الصفحة 416
يشاء، وقال الله عز وجل: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين)(1).

15 - حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أحمد بن الفضل بن المغيرة(2) قال: حدثنا منصور بن عبد الله بن إبراهيم الإصبهاني، قال: حدثنا علي ابن عبد الله(3)، قال: حدثنا أبو شعيب المحاملي(4) عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن المعرفة أهي مكتسبة؟ فقال: لا، فقيل له: فمن صنع الله عز وجل ومن عطائه هي؟ قال: نعم، وليس للعباد فيها صنع، ولهم اكتساب الأعمال، وقال عليه السلام: إن أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين(5). ومعنى ذلك أن الله تبارك وتعالى لم يزل عالما بمقاديرها قبل كونها.

16 - حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن حمدان بن سليمان، قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام أسأله عن أفعال العباد أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فكتب عليه السلام:

أفعال العباد مقدرة في علم الله عز وجل قبل خلق العباد بألفي عام.

17 - حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد الإصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث النخعي القاضي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من عمل بما علم كفي ما لم يعلم.

____________

(1) الزخرف: 36.

(2) في نسخة (د) و (ب) و (ط) (أحمد بن المفضل بن المغيرة).

(3) في نسخة (ج) و (ط) (علي بن إبراهيم).

(4) في نسخه (ط) (حدثنا شعيب المحاملي) وهو ابن أبي شعيب المحاملي المعروف، واسمه صالح بن خالد.

(5) قد مر بيان لهذا الكلام ذيل الحديث الخامس من الباب السابق.


الصفحة 417

65 - باب ذكر مجلس الرضا علي بن موسى عليهما السلام
مع أهل الأديان وأصحاب المقالات مثل الجاثليق
ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر
وما كلم به عمران الصابئ في التوحيد عند المأمون


1 - حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه القمي ثم الإيلاقي رضي الله عنه، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة القمي، قال: حدثني أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي، قال: حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي ثم الهاشمي، يقول: لما قدم علي بن موسى الرضا عليهما السلام، إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق و رأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر وأصحاب زردهشت وقسطاس الرومي(1) والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم

____________

(1) قد مضى تفسير الجاثليق في أول الباب السابع والثلاثين ص 270. ورأس الجالوت كأنه اسم لصاحب الرئاسة الدينية اليهودية، وكونه علما للشخص محتمل. والأقوال في تفسير الصابئين كثيرة، قال في مجمع البحرين: وفي حديث الصادق عليه السلام: سمى الصابئون لأنهم صبوا إلى تعطيل الأنبياء والرسل والشرائع وقالوا: كل ما جاؤوا به باطل، فجحدوا توحيد الله ونبوة الأنبياء ورسالة المرسلين ووصية الأوصياء، فهم بلا شريعة ولا كتاب ولا رسول.

ويظهر من مقالات عمران الصابي الآتي احتجاجه مع الرضا عليه السلام هذا التفسير. والهربذ كالزبرج صاحب الرئاسة الدينية المجوسية، قال في أقرب الموارد: الهربذة قومة بيت النار للهند وهم البراهمة، وقيل: عظماء الهند، وقيل: علماؤهم، وقيل: خدم نار المجوس، الواحد (هربذ) فارسية. وأصحاب زردهشت فرقه من المجوس، وهو زردهشت بن يورشب ظهر في زمان كشتاسب بن لهراسب، وأبوه كان من آذربيجان، وأمه من الري، واسمها دغدويه، كذا في الملل والنحل للشهرستاني، وأكثر المجوس اليوم بل كلهم ينتسبون إليه، وفي بعض النسخ: (زرهشت) بحذف الدال، وفي الملل والنحل وبعض المؤلفات: زردشت بحذف الهاء كما يتلفظ اليوم. وقسطاس بالقاف كما في الكتاب، وفي البحار وحاشية نسخة (ب) (نسطاس) بالنون، ونقل المجلسي - رحمه الله - عن الفيروزآبادي: نسطاس بكسر النون علم، وبالرومية: العالم بالطب.


الصفحة 418
المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم علي، ففعل، فرحب بهم المأمون، ثم قال لهم: إني إنما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي، فإذا كان بكره فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولى أمر أبي الحسن عليه السلام فقال: يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك إنه اجتمع إلي أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم(1) وإن كرهت كلامهم فلا تتجشم(2) وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا، فقال أبو الحسن عليه السلام: أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت، وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة(3) فما عندك في جمع ابن عمك علينا

____________

(1) ((فرأيك) مبتدء و (في البكور علينا) خبره، أي أفرأيك يكون في البكور علينا، أو خبره محذوف أي فما رأيك - الخ.

(2) في نسخة (ج) (وإن كرهت فلا تحتشم)، وفي نسخة (و) و (ن) (وإن كرهت ذلك فلا تتجشم).

(3) الرقة في كل موضع يراد بها معنى، فيقال مثلا: رقة القلب ويراد بها الرحمة، ورقة الوجه ويراد بها الحياء، ورقة الكلام ويراد عدم الفدفدة فيه، والظاهر أن مراده عليه السلام حيث أضاف الرقة إلى الإنسان هو رقة الجهة الإنسانية، وهي سرعة الفهم وجودته و إصابة الحدس وصفاء الذهن وعمق الفكر وحسن التفكر وكمال العقل، وغير غليظة خبر في اللفظ، وفي المعنى صفة مفيدة للكمال، أي للعراقي رقه رقيقه، كما يقال: ليل لائل أي كامل الاظلام، ونور نير أي كامل في النورية، وجمال جميل أي كامل في الجمالية، ولا يبعد أن يراد بها الروح، فإن للإنسان لطافة هي روحه وكثافة هي بدنه، أي روح العراقي غير غليظة لا تقف دون ما يرد عليه من المسائل بل تلج فيه وتخرج منه بسهولة وتكشف حق الأمر وحقيقة الحال.


الصفحة 419
أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس والله ما بني، فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء، وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن احتججت عليهم أن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته، وإن قلت:

إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته، ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك، قال: فتبسم عليه السلام ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟(1) قلت: لا والله ما خفت عليك قط وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله، فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون، قلت: نعم، قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمك ينتظرك، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه، فقال له الرضا عليه السلام: تقدمني فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم توضأ عليه السلام وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله

____________

(1) في العيون (أفتخاف أن يقطعوا علي حجتي).


الصفحة 420
ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين، والقواد حضور، فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس، فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة.

ثم التفت إلى جاثليق، فقال: يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى - ابن جعفر وهو من ولد فاطمة بنت نبينا، وابن علي بن أبي طالب عليهم السلام فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه، فقال الجاثليق، يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلا يحتج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أو من به. فقال له الرضا عليه السلام: يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟! قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم والله أقر به على رغم أنفي، فقال له الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك وافهم الجواب، قال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى عليه السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا عليه السلام: أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقر به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم و بكتابه ولم يبشر به أمته، قال الجاثليق: أليس إنما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟

قال: بلى، قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا، قال الرضا عليه السلام: الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى بن مريم، قال الجاثليق:

ومن هذا العدل؟ سمه لي، قال: ما تقول في يوحنا الديلمي؟ قال: بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح، قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشرني به أنه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟! قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه، ولم يلخص متى يكون ذلك ولم يسم لنا القوم فنعرفهم، قال الرضا عليه السلام: فأن جئناك بمن يقرء الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟! قال: سديدا، قال الرضا عليه السلام لقسطاس الرومي:


الصفحة 421
كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ قال: ما أحفظني له، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: ألست تقرء الإنجيل؟! قال: بلى لعمري قال: فخذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي، ثم قرأ عليه السلام السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟!

قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني هذا قول عيسى بن مريم؟! فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى و موسى عليهما السلام، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك، قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإني لمقر به، قال الرضا عليه السلام: اشهدوا على إقراره.

ثم قال: يا جاثليق سل عما بدا لك، قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟ قال الرضا عليه السلام:

على الخبير سقطت، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا(1) وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنا الأكبر بأج، ويوحنا بقرقيسيا، ويوحنا الديلمي بزجان(2) وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أهل بيته وأمته وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به.

ثم قال عليه السلام: يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما ننقم على عيسا كم شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته، قال الجاثليق: أفسدت

____________

(1) في الإنجيل الموجود اليوم: لوقا بدون الألف في أوله.

(2) (اج) بألف ثم جيم مجهول، وفي نسخة (ط) و (ج) بألف وخاء، وأخا بزيادة ألف في آخر ناحية من نواحي البصرة، وقرقيسياء بقافين بينهما راء ساكنة ثم يائين بينهما سين مكسورة آخرها ألف مقصورة أو ممدودة بلد عند مصب الخابور في الفرات، والخابور نهر يمر على أرض الجزيرة، وزجان بالزاي المعجمة والجيم والألف آخره نون، وفي البحار باب احتجاجات الرضا عليه السلام وفي نسخه (ب) و (د) بالراء المهملة مكان النون، كلاهما مجهول.


الصفحة 422
والله علمك وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام، قال الرضا عليه السلام: وكيف ذلك؟! قال الجاثليق: من قولك: إن عيسا كم كان ضعيفا قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوما قط ولا نام بليل قط. وما زال صائم الدهر، قائم الليل، قال الرضا عليه السلام: فلمن كان يصوم ويصلي؟! قال: فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضا عليه السلام: يا نصراني إني أسألك عن مسألة، قال: سل فإن كل عندي علمها أجبتك، قال الرضا عليه السلام: ما أنكرت أن عيسى كان يحيى الموتى بإذن الله عز وجل، قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل أن من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد(1) قال الرضا عليه السلام: فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى(2) مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فلم يتخذه أمته ربا ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل، ولقد صنع حزقيل النبي عليه السلام(3) مثل ما صنع عيسى بن مريم عليه السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة؟! اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عز وجل إليهم فأحياهم(4)

____________

(1) إنكاره يرجع إلى إذن الله، وكان عيسى بزعمه ربا مستقلا في ذلك.

(2) في بعض التفاسير أن اليسع كان ابن عم الياس النبي ونبيا بعده على نبينا وآله وعليهما السلام.

(3) هو الملقب بذي الكفل المدفون بقرية في طريق الكوفة إلى الحلة، وهي أرض بابل التي انصرف بخت نصر بسبايا بني إسرائيل إليها، وفيما اليوم بأيدي الناس، حزقيال.

(4) حاصل القصة أن بخت نصر غزا بيت المقدس، فقتل بني إسرائيل بعضهم وأسر بعضهم، ثم اختار من الأسرى خمسة وثلاثين ألف رجل كلهم من الشباب، وأمر هؤلاء مذكور في قصص شباب بني إسرائيل، ثم نقلهم إلى بابل عاصمة مملكته، ثم ماتوا أو قتلوا في زمنه أو بعده، ثم أرسل الله عز وجل حزقيل إلى بابل فأحياهم بإذنه تعالى.


الصفحة 423
هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم(1) قال رأس الجالوت: قد سمعنا به و عرفناه، قال: صدقت، ثم قال عليه السلام: يا يهودي خذ على هذا السفر من التوراة فتلا عليه السلام علينا من التوراة آيات، فأقبل اليهودي يترجح لقراءته ويتعجب(2) ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟!

قال: بل كانوا قبله، قال الرضا عليه السلام: لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان و يا فلان ويا فلان يقول لكم محمد رسول الله صلى الله عليه وآله: قوموا بإذن الله عز وجل، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أن محمد قد بعث نبيا، وقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد أبرأ الأكمه و الأبرص والمجانين وكلمه البهائم والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربا من دون الله عز وجل، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربا لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى، وغيره أن قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله إليه أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا رب، فأوحى الله عز وجل إليه أن نادهم، فقال:

أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عز وجل فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب

____________

(1) في كتاب حزقيال الموجود اليوم إشارة إلى ذلك، وإطلاق التوراة عليه مجاز، أو كان ذلك فيما أنزل على موسى إخبارا عما سيقع.

(2) يترجح بالحاء المهملة في آخرها من الأرجوحة أي يميل يمينا وشمالا، وفي نسخة (ه‍) - بالجيمين - أي يضطرب.


الصفحة 424
عن رؤوسهم(1). ثم إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهن قطعا ثم وضع على كل جبل منهن جزءا ثم ناديهن فأقبلن سعيا إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته، فقال لهم: إني لم أره، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا، فقال: يا رب اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم، وكل شئ ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا، ما تقول يا نصراني؟! قال الجاثليق:

القول قولك ولا إله إلا الله.

ثم التفت عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي أقبل علي أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران عليه السلام هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد وأمته: إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جدا جدا تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد، فليفرغ بنوا إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم، فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض، هكذا هو في التوراة مكتوب؟! قال رأس الجالوت: نعم إنا لنجده كذلك، ثم قال:

للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفا حرفا، قال الرضا عليه السلام لهما: أتعرفان هذا من كلامه: (يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر)؟ فقالا: قد قال ذلك شعيا، قال الرضا عليه السلام: يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى: إني

____________

(1) المشهور بين المفسرين والمذكور في بعض الأخبار أن هذا النبي هو حزقيل، ولا استبعاد في كون القصتين له.


الصفحة 425
ذاهب إلى ربي وربكم والفارقليطا جاء(1) هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له، وهو الذي يفسر لكم كل شئ، وهو الذي يبدي فضائح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر؟ فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئا مما في الإنجيل إلا ونحن مقرون به، فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتا يا جاثليق؟! قال: نعم.

قال الرضا عليه السلام: يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟ قال له: ما افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا حتى وجدنا غضا طريا فأخرجه إلينا يوحنا ومتى، فقال الرضا عليه السلام: ما أقل معرفتك بسر الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل(2) إنما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم(3) فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، اعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريم عليه السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟

فقال لهم ألوقا ومر قابوس: إن الإنجيل في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفرا سفرا في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنائس، فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه لكم كله، فقعد ألوقا ومر قابوس(4) ويوحنا ومتى ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ التلاميذ الأولين، أعلمت ذلك؟ قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل(5) وسمعت أشياء مما علمته

____________

(1) في البحار وفي نسخة (ب) و (ه‍) (البارقليطا) بالباء مكان الفاء.

(2) في نسخة (ط) و (ن) (فإن كان كما زعمتم - الخ).

(3) في نسخة (ب) و (د) (إنما وقع فيه الاختلاف وفي هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم).

(4) في الإنجيل الذي اليوم بأيدي الناس: لوقا، مرقس.

(5) في نسخة (ب) (وقد بان لي من فضلك وفضل علمك بالإنجيل). وفي نسخة (ه‍) (وقد بان لي من قصتك ورفع علمك بالإنجيل). وفي نسخة (ج) (وقد بان لي فضل علمك بالإنجيل). وفي نسخة (و) والعيون (وقد بان لي من فضلك علمك بالإنجيل). وفي نسخة (د) (وقد بان لي من فضلك ومن أفضل علمك بالإنجيل).


الصفحة 426
شهد قلبي أنها حق فاستزدت كثيرا من الفهم.

فقال له الرضا عليه السلام: فكيف شهادة هؤلاء عندك؟ قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل وكل ما شهدوا به فهو حق، فقال الرضا عليه السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا، ثم قال للجاثليق:

بحق الابن وأمه هل تعلم أن متى قال: (إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن حضرون(1))، وقال مرقابوس في نسبة عيسى بن - مريم: (إنه كلمة الله أحلها في جسد الآدمي فصارت إنسانا)، وقال ألوقا: (إن عيسى ابن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس)؟(2) ثم إنك تقول من شهادة عيسى على نفسه: حقا أقول لكم يا معشر الحواريين: إنه لا يصعد إلى السماء إلا ما نزل منها(3) إلا راكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل، فما تقول في هذا القول؟ قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره قال الرضا عليهما السلام،: فما تقول في شهادة ألوقا ومر قابوس ومتى على عيسى وما نسبوه إليه؟(4) قال الجاثليق: كذبوا على عيسى، قال الرضا عليه السلام: يا قوم أليس

____________

(1) بالحاء المهملة والضاد المعجمة، وفي نسخة (ب) و (ه‍) بالمعجمتين، وفي أول إنجيل متى الموجود اليوم: حصرون - بالمهملتين -.

(2) في نسخة (و) (فدخل فيها روح القدس)، وفي نسخة (د) (فدخل عليهما روح القدس).

(3) في البحار وفي نسخة (ن) (إلا من نزل منها).

(4) ألزم عليه السلام الجاثليق بالتنافي بين قوله عليه عيسى من أنه نزل من السماء وصعد إليها وقولهم عليه من أنه إنسان فإن الإنسان لم ينزل من السماء بل تكون في الأرض.


الصفحة 427
قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق؟! فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين(1) أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء، قال الرضا عليه السلام: فإنا قد فعلنا، سل يا نصراني عما بدا لك، قال الجاثليق: ليسألك غيري، فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟ قال:

بل أسألك، ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو مما في صحف إبراهيم وموسى(2) فقال الرضا عليه السلام:: تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران والإنجيل على لسان عيسى بن مريم و الزبور على لسان داود، فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوة محمد؟ قال الرضا عليه السلام: شهد بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عز وجل في الأرض، فقال له: أثبت قول موسى بن عمران، قال الرضا عليه السلام: هل تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنه سيأتيكم نبي هو من إخوتكم فبه فصدقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابه إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه السلام؟ فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه، فقال له الرضا عليه السلام: هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟! قال: لا، قال الرضا عليه السلام: أوليس قد صح هذا عندكم؟! قال: نعم، ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة، فقال له الرضا عليه السلام: هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من جبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير(3) واستعلن علينا من جبل فاران؟

قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها، قال الرضا عليه السلام:

____________

(1) في (ط) و (ن) (يا أعلم المسلمين).

(2) قبوله من الإنجيل غريب لأن الرجل يهودي كما يأتي ما يصرح به، لعله من اشتباه النساخ.

(3) في نسخة (ج) و (ه‍) (وأضاء للناس من جبل ساعير) وكذا ما يأتي في التفسير.


الصفحة 428
أنا أخبرك به، أما قوله: جاء النور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى عليه السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه، و أما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران فذلك جبل من جبال مكة بينه وبينها يوم، وقال شعيا النبي عليه السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة(1): رأيت راكبين أضاء لهما الأرض، أحدهما راكب على حمار والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟! قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبرني بهما، قال عليه السلام:

أما راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأما راكب الجمل فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، أتنكر هذا من التوراة؟! قال: لا ما أنكره، ثم قال الرضا عليه السلام: هل تعرف حيقوق النبي(2) قال: نعم إني به لعارف، قال عليه السلام: فإنه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلئت السماوات من تسبيح أحمد وأمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس - يعني بالكتاب القرآن - أتعرف هذا وتؤمن به؟ قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوق عليه السلام ولا ننكر قوله، قال الرضا عليه السلام: وقد قال داود في زبوره وأنت تقرء: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟!

قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عني بذلك عيسى، و أيامه هي الفترة، قال الرضا عليه السلام: جهلت، إن عيسى لم يخالف السنة وقد كان موافقا لسنة التوراة حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرة ذاهب والفارقليطا جاء من بعده(3) وهو الذي يخفف الآصار، ويفسر لكم كل شئ، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل،

____________

(1) فيما اليوم بأيدي الناس أشعيا بألف في أوله، وقد مر احتمالان في التوراة في قصة حزقيل.

(2) فيما اليوم بأيدي الناس (حبقوق) بالباء الموحدة بعد الحاء.

(3) في البحار والعيون وفي نسخة (ه‍) (البارقلطا) بالباء الموحدة مكان الفاء.


الصفحة 429
أتؤمن بهذا في الإنجيل؟! قال نعم لا أنكره.

فقال له الرضا عليه السلام: يا رأس الجالوت أسألك عن نبيك موسى بن عمران، فقال: سل، قال: ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته؟ قال اليهودي أنه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله، قال له: مثل ماذا؟ قال مثل فلق البحر، وقلبه العصا حية تسعى، وضربة الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها، قال له الرضا عليه السلام: صدقت، إذا كانت حجته على نبوته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كل من ادعى أنه نبي ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟ قال لا لأن موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به، قال الرضا عليه السلام: فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشر عينا ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟! قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاؤوا على دعوى نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاؤوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم(1) قال الرضا عليه السلام: يا رأس الجالوت فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص و يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله؟ قال رأس الجالوت:

يقال: إنه فعل ذلك ولم نشهده، قال له الرضا عليه السلام: أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته؟! أليس أنما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك؟! قال: بلى، قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى؟! فلم يحر جوابا، قال الرضا عليه السلام: و كذلك أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به وأمر كل نبي بعثة الله، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا لم يتعلم كتابا ولم يختلف إلى معلم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه

____________

(1) قوله: (وجب تصديقهم) جواب لمتى جاؤوا، و (لوا) وصلية بين الشرط والجزاء.


الصفحة 430
قصص الأنبياء وأخبارهم حرفا حرفا وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى، قال رأس الجالوت: لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمد، ولا يجوز لنا أن نقر لهما بما لم يصح، قال الرضا عليه السلام: فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد زور؟!(1) فلم يحر جوابا.

ثم دعا عليه السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضا عليه السلام: أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجتك على نبوته: قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحله غيره فاتبعناه، قال عليه السلام: أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟! قال: بلى، قال:

فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك الاقرار لهم إذا كنتم إنما أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره؟! فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضا عليه السلام: يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم، فقام إليه عمران الصابئ وكان واحدا في المتكلمين فقال:

يا عالم الناس لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشأم والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيته، أفتأذن لي أن أسألك؟ قال الرضا عليه السلام: إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو، فقال: أنا هو، فقال عليه السلام: سل يا عمران وعليك بالنصفة، وإياك والخطل والجور، قال: والله يا سيدي ما أريد إلا أن تثبت لي شيئا أتعلق به فلا أجوزه، قال عليه السلام: سل عما بدا لك، فازدحم عليه الناس و انضم بعضهم إلى بعض، فقال عمران الصابئ: أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق، قال عليه السلام: سألت فافهم، أما الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شئ معه بلا حدود ولا أعراض ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا بأعراض وحدود

____________

(1) المراد بالشاهد شعيا وحيقوق وداود الذين مرت شهادتهم.


الصفحة 431
مختلفة لا في شئ أقامه ولا في شئ حده ولا على شئ حذاه ولا مثله له(1) فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة واختلافا وائتلافا وألوانا وذوقا وطعما لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا، تعقل هذا يا عمران؟ قال: نعم والله يا سيدي، قال عليه السلام: واعلم يا عمران أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأن الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنه لم يحدث من الخلق شيئا إلا حدثت فيه حاجة أخرى(2) ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل ولا نقمة منه على من أذل،، فلهذا خلق(3).

قال عمران: يا سيدي هل كان الكائن معلوما في نفسه عند نفسه؟

قال الرضا عليه السلام: إنما تكون المعلمة بالشئ لنفي خلافه وليكون الشئ نفسه بما نفى عنه موجودا، ولم يكن هناك شئ يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشئ عن نفسه بتحديد علم منها(4) أفهمت يا عمران؟ قال: نعم والله يا سيدي، فأخبرني بأي

____________

(1) في نسخة (د) (ولا مثله).

(2) أي لو كان خلق ما خلق لحاجة لا يسع الله الحاجة ولا يصل إلى نهاية في الحاجة لأنه كلما أحدث شيئا من الخلق لرفع حاجته حدثت في الله حاجة أخرى، وذلك لأن المحتاج في أموره يحتاج في كل شئ بيده إلى أشياء غيره كما هو الشأن في الناس.

(3) أي لحاجة بعض إلى بعض وتفضيل بعض على بعض حتى يقع المحنة التي أخبر عن كونها غاية بقوله: (خلق الموت والحياة ليبلوكم)، وفي نسخة (ط) (ولا نقمة منه على من أرذل).

(4) تفصيل سؤاله أنه تعالى لو كان لم يزل واحدا كائنا لا شئ معه بلا حدود ولا أعراض لم يكن عالما بذاته لأن معلومية شئ عند العالم به يستلزم صورة حاصلة منه في نفس العالم وهذا ينافي وحدته المطلقة، والجواب أن ذلك غير لازم في علم الشئ بنفسه لأن المعلمة أي الصورة الذهنية إنما يحتاج إليها ليتعين المعلوم عن غيره عند العالم وهو يحصل بنفي الغير عنه وتحديده بحدود نفسه، ولم يكن في علم الشئ بنفسه معلوم يخالف نفس الشئ حتى يحتاج في تعينه إلى نفي ذلك الغير بتحديد المعلوم الذي هو نفسه، و (من) في قوله: (ما علم منها) بيانية، والضمير يرجع إلى نفسه.