فسكت، فقال أبو الحسن عليه السلام: وإن يكن القول قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا؟.
فقال، رحمك الله فأوجدني كيف هو وأين هو(2) قال: ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط، هو أين الأين وكان ولا أين، وهو كيف الكيف وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ،.
قال الرجل فإذا إنه لا شئ إذ لم يدرك بحاسة من الحواس فقال أبو الحسن عليه السلام: ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء(3).
قال الرجل: فأخبرني متى كان؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان.
قال الرجل: فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن عليه السلام: إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا.
____________
(1) في الكافي باب حدوث العالم وفي البحار باب إثبات الصانع وفي نسخة (و) كما هنا بنصب شرعا، وفي سائر النسخ: (ألسنا وإياكم شرع سواء) بالرفع وفي كليهما شئ بحسب القواعد إلا أن كثيرا منها على الأغلب، ويمكن التوجيه هنا بأن تكون الواو للمعية لا للعطف، وشرع بفتحتين يؤتي للواحد وغيره وللمذكر وغيره بمعنى سواء فذكره بعده تأكيد.
(2) قوله: (أوجدني) من الايجاد بمعنى الإفادة، كما في خبر أبي الأسود الدئلي أن الحرف ما أوجد معنى في غيره أي أفاد.
(3) في نسخة (ب) (أيقنا أنه ربنا خلاق الأشياء).
قال: فلم لا تدركه حاسة البصر؟ قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم، ثم هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.
قال: فحده لي، قال: لا حد له.
قال: ولم؟ قال: لأن كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متناقص، ولا متجزء، ولا متوهم.
قال الرجل: فأخبرني عن قولكم: إنه لطيف سميع بصير عليم حكيم أيكون السميع إلا بالأذن، والبصير إلا بالعين واللطيف إلا بعمل اليدين والحكيم إلا بالصنعة؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إن اللطيف منا على حد اتخاذ الصنعة، أو ما رأيت الرجل منا يتخذ شيئا يلطف في اتخاذه فيقال: ما ألطف فلانا، فكيف لا يقال للخالق الجليل:
لطيف إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا وركب في الحيوان أرواحا وخلق كل جنس متبائنا عن جنسه في الصورة لا يشبه بعضه بعضا، فكل له لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته، ثم نظرنا إلى الأشجار وحملها أطائبها المأكولة منها وغير المأكولة فقلنا عند ذلك: إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم، وقلنا: إنه سميع لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى أكبر مناه في برها وبحرها ولا تشتبه عليه لغاتها فقلنا عند ذلك: إنه سميع لا بإذن وقلنا: إنه بصير لا ببصر لأنه يرى أثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها فقلنا عند ذلك إنه بصير لا كبصر خلقه، قال:، فما برح حتى أسلم وفيه كلام غير هذا.
____________
(1) في البحار باب إثبات الصانع وفي نسخة (ب) و (د) (إن الحجاب على الخلق - الخ) وفي نسخة (و) و (ج) (إن الحجاب عن الخلق - الخ).
كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد، فقيل له:
تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة(1)، فقال: إن صاحبي كان مخلطا، كان يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر وما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه، فقدم مكة تمردا وإنكارا على من يحج، وكان يكره العلماء مساءلته إياهم ومجالسته لهم لخبث لسانه وفساد ضميره، فأتى أبا عبد الله عليه السلام ليسأله، فجلس إليه في جماعة من نظرائه.
فقال: يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولا بد لمن كان به سعال أن يسعل(2) أفتأذن لي في الكلام؟ فقال عليه السلام: تكلم بما شئت، فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر؟! إن من فكر في هذا وقدر علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نصر(3) فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليه يورده مناهل الهلكة، ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله له خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محل أنبيائه وقبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام، وأحق من أطيع فيما أمر
____________
(1) في نسخة (ب) و (د) (لم تركت مذهب صاحبك - الخ).
(2) السعال حركة للهواء تحدث في قصبة الرية تدفع الاخلاط المؤذية عنها، و الخبيث تجوز به عن الضيق الحادث في الصدر من الشبه الاعتقادية، وفي نسخة (ط) (ولا بد لمن كان به سؤال أن يسأل).
(3) في نسخة (ب) و (د) (استنه غير حكيم - الخ).
فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت يا أبا عبد الله فأحلت على غائب، فقال أبو عبد الله عليه السلام:
ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم.
فقال ابن أبي العوجاء: فهو في كل مكان؟ أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض، وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟! فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان واشتغل به مكان وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأما الله العظيم الشأن الملك الديان فلا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان، والذي بعثه بالآيات المحكمة، والبراهين الواضحة، وأيده بنصره، واختاره لتبليغ رسالته صدقنا قوله بأن ربه بعثه وكلمه، فقام عنه ابن أبي العوجاء وقال لأصحابه:
من ألقاني في بحر هذا؟!.
وفي رواية محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله: من ألقاني في بحر هذا، سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة(1) قالوا: ما كنت في مجلسه إلا حقيرا، قال: إنه ابن من حلق رؤوس من ترون(2) 5 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن بكر بن
____________
(1) الخمرة بالفتح بمعنى الخمر، وبالضم ألمها وصداعها ويأتي بمعان أخرى، و مراد اللعين أني سألتكم أن تأتوني إلى من أجادله وألعب به وأستهزئ به وأضحك عليه لا إلى من يحرقني ببلاغة بيانه وبرهانه.
(2) أي أمرهم بحلق الرؤوس في الحج فأطاعوه خضوعا لله فإنه كان من عادة السلطان إذا أراد تخضيع أحد أن يأمر بحلق رأسه، واليوم معمول في بعض البلاد، وهذا الحديث مذكور في الاحتجاج وأمالي الصدوق وعلل الشرائع، وليس فيها قوله: (والذي بعثه بالآيات إلى آخر الحديث) وكأنه جواب عن سؤال لم يذكر.
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا، ولكنك لم ترزق عقلا تنتفع به، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل، قال له الرجل: إني وجدت الله يقول: (فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا)(3) وقال أيضا: (نسوا الله فنسيهم)(4) وقال: (وما كان ربك نسيا)(5) فمرة يخبر أنه ينسى، ومرة يخبر أنه لا ينسى، فأني ذلك يا أمير المؤمنين.
قال: هات ما شككت فيه أيضا، قال: وأجد الله يقول: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا)(6) وقال واستنطقوا فقالوا والله ربنا ما كنا مشركين.(7) وقال: (يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا)(8) وقال: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار)(9) وقال: (لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد)(10) وقال: (نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم
____________
(1) في نسخة (ط) و (ج) (أحمد بن يعقوب عن مطر).
(2) في نسخة (و) و (ج) (عن عبد الله بن عبيد).
(3) الأعراف: 51.
(4) التوبة: 67.
(5) مريم: 64.
(6) النبأ: 38.
(7) الأنعام: 23، قوله: واستنطقوا أي بقوله تعالى في الآية: ((ثم نقول للذين أشركوا - الخ).
(8) العنكبوت: 25.
(9) ص: 65.
(10) ق: 28.
قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله عز وجل يقول: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)(2) ويقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)(3) ويقول: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى)(4) ويقول: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما)(5) ومن أدركه الأبصار فقد أحاط به العلم، فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
قال: هات أيضا ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله تبارك وتعالى يقول:
(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء)(6) وقال: (وكلم الله موسى تكليما)(7) وقال: (وناداهما ربهما)(8) وقال:
(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك)(9) وقال: ((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)(10) فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله جل ثناؤه يقول: (هل تعلم له سميا)(11) وقد يسمي الإنسان سميعا بصيرا وملكا وربا، فمرة يخبر بأن له أسامي كثيرة مشتركة، ومرة يقول: (هل تعلم له سميا) فأني ذلك يا أمير المؤمنين
____________
(1) يس: 65.
(2) القيامة: 23.
(3) الأنعام: 103.
(4) النجم: 14.
(5) طه: 110.
(6) الشورى: 51.
(7) النساء: 164.
(8) الأعراف: 22.
(9) الأحزاب: 59.
(10) المائدة: 67.
(11) مريم: 65.
قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وجدت الله تبارك وتعالى يقول:
(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء)(1). ويقول: (ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم)(2). ويقول: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)(3). كيف ينظر إليهم من يحجب عنهم(4) وأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
قال: هات أيضا ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله عز وجل يقول:
(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور)(5) وقال: (الرحمن على العرش استوى)(6) وقال: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)(7) وقال: (والظاهر والباطن))(8) وقال: (وهو معكم أين ما كنتم)(9) وقال: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(10) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
قال هات أيضا ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله جل ثناؤه يقول:
(وجاء ربك والملك صفا صفا)(11) وقال: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقنا كم أول مرة)(12) وقال: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)(13) وقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك بعض آيات ربك يوم
____________
(1) يونس: 61.
(2) آل عمران: 77.
(3) المطففين: 15.
(4) نظره تعالى إليهم يستفاد التزاما من قوله: (وما يعزب عن ربك).
(5) الملك: 16.
(6) طه: 5.
(7) الأنعام: 3.
(8) الحديد: 3.
(9) الحديد: 4.
(10) ق: 16.
(11) الفجر: 22.
(12) الأنعام: 94.
(13) البقرة: 210.
قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله جل جلاله يقول: (بل هم بلقاء ربهم كافرون)(2) وذكر المؤمنين فقال: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم و أنهم إليه راجعون)(3) وقال: (تحيتهم يوم يلقونه سلام)(4) وقال: (من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت)(5) وقال: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا)(6) فمرة يخبر أنهم يلقونه، ومرة أنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ومرة يقول: (ولا يحيطون بع علما) فأنى ذلك أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله تبارك وتعالى يقول:
(ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها)(7). وقال: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين)(8) وقال: (وتظنون بالله الظنونا)(9) فمرة يخبر أنهم يظنون ومرة يخبر أنهم يعلمون، والظن شك فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع.
قال: هات ما شككت فيه قال: وأجد الله تعالى يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا)(10) وقال: (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا)(11) وقال:
(فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب)(12) وقال: (والوزن يومئذ الحق
____________
(1) الأنعام: 158.
(2) السجدة: 10.
(3) البقرة: 46.
(4) الأحزاب: 44.
(5) العنكبوت: 5.
(6) الكهف: 110.
(7) الكهف: 53.
(8) النور: 25.
(9) الأحزاب: 10.
(10) الأنبياء: 47.
(11) الكهف: 105.
(12) المؤمن: 40.
قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله تعالى يقول: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون)(2) وقال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)(3) وقال: (توفته رسلنا وهم لا يفرطون)(4) وقال: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين)(5) وقال: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)(6) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع، وقد هلكت إن لم ترحمني وتشرح لي صدري فيما عسى أن يجري ذلك على يديك، فإن كان الرب تبارك وتعالى حقا والكتاب حقا والرسل حقا فقد هلكت وخسرت، وإن تكن الرسل باطلا فما علي بأس وقد نجوت.
فقال علي عليه السلام: قدوس ربنا قدوس تبارك وتعالى علوا كبيرا، نشهد أنه هو الدائم الذي لا يزول، ولا نشك فيه، وليس كمثله شئ وهو السميع البصير، وأن الكتاب حق والرسل حق، وأن الثواب والعقاب حق، فإن رزقت زيادة إيمان أو حرمته فإن ذلك بيد الله، إن شاء رزقك وإن شاء حرمك ذلك، ولكن سأعلمك ما شككت فيه، ولا قوة إلا بالله، فإن أراد الله بك خيرا أعلمك بعلمه و ثبتك، وإن يكن شرا ضللت وهلكت.
أما قوله: (نسوا الله فنسيهم) إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا، لم يعلموا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسسيين من الخير وكذلك تفسير قوله عز وجل: (فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين
____________
(1) الأعراف: 9.
(2) السجدة: 11.
(3) الزمر: 42.
(4) الأنعام: 61.
(5) النحل: 32.
(6) النحل: 28.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) وقوله: (والله ربنا ما كنا مشركين) وقوله: (يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) وقوله: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) وقوله: (لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد) وقوله: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، يجمع الله عز وجل الخلائق يومئذ في مواطن يتفرقون، ويكلم بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم لبعض أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا للرؤساء والاتباع(1) ويلعن أهل المعاصي الذين بدت منهم البغضاء وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا، المستكبرين والمستضعفين يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا(2) والكفر في هذه الآية البراءة، يقول: يبرء بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان (إني كفرت بما أشركتمون من قبل)(3) وقول إبراهيم خليل الرحمن: (كفرنا بكم)(4) يعني تبرأنا منكم، ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه فلو أن تلك
____________
(1) الرؤساء من أهل الحق. والاتباع مصدر عطف على الطاعة.
(2) قوله: (ويلعن أهل المعاصي) عطف على يجمع، وفاعله ضمير راجع إلى الله عز وجل، وأهل المعاصي مفعوله، والموصول صفة لأهل المعاصي، المستكبرين والمستضعفين صفتان بعد صفة، ويكفر ويلعن حالان للمفعول.
(3) إبراهيم عليه السلام: 23.
(4) الممتحنة: 4.
____________
(1) فصلت: 21.
(2) عبس: 36.
(3) النساء: 41.
(4) الإسراء: 79.
(5) من الأدالة بمعنى نزع الدولة من أحد وتحويله إلى آخر، يقال: أدال الله زيدا من عمرو أي نزع الدولة من عمرو وحولها إلى زيد، أو معنى رد الكره للمغلوب على الغالب، يقال: أدال الله بني فلان من عدوهم أي رد الكرة لهم على عدوهم، وفي نسخة (ط) (ويدال بعضهم لبعض).
فقال عليه السلام: وأما قوله عز وجل: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) وقوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وقوله: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى) وقوله (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) فأما قوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقا(1) فيذهب عنهم كل قذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم، ومنه يدخلون الجنة، فذلك قوله عز وجل من تسليم الملائكة عليهم: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)(2) فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله: (إلى ربها ناظرة) وإنما بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى. وأما قوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) فهو كما قال: (لا تدركه الأبصار) يعني لا تحيط به الأوهام (وهو يدرك الأبصار) يعني يحيط بها وهو اللطيف الخبير، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علوا كبيرا، وقد سأل موسى عليه السلام وجرى على لسانه من حمد الله عز وجل (رب أرني أنظر إليك)(3) فكانت مسألته تلك أمرا عظيما وسأل أمرا جسيما فعوقب، فقال الله تبارك وتعالى: لن تراني في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة(4) ولكن إن أردت أن تراني في الدنيا
____________
(1) في نسخة (ب) و (د) (ويشربون من آخر فتبيض وجوههم - الخ).
(2) الزمر: 73.
(3) الأعراف: 143.
(4) برؤية ثوابه أو رؤية عظمته وسلطانه أو رؤية القلب لأن الاجماع والآيات والأخبار وأدله العقل على أنه تعالى لا يرى رؤية العين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا في النوم ولا في اليقظة ولا في غير ذلك.
وأما قوله: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) لا يحيط الخلائق بالله عز وجل علما إذ هو تبارك وتعالى جعل على أبصار القلوب الغطاء، فلا فهم يناله بالكيف، ولا قلب يثبته بالحدود، فلا يصفه إلا كما وصف نفسه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، الأول والآخر والظاهر والباطن، الخالق البارئ المصور، خلق الأشياء
____________
(1) هذا بظاهره يعارض دلائلنا على أن الأنبياء لا يعاقبون لأنهم عليهم السلام معصومون فنرفع اليد عنه، إلا أن يراد بالعقوبة معناها اللغوي أي ما يقع عقيب شئ، فقد وقع صعقة موسى بعد تجلي الرب، كما كان يغشى على نبينا صلى الله عليه وآله حين تجلى الرب تعالى له على ما أشير إليه في الحديث الخامس عشر من الباب الثامن، وليس في نسخة (و) و (ج) و (د) (يعني ميتا فكان عقوبته الموت).
(2) في نسخة (ج) و (ط) و (ن) (يعني محمدا صلى الله عليه وآله حيث لا يتجاوزها - الخ) وفي حاشية نسخة (ب) و (د) (يعني محمدا صلى الله عليه وآله حين يرى ربه كان عنده سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها - الخ).
(3) في نسخة (ط) (رأى حين يرى ربه عند سدرة المنتهى جبرئيل عليه السلام في صورته - الخ).
(4) في نسخة (ب) و (د) (وذلك أن خلق جبرئيل عظيم من الروحانيين - الخ).
فقال عليه السلام: وأما قوله: (وما كان لبشر أن يكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) وقوله: (وكلم الله موسى تكليما) و قوله: ((وناداهما ربهما) وقوله: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) فأما قوله (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) فإنه ما ينبغي لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا وليس بكائن إلا من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، كذلك قال الله تبارك وتعالى علوا كبيرا، قد كان الرسول يوحى إليه من رسل السماء فيبلغ رسل السماء رسل الأرض، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل هل رأيت ربك(1) فقال جبرئيل: إن ربي لا يرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فمن أين تأخذ الوحي؟ فقال: آخذه من إسرافيل فقال: ومن أين يأخذه إسرافيل؟ قال: يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين، قال: فمن أين يأخذه ذلك الملك؟ قال: يقذف في قلبه قذفا، فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل، وكلام الله ليس بنحو واحد، منه ما كلم الله به الرسل، ومنه ما قذفه في قلوبهم، ومنه رؤيا يريها الرسل، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ، فهو كلام الله، فاكتف بما وصفت لك من كلام الله، فإن معنى كلام الله ليس بنحو واحد فإن منه ما يبلغ به رسل السماء رسل الأرض، قال: فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (هل تعلم له سميا) فإن تأويله هل تعلم أحدا اسمه الله غير الله تبارك وتعالى، فإياك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء، فإنه رب تنزيل يشبه كلام البشر وهو كلام الله، وتأويله لا يشبه كلام -
____________
(1) ليس سؤالا عن جهل، بل هو مقدمة لسؤاله عن كيفية أخذ الوحي نظير قول الحواريين لعيسى: (هل يستطيع ربك - الخ) بل السؤال الثاني أيضا ليس عن جهل.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذره في الأرض ولا في السماء، كذلك ربنا لا يعزب عنه شئ، وكيف يكون من خلق الأشياء لا يعلم ما خلق وهو الخلاق العليم. وأما قوله: (لا ينظر إليهم يوم القيمة) يخبر أنه لا يصيبهم بخير، وقد تقول العرب: والله ما ينظر إلينا فلان، وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير، فذلك النظر ههنا من الله تعالى إلى خلقه، فنظره إليهم رحمة منه لهم، وأما قوله: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) فإنما يعني بذلك يوم القيامة أنهم عن ثواب ربهم محجوبون قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) وقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) وقوله: (الرحمن على العرش استوى) وقوله: (وهو معكم أينما كنتم) وقوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فكذلك الله تبارك وتعالى سبوحا قدوسا، تعالى أن يجري منه ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف الخبير، وأجل وأكبر أن ينزل به شئ مما ينزل بخلقه وهو على العرش استوى علمه، شاهد لكل نجوى، وهو الوكيل على كل شئ، والميسر لكل شئ، والمدبر للأشياء كلها، تعالى الله عن أن يكون على عرشه علوا كبيرا.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) وقوله: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)، قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم
____________
(1) لم يرد به أنه من صفات ذاته لأن أخبارنا تنفي ذلك كالحديث الأول من الباب الحادي عشر، بل المراد أن كلامه ليس ككلامنا بالحركة والتردد في النفس والتقطيع بالمخارج.