فقال أبو عبد الله عليه السلام: بلى، فقال: أنا أخلق، فقال عليه السلام له: كيف تخلق؟!
فقال: أحدث في الموضع ثم ألبث عنه فيصير دواب، فأكون أنا الذي خلقتها، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أليس خالق الشئ يعرف كم خلقه؟ قال: بلى، قال: فتعرف الذكر منها من الأنثى، وتعرف كم عمرها؟! فسكت.
6 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني بإسناده رفع الحديث أن ابن أبي العوجاء حين كلمه أبو عبد الله عليه السلام عاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق، فقال أبو عبد الله عليه السلام:
كأنك جئت تعيد بعض ما كنا فيه، فقال: أردت ذاك يا ابن رسول الله فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما أعجب هذا، تنكر الله وتشهد أني ابن رسول الله، فقال: العادة تحملني على ذلك، فقال له العالم عليه السلام: فما يمنعك من الكلام؟ قال: إجلالا لك ومهابة ما ينطلق لساني بين يديك فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني هيبة قط مثل ما تداخلني من هيبتك، قال: يكون ذلك، ولكن أفتح عليك بسؤال(1) وأقبل عليه، فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟! فقال عبد الكريم بن أبي العوجاء أنا غير مصنوع، فقال له العالم عليه السلام: فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون فبقي عبد الكريم مليا لا يحير جوابا، وولع بخشبة كانت بين يديه(2) وهو يقول:
طويل عريض عميق قصير متحرك ساكن، كل ذلك صفة خلقه(3) فقال له العالم عليه السلام: فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك
____________
(1) في نسخة (ط) و (ن) (ولكن افتح عليك سؤالا).
(2) أي أخذ يتأملها.
(3) الضمير يرجع إلى خشبة، والتذكير باعتبار كونها شيئا، أي كل هذه الأمور صفة مخلوقية هذا الشئ، أو يرجع إلى الله، وهذا اعتراف بالفطرة، ولكن المعاندة منعته عن الاعتراف باللسان، فقال له العالم عليه السلام: إن اعترفت بهذا المقدار من صفة المخلوقية في هذه الخشبة فأنت أيضا مثلها في الاتصاف بهذه الأوصاف، فاجعل نفسك أيضا مصنوعا، والمصنوع لا بد له من صانع غير مصنوع.
ثم قال: يا عبد الكريم أزيدك وضوحا(2) أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر فقال لك قائل: هل في الكيس دينار؟ فنفيت كون الدينار في الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار وكنت غير عالم بصفته، هل كان لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟ قال: لا، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فالعالم أكبر و أطول وأعرض من الكيس، فلعل في العالم صنعة لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة فانقطع عبد الكريم، وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه، وبقي معه بعض.
فعاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام: سل عما شئت، فقال: ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال: إني ما وجدت شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا إذا ضم إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى(3) ولو كان قديما ما زال ولا حال لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الأولى(*) دخوله في العدم، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شئ واحد(4) فقال عبد الكريم: هبك
____________
(1) هذا مرتبط بقوله عليه السلام: (هبك علمت - الخ) والمعنى إنك يا عبد الكريم قائل بأن كل نوع من الأشياء على السواء لا تفاضل بين أفراده فيكف قدمتني وأخرت غيري بفضل العلم.
(2) في نسخة (ط) و (ن) (أنزيدك وضوحا).
(3) هذا إشارة إلى الدليل المشهور بين المتكلمين: (العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث) لأن القديم لا يحول ولا يزول عن حاله.
(*) لعلّ الصواب (في الأزل).
(4) هكذا في النسخ التي عندي، وفي البحار باب إثبات الصانع: (وفي كونه في الأزل دخوله في القدم، ولن تجتمع صفة الأزل والحدوث والقدم والعدم في شئ واحد).
وفي باب حدوث العالم من الكافي هكذا: (وفي كونه في الأزل دخوله في العدم ولن تجتمع صفة الأزل والعدم والحدوث والقدم في شئ واحد).
إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالما أخر كان لا شئ أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ولكن أجيبك من حيث قدرت أنك تلزمنا، ونقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضم شئ منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز التغير عليه خروجه من القدم كما بان في تغيره دخوله في الحدث، ليس لك وراءه شئ يا عبد الكريم، فانقطع وخزي.
فلما كان من العام القابل التقى معه في الحرم، فقال له بعض شيعته: إن ابن أبي العوجاء قد أسلم، فقال العالم عليه السلام: هو أعمى من ذلك لا يسلم، فلما بصر بالعالم عليه السلام قال: سيدي ومولاي، فقال له العالم عليه السلام: ما جاء بك إلى هذا الموضع؟
فقال: عادة الجسد وسنة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة، فقال العالم عليه السلام: أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم، فذهب يتكلم، فقال له: لا جدال في الحج ونفض رداءه من يده، وقال: إن يكن الأمر كما تقول - وليس كما تقول - نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول - و هو كما نقول - نجونا وهلكت، فأقبل عبد الكريم على من معه فقال: وجدت في قلبي حزازة(1) فردوني، فردوه ومات لا رحمه الله.
قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: من الدليل على حدث الأجسام(2) أنا وجدنا أنفسنا وسائر الأجسام(3) لا تنفك مما يحدث من الزيادة والنقصان وتجري عليها من الصنعة والتدبير ويعتورها من الصور والهيئات، وقد علمنا ضرورة أنا لم نصنعها ولا من هو من جنسنا وفي مثل حالنا صنعها، وليس يجوز في عقل، ولا يتصور في
____________
(1) في نسخة (ج) و (د) و (ه) و (ط) (حرارة).
(2) في نسخة (ب) و (ج) و (د) (من الدليل على حدث العالم).
(3) في نسخة (ب) و (ج) و (د) و (و) ((سائر أجسام العالم).
وسألت بعض أهل التوحيد والمعرفة عن الدليل على حدث الأجسام، فقال:
الدليل على حدث الأجسام أنها لا تخلو في وجودها من كون وجودها مضمن بوجوده، والكون هو المحاذاة في مكان دون مكان، ومتى وجد الجسم في محاذاة دون محاذاة مع جواز وجوده في محاذاة أخرى علم أنه لم يكن في تلك المحاذاة المخصوصة إلا لمعنى، وذلك المعنى محدث، فالجسم إذا محدث إذ لا ينفك من المحدث ولا يتقدمه.
ومن الدليل على أن الله تبارك وتعالى ليس بجسم أنه لا جسم إلا وله شبه إما موجود أو موهوم، وما له شبه من جهة من الجهات فمحدث بما دل على حدوث الأجسام، فلما كان الله عز وجل قديما ثبت أنه ليس بجسم. وشئ آخر: وهو أن قول القائل جسم سمة في حقيقة اللغة لما كان طويلا عريضا ذا أجزاء وأبعاض محتملا للزيادة(2) فإن كان القائل يقول: إن الله عز وجل جسم، يحقق هذا القول و
____________
(1) في نسخة (ب) و (و) (ولا مكن).
(2) في بعض النسخ (محتملا).
7 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا الحسن بن علي السكري قال: حدثنا محمد بن زكريا، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين عليهم السلام، قال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن للجسم ستة أحوال: الصحة والمرض والموت و الحياة والنوم واليقظة، وكذلك الروح فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكها، وصحتها يقينها، ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها، ومن الدليل على أن الأجسام محدثة(1) أن الأجسام لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة، ومتحركة أو ساكنة، والاجتماع والافتراق والحركة والسكون محدثة، فعلمنا أن الجسم محدث لحدوث ما لا ينفك منه ولا يتقدمه.
فإن قال قائل: ولم قلتم: إن الاجتماع والافتراق مبنيان وكذلك الحركة والسكون حتى زعمتم أن الجسم لا يخلو منهما؟ قيل له: الدليل على ذلك أنا نجد الجسم يجتمع بعد أن كان مفترقا، وقد كان يجوز أن يبقى مفترقا، فلو لم يكن قد حدث معنى كان لا يكون بأن يصير مجتمعا أولى من أن يبقى مفترقا على ما كان عليه، لأنه لم يحدث نفسه في هذا الوقت فيكون بحدوث نفسه ما صار مجتمعا(2) ولا بطلت في هذا الوقت فيكون لبطلانها، ولا يجوز أن يكون لبطلان معنى ما صار مجتمعا، ألا ترى أنه لو كان أنما يصير مجتمعا لبطلان معنى ومفترقا
____________
(1) هذا الكلام إلى آخر الباب من المصنف، قد أتى بالحديث في ضمن كلامه شاهدا.
(2) (ما) هذه مصدرية وكذا ما بعدها.
فإن قال قائل: فإذا قلتم: إن المجتمع إنما يصير مجتمعا لوجود الاجتماع ومفترقا لوجود الافتراق فما أنكرتم من أن يصير مجتمعا مفترقا لوجودهما فيه كما ألزمتم ذلك من يقول: إن المجتمع إنما يصير مجتمعا لانتفاء الافتراق و مفترقا لانتفاء الاجتماع، قيل له: إن الاجتماع والافتراق هما ضدان والأضداد تنضاد في الوجود فليس يجوز وجودهما في حال لتضادهما، وليس هذا حكمهما في النفي لأنه لا ينكر انتفاء الأضداد في حالة واحدة كما ينكر وجودها، فلهذا ما قلنا(2) إن الجسم لو كان مجتمعا لانتفاء الافتراق ومفترقا لانتفاء الاجتماع لوجب أن يصير مجتمعا مفترقا لانتفائهما، ألا ترى أنه قد ينتفي عن الأحمر السواد والبياض مع تضادهما وأنه لا يجوز وجودهما واجتماعهما في حال واحدة، فثبت أن انتفاء الأضداد لا ينكر في حالة واحدة كما ينكر وجودها، وأيضا فإن القائل بهذا القول قد أثبت الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وأوجب أن لا يجوز خلو الجسم منها لأنه إذا خلا منها يجب أن يكون مجتمعا مفترقا ومتحركا ساكنا إذ كان لخلوه منها ما يوصف بهذا الحكم، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الجسم لم يخل من هذه الحوادث يجب أن يكون محدثا، ويدل على ذلك أيضا أن الإنسان قد يؤمر بالاجتماع والافتراق والحركة والسكون ويفعل ذلك ويحمد به ويشكر عليه ويذم عليه إذا كان قبيحا، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يؤمر بالجسم ولا أن ينهى عنه ولا
____________
(1) أي المعاني الأربعة: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق.
(2) ما هذه موصولة، وقوله: (لهذا) خبر له مقدم عليه، وأن بالفتح بدل عن الموصول، وفي نسخة (ج) (فلهذا ما قلته - الخ).
فإن قال: فلم قلتم: إن الجسم لا يخلو من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ولم أنكرتم أن يكون قد خلا فيما لم يزل من ذلك؟ فلا يدل ذلك على حدوثه. قيل له: لو جاز أن يكون قد خلا فيما مضى من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون لجاز أن يخلو منها الآن ونحن نشاهده، فلما لم يجز أن يوجد أجسام غير مجتمعة ولا مفترقة علمنا أنها لم تخل فيما مضى.
فإن قال: ولم أنكرتم أن يكون قد خلا من ذلك فيما مضى وإن كان لا يجوز أن يخلو الآن منه؟ قيل له: إن الأزمنة والأمكنة لا تؤثران في هذه الباب، ألا ترى لو كان قائل قال: كنت أخلو من ذلك عام أول أو منذ عشرين سنة وإن ذلك سيمكنني بعد هذا الوقت أو يمكنني بالشأم دون العراق أو بالعراق دون الحجاز لكان عند أهل العقل مخبلا جاهلا، والمصدق له جاهل، فعلمنا أن الأزمنة و الأمكنة لا تؤثران في ذلك، وإذا لم يكن لها حكم ولا تأثير في هذا الباب فواجب أن يكون حكم الجسم فيما مضى وفيما يستقبل حكمه الآن، وإذا كان لا يجوز أن يخلو الجسم في هذا الوقت من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون علمنا أنه لم يخل من ذلك قط، وأنه لو خلا من ذلك فيما مضى كان لا ينكر أن يبقى على ما كان عليه إلى هذا الوقت، فكان لو أخبرنا مخبر عن بعض البلدان الغائبة أن فيها أجساما غير مجتمعة ولا مفترقة ولا متحركة ولا ساكنة أن نشك في ذلك ولا نأمن أن يكون صادقا، وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا القول، وأيضا فإن من أثبت الأجسام غير مجتمعة ولا مفترقة فقد أثبتها غير متقاربة بعضها عن بعض، ولا متباعدة بعضها عن بعض، وهذه صفة لا تعقل لأن الجسمين لا بد من أن يكون بينهما مسافة وبعد، أو لا يكون بينهما مسافة ولا بعد ولا سبيل إلى ثالث، فلو كان بينهما مسافة وبعد لكانا مفترقين ولو كان لا مسافة بينهما ولا بعد لوجب أن يكونا مجتمعين
فإن قال قائل: ولم قلتم: إن الأعراض محدثة ولم أنكرتم أن تكون قديمة مع الجسم لم تزل؟ قيل له: لأنا وجدنا المجتمع إذا فرق بطل منه الاجتماع وحدث له الافتراق، وكذلك المفترق إذا جمع بطل منه الافتراق وحدث له الاجتماع والقديم هو قديم لنفسه ولا يجوز عليه الحدوث والبطلان، فثبت أن الاجتماع والافتراق محدثان، وكذلك القول في سائر الأعراض، ألا ترى أنها تبطل بأضدادها ثم تحدث بعد ذلك، وما جاز عليه الحدوث والبطلان لا يكون إلا محدثا، وأيضا فإن الموجود القديم الذي لم يزل لا يحتاج في وجوده إلى موجد، فيعلم أن الوجود أولى به من العدم لأنه لو لم يكن الوجود أولى به من العدم لم يوجد إلا بموجد، وإذا كان ذلك كذلك علمنا أن القديم لا يجوز عليه البطلان إذا كان الوجود أولى به من العدم، وأن ما جاز عليه أن يبطل لا يكون قديما.
فإن قال: ولم قلتم: إن ما لم يتقدم المحدث يجب أن يكون محدثا؟ قيل له: لأن المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن، والقديم هو الموجود لم يزل، و الموجود لم يزل يجب أن يكون متقدما لما قد كان بعد أن لم يكن، وما لم يتقدم المحدث فحظه في الوجود حظ المحدث لأنه ليس له من التقدم إلا ما للمحدث، وإذا كان ذلك كذلك وكان المحدث بما له من الحظ في الوجود والتقدم لا يكون قديما بل يكون محدثا، فذلك ما شاركه في علته وساواه في الوجود ولم يتقدمه فواجب أن يكون محدثا.
فإن قال: أوليس الجسم لا يخلو من الأعراض ولا يجب أن يكون عرضا فما أنكرتم أن لا يخلو من الحوادث ولا يجب أن يكون محدثا؟ قيل له: إن وصفنا العرض بأنه عرض ليس هو من صفات التقدم والتأخر، إنما هو إخبار عن
فإن قال قائل: فإذا ثبت أن الجسم محدث فما الدليل على أن له محدثا؟
قيل له: لأنا وجدنا الحوادث كلها متعلقة بالمحدث. فإن قال: ولم قلتم: إن المحدثات إنما كانت متعلقة بالمحدث من حيث كانت محدثة؟ قيل: لأنها لو لم تكن محدثة لم تحتج إلى محدث، ألا ترى أنها لو كانت موجودة غير محدثة أو كانت معدومة لم يجز أن تكون متعلقة بالمحدث، وإذا كان ذلك كذلك فقد ثبت أن تعلقها بالمحدث إنما هو من حيث كانت محدثة، فوجب أن يكون حكم كل محدث حكمها في أنه يجب أن يكون له محدث، وهذه أدلة أهل التوحيد الموافقة للكتاب والآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.
43 - باب حديث ذعلب
1 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان وعلي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قالا: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان، قال: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثني محمد بن أبي السري، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن
____________
(1) أي عن أجناس الأعراض.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها و حضريها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم، فقام إليه رجل يقال له: ذعلب وكان ذرب اللسان، بليغا في الخطب، شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد رباه لم أره، قال: فكيف رأيته؟ صفه لنا؟ قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف
____________
(1) الرعد: 39، ظاهر كلامه عليه السلام أن علمه عليه السلام دون البداء، ولكن الآيات و الأخبار تدل على أنه شامل له، فلا بد من صرفه عن ظاهره، بل الظهور ممنوع.
خارج منها على غير مباينة، فوق كل شئ فلا يقال: شئ فوقه، وأمام كل شئ فلا يقال: له أمام، داخل في الأشياء لا كشئ في شئ داخل، وخارج منها لا كشئ من شئ خارج، فخر ذعلب مغشيا عليه، ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلى مثلها.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل عليهم الكتاب ولم يبعث إليهم نبي؟ قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتابا وبعث إليهم رسولا، حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها، فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه، فقالوا: أيها الملك دنست علينا ديننا وأهلكته فاخرج نطهرك ونقم عليك الحد، فقال لهم: اجتمعوا واسمعوا كلامي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت، وإلا فشأنكم، فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم وأمنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك، قال: أفليس قد زوج بنيه من بناته وبناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك، فمحا الله ما في صدروهم من العلم، ورفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب، والمنافقون أشد حالا منهم، قال الأشعث: والله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلى مثلها أبدا.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكئا على عصاه، فلم يزل يتخطى الناس حتى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين دلني على عمل أنا إذا عملته نجاني الله من النار، قال له: اسمع يا هذا ثم افهم ثم استيقن، قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، وبغني لا يبخل بماله على أهل
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فلم يقم إليه أحد، فحمد الله وأثنى عليه و صلى على نبيه صلى الله عليه وآله، ثم قال للحسن عليه السلام: يا حسن قم فاصعد المنبر فتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسن بن علي لا يحسن شيئا، قال الحسن عليه السلام: يا أبت كيف أصعد وأتكلم وأنت في الناس تسمع وترى، قال له: بأبي وأمي أواري نفسي عنك وأسمع وأرى وأنت لا تراني، فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله صلاة موجزة، ثم قال: أيها الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها وهل تدخل المدينة إلا من بابها، ثم نزل فوثب إليه علي عليه السلام فحمله وضمه إلى صدره، ثم قال للحسين عليه السلام: يا بني قم فاصعد المنبر وتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسين بن علي لا يبصر شيئا، وليكن كلامك تبعا لكلام أخيك، فصعد الحسين عليه السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله صلاة موجزة، ثم قال: معاشر الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: إن عليا هو مدينة هدى فمن دخلها نجا ومن تخلف عنها هلك، فوثب
2 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال: حدثنا محمد ابن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدثني الحسين بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن داهر قال: حدثني الحسين بن يحيى الكوفي، قال: حدثني قثم بن قتادة، عن عبد الله بن يونس، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له:
ذعلب ذرب اللسان، بليغ في الخطاب شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أراه، قال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شئ فلا يقال: شئ قبله، وبعد كل شئ فلا يقال: شئ بعده شائي الأشياء لا بهمة دراك لا بخديعة، هو في الأشياء كلها غير متمازح بها ولا بائن عنها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، ولا تصحبه الأوقات، ولا تحده الصفات، ولا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجسو بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها، وذلك قوله عز وجل: (ومن كل شئ خلقنا زوجين
ثم أنشأ يقول:
(ولم يزل سيدي بالحمد معروفا | ولم يزل سيدي بالجود موصوفا) |
(وكنت(2) إذ ليس نور يستضاء به | ولا ظلام على الآفاق معكوفا) |
(وربنا بخلاف الخلق كلهم | وكل ما كان في الأوهام موصوفا) |
(فمن يرده على التشبيه ممتثلا | يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا) |
(وفي المعارج يلقى موج قدرته | موجا يعارض طرف الروح مكفوفا) |
(فاترك أخا جدل في الدين منعمقا | قد باشر الشك فيه الرأي مأووفا) |
(واصحب أخا ثقة حبا لسيده | وبالكرامات من مولاه محفوفا) |
(أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا | وفي السماء جميل الحال معروفا) |
قال: فخر ذعلب مغشيا عليه، ثم أفاق، وقال: ما سمعت بهذا الكلام، ولا أعود إلى شئ من ذلك.
قال مصنف هذا الكتاب: في هذا الخبر ألفاظ قد ذكرها الرضا عليه السلام في خطبته(3) وهذا تصديق قولنا في الأئمة عليهم السلام إن علم كل واحد منهم مأخوذ عن أبيه حتى يتصل ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله.
44 - باب حديث سبخت اليهودي
1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن
____________
(1) الذاريات: 49.
(2) في البحار وفي نسخة (ج) و (و) (وكان - الخ).
(3) هي الحديث الثاني في الباب الثاني، ورواه الكليني في باب جوامع التوحيد من الكافي، ومذكور في نهج البلاغة مع زيادات.
أين ربك؟ فقال: هو في كل مكان وليس هو في شئ من المكان بمحدود، قال:
فكيف هو؟ فقال: وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق الله، والله لا يوصف بخلقه، قال: فمن يعلم أنك نبي؟(2) قال: فما بقي حوله حجر ولا مدر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين: يا شيخ(3) إنه رسول الله، فقال سبخت: تالله ما رأيت كاليوم أبين(4) ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
2 - حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي، قال: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح النسوي، قال: حدثني أحمد بن جعفر العقيلي بقهستان، قال: حدثني أحمد بن علي البلخي، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الخزاعي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الأزهري، عن أبيه، عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين عليهم السلام، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في بعض خطبه: من الذي حضر سبخت الفارسي
____________
(1) اختلف في ضبط هذه اللفظة كثيرا على ما ذيل البحار المطبوع جديدا في الجزء الثالث في الباب الرابع عشر، وفي حاشية نسخة (و) بضم السين المهملة والباء الموحدة المشددة المفتوحة والخاء المعجمة الساكنة والتاء المفتوحة لقب أبي عبيدة. وقال بعض الأفاضل: (الأصح بالخاء المعجمة وبخت كلمة كانت تدخل في أعلام أهل الكتاب وفيهم صهار بخت أي چهار بخت وبختيشوع وسبخت مركب من بخت وسه بمعنى الثلاثة).
(2) في حاشية نسخة (ط) و (ن) (فمن أين يعلم أنك نبي؟).
(3) في حاشية نسخة (ب) (ياسبخت)، والصواب (ياسبخ)) مرخما.
(4) في حاشية نسخة (ب) (ما رأيت كاليوم اثنين) والمراد بهما جوابه صلى الله عليه وآله وتكلم الأشياء حوله.