلازمهم الظل للجسد. وأنها من أهم ما ورثته طبيعتهم عن المذهب والتراث الحنبلي. وبالخصوص ما اكتسبوه من سلوكيات زعيمهم الأول وصاحب نحلتهم " الشيخ ابن تيمية "، الذي أجمع المؤرخون بأنه كان حاد المزاج خشنا في تعامله مع خصومه. لدرجة اتهام مخالفيه بما ليس فيهم بل الكذب عليهم وتحريف أقوالهم، وتزوير كلامهم ومعتقداتهم.

وقد عزى بعض الباحثين عند ذكره هذه الحدة إلى عزوف الشيخ عن الزواج طوال حياته. ونضيف نحن إلى ذلك، تأثير الطبيعة على نفسية الشيخ فهو من مواليد مدينة حران التي وصفها ابن جبير بأنها بلد " قد نبذ بالعراء، ووضع في وسط الصحراء، فعدم رونق الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة ".

وعليه فحياة الشيخ ابن تيمية وسلوكه يمكن أن تنضاف كعامل من العوامل التي أنتجت ظاهرة الخشونة والجفاء لدي السلفية المعاصرين. فالتقليد لا يشمل فقد الأفكار وأنما يتجاوزه إلى التأثر بالسلوكيات والأفعال.

أسلوب الدعوة السلفية اليوم:

أما إذا ذهبنا نستقص عن حال الرجل الذي أحيى الفكر السلفي في الأزمنة الحديثة ووضعه محل التطبيق. ونشر ما اندرس منه وبعث رفاته، لنعرف كيف كان يدعو الناس إلى أفكاره ومذهبه، فإننا لسنا في حاجة

____________

= آخر الأمر. ج 12، ص 66، أنظر على دروب التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص 34.

الصفحة 456
لخصومه ليصفوا لنا واقع الحال، بل نحيل أنفسنا إلى ما كتبه يراعه. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إحدى رسائله معترفا: " أنا في بعض الحدة " والحق - يقول جلال كشك - أنها كانت حدة أكثر من المعتاد في الدعاة وقد ظلت ملازمة لتلاميذه وحركته بل تضاعفت " (121).

ولا شك أن هذه الحدة قد أهرقت بسببها دماء بريئة، وتعرض من جرائها خلق كثير للظلم والعدوان، ومن يراجع يوميات الدعوة الوهابية في فجر انتصاراتها الكبرى. سيرى التطبيق العملي لهذه الحدة، وكيف تعامل الوهابيون مع " المشركين " من أبناء الإسلام، وكيف كانوا يمارسون الدعوة لمذهبهم التوحيدي. فقد كانوا كما يقول الشاعر أبو تمام " السيف أصدق إنباء من الكتب ".

لقد استخدم السلفيون " حشوية الحنابلة " قديما وحديثا ترسانة من المصطلحات والأوصاف والنعوت، ما فتئوا يرمون بها كل من يخالفهم في الفروع أو الأصول. وهذه الترسانة يمكن تلخيصها ب‍ " جهمي، ضال، منحرف عن السنة، رافضي، مشرك، مبتدع، صوفي، طرقي، قبوري، عابد الأصنام والأوثان، كافر، زنديق " وهلم جرا.

وهذه المصطلحات بما تتضمنه من مفاهيم عقائدية مختلفة يستخدمها السلفيون اليوم لوصف المسلمين ممن يشهد لله بالوحدانية ويؤمن بالرسل واليوم الآخر ! !. أنظر مثلا لما يقوله داعية سلفي وهابي معاصر وهو عبد الرحمان بن حسن بن عبد الوهاب مجيبا عن سؤال: يقول: " فقد وردت علينا أسئلة من عمان، صدرت من جهمي ضال يستعجز بها بعض المسلمين (122). أنظر كيف حكم على السائل بأنه جهمي " أي معتزلي أو منزه

____________

(121) السعوديون والحل الإسلامي، ص 100.

(122) مجموعة التوحيد، ص 55.

الصفحة 457
لا يؤمن بالتجسيم أو التشبيه " ضال !. ويمكننا أن نذكر ملاحظة انتبه لها بعض المفكرين. وهي التضارب والاختلاف لدى السلفيين في فهم هذه المصطلحات التي ينبزون بها خصومهم. فقد علق أحدهم على قول السلفية القدامي في حق ابن جرير الطبري " بأنه رافضي ملحد " بقوله: إن هؤلاء لم يعرفون أبدا معنى الرفض أو الإلحاد، ولو سئلوا عن ذلك لما وفق أغلبهم في الإجابة، وهذا الشيخ عبد الرحمان يقول. " جهمي ضال " مع أن الجهمي في عرف أكثر متقدميهم كافر أو زنديق، لأنه معطل، وليس ضالا فقط ؟ !.

ونحن نستغرب جدا كيف حكم هذا الشيخ الداعية على السائل بأنه " ضال جهمي " مع أن أسلوب الدعوة يقتضي التعامل بالحكمة، وإيصال الحقيقة للناس بأحسن السبل وأفضلها، مما يدفع الناس للالتفاف حول الحقائق واعتناقها، وليس النقور منها والابتعاد عنها. هذا إن كان ما يدعو له السلفيون فعلا يدخل في خانة الحق المحض الذي لا يجوز الاختلاف حوله أو الشك فيه.

ولكن ماذا نقول لهؤلاء ! إنه أسلوب في الدعوة، متميز وخاص بهذه الطائفة يرثه خلفهم عن سلفهم، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أو يقطع دابر هذه الدعوة وتندثر مع الزمن كما ذهبت كثير من الملل والنحل والدعوات. وابتلعها بطن التاريخ.

لقد كان خطر هذه الفئة المتميزة في التاريخ الإسلامي القديم والحديث محدودا ومنحصرا. أولا لأنه لم تكن لهم دولة تنصرهم وتتبنى عقائدهم جملة وتفصيلا وإن كان الخليفة العباسي المتوكل (123)، قد انتصر لهم

____________

(123) يقول أبو بكر الخوارزمي " ليس من فرق الإسلام فرقة إلا وقد هبت لأهلها رويحة، ودالت لها دولة. كما أتفق المختار للكيسانية. والمعتصم والواثق للمعتزلة. والمتوكل للنواصب والحشوية " رسائل أبي بكر الخوارزمي. ص 178. أنظر بحوث مع أهل السنة والسلفية لمهدي الروحاني، ص 111.


الصفحة 458
وسلطهم على خصومه وخصومهم. لكن حركتهم لم تمتد طويلا. أما الآن وبعد قيام دعوتهم وانتصار دولتهم، وما تبذله هذه الدولة من أموال طائلة في دعم هذا المذهب ونشر تراثه الفكري والعقائدي. فإن الأمر أصبح يشكل ظاهرة متميزة ينتشر صداها كل يوم عبر وسائل الإعلام في العالم الإسلامي حيث تتفجر الفتن المذهبية والطائفية في أكثر من منطقة في العالم الإسلامي

إشعال الفتن المذهبية:

ففي مصر والمغرب على سبيل المثال يخوض السلفية صراعات مريرة مع الصوفية وأتباع الطرق، يستخدمون فيها جل المصطلحات التي تزودهم بها ترسانتهم الدعوية: من ضال ومبتدع، إلى كافر، وهلم جرا. ولأتباع السلفية جرأة كبيرة في استخدام هذه المصطلحات، دون اعتبار لخطورتها على الوضع الاجتماعي العام. لذلك انتشرت البغضاء والأحقاد بين هذه الطائفة وبين قطاعات واسعة من الصوفية وأتباع الطرق، الذين لا تجد بلدا إسلاميا وخصوصا في إفريقيا يخلو منهم.

يحدثك بعض المشرفين على هذه طرق والمنضوين تحت لوائها بمرارة وغضب، متسائلا عن الخلفيات الحقيقية التي تحرك هؤلاء الناس، وكيف تناسوا أولم يعلموا أن الطرق الصوفية هي التي أدخلت الإسلام إلى وسط إفريقيا وأدغالها، وهي التي أشرفت وما زالت على عملية ترسخه وتعميق جذوره في أكثر من بلد إفريقي ؟ فكيف يجرؤ هؤلاء " السلفية " على نسبتنا إلى الكفر والشرك والخروج عن الإسلام، ونحن كنا وما زلنا دعاته والحريصين على نشره ! ؟.

والواقع إن انتشار المد السلفي في بلدان إفريقيا المسلمة ودخول دعاة السلفية إليها قد أثار فتنا وصراعات كبيرة ساهمت في تمزق المجتمع الإسلامي هناك. أما أمهات المسائل العقائدية المختلف حولها بين السلفية وغيرهم من