لا بد من ذلك(2)، قال الرضا عليه السلام: فما ذلك الضمير؟ فانقطع ولم يحر جوابا، قال الرضا عليه السلام: لا بأس، وإن سألتك عن الضمير نفسه تعرفه بضمير آخر؟! فقال الرضا عليه السلام: أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران، أليس ينبغي أن تعلم أن الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس يتوهم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم(3) فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صوابا.
____________
(1) هذا سؤال عن علمه تعالى بغيره، والمراد بالضمير هو الصورة الحاصلة من ذات المعلوم في نفس العالم، فأفحمه عليه السلام أولا بأن لا بد في الحكم بكون علمه تعالى بالضمير من أن تعرف الضمير وتحدده، فهل تقدر على ذلك، فأظهر العجز، ثم أغمض عليه السلام عن ذلك وتسلم أنك تقدر على التعريف، فهل تعرفه بضمير آخر أم لا، فقال: نعم أعرفه بضمير آخر، فأثبت عليه السلام بذلك فساد دعواه وفرض كون علمه بضمير، وبيان ذلك: أن كل علم بكل شئ لو كان بالضمير والصورة الذهنية لكان العلم بنفس الصورة أيضا بصورة ذهنية أخرى فيلزم التسلسل في الصور ولا يحصل العلم بشئ أبدا، فالعلم بنفس الصورة الذهنية إنما هو بحضور الصورة نفسها، فإذا أمكن أن يكون علمنا ببعض الأشياء بحضوره عند نفوسنا أمكن أن يكون علمه تعالى بالأشياء كلها بحضورها عنده، فليكن ذلك لئلا يتوهم انثلام وحدته تعالى، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: (يا عمران أليس ينبغي أن تعلم - الخ)، وفي نسخة (و) و (ه) (أن تعرف - الخ).
(2) في نسخة (فقال: نعم، قال الرضا).
(3) في البحار وفي نسخه (ه) و (ج) و (ب) (تجربة) بالراء المهملة والباء الموحدة في الموضعين وما هنا أنسب بل المناسب، وهذا لدفع دخل مقدر هو أنه لو كان واحدا ليس فيه جهة وجهة فكيف يصدر منه الكثير، فأجاب عليه السلام بأن الصادر منه ليس إلا واحدا وهو فيضه الساري في الماهيات، وليس يتصور منه جهات وأجزاء كما في الممكنات.
قال له عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحدا لا شئ غيره ولا شئ معه أليس قد تغير بخلقه الخلق؟ قال الرضا عليه السلام: لم يتغير عز وجل بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره.
قال عمران: فبأي شئ عرفناه؟ قال عليه السلام: بغيره، قال: فأي شئ غيره؟
قال الرضا عليه السلام: مشيته واسمه وصنفه وما أشبه ذلك، وكل ذلك محدث مخلوق مدبر.
قال عمران: يا سيدي فأي شئ هو؟ قال عليه السلام: هو نور، بمعنى أنه
____________
(1) يخطر بالبال عند اللفت إلى ستة أنواع سرد المدركات بالحواس الخمس وما لا يدرك بها كائنا ما كان، ويمكن تطبيق المذكورات عليها، وللعلامة المجلسي - رحمه الله - توزيع لتطبيق المذكورات على الستة.
(2) في نسخة (و) و (د) (وما لا ذوق له).
(3) بصيغة التفعيل أو الأفعال أو الثلاثي من العلامة، وفي نسخة (ن) و (ج) (تعملها) فتكرير لتصنع.
قال عمران: يا سيدي فإن الذي كان عندي أن الكائن قد تغير في فعله عن حاله بخلقه الخلق، قال الرضا عليه السلام: أحلت يا عمران في قولك: إن الكائن يتغير في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره، يا عمران هل تجد النار يغيرها تغير نفسها، أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها، أو هل رأيت بصيرا قط رأى بصره؟(3) قال عمران: لم أر هذا.
ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق أم الخلق فيه؟ قال الرضا عليه السلام: جل يا عمران عن ذلك، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك، وسأعلمك ما تعرفه به ولا حول ولا قوة إلا بالله، أخبرني عن المرأة أنت فيها أم هي فيك؟!
____________
(1) لأنه عدم الملكة ولا يصح إلا فيما تصح ملكته، فليس الله ساكتا ولا ناطقا بالمعنى الذي فينا حتى يلزم فيه التغير والتركيب، كما لا يقال للسراج: أنه ساكت حين طفئه ولا أنه ناطق حين أضاءته، وقوله: (ولا يقال إن السراج ليضيئ فيما يريد - الخ) كأنه تمثيل وبيان لقوله: (هو نور) حتى لا يتوهم السامع من تفسيره بالهادي أن النور كون وإحداث وراء ذاته تعالى، بل هو هو وليس شئ غيره على ما صرح به في أحاديث الباب العاشر و ما بعده، كما أن الضوء عين السراج لا أنه كون وإحداث وراء ذاته، وللمجلسي - رحمه الله - في تفسير هذا الكلام غير ذلك.
(2) في نسخة (د) (يستقر أمرك).
(3) المراد بهذه الأمثلة بيان أن الشئ لا يتغير من قبل نفسه ولا من قبل فعله، بل إنما يتغير بتأثير غيره، فإذا امتنع تأثير الغير فيه امتنع تغيره.
ثم التفت عليه السلام إلى المأمون فقال: الصلاة قد حضرت، فقال عمران: يا سيدي لا تقطع علي مسألتي فقد رق قلبي، قال الرضا عليه السلام: نصلي ونعود، فنهض ونهض المأمون: فصلى الرضا عليه السلام داخلا، وصلى الناس خارجا خلف محمد ابن جعفر، ثم خرجا، فعاد الرضا عليه السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال: سل يا عمران، قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عز وجل هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف؟(1) قال الرضا عليه السلام: إن الله المبدئ الواحد الكائن الأول لم يزل واحدا لا شئ معه، فردا لا ثاني معه، لا معلوما ولا مجهولا ولا محكما ولا متشابها ولا مذكورا ولا منسيا، ولا شيئا يقع عليه اسم شئ من الأشياء غيره، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون، ولا بشئ قام، ولا إلى شئ يقوم، ولا إلى شئ استند، ولا في شئ استكن وذلك كله قبل الخلق إذ لا شئ غيره(2) وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم(3).
واعلم أن الابداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة، وكان أول إبداعه وإرادته ومشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شئ ودليلا على كل
____________
(1) في نسخة (ط) (هل يوجد بحقيقة أو يوجد بوصف) من الوجدان أي هل يدرك ويعرف بها أو به، وفي نسخه (ج) (هل يوجد بحقيقة أو يوصف بوصف).
(2) في نسخة (ج) و (ه) (قبل خلقه الخلق - الخ).
(3) في هامش نسخة (ط) (وما أوقع عليه من المثل - الخ) وفي هامش نسخة (ن) (وما أوقعت عليه من المثل) وفي نسخة (ج) (وما أوقعت عليه من الشكل).
____________
(1) في البحار وفي نسخة (و) (وبتلك الحروف تفريق كل شئ) وفي نسخة (ج) (وتلك الحروف تفرق كل معنى) وفي نسخة (ط) (وتلك الحروف تفريق كل معين) و في نسخة (ه) (وتلك الحروف تعريف كل شئ) وفي هامشه: (تعرف كل شئ).
(2) قوله: (يتناهى) صفه لمعنى، وقوله: (ولا وجود) عطف على معنى، وفي البحار: (ولا وجود لها لأنها - الخ)، (3) حروف الهجاء قد تعد ثمانية وعشرين بعد الألف والهمزة واحدة كما هنا، و قد تعد تسعه وعشرين بعدهما اثنتين كما في الباب الثاني والثلاثين.
(4) في نسخة (ج) (من الثمانية والعشرين حرفا) (5) في البحار وفي نسخة (و) (فحجج).
(6) في نسخة (د) وحاشية نسخه (ب) (بعد اختصاصها).
قال الرضا عليه السلام: واعلم أنه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير معنى ولا حد لغير محدود، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال والوجود، ولا تدل على الإحاطة كما تدل على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس لأن الله عز وجل وتقدس تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد بالطول و العرض والقلة والكثرة واللون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحل بالله جل و تقدس شئ من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا(2) ولكن يدل على الله عز وجل بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين ولا استماع أذن ولا لمس كف ولا إحاطة بقلب، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدل عليه وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه(3) كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا
____________
(1) في البحار وفي نسخة (ج) و (ه) (وبيانه أنك تذكر الحروف).
(2) في نسخة (ج) (بالصورة التي ذكرنا).
(3) في نسخه (و) (لا تذكر بمعناه).
قال: نعم يا سيدي زدني.
قال الرضا عليه السلام: إياك وقول الجهال أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله عز وجل وتقدس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء، ولو كان في الوجود لله عز وجل نقص و اهتضام لم يوجد في الآخرة أبدا، ولكن القوم تاهوا وعموا وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عز وجل: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)(1) يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذووا الألباب أن الاستدلال على ما هناك لا يكون إلا بما ههنا، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلا بعدا لأن الله عز وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون.
قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الابداع خلق هو أم غير خلق؟ قال الرضا عليه السلام: بل خلق ساكن لا يدرك بالسكون وإنما صار خلقا لأنه شئ محدث، والله الذي أحدثه فصار خلقا له، وإنما هو الله عز وجل وخلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما، فما خلق الله عز وجل لم يعد أن يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكنا ومتحركا ومختلفا ومؤتلفا ومعلوما ومتشابها، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عز وجل.
واعلم أن كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس(2) وكل حاسة تدل على ما جعل الله عز وجل لها في إدراكها، والفهم من القلب بجميع ذلك كله(3).
واعلم أن الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقا مقدرا بتحديد وتقدير، وكان الذي خلق خلقين اثنين التقدير والمقدر، فليس في كل
____________
(1) الإسراء: 72.
(2) قوله: (أوجدتك) أي أفادتك.
(3) في نسخة (ط) (يجمع ذلك كله).
قال عمران: يا سيدي أشهد أنه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة، قال:
سل عما أردت، قال: أسألك عن الحكيم في أي شئ هو، وهل يحيط به شئ، وهل يتحول من شئ إلى شئ، أوبه حاجة إلى شئ؟ قال الرضا عليه السلام: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه فإنه من أغمض ما يرد على المخلوقين في مسائلهم، وليس يفهمه المتفاوت عقله، العازب علمه(6) ولا يعجز عن فهمه أولوا العقل المنصفون، أما أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك ولكنه عز وجل لم يخلق شيئا لحاجته(7) ولم يزل
____________
(1) في نسخة (ه) (فليس في أحد منهما - الخ) وفي نسخة (ن) ((وليس في كل واحد منهما - الخ) وفي البحار: (وليس في واحد منهما - الخ).
(2) في نسخة (ب) و (د) (الذي أراد - الخ).
(3) في نسخة (ن) (فالله تبارك وتعالى).
(4) في البحار وفي نسخة (ه) و (د) و (ب) و (و) (ولا يعضده ولا يكنه).
(5) ارتبك في الكلام: تتعتع، والصيد في الحبالة: اضطرب فيها، وفي الأمر: وقع فيه ولم يكد يتخلص منه، وفي نسخة (ن) و (د) و (ط) و (و) (ارتكبوا) أي ارتكبوا ما ليس بحق.
(6) في البحار وفي نسخة (د) و (ب) و (و) (العازب حلمه) وفي حاشية نسخة (ط) (العازب حكمه).
(7) في البحار وفي نسخة (و) و (ب) و (د) (لحاجة).
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابئ وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط لم يدن من الرضا عليه السلام أحد منهم ولم يسألوه عن شئ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا وانصرف الناس، و كنت مع جماعة من أصحابنا إذ بعث إلي محمد بن جعفر فأتيته، فقال لي: يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك، لا والله ما ظننت أن علي بن موسى خاض في شئ من هذا قط، ولا عرفناه به أنه كان يتكلم بالمدينة أو يجتمع إلى أصحاب الكلام، قلت، قد كان الحاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، و كلمه من يأتيه لحاجة(3) فقال محمد بن جعفر: يا أبا محمد إني أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمه أو يفعل به بلية، فشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء، قلت:
____________
(1) في البحار وفي نسخة (و) و (ب) و (ن) (كلمح بالبصر - الخ).
(2) في البحار وفي نسخة (ج) و (ب) و (د) (ولا شئ أبعد منه من شئ)، وفي نسخة (و) و (ه) (ولا شئ هو أبعد منه من شئ).
(3) في نسخة (ه) و (ج) (بحاجة) وفي نسخة (و) (لحاجته) وفي البحار: (و ربما كلم من يأتيه يحاجه) وفي نسخة (ب) و (د) (وربما كلم من يأتيه لحاجة).
هكذا نحب(3) ثم دعا عليه السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره حتى إذا فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة، فكان عمران بعد ذلك يجتمع عليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتى اجتنبوه، ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم، وأعطاه الفضل مالا وحمله، و ولاه الرضا عليه السلام صدقات بلخ فأصاب الرغائب.
66 - باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام
مع سليمان المروزي متكلم
خراسان عند المأمون في التوحيد
1 - حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه رضي الله عنه، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة القمي، قال: حدثني أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي، قال: حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي يقول: قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله
____________
(1) في نسخة (د) و (ه) (إذ لا يقبل مني) أي إذ لا يقبل مني فما أصنع؟ أو المعنى:
لا أشير عليه بذلك إذ لا يقبل مني، وعدم التصريح بالمعلول للتأدب.
(2) في نسخة (ب) و (د) و (ج) و (ن) (فجعلها عليه - الخ).
(3) في البحار وفي نسخة (و) و (ج) (هكذا يجب).
يا أمير المؤمنين إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلمني(2) ولا يجوز الاستقصاء عليه، قال المأمون: إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط: فقال سليمان:
حسبك يا أمير المؤمنين. اجمع بيني وبينه وخلني وإياه وألزم(3) فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال: إنه قدم علينا رجل من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام، فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت، فنهض عليه السلام للوضوء وقال لنا: تقدموني وعمران الصابئ معنا فصرنا إلى الباب فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون، فلما سلمت قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه الله، قلت:
خلفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم، ثم قلت: يا أمير المؤمنين إن عمران مولاك.
معي وهو بالباب، فقال: من عمران؟ قلت: الصابئ الذي أسلم على يديك(4) قال:
فليدخل فدخل فرحب به المأمون، ثم قال له: يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم، قال: الحمد لله الذي شرفني بكم يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون: يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان، قال عمران: يا أمير المؤمنين إنه يزعم أنه واحد خراسان في النظر وينكر البداء، قال: فلم لا تناظره؟ قال عمران:
ذلك إليه، فدخل الرضا عليه السلام فقال: في أي شئ كنتم؟ قال عمران: يا ابن رسول الله هذا سليمان المروزي، فقال سليمان: أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟ قال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتج بها
____________
(1) في نسخة (ه) و (ج) (قدم من الحجاز).
(2) في نسخة (ج) (فينقص) - الخ) وفي نسخة (د) (فينتقض) بالمعجمة.
(3) في البحار وفي نسخة (ج) (وخلني والذم)، وفي نسخه (د) و (ب) (وخلني وإياه).
(4) في نسخة (ط) و (ن) (الذي كان أسلم - الخ).
قال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟ قال: وما أنكرت من البداء يا سليمان، والله عز وجل يقول: (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا)(1) ويقول عز وجل: (وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده)(2) و يقول: (بديع السماوات والأرض)(3) ويقول عز وجل: (يزيد في الخلق ما يشاء)(4) ويقول: (وبدأ خلق الإنسان من طين)(5) ويقول عز وجل: (و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم)(6) ويقول عز وجل:
(وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب)(7) قال سليمان: هل رويت فيه شيئا عن آبائك؟ قال: نعم، رويت عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (إن الله عز وجل علمين: علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، و علما علمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيه يعلمونه)(8) قال سليمان:
أحب أن تنزعه لي من كناب الله عز وجل، قال عليه السلام: قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فتول عنهم فما أنت بملوم)(9) أراد هلاكهم ثم بدا لله فقال: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)(10) قال سليمان: زدني جعلت فداك، قال الرضا عليه السلام:
لقد أخبرني أبي عن آبائه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه: أن أخبر فلان الملك أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره، فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير، فقال: يا
____________
(1) مريم: 67.
(2) الروم: 27.
(3) البقرة: 117، والأنعام: 101.
(4) فاطر: 1.
(5) السجدة: 7.
(6) التوبة: 106.
(7) فاطر: 11.
(8) في البحار وفي نسخه (ب) و (د) و (و) (فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه).
وفي حاشية نسخه (ب) (والعلماء من أهل - الخ).
(9) الذاريات: 54.
(10) الذاريات: 55.
ثم التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب، قال:
أعوذ بالله من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال: قالت: (يد الله مغلولة) يعنون أن الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا، فقال الله عز وجل: (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا)(3) ولقد سمعت قوما سألوا أبي موسى بن جعفر عليهما السلام، عن البداء فقال: و ما ينكر الناس من البداء وأن يقف الله قوما يرجيهم لأمره(4)؟ قال سليمان: ألا تخبرني عن (إنا أنزلناه في ليلة القدر) في أي شئ أنزلت؟ قال الرضا: يا سليمان ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدره من تلك الليلة فهو من المحتوم، قال سليمان:
ألآن قد فهمت جعلت فداك فزدني، قال عليه السلام: يا سليمان إن من الأمور أمورا موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء، يا سليمان إن عليا عليه السلام كان يقول: العلم علمان: فعلم علمه الله وملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه(5) يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا
____________
(1) هكذا في النسخ في الموضعين، ولا يبعد أن يكون بإضافة فلان إلى الملك.
(2) في نسخة (ب) و (د) (وأنه لا يسأل عما يفعل).
(3) المائدة: 64.
(4) في نسخة (ط) و (ن) و (ج) (وأن الله ليقف قوما - الخ) وفي نسخة (و) (و أن الله يصف - الخ).
(5) في نسخة (ط) و (ن) و (ج) و (و) (لم يطلع عليه أحد من خلقه).
فقال المأمون: يا سليمان سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف، قال سليمان: يا سيدي أسألك؟ قال الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة مثل حي وسميع وبصير وقدير؟
قال الرضا عليه السلام: إنما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد، ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنه سميع بصير، فهذا دليل على أنها ليست بمثل سميع بصير ولا قدير، قال سليمان: فإنه لم يزل مريدا، قال: يا سليمان فإرادته غيره؟ قال:
نعم، قال: فقد أثبت معه شيئا غيره لم يزل، قال سليمان: ما أثبت، قال الرضا عليه السلام: أهي محدثة؟ قال سليمان: لا ما هي محدثة، فصاح به المأمون وقال: يا سليمان مثله يعايا أو يكابر، عليك بالإنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر، ثم قال: كلمه يا أبا الحسن فإنه متكلم خراسان، فأعاد عليه المسألة فقال: هي محدثة يا سليمان فإن الشئ إذا لم يكن أزليا كان محدثا وإذا لم يكن محدثا كان أزليا، قال سليمان: إرادته منه كما أن سمعه منه وبصره منه وعلمه منه، قال الرضا عليه السلام: فإرادته نفسه؟! قال: لا، قال عليه السلام: فليس المريد مثل السميع و البصير، قال سليمان: إنما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه، قال الرضا عليه السلام: ما معنى أراد نفسه أراد أن يكون شيئا أو أراد أن يكون حيا أو سميعا أو بصيرا أو قديرا؟! قال: نعم، قال الرضا عليه السلام: أفبإرادته كان ذلك؟!
قال سليمان: لا، قال الرضا عليه السلام: فليس لقولك: أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته، قال سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته، فضحك المأمون ومن حوله وضحك الرضا عليه السلام، ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان يا سليمان فقد حال عندكم عن حالة وتغير عنها(2) وهذا مما لا يوصف الله عز وجل
____________
(1) قد مر بعض الكلام في البداء في الباب الرابع والخمسين.
(2) أي لو كان ذلك أي كونه سميعا بصيرا قديرا بإرادته لتحول وتغير في هذه الصفات لأن إرادته يمكن أن تتعلق بها كسائر الأمور، وفي البحار وفي نسخة (و) و (ن) و (د) (عن حاله وتغير عنها).
ثم قال الرضا عليه السلام: يا سليمان أسألك مسألة، قال: سل جعلت فداك قال: أخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما يفقهون ويعرفون أو بما لا يفقهون ولا يعرفون؟! قال: بل بما يفقهون ويعرفون(1) قال الرضا عليه السلام: فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة وأن المريد قبل الإرادة وأن الفاعل قبل المفعول وهذا يبطل قولكم: إن الإرادة والمريد شئ واحد، قال: جعلت فداك ليس ذاك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون، قال عليه السلام: فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر(2) إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل، فلم يحر جوابا.
ثم قال الرضا عليه السلام: يا سليمان هل يعلم الله عز وجل جميع ما في الجنة والنار؟! قال سليمان: نعم، قال: أفيكون ما علم الله عز وجل أنه يكون من ذلك؟!(3) قال: نعم، قال: فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ إلا كان أيزيدهم أو يطويه عنهم؟! قال سليمان: بل يزيدهم، قال: فأراه في قولك: قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون(4) قال: جعلت فداك والمزيد لا غاية
____________
(1) في البحار وفي نسخة (ج) (تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون أو بما لا تفقهون ولا تعرفون، قال: بل بما نفقه ونعلم). وفي نسخة (ه) (تكلمون الناس بما يفقهون و يعرفون أو بما لا يفقهون ولا يعرفون، قال: بل يفقهون ونفقه وما يعلمون ونعلم).
وفي نسخة (ب) و (د) و (ط) و (ن) وحاشية نسخة (ه) بصيغة الغائب في السؤال وبصيغة المتكلم مع الغير فقط في الجواب.
(2) في نسخة (و) و (ه) (وقلتم: الإرادة كالسميع والبصير، أكان ذلك عندكم - الخ) وفي نسخه (ج) (وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر، كان ذلك عندكم - الخ).
(3) في البحار وفي نسخه (ج) (قال: فيكون ما علم الله عز وجل - الخ).
(4) قوله عليه السلام: (أنه يكون) مبتدء مؤخر، والضمير يرجع إلى ما لم يكن، و (في علمه) خبر له مقدم، والجملة مفعول ثان لقوله: (فأراه) أي فأراه أن ما لم يكن يكون في علمه على قولك: أنه يزيدهم ما لم يكن، فعلمه المتعلق الآن بما لم يكن غير الإرادة لأنها لم تتعلق به بعد.