قال سعد: فأحتلت لدفع هذه (3) المسألة عني خوفا من الإلزام، وحذرا من أني إن أقررت له بطواعيتهما (4) في الاسلام احتج بأن بدء النفاق ونشوءه في القلب لا يكون إلا عند هبوب روائح القهر والغلبة، وإظهار اليأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد له قلبه، نحو قول الله (عز وجل): * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (5).
وإن قلت: أسلما كرها، كان يقصدني (6) بالطعن، إذ لم يكن ثمة سيوف منتضاة كانت تريهما البأس.
قال سعد: فصدرت عنه مزورا (7) قد انتفخت أحشائي من الغضب، وتقطع كبدي من الكرب، وكنت قد اتخذت طومارا (8)، وأثبت فيه نيفا وأربعين مسألة من صعاب المسائل التي لم أجد لها مجيبا، على أن أسأل عنها خير أهل بلدي أحمد بن إسحاق صاحب مولانا أبي محمد (عليه السلام)، فارتحلت خلفه، وقد كان خرج قاصدا نحو مولاي بسر من رأى، فلحقته في بعض المناهل، فلما تصافحنا قال: لخير لحاقك بي.
قلت: الشوق، ثم العادة في الأسئلة (9).
____________
(1) في " م، ط ": الشرك.
(2) في " ع، م ": يستران.
(3) (هذه) ليس في " ع، م ".
(4) في " ط ": بطوعهما، وفي " م ": طوعيتهما.
(5) غافر 40: 84 و 85.
(6) في " ع ": كرها تقصدني.
(7) في " ع، م ": عنه من وراء، الازورار عن الشئ: العدول عنه.
(8) أي صحيفة.
(9) في " ع، م ": الاسولة.
فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيدنا (عليه السلام)، فاستأذنا فخرج إلينا الإذن بالدخول عليه، وكان على عاتق أحمد بن إسحاق جراب قد غطاه بكساء طبري، فيه ستون ومائة صرد من الدنانير والدراهم، على كل صرة ختم (3) صاحبها.
قال سعد: فما شبهت مولانا أبا محمد (عليه السلام) حين غشينا نور وجهه إلا ببدر قد استوفى من لياليه أربعا بعد عشر، وعلى فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري (4) في الخلقة والمنظر، على رأسه فرق بين وفرتين، كأنه ألف بين واوين، وبين يدي مولانا (عليه السلام) رمانة ذهبية (5) تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركبة عليها، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء أهل البصرة، وبيده قلم، إذا أراد أن يسطر به على البياض قبض الغلام على أصابعه، وكان مولانا (عليه السلام) يدحرج الرمانة بين يديه، ويشغله (6) بردها لئلا يصده عن كتبة (7)، ما أراد (8) فسلمنا عليه، فألطف في
____________
(1) في " ع، م ": عن.
(2) في " ع، م ": التوحيد.
(3) في " ع، م ": اسم.
(4) المشتري: من أكبر الكواكب السيارة.
(5) في " م " ذهب.
(6) في " ع، م ": يغفله.
(7) في " ط ": كتب.
(8) فيه غرابة من حيث قبض الغلام (عليه السلام) على أصابع أبيه أبي محمد (عليه السلام) وهكذا وجود رمانة من ذهب يلعب بها لئلا يصده عن الكتابة، وقد روى في الكافي 1: 248 / 15 عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر، فقال: إن صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب، وأقبل أبو الحسن موسى - وهو صغير - ومعه عناق مكية وهو يقول لها: اسجدي لربك، فأخذه أبو عبد الله (عليه السلام) وضمه إليه وقال: بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب.
فقال: يا مولاي، أيجوز لي أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نجسة، وأموال رجسة قد شيب أحلها بأحرمها؟!
فقال مولانا (عليه السلام): يا بن إسحاق، استخرج ما في الجراب ليميز بين الأحل منها والأحرم. فأول صرة بدأ أحمد بإخراجها قال الغلام: هذه لفلان بن فلان، من محلة كذا بقم، تشتمل على اثنين وستين دينارا، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت إرثا له من أبيه خمسة وأربعون دينارا، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر دينارا، وفيها من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير.
فقال: مولانا (عليه السلام): صدقت يا بني، دل الرجل على الحرام منها.
فقال (عليه السلام): فتش عن دينار رازي السكة، تاريخه سنة كذا، قد انطمس من إحدى صفحتيه نصف نقشة (1)، وقراضة أصلية وزنها ربع دينار، والعلة في تحريمها أن صاحب هذه الجملة وزن في شهر كذا من سنة كذا على حائك من جيرانه من الغزل منا وربع، فأنت على ذلك مدة، وفي انتهائها قيض لذلك الغزل سارق، فأخبر (2) الحائك صاحبه فكذبه، واسترد منه بدل ذلك منا ونصف غزلا أدق مما كان قد (3) دفعه إليه، واتخذ من ذلك ثوبا، كان هذا الدينار مع القراضة ثمنه. فلما فتح الصرة صادف في وسط الدنانير رقعة باسم من أخبر عنه، وبمقدارها على حسب ما قال (عليه السلام)، واستخرج الدينار والقراضة بتلك العلامة.
ثم أخرج صرة أخرى، فقال الغلام (عليه السلام): هذه لفلان بن فلان، من محلة كذا بقم، تشتمل على خمسين دينارا، لا يحل لنا مسها (4).
____________
(1) في " ع، م " صفحتيه فقر.
(2) في " ط " زيادة: به.
(3) (قد) ليس في " ع، م ".
(4) في " ط ": لمسها.
قال (عليه السلام): لأنها من ثمن حنطة حاف (1) صاحبها على أكاره في المقاسمة، وذلك أنه قبض حصته منها بكيل واف، وكال ما خص الأكار منها بكيل بخس.
فقال مولانا (عليه السلام): صدقت يا بني.
ثم قال: يا بن إسحاق، احملها بأجمعها لتردها، أو توصي بردها (2) على أربابها، فلا حاجة لنا في شئ منها، ائتنا بثوب العجوز. قال أحمد: وكان ذلك الثوب في حقيبة لي فنسيته.
فلما انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إلي مولانا أبو محمد (عليه السلام) فقال: ما جاء بك يا سعد؟
فقلت: شوقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.
فقال: والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟
قلت: على حالتها يا مولاي.
فقال: سل قرة عيني - وأومأ إلى الغلام - عما بدا لك منها.
فقلت: مولانا وابن مولانا، إنا روينا عنكم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة: " إنك قد أرهجت (3) على الاسلام وأهله بفتنتك (4)، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك، فإن كففت عني غربك (5) وإلا طلقتك ". ونساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كان طلاقهن بوفاته (6).
قال (عليه السلام): ما الطلاق؟
____________
(1) أي جار وظلم.
(2) (أو توصي بردها) ليس في " ع، م ".
(3) الرهج: الشغب والفتنة، وأرهج: أثار الغبار.
(4) في " ع ": بفئتك.
(5) أي حدتك " النهاية 3: 350 ".
(6) في " ع، م ": طلقهن وفاته.
قال: فإذا كان وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خلى سبيلهن، فلم لا يحل لهن الأزواج؟
قلت: لأن الله (عز وجل) حرم الأزواج (1) عليهن.
قال: كيف وقد خلى الموت سبيلهن؟
قلت فأخبرني يا بن مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكمه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال: إن الله (تقدس اسمه): عظم شأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، فخصهن بشرف الأمهات، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " يا أبا الحسن، إن هذا الشرف باق لهن ما دمن لله على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك، فأطلق لها في الأزواج، وأسقطها من شرف الأمهات ومن شرف أمومة المؤمنين ".
قلت: فأخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا أتت المرأة بها في أيام عدتها حل للزوج أن يخرجها من بيته.
قال: السحق دون الزنا، وإن المرأة إذا زنت، وأقيم عليها الحد، ليس لمن أرادها أن يمتنع (2) بعد ذلك من التزوج بها لأجل الحد (3)، وإذا سحقت وجب عليها الرجم، والرجم خزي، ومن قد أمر الله برجمه فقد أخزاه، ومن أخزاه فقد أبعده، ومن أبعده فليس لأحد أن يقربه.
قلت: فأخبرني يا بن رسول الله، عن أمر الله لنبيه موسى (عليه السلام) * (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) * (4) فإن فقهاء الفريقين يزعمون أنها كانت من إهاب (5) الميتة.
____________
(1) (الأزواج) ليس في " ع، م ".
(2) في " ع، م ": أراد أن يمنع.
(3) في " ع، م ": الحدود.
(4) طه 20: 12.
(5) الإهاب: الجلد.
وإن كانت صلاته غير جائزة فيهما فقد أوجب أن موسى (عليه السلام) لم يعرف الحلال من (1) الحرام، وعلم ما جاز فيه الصلاة وما لا يجوز، وهذا كفر.
قلت: فأخبرني يا بن مولاي، عن التأويل فيها.
قال: إن موسى (عليه السلام) ناجى ربه بالوادي المقدس، فقال: " يا رب، إني قد أخلصت لك المحبة مني، وغسلت قلبي عمن سواك " وكان شديد الحب لأهله، فقال الله (تعالى): * (فاخلع نعليك) * أي (2) انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة، وقلبك من الميل إلى سواي مغسولا.
قلت: فأخبرني - يا بن رسول الله - عن تأويل * (كهيعص) * (3).
قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، اطلع الله عليها عبده زكريا (عليه السلام)، ثم قصها على محمد (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن زكريا (عليه السلام) سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فعلمه إياها، فكان زكريا (عليه السلام) إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن سري عنه همه، وانجلى كربه، فإذا ذكر اسم الحسين (عليه السلام) خنقته العبرة، ووقعت عليه الهموم، فقال ذات يوم: " إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني، وتثور زفرتي؟ " فأنبأه الله عن قصته، فقال: * (كهيعص) * فالكاف: اسم كربلاء، والهاء: هلاك
____________
(1) في " ط ": و.
(2) في " ع، م ": و.
(3) مريم 19: 1.
فلما سمع بذلك زكريا (عليه السلام) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكانب ندبته (1): " إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده، إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة، إلهي أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما (2).
ثم كان يقول: " إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، واجعله وارثا رضيا، يوازي محله مني محل الحسين، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم أفجعني به، كما تفجع محمدا حبيبك بولده " فرزقه الله (تعالى) يحيى (عليه السلام)، وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر، وحمل الحسين (عليه السلام) كذلك، وله قصة طويلة.
قلت: فأخبرني يا مولاي، عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم.
قال: مصلح، أو مفسد؟
قلت: مصلح.
قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على الفساد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟
قلت: بلى.
قال: فهي العلة أوردها لك ببرهان ينقاد له (3) عقلك:
أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله (تعالى)، وأنزل عليهم علمه، وأيدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأمم، وأهدى إلى الاختيار منهم، مثل موسى وعيسى (عليهما السلام)، هل يجوز مع وفور عقلهما، وكمال علمهما، إذا هما بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق، وهما يظنان أنه مؤمن؟
قلت: لا.
____________
(1) في " ع، م ": أنته.
(2) في " ط ": بساحتها.
(3) في " ط ": ينقاد بذلك.
فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله (تعالى) لنبوته، واقعا على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور، وتكن الضمائر، وتنصرف عليه السرائر، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد، لما أرادوا أهل الصلاح.
ثم قال مولانا (عليه السلام): يا سعد، حين ادعى خصمك " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمة إلى الغار إلا علما منه أن الخلافة له من بعده، وأنه هو المقلد أمور التأويل، والملقى إليه أزمة الأمور، وعليه المعول في لم الشعث، وسد الخلل، وإقامة الحدود، وتسيير الجيوش (3) لفتح بلاد الكفر،، فكما أشفق على نبوته أشفق على خلافته، إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه، وإنما أبات عليا (عليه السلام) على فراشه لما لم يكن يكترث له ولم يحفل به، لاستثقاله إياه، وعلمه بأنه إن قتل لن يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها ".
فهلا نقضت دعواه بقولك: أليس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم، فكان لا يجد بدا من قوله: بلى.
فكنت تقول له حينئذ: أليس كما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الخلافة من
____________
(1) الأعراف 7: 155.
(2) البقرة 2: 55.
(3) في " ط " تسريب الجيوش، أي بعثها وتسييرها قطعة قطعة.
فلما قال: " أخبرني عن الصديق والفاروق أسلما طوعا، أو كرها؟ " لم لم تقل:
بل أسلما طمعا؟ وذلك أنهما كانا يجالسان اليهود، ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوراة، وفي سائر الكتب المتقدمة، الناطقة بالملاحم من حال إلى حال، من قصة محمد (صلى الله عليه وآله)، ومن عواقب أمره، وكانت اليهود تذكر أن لمحمد (صلى الله عليه وآله) تسلطا على العرب، كما كان لبخت نصر على بني إسرائيل، غير أنه كاذب في دعواه أنه نبي.
فأتيا محمدا (صلى الله عليه وآله) فساعداه على قول شهادة أن لا إله إلا الله، وتابعاه طمعا في أن ينال كل واحد منهما من جهته ولاية بلد، إذا استقامت أموره، واستتبت أحواله. فلما أيسا من ذلك تلثما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين، على أن يقتلوه، فدفع الله كيدهم، وردهم بغيظهم، لم ينالوا خيرا.
كما أتى طلحة والزبير عليا (عليه السلام) فبايعاه، وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلما أيسا نكثا بيعته وخرجا عليه، فصرع الله كل واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين.
قال سعد: ثم قام مولانا أبو محمد الحسن بن علي الهادي (عليه السلام) للصلاة مع الغلام، فانصرفت عنهما، وطلبت أحمد بن إسحاق، فاستقبلني باكيا، فقلت: ما أبطأك وأبكاك؟
فقال: قد فقدت الثوب الذي أرسلني مولاي لإحضاره.
قلت: لا عليك، فأخبره. فدخل عليه وانصرف من عنده متبسما، وهو يصلي على محمد وآل محمد، فقلت: ما الخبر؟
قال: وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا (عليه السلام)، يصلي عليه.
____________
(1) كمال الدين وتمام النعمة: 454 / 21، الخرائج والجرائح 1: 481 / 22 نحوه، الاحتجاج 2: 461، وقطعة منه في الثاقب في المناقب: 585 / 534، وتأويل الآيات 1: 299 / 1، ومدينة المعاجز: 594.
معرفة شيوخ الطائفة
الذين عرفوا صاحب الزمان (صلوات الله عليه)
493 / 97 - حدثني أبو المفضل (1) محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا أبو بكر محمد ابن جعفر بن محمد المقرئ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن سابور (2)، قال: حدثني الحسن بن محمد بن حيوان السراج القاسم، قال: حدثني أحمد بن الدينوري السراج، المكنى بأبي العباس، الملقب بآستاره، قال: انصرفت من أردبيل (3) إلى الدينور (4) أريد
____________
(1) في " م ": الفضل.
(2) في " ط ": شابور.
(3) في " ط ": إربيل: وهي مدينة في شمال العراق وهي " إربل " القديمة، ورد ذكرها في الكتابات السومرية، والعامة تنطقها بفتح أولها (أربيل). المنجد في الأعلام: 31. وأردبيل: من أشهر مدن أذربيجان في إيران. معجم البلدان 1: 145.
(4) الدينور: مدينة من أمهات مدن الجبال في كردستان إيران. المنجد في الأعلام: 296.
قال: فقلت: يا قوم، هذه حيرة، ولا نعرف الباب في هذا الوقت.
قال: فقالوا: إنما اخترناك لحمل هذا المال لما نعرف من ثقتك وكرمك. فاحمله (1) على ألا تخرجه من يديك إلا بحجة.
قال: فحمل إلي ذلك المال في صرر باسم رجل رجل، فحملت ذلك المال وخرجت، فلما وافيت قرميسين (2)، وكان أحمد بن الحسن مقيما بها، فصرت إليه مسلما، فلما لقيني استبشر بي، ثم أعطاني ألف دينار في كيس، وتخوت ثياب من ألوان معتمة (3)، لم أعرف ما فيها، ثم قال لي أحمد: احمل هذا معك، ولا تخرجه عن يدك إلا بحجة.
قال: فقبضت منه المال، والتخوت بما فيها من الثياب.
فلما وردت بغداد لم يكن لي همة غير البحث عمن أشير إليه بالنيابة (4)، فقيل لي: إن ها هنا رجلا يعرف بالباقطاني يدعي بالنيابة، وآخر يعرف بإسحاق الأحمر يدعي بالنيابة، وآخر يعرف بأبي جعفر العمري يدعي بالنيابة.
قال: فبدأت بالباقطاني، فصرت إليه، فوجدته شيخا بهيا، له مروءة ظاهرة، وفرس (5) عربي، وغلمان كثير، ويجتمع عنده الناس يتناظرون. قال: فدخلت إليه، وسلمت عليه، فرحب، وقرب، وبر، وسر. قال: فأطلت القعود إلى أن خرج أكثر الناس، قال: فسألني عن حاجتي، فعرفته أني رجل من أهل الدينور، ومعي شئ من المال، أحتاج أن أسلمه.
____________
(1) في " ع، م ": فاعمل.
(2) قرميسين: بلد معروف قرب الدينور، بين همذان وحلوان، على جادة العراق. مراصد الاطلاع 3: 1081.
(3) في " ع، م ": معكمة.
(4) في " ط ": بالبابية، وكذا في المواضع الآتية.
(5) في " ط ": فرش، وكذا في المواضع الآتية.
قال: فقلت: أريد حجة.
قال: تعود إلي في غد. قال: فعدت إليه من الغد، فلم يأت بحجة، وعدت إليه في اليوم الثالث فلم يأت بحجة.
قال: فصرت إلى إسحاق الأحمر، فوجدته شابا نظيفا، منزله أكبر من منزل الباقطاني، وفرسه ولباسه ومروءته أسرى (1)، وغلمانه أكثر من غلمانه، ويجتمع عنده من الناس أكثر مما يجتمعون عند الباقطاني. قال: فدخلت وسلمت، فرحب وقرب، قال: فصبرت إلى أن خف الناس، قال: فسألني عن حاجتي، فقلت له كما قلت للباقطاني، وعدت إليه بعد ثلاثة أيام، فلم يأت بحجة.
قال: فصرت إلى أبي جعفر العمري، فوجدته شيخا متواضعا، عليه مبطنة (2) بيضاء، قاعد على لبد (3)، في بيت صغير، ليس له غلمان، ولا له من المروة والفرس ما وجدت لغيره. قال: فسلمت، فرد جوابي، وأدناني، وبسط مني (4)، ثم سألني عن حالي، فعرفته أني وافيت من الجبل، وحملت مالا. قال: فقال: إن أحببت أن تصل هذا الشئ إلى من يجب أن يصل إليه يجب أن تخرج إلى سر من رأى، وتسأل دار ابن الرضا، وعن فلان بن فلان الوكيل - وكانت دار ابن الرضا عامرة بأهلها - فإنك تجد هناك ما تريد.
قال: فخرجت من عنده، ومضيت نحو سر من رأى، وصرت إلى دار ابن الرضا، وسألت عن الوكيل، فذكر البواب أنه مشتغل في الدار، وأنه يخرج آنفا، فقعدت على الباب أنتظر خروجه، فخرج بعد ساعة، فقمت وسلمت عليه، وأخذ بيدي إلى بيت كان له، وسألني عن حالي، وعما وردت له، فعرفته أني حملت شيئا من
____________
(1) سرا سروا: شرف، وسخا في مروءة، وأسرى: أي أكثر وأرفع شرفا وسخاء ومروءة.
(2) المبطنة: ما ينتطق به، وهي إزار له حجزة.
(3) اللبد: ضرب من البسط.
(4) بسط فلان من فلان: أزال من الاحتشام وعوامل الخجل.
" بسم الله الرحمن الرحيم، وافى أحمد بن محمد الدينوري، وحمل ستة عشر ألف دينار، وفي كذا وكذا صرة، فيها صرة فلان بن فلان كذا وكذا دينارا، وصرة فلان بن فلان كذا وكذا دينارا - إلى أن عد الصرر كلها - وصرة فلان بن فلان الذراع ستة عشر دينارا.
قال: فوسوس لي الشيطان أن سيدي أعلم بهذا مني، فما زلت أقرأ ذكر صرة صرة وذكر صاحبها، حتى أتيت عليها عند آخرها، ثم ذكر: " قد حمل من قرميسين من عند أحمد بن الحسن المادرائي أخي الصواف (3) كيسا فيه ألف دينار وكذا وكذا تختا ثيابا، منها ثوب فلأني، وثوب لونه كذا " حتى نسب الثياب إلى آخرها بأنسابها وألوانها.
قال: فحمدت الله وشكرته على ما من به علي من إزالة الشك عن قلبي، وأمر بتسليم جميع ما حملته إلى حيث ما يأمرني أبو جعفر العمري.
قال: فانصرفت إلى بغداد وصرت إلى أبي جعفر العمري. قال: وكان خروجي وانصرافي في ثلاثة أيام. قال: فلما بصر بي أبو جعفر العمري قال لي: لم لم تخرج؟
فقلت: يا سيدي، من سر من رأى انصرفت.
قال: فأنا أحدث أبا جعفر بهذا إذ وردت رقعة على أبي جعفر العمري من مولانا (صلوات الله عليه)، ومعها درج مثل الدرج الذي كان معي، فيه ذكر المال والثياب،
____________
(1) في " ع، م " زيادة: بعد أن مضى من الليل ربعه.
(2) الدرج: الورق الذي يكتب فيه.
(3) في " ط ": البادراني أخي الصراف.
قال: فحملت المال والثياب إلى منزل محمد بن أحمد بن جعفر القطان، وسلمتها، وخرجت إلى الحج.
فلما انصرفت إلى الدينور اجتمع عندي الناس، فأخرجت الدرج الذي أخرجه وكيل مولانا (صلوات الله عليه) إلي، وقرأته على القوم، فلما سمع ذكر الصرة باسم الذراع سقط مغشيا عليه، فما زلنا نعلله حتى أفاق، فلما أفاق سجد شكرا لله (عز وجل)، وقال: الحمد لله الذي من علينا بالهداية، الآن علمت أن الأرض لا تخلو من حجة، هذه الصرة دفعها - والله - إلي هذا الذراع، ولم يقف على ذلك إلا الله (عز وجل).
قال: فخرجت ولقيت بعد ذلك بدهر أبا الحسن المادرائي، وعرفته الخبر، وقرأت عليه الدرج، قال: يا سبحان الله! ما شككت في شئ، فلا تشكن في أن الله (عز وجل) لا يخلي أرضه من حجة.
إعلم أنه لما غزا أذكوتكين يزيد بن عبد (1) الله بسهرورد (2)، وظفر ببلاده، واحتوى على خزانته صار إلي رجل، وذكر أن يزيد بن عبد الله جعل الفرس الفلاني والسيف الفلاني في باب مولانا (عليه السلام).
قال: فجعلت أنقل خزائن يزيد بن عبد الله إلى أذكوتكين أولا فأولا، وكنت أدافع بالفرس والسيف، إلى أن لم يبق شئ غيرهما، وكنت أرجو أن أخلص ذلك لمولانا (عليه السلام)، فلما اشتد مطالبة اذكوتكين إياي ولم يمكنني مدافعته، جعلت في السيف والفرس في نفسي ألف دينار ووزنتها ودفعتها إلى الخازن، وقلت له: ادفع (3) هذه الدنانير في أوثق مكان، ولا تخرجن إلي في حال من الأحوال ولو اشتدت الحاجة
____________
(1) في " ع، م ": عبيد، وكذا في المواضع الآتية.
(2) سهرورد: بلدة قريبة من زنجان بالجبال. معجم البلدان 3: 289.
(3) في " م ": أرفع.
قال: فأنا قاعد في مجلسي بالري أبرم الأمور، وأوفي القصص، وآمر وأنهى، إذ دخل أبو الحسن الأسدي، وكان يتعاهدني الوقت بعد الوقت، وكنت أقضي حوائجه، فلما طال جلوسه وعلي بؤس كثير قلت له: ما حاجتك؟ قال: أحتاج منك إلى خلوة.
فأمرت الخازن أن يهيئ لنا مكانا من الخزانة، فدخلنا الخزانة، فأخرج إلي رقعة صغيرة من مولانا (عليه السلام)، فيها: " يا أحمد بن الحسن، الألف دينار التي لنا عندك، ثمن النصل والفرس، سلمها إلى أبي الحسن الأسدي ".
قال: فخررت لله (عز وجل) ساجدا شاكرا لما من به علي، وعرفت أنه خليفة الله حقا، لأنه لم يقف على هذا أحد غيري، فأضفت إلى ذلك المال ثلاثة آلاف دينار أخرى سرورا بما من الله علي بهذا الأمر.(1)
494 / 98 - وحدثني أبو المفضل (2) قال: حدثني محمد بن يعقوب، قال: كتب علي بن محمد السمري (3) يسأل الصاحب (عليه السلام) كفنا يتبين ما يكون من عنده، فورد: " إنك تحتاج إليه سنة إحدى وثمانين " فمات في الوقت الذي حده، وبعث إليه بالكفن قبل أن يموت بشهر (4).
495 / 99 - وقال علي بن محمد السمري (5): كتبت إليه أسأله عما عندك من العلوم، فوقع (عليه السلام): " علمنا على ثلاثة أوجه: ماض، وغابر، وحادث، أما الماضي فتفسير. وأما الغابر فموقوف، وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الاسماع، وهو أفضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) ".(6)
496 / 100 - أخبرني أبو المفضل محمد بن عبد الله، قال: أخبرني محمد بن
____________
(1) فرج المهموم: 239، مدينة المعاجز: 603 / 54، إلزام الناصب 1: 405.
(2) في " م ": الفضل.
(3) في " ع ": الصيمري.
(4) فرج المهموم: 247، مدينة المعاجز: 604 / 55.
(5) في " ع ": الصيمري.
(6) مدينة المعاجز: 605.
فكتبت إليه في الرابعة كتابا وسألته أن يدعو الله لي أن يرزقني ولدا، فأجابني وكتب بحوائجي، فكتب: " اللهم ارزقه ولدا ذكرا، تقر به عينيه، واجعل هذا الحمل الذي له وارثا " فورد الكتاب وأنا لا أعلم أن لي حملا، فدخلت إلى جاريتي فسألتها عن ذلك، فأخبرتني أن علتها قد ارتفعت، فولدت غلاما.(1)
497 / 101 - وحدثني أبو المفضل محمد بن عبد الله، قال: حدثني علي بن محمد المعروف بعلان الكليني، قال: حدثني محمد بن شاذان بن نعيم بنيشابور، قال: اجتمع عندي للغريم (2) - أطال الله بقاءه وعجل نصره - خمسمائة درهم، فنقصت عشرون درهما، وأنفت أن أبعث بها ناقصة هذا المقدار، قال: فأتممتها من عندي، وبعثت بها إلى محمد بن جعفر، ولم أكتب بما لي منها، فأنفذ إلي محمد بن جعفر القبض (3)، وفيه:
" وصلت خمسمائة درهم، ولك فيها عشرون درهما " (4).
498 / 102 - وعنه، قال: أخبرني محمد بن يعقوب، قال: حدثني إسحاق بن يعقوب، قال: سمعت الشيخ العمري محمد بن عثمان يقول: صحبت رجلا من أهل السواد، ومعه مال للغريم (عليه السلام) فأنفذه، فرد عليه، وقيل له: أخرج حق ولد عمك منه، وهو أربعمائة درهم، قال: فبقي الرجل باهتا متعجبا، فنظر في حساب المال، وكانت في يده ضيعة لولد عمه، قد كان رد عليهم بعضها، فإذا الذي فضل لهم من ذلك أربعمائة درهم، كما قال (عليه السلام)، فأخرجها وأنفذ الباقي، فقبل (5).
____________
(1) مدينة المعاجز: 605 / 56.
(2) المراد بالغريم هنا الصاحب (عليه السلام) لكونه طالبا للحق.
(3) في " ط ": الفضل.
(4) كمال الدين وتمام النعمة: 485 / 5، مدينة المعاجز: 605 / 57.
(5) في " ع، م ": فقسم.