الصفحة 38

الفصل الثاني
في أغلاطهم في النص


ومن عجيب أمرهم: قولهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا خرج من (1) المدينة استخلف عليها وعلى من [ كان ] فيها من يقوم بمصالحهم [ بنهضته ]، ويسير فيهم بعده بسيرته، إشفاقا من إهمالهم، وفرقا من فساد أحوالهم، وكراهة لاضطرابهم وتشتتهم (2)، وإيثارا لانتظام أمرهم ومصلحتهم، وإنما أهلها [ بعض ] من قلد القيام بأمره، وأمر بحسن النظر [ له ] في سياسته وتدبيره، هذا مع قرب المسافة بينه وبينهم، وسرعة عوده إليهم، ثم إنه عند خروجه من الدنيا بوفاته، وانقطاعه عن جميع أمته بفقده، وطمع أهل الكفر والنفاق فيهم، وتطلعهم إلى اختلاف كلمتهم، وتشتت شملهم، أهمل أمرهم، وترك الاستخلاف فيهم [، وحرمهم الألطاف ] بالرئاسة عليهم، ولم يحسن النظر لهم بمتقدم يخلفه فيهم!

فأمعن (3) النظر في حياته في الأمر الصغير، وحرسه من التفريط، وأهمله بعد

____________

(1) في " ش ": عن.

(2) في " ش ": وتشتيتهم.

(3) في " ش ": فأنعم.


الصفحة 39
وفاته في (1) الأمر الكبير، والخطب الخطير (2)، وعرضه للتضييع، إن هذا [ لهو ] العجب العجيب، والأمر معكوس عند كل حصيف (3) ولبيب!

ومن عجيب أمرهم: [ قولهم: ] (4) أن النص على علي بن أبي طالب (عليه السلام) [ بالإمامة ] لو كان صحيحا لاحتج به على القوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، أو احتج به (5) غيره، ولم يجز أن يهمل [ هذا ] الأمر، حتى لا يدور بينهم (6) في الذكر، ويقولون: إنهم [ لو ] كانوا ذكروه، وخاضوا فيه وتحاوروه، لنقل إلينا ما جرى، ولم يجز أن يخفى، كما [ نقل ما ] جرى بين المهاجرين والأنصار من المحاورة في الكلام، وما احتجت به قريش في استحقاقها [ في ] المقام، وفي خلو النقل من ذلك دليل على أن القوم لم يتفوهوا به، وهذا شاهد فيما زعموا ببطلانه.

فإذا قيل لهم: فمن (7) الذي منع القوم من تقديم الفاضل ونصبه رئيسا للعالم؟

ادعوا أن الجماعة علمت علة - بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) - منعت تقديمه، وأوجبت تأخيره، ولم ينطق بها ناطق، ولا تكلم فيها (8) متكلم، ولا ظهرت من قلب على لسان، ولا لفظ بها إنسان، ولا ذكر خوضهم فيها ذاكر، ولا أخبر بمفاوضتهم فيها مخبر، ولا ادعى محاورتهم فيها بشر، ولا اخترع في ذكرهم (9) لها خبر،

____________

(1) في " ش ": من.

(2) في " ش ": الحقير.

(3) الحصافة: ثخانة العقل. (لسان العرب: 9 / 48 - حصف -).

(4) أثبتناه لاقتضاء السياق.

(5) في " ح ": عنه.

(6) في " ش ": حتى يدور هذا الأمر بينهم.

(7) في " ح ": فما.

(8) في " ش ": بها.

(9) في " ح ": ذكرها.


الصفحة 40
وهذه مناقضة قبيحة، ومباهتة صريحة [، وعكس لأحكام العقول، وقلب للعادات عند ذوي التحصيل ].

ومن عجيب أمرهم: اعتمادهم في إنكار النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) [ على ] أنه لو كان حقا قد أعلن به على رؤوس الأشهاد، ولنقله الخاص [ منهم ] والعام، ولم يقع [ فيه ] بين الأمة اختلاف، وقولهم: [ إن ] وجود الاختلاف [ فيه ] دلالة على أنه لم ينص عليه.

هذا مع علمهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله) نص على عبادات كثيرة وأظهرها، وأعلمها أمته وشهرها، ثم اختلفت الأمة فيها، ولم تتفق عليها.

ومن ذلك الوضوء الذي عرفهم كيفيته وشرحه، وكرر فعله بحضرتهم وأوضحه، وهو فرض عام لجميعهم، يترادف وجوبه عليهم، ويتكرر فعله منهم، فلم يتفقوا عليه، ولا صدق بعضهم بعضا فيما يروونه (1)، فمنهم من مسح أذنيه، ومنهم من أنكر ذلك وبدع فاعليه، ومنهم من مسح بعض رأسه، ومنهم من مسح جميعه، ومنهم من مسح رجليه، فقال: لا يجوز غير غسلهما، ومنهم من يروي أن الفرض غسلها، ومنهم من مسح على خفيه، ومنهم من أنكر ذلك وضلل، وكل ذلك ينسب قوله وفعله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن ذلك الأذان على اشتهاره بين الناس، وسماعهم له في اليوم والليلة خمس دفعات، ينادي بهم للصلاة وهم فيه وفي الإمامة على غاية الاختلاف، بين زيادة ونقصان وتبديع بعضهم بعضا في الخلاف.

ومن ذلك أحكام الصلاة التي نص لهم على جملتها وتفاصيلها، وعلمهم بالقول والفعل وكيفيتها، وكان يصلي بهم حضرا وسفرا فلم يتفقوا فيها،

____________

(1) في " ح ": يرويه.


الصفحة 41
فقال بعضهم: يرفع يديه مع كل تكبيرة، وقال آخرون: إنما رفعها في تكبيرة الافتتاح، وقال بعضهم: جهر به ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال آخرون: لم يجهر بها، وقال قوم: كبر على الميت أربعا، وقال قوم: خمسا.

ونحو ذلك من العبادات التي قد نص عليها، وشهر أمرها، فلم يتفقوا فيها، ويعلمون أنه (صلى الله عليه وآله) قد حج حجة الوداع، وأعلن بما فعله فيها على رؤوس أشهاد الناس، فلم يتفقوا على صفة حجه، ولا صدق بعضهم بعضا في كيفية فعله، فمنهم من يقول: أفرد، ومنهم من يقول: قرن، ومنهم من يقول: تمتع، وقد قطع بحضرتهم السارق، ورأوا ما فعل ذلك بعد أن نص لهم على حكم القطع نصا قطع به العذر، فلم يتفقوا على مقدار ما يقطع من اليد حتى أن منهم من يقول: يقطع من أصول الأصابع، ومنهم من يقول: من الزند، ومنهم من يروي: من المرفق، ويروي قوم: من الكتف.

وغير ذلك من الخلف الذي يطول به الوصف، مما ليس يلحقه في نقله ما يلحقهم في نقل النص على الإمام، المتقدم على الأنام، لما فيه من التكلف والمشقة، للشوق إلى نيل الرئاسة على الأمة.

فمن العجب أن يكون الاختلاف في جميع ما ذكرناه من هذه العبادات ليس بدلالة على أنه لم ينص عليها ويكون الاختلاف في النص على الإمام دلالة على أنه لم ينص عليه، وهل هذا إلا تجاهل من الخصوم!؟

ومن عجيب أمرهم، وظاهر مناقضتهم: قولهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو كان نص بالإمامة على رجل بعينه، وشهر بين الأمة شخصه، وأمرهم بطاعته، لم يقع من الصحابة بعد وفاته خلاف أمره، ولا استجازوا مع تقدمهم وفضلهم أن يؤخروا من قدمه، ويعملوا برأيهم الذي يلوح لهم، ويتركوا رأيه، ولا يجوز أن يحدثوا أمرا

الصفحة 42
يقتضي ترك امتثال أوامره.

فإذا قيل لهم: أفلستم مجمعين على أنه (صلى الله عليه وآله) عند وفاته نص على أمارة أسامة بن زيد، وقدمه وعقده على طائفة من وجوه الصحابة، وفرض عليهم طاعته، وأمرهم بالتوجه معه إلى حيث بعثه، وأكد أمره، وحث على تنفيذه، ونادى دفعة بعد دفعة: " أنفذوا جيش أسامة " (1)، ولعن المتخلفين عنه وفيهم أبو بكر وعمر، فلم استدركوا رأيه؟

قالوا: حدث أمر اقتضى ذلك، وبحدوث أحوال علمها الحاضرون، وهذه مناقضة من غلب عقله العصبية!

ومن العجب: استبعادهم مخالفة أكثر الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أوجبه عليهم من طاعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وترك اتباع من نصبه قدوة للأنام، مع علمهم بخلاف جميع قوم موسى أخاه هارون، واقتدائهم بسواه، وعبادتهم العجل من دون الله، وهارون بينهم يذكرهم الله ويخوفهم، هذا مع ميل أولئك إلى هارون، ونفور هؤلاء من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن أولئك خالفوا دليل العقل الذي لا يحتمل التأويل، وهؤلاء خالفوا دليل النص إلى ضرب من التأويل، فما هذا الاستبعاد لولا العصبية والعناد!

ومن عجيب أمرهم: أنهم إذا سمعوا الشيعة تحتج في صحة النص الجلي على

____________

(1) تاريخ مدينة دمشق: 8 / 62.

وورد بلفظ: " أنفذوا بعث أسامة " في: طبقات ابن سعد: 2 / 190. تاريخ مدينة دمشق:

8 / 62. شرح نهج البلاغة: 6 / 209. كنز العمال: 10 / 573.

وورد بلفظ: " جهزوا جيش أسامة " في: الملل والنحل: 1 / 29. وصول الأخيار: 68.

مناظرة الشيخ والد البهائي مع أحد علماء العامة في حلب: 51.


الصفحة 43
أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتواتر الذي نقله الخلف منهم عن السلف، استضعفوا هذه الطريقة، ودفعوا أن تكون دلالة، وبمثلها احتج المسلمون في تثبيت معجزات النبي (صلى الله عليه وآله)، والتحدي بكتاب الله سبحانه، ويزعمون أن هذا النص لو كان حقا، وقد ورد متواترا، لعلمت صحته ضرورة، وهذا بعينه قول الكفار في إنكار التحدي والمعجزات التي ورد بذكرها متواتر الأخبار، ويقولون: لو كان ما تدعون من النص حقا لنقله الكافة، وهم يعلمون أن هذا قول من جحد الملة في إنكار ما كان لنبينا من معجز وآية، ويحيلون جواز الكتمان على الكثرة مع معرفتهم بانتفاء طريق الكفار والملاحدة، ويقولون: إنكم معاشر الشيعة وإن كنتم اليوم لاحقين بالمتواترين في الكثرة فإنكم نقلتم في الأصل عن قلة، ولا يشكون في أن هذا قول الكفار لأهل الملة، كل ذلك لقلة التأمل والنصفة، وعدم التوفيق والمعرفة.

ومن عجيب أمرهم: قولهم: كيف خص الله من تشيرون إليه بالنص بالإمامة، وما سبب هذا التميز، وهل هو بفضل منحصر (1) أم استحقاق أوجبه؟ وينسون أن ذلك عائد عليهم في الأنبياء وتقديم الله تعالى على الأنام، هذا مع ما يطرق أسماعهم من قول الله سبحانه: (والله يختص برحمته من يشاء) (2).

ومن عجيب الأمور: أنهم يستصغرون الكلام في النص إذا رمنا إثباته، ويستعظمونه إذا ] (3) راموا بطلانه، فيقولون لمن يثبته: ما هذه العناية المفرطة بهذا الأمر، وإنما هو مسألة فرع، والخلف فيها غير قادح في الأصل، ولا موجب

____________

(1) استظهرها في " ح ": خصه.

(2) سورة البقرة: 105.

(3) ما بين المعقوفين سقط من " ش ".


الصفحة 44
لفسق (1) ولا كفر، وهي كسائر مسائل الفقه؟ وما الحاجة [ إلى ] النص على إمام والأمة (2) تقيم لأنفسها من تشاء وتختار؟ ويستصغرون الكلام في النص على هذا غاية الاستصغار، ويزهدون الأصاغر في الاطلاع عليه (3)، ويقللون فائدته [ عند المتشوق ] إليه، حتى إذا تكلموا في إبطاله عظموا الأمر، وقحموا (4) الخلف وقالوا: هذه المسألة قطب الشريعة، وأصل عظيم في الملة، ومن خالفنا فيها فقد خرج عن الجماعة ودخل في [ أهل ] البدعة، ولهذا لا يعدون (5) قول من أثبت النص خلافا بين الأمة، ويحذرون من [ قبول ] قول الشيعة، ويوهمون المسترشدين أن (6) القول بالنص قدح في الشريعة، كل ذلك قلة ديانة، وكثرة خيانة، وبرهان عصبية، ودليل ألف للباطل [ وحمية ].

____________

(1) في " ش ": في الأصل ولا في الفرع لفسق.

(2) في " ش " لكن الأمة.

(3) في " ح ": في النص هذا الاستصغار الأصاغر في الاطلاع فيه.

(4) في " ح ": وتحملوا.

(5) في " ش ": لا يعد.

(6) في " ش ": إلى.


الصفحة 45

الفصل الثالث
في (1) أغلاطهم في الاختيار


ومن عجيب أمرهم: اعترافهم بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان مشفقا على (2) أمته، رؤوفا بمعتقدي (3) شريعته، مجتهدا في مصالحهم، حريصا على منافعهم، لا يقف في ذلك دون غاية، ولا يقصر عن نهاية، وبهذا وصفه الله تعالى في كتابه حيث يقول جل اسمه: [ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ] (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (4)، ثم يزعمون أنه مع ذلك مضى من الدنيا ولم يختر لأمته [ إماما ]، ولا استخلف عليهم (5) رئيسا، وعول عليهم في اختيار الإمام، وتقديمه على الأنام، مع علمه بأن اختيارهم لا يبلغ اختياره، ورأيهم لا يلحق رأيه، إذ كان أبصر [ منهم ]

____________

(1) في " ش ": ومن.

(2) في " ح ": شفيقا في.

(3) في " ش ": بمقتدي.

(4) سورة التوبة: 128.

(5) في " ش ": عليها.


الصفحة 46
بمصالحهم، وأعلم بعواقبهم، وأعرف بمن ينتظم به أمرهم، وينصلح بإقامته شأنهم، فنسبوه (1) (صلى الله عليه وآله) إلى أنه حرمهم اختياره المقرون بالصواب، واقتصر بهم على اختيارهم الذي لا يؤمن معه [ من ] الفساد، وقد نزهه الله تعالى عن هذه (2) الحال، ورفعه عما يدعيه [ أهل ] الضلال.

ومن عجيب أمرهم: أنهم يعترفون بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يرد قط إلى أمته، ولا إلى أحد منها في حياته اختيار الرؤساء، ولا تأمير الأمراء، وأنه كان المتولي بنفسه استخلاف من يستخلفه، وتأمير من يؤمره على مدينته ورعاياه، وجيوشه وسراياه، حتى أنفذ سريته إلى مؤتة (3) قدم جعفرا (رضي الله عنه) وقال للناس: " إن أصيب فأميركم زيد بن حارثة، وإن (4) أصيب فأميركم عبد الله بن رواحة " (5)، من غير أن رد إليهم الاختيار، ولا كلفهم ولا أحدا منهم هذه الحال، ثم يدعون مع هذا أنه وكل إليهم عند مفارقته لهم بالوفاة اختيار الإمام، وإقامة رئيس للأنام، وكلفهم من ذلك بعد وفاته ما لم يكلفهموه في أيام حياته، وهو لو امتحنهم في أيامه فزلوا، و [ لو ] كلفهموه فغلطوا، كان يتدارك فارطهم بيمنه، ويصلح ما أفسدوه ببركته ورأيه، وليس (6) كذلك من بعده لأنهم لو غلطوا بتقديم من يجب تأخيره وتأخير

____________

(1) في " ش ": فينسبوه.

(2) في " ح ": ذلك.

(3) في " ح ": حتى أنه لما أتى مؤتة.

(4) في " ش ": فإذا.

(5) تاريخ الطبري: 3 / 36. تاريخ مدينة دمشق: 16 / 238. الكامل في التاريخ: 2 / 234، وفيهم:

" إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس ".

وروي في: كتاب سليم بن قيس: 195. الاحتجاج: 2 / 61. بحار الأنوار: 44 / 99.

(6) في " ش ": وليسوا.


الصفحة 47
من يجب تقديمه لم يجدوا من يتلافى فارطهم، ويتدارك زللهم، ويصرف عنهم (1) من قد ملكوه أمرهم، وعظم به ضررهم.

ومن عجيب أمرهم: أنهم يعترفون بأن الأمة ليس لها أن تمضي حكما، ولا تقيم على أحد حدا، ولا تنفذ جيشا، ويزعمون أن لها أن تجعل هذه [ الأمور ] لأحدها، وترد إليه [ ما لم ] يرد إليها، وتملكه من الشريعة أشياء لا تملكها، من غير أن يأذن لها في ذلك مالكها، وهذا من أطرف الأمور وأعجبها!

ومن عجيب أمرهم: أنهم فيما ذهبوا إليه من الاختيار قد أجازوا إهمال أمر [ هذه ] الأمة إلى أن يختار علماؤها واحدا، مع أنه (2) لو اختار أهل مدن مختلفة عدة أئمة وجب عندهم أن يقف أمرهم إلى أن ينظروا من الأولى منهم فيقدموه، ويبطلوا إمامة من سواه ويسقطوه، فإن كان قد عقد لهم في وقت واحد سقطت إمامتهم [ كلهم، فأباحوا بهذا ترك الناس في هذه ] المهلة (3) بغير إمام، وربما تراخت وطالت واضطرب فيها أمر الأمة، وضاعت وحدثت أمور لا مدبر لها، وتولدت مضارا عامة لا مصلح لفاسدها.

وقيل لهم على (4) هذا الرأي: لم لا يصبر (5) أصحاب السقيفة عن المبادرة بالعقد لإمام، والمسارعة التي انفردوا بها عن الأنام ريثما يفرغ بنو هاشم من تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) (6) ومواراته، وقضاء مفترض حقه في مراعاته، حتى إذا

____________

(1) في " ش ": عن.

(2) في " ش ": إن.

(3) في " ش ": المدة.

(4) في " ش ": مع.

(5) في " ح ": لو لم يصبر.

(6) في " ح ": تجهز النبي (صلى الله عليه وآله).


الصفحة 48
انتجزت هذه الحال حضروا معهم العقد فشاركوهم في الرأي والأمر، فإنهم إن لم يكونوا أخص بهذا الأمر [ منهم ] فهم فيه شركاءهم، ونصيبهم منه على أقل الوجوه نصيبهم، فقالوا: إنما فعلوا ذلك مبادرة بالأمر الذي يخشى فواته، ويخاف المضرة بتأخيره، مع العلم العام بأنهم ما اضطروا في ذلك الوقت إلى هذا البدار، ولم تختلف الكلمة لولا ما فعلوه اختلافا يعظم به المضار، ولا قصدهم من الأعداء قاصد، ولا أحاط بهم عدو معاند، فما هذه العجلة والبدار، مع ما حكيناه عنهم في شرائط الاختيار، لولا أن القوم اغتنموا الفرصة فانتهزوها، وبادروا المكنة فاختلسوها، وإن مصوبتهم ناقضوا فعلهم، وناصريهم (1) أوضحوا زللهم [، مع أن رأيهم في الاختيار وما ساقهم إليه أحكام التقية في هذا الزمان المخلة بنصبة الإمام، قد أداهم إلى إهمال أمر الأمة وتركهم بغير إمام ].

ومن عجيب أمرهم: قولهم: إن اختيار الأمة إلى العلماء، وأن الجماعة [ التي ] تختارهم [ من ] (2) الذين لا يغلطون في اختيارهم [ ولا يخطئون في أخبارهم ]، ويعلمون مع هذا أن أبا بكر اختاره أبو عبيدة [ بن الجراح وعمر بن الخطاب ]، وأن عمر اختاره أبو بكر، وأن عثمان اختاره عبد الرحمن (3)، وليس فيهم من حصل [ في اختياره ] الشرط الذي ذكروا.

____________

(1) في " ش ": وناصبيهم.

(2) أضفناه لاقتضاء السياق.

(3) في " ش ": اختاره ابن عوف.


الصفحة 49

الفصل الرابع
[ في أغلاطهم في اختيار أبي بكر ]


ومن عجيب أمرهم: أنهم قصدوا إلى رجل أمر الله بتأخيره، ولم يره أهلا للنيابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تأدية تسع آيات من سورة براءة إلى أهل مكة، وهم بعض الأمة، [ هذا ] ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حي موجود مع قوله (صلى الله عليه وآله): " المؤمنون أكفاء تتساوى دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم " (1)، فلا يراه الله تعالى مع ذلك أهلا لتأدية ذمة، ولا منفذ الأمر فيه مصلحة للأمة، وعزله عن جيش ظهر فيه [ غوله و ] عجزه، ومنعه من سكنى (2) المسجد وسد بابه، وأخره عن الصلاة التي قدمه بلال إليها بأمر عائشة ابنته، فقدموه بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) رئيسا على جميع أمته، وردوا إليه أحكام ملته، حيث يكون [ تتميم ] تنفيذ الأمم في يديه، وإقامة حدود الشريعة مردودة كلها إليه، ويكون القائم مقام خير خلق الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمنفذ لشرعه، إن هذا لشئ عجيب، يحار فيه عقل [ الحازم ] اللبيب!

____________

(1) سنن النسائي: 8 / 24. المطالب العالية: 1 / 444، ح 1486. كنز العمال: 1 / 93، ح 403.

(2) في " ح ": ومنعه سكن.


الصفحة 50
ومن عجيب أمرهم: اعتقادهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر الناس بأن يختاروا لأنفسهم إذا اجتمعوا إماما للصلاة، ويروون عنه أنه قال: " اختاروا أئمتكم فإنهم وفدكم (1) إلى الله عز وجل " (2).

وقال: " يؤمكم أقرؤكم " (3).

وفي خبر آخر: قالوا له: فإن كانوا في القراءة سواء؟ قال: " فأفقههم (4) وصاحب المسجد أولى بمسجده " (5).

ثم يروون مع ذلك أن من الواجب تقديم أبي بكر على أمير المؤمنين (عليه السلام) إماما، ويعتقدون أنه أولى منه بالتقديم على الناس في الصلاة مع علمهم بأن أبا بكر لم يكن حافظا لكتاب الله وأن أمير المؤمنين كان حافظا [ له ] بغير خلاف، ولم يكن أبو بكر فقيها وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) أفقه منه ومن جميع الأمة بغير خلاف، ومع علمهم بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سد جميع (6) أبواب الصحابة التي كانت إلى المسجد (7) حتى سد باب عمه العباس (رحمه الله) وترك باب علي (عليه السلام)، وقال: " إن الله تعالى أمر

____________

(1) في " ش ": وفودكم.

(2) المعجم الكبير: 20 / 328، ح 777. مجمع الزوائد: 2 / 64.

(3) سنن أبي داود: 1 / 159 - 160، ح 585. السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 125.

(4) في " ش ": فأفهمهم. وروي كلامه (صلى الله عليه وآله) هذا بعدة ألفاظ، منها: فأعلمهم بالسنة، فأقدمهم هجرة، فأقدمهم قراءة، فأقدمهم سنا...

انظر: صحيح مسلم: 1 / 465، ح 290 و 291. سنن أبي داود: 1 / 159، ح 582 - 584.

المعجم الكبير: 17 / 218 - 225، ح 600 - 621.

(5) دعائم الإسلام: 1 / 152. الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): 14. مستدرك الوسائل:

6 / 475، ح 2 و 4.

(6) زاد في " ش ": الأبواب إلا باب علي (عليه السلام).

(7) في " ش ": للمسجد.


الصفحة 51
موسى بن عمران أن يتخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلا هو (1) وهارون وابناه شبر وشبير، وأنه أمرني [ أن ] أتخذ بيتا طهرا لا يجنب فيه إلا أنا وعلي وابناه الحسن والحسين (عليهم السلام) " (2)، فاجتمعت الخصال الموجبة لتقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) إماما في الصلاة، فلم يختاروه (3)، وكان الصواب عندهم أن يؤخروه، وعدمها كلها أبو بكر فاختاروه وقدموه، إن هذا لهو الرأي المعكوس!

ومن العجب: أن يردوا الأمر والنهي والحل والعقد وتنفيذ أحكام الشرع (4) وإقامة الحدود في الخلق إلى من [ قد ] عرفوا ضعف فهمه، وعدم فقهه وعلمه، وفساد حفظه، وقلة تيقظه، ومن يقر بذلك على نفسه، ويعترف بكثرة زلله وخلله وقلة علمه، وبقوله (5) على رؤوس الأشهاد: " وليتكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني، فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني مغضبا فتجنبوني، لا أوثر في أشعاركم و [ لا ] أبشاركم " (6)، ثم يسأل عن الكلالة، فلا يعلمها، وعن الأب فلا يفهمه، والفقه فلا يخبره، والقرآن فلم يكن يحفظه، والشجاعة ففي معزل عنها، والرئاسة فليس من أهلها، ومن إذا كشفت أحواله، وتتبعت أفعاله، وجدت (7) ما ذكرناه بعض صفاته، فيقدم على الكافة، وتجعل يده منبسطة على جميع أهل القبلة، ويقال

____________

(1) في " ش ": أنت.

(2) الدر المنثور: 4 / 383.

(3) في " ش ": يختاروه.

(4) في " ش ": الأحكام الشرعية.

(5) في " ش ": إنه يقول.

(6) تاريخ الطبري: 3 / 224. شرح نهج البلاغة: 17 / 110.

(7) في " ش ": وجد.


الصفحة 52
[ له ]: أنت خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويؤخرون من قد عرفوا فائض فضله وكماله، وعظم علمه (1)، وتقدم سبقه في جهاده ونصرته، وحسن أثره، وشريف أهله (2)، ومشتهر زهده، وباهر آياته، وبديع بيناته، ومن هو قيم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخوه، بل القائم مقام نفسه، حسب ما شهد به كتاب الله تعالى، ومن هو أحب الخلق إلى الله تعالى، ومن افتقرت إليه الكافة ولم يفتقر [ هو ] إلى أحد من الأمة، فيجعل هذا رعية مؤخرا تابعا للناقص في خلال الخير كلها!

إن هذا رأي عجيب، واختيار طريف (3)، وفيه تقول فاطمة البتول، ابنة السيد الرسول (صلى الله عليه وآله): " وإن تعجب (4) فقد أعجبك الحادث، في أي طريق سلكوا؟ وبأي عروة تمسكوا؟ استبدلوا والله الذنابي بالقوادم (5)، والعجز بالكاهل، فقبحا لقوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ألا إنهم هم الأخسرون ولكن لا يعلمون " (6).

ومن العجب: أن يجتمعوا في السقيفة (7) لطلب الخلافة فتحتج الأنصار بأنها [ هي التي ] تستحقها بنصرتها للنبي (صلى الله عليه وآله)، ويحتج المهاجرون بقربهم منه، وليس فيهم من يذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لم يلحقه الأنصار في نصرته، ولا تدانيه قريش في قرابته (8)!

____________

(1) في " ح ": فائض علمه وفضله، وكمال علمه، وعظم عمله.

(2) في " ح ": فضله.

(3) في " ش ": ظريف.

(4) في " ش ": فإن تتعجب.

(5) الذنابي من الناس: السفلة والأتباع.

(6) معاني الأخبار: 355. بحار الأنوار: 43 / 158.

(7) في " ش ": ومن العجيب: أن يجتمعوا تحت السقيفة.

(8) في " ح ": لا يلحقه الأنصاري في نصرة، ولا يدانيه القريشي في قرابة.