وقد اختلفوا بالنسبة لناسخ آية المتعة، فقد قيل إنها نسخت بـ:
1 ـ الإجماع: قال ابن العربي: «فإنا لو قلنا: أن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل، ينطبق عليها اسم الزوجية، وان قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة، فلم تدخل في الآية»(1).
أضاف القرطبي: «قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد، ولا يلحق الولد، كالزنا الصريح؟ أو يدفع الحد بالشبهة، ويلحق الولد؟ قولان لأصحابنا»(2) وسنذكر طائفة من أقوال القائلين بأن النسخ قد ثبت بالإجماع.
2 ـ وقال آخرون: نسخت بالأخبار(3).
____________
(1) أحكام القرآن ج 3 ص 1311 ط دار المعرفة تحقيق علي محمد البجاوي.
(2) الجامع لأحكام القرآن ج 12 ص 106.
(3) راجع تفسير البيضاوي ج 1 ص 259، والتسهيل لعلوم التنزيل ج 1 ص 137، وتفسير القرآن العظيم ج 1 ص 474، ولباب التأويل ج 1 ص 343، وفتح القدير للشوكاني ج 1 ص 414، والتفسير الكبير ج 10 ص 50 والمحلى ج 9 ص 519، وعن تفسير أبي السعود مطبوع بهامش التفسير الكبير ج 3 ص 251، والغدير ج 6 ص 224 و 225 عمن تقدم.
ونقول:
إن ذلك كله لا يصح، ونفصل القول في ذلك فيما يلي من مطالب..
النسخ بالإجماع، لا يصح:
قالوا: «إن زمن إباحة المتعة لم يطل، وإنه حرّم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض(2) وزعم جماعة من الأئمة بتفرد ابن عباس بإباحتها..».
ولكن قال ابن عبد البر: «أصحاب ابن عباس من أهل مكة، واليمن على إباحتها ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها إلخ..»(3).
وقالوا أيضاً:
____________
(1) لباب التأويل ج 1 ص 343 وستأتي المصادر الكثيرة الدالة على ذلك.
(2) أوجز المسالك ج 9 ص 404 وفتح الباري ج 9 ص 150.
(3) نيل الأوطار ج 6 ص 271 و 272.
وقالوا أيضاً عن قول جابر الأنصاري:
«فعلناها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
وقوله: «فنهانا عمر فلم نفعله بعد»:.. فإن كان قوله «فعلناها»، يعم كل الصحابة فقوله: «لم نعد» يعم جميع الصحابة، فيكون إجماعاً»(3).
وقال عياض: «ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض»(4).
وقال آخر: «ثبت النسخ بإجماع الصحابة»(5).
وقال غيره: «ثم أجمع الصحابة على أن المتعة قد
____________
(1) نيل الأوطار ج 6 ص 272 والاعتبار ص 176.
(2) الاعتبار ص 176.
(3) أوجز المسالك ج 9 ص 404.
(4) أوجز المسالك ج 9 ص 404، وفتح الباري ج 9 ص 150.
(5) شرح فتح القدير ج 3 ص 150 ومرقاة المفاتيح ج 3 ص 422.
وعلى حد تعبير العيني: «قد يثبت(2) النسخ بإجماع الصحابة»(3).
وقال آخر: «إنه صار منسوخاً بإجماع الصحابة»(4).
لكن عبارة البعض هكذا: «تحريم نكاح المتعة كالإجماع بين المسلمين إلا عن بعض الشيعة(5)، ولعل هذا هو مراد العيني من قوله: قد يثبت».
وقال النووي: «ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض إلخ..»(6).
____________
(1) شرح العناية لمحمد بن محمود الباربرتي ج 3 ص 150.
(2) لعل الصحيح: ثبت.
(3) البناية في شرح الهداية ج 4 ص 100.
(4) مجمع الأنهر ج 1 ص 320.
(5) فتح الملك المعبود ج 3 ص 227 وراجع: أوجز المسالك ج 9 ص 404 وعون المعبود ج 6 ص 84، وفقه السنة ج 2 ص 42 وشرح السنة للبغوي ج 5 ص 78 وفتح الباري ج 9 ص 150. وتحريم المتعة في الكتاب والسنة ص 51 عن معالم السنن للخطابي.
(6) شرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 180 وأوجز المسالك ج 9 ص 410.
وقال محمد بخيت المطيعي: «إن المتعة، وان أبيحت يوم خيبر، فقد حرمت بعد ذلك في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)..» إلى أن قال: «وعلى هذا انعقد الإجماع من الصحابة، وغيرهم على حرمتها، فلم يقع فيها إجماع بعد خلاف»(3).
____________
(1) وستأتي المصادر لهذا الحديث إن شاء الله تعالى.
(2) راجع: أسمى المناقب ص 145 و 158 و 160.
(3) سلم الوصول إلى نهاية السؤل ج 3 ص 292.
ثم تنظّر في ذلك إذ قد نقل عن الماوردي وغيره: «أن ابن عباس رجع فأفتى بالتحريم»(1).
وقال أيضاً: «إن الخلاف بين الأصوليين هل يصح الإجماع على أحد القولين بعد الخلاف أم لا ينعقد؟ وحكم الخلاف باق. وهو مذهب الباقلاني.. وهذا على عدم صحة رجوع ابن عباس عنها، فأما ما روي من رجوعه فقد انقطع الخلاف جملة»(2).
وأغرب تعبير قرأناه في هذا الصدد هو قول البعض: «وقد انعقد الإجماع في شورى الصحابة، حينما نهى عنها عمر (رض) وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة»(3).
فهل أصبحت الأحكام الإلهية تثبت أو ترفض من خلال شورى يعقدها الصحابة؟!.
____________
(1) نهاية السؤل ج 3 ص 387، وقريب من ذلك في فتح الملك المعبود ج 3 ص 227.
(2) شرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 49.
(3) تحريم المتعة في الكتاب والسنة ص 50.
قال ابن المنذر: «جاء عن الأوائل الرخصة فيها ـ يعني المتعة ـ ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلا بعض الرافضة».
وقال القاضي عياض: «أجمع العلماء على تحريمها إلا الروافض».
وقال ابن بطال: «وأجمعوا الآن على أنه متى وقع ـ يعني المتعة ـ أبطل، سواء كان قبل الدخول أو بعده».
وقال الخطابي: «تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة»(1).
ونقول:
إن دعوى أن الإجماع هو الذي نسخ تشريع المتعة الثابت
____________
(1) السيل الجرار ج 2 ص 268.
وذلك للأمور التالية:
أولاً:
قول الشوكاني عن الرافضة: إنهم في غالب ما هم عليه مخالفون للكتاب والسنة ولجميع المسلمين، غير صحيح.. ويعلم ذلك بالبداهة، فإن ما يذهبون إليه ـ إلا ما قل ـ يوافقهم فيه هذا المذهب أو ذاك، أو اعلام آخرون لا يجرؤ أحد على الطعن بانتسابهم إلى مذهب أهل السنة والجماعة..
ثانياً:
إذا كانت حجة هؤلاء هي الإجماع دون سواه، على اعتبار أن الإجماع حجة في مورد لا يوجد فيه نص، فاستدلالهم به يفرض عليهم التخلي عن الاستدلال بالأخبار.
ثالثاً:
إن الحديث عن وجود إجماع على التحريم، غير صحيح، حيث سيأتي في فصل أقوال ومذاهب أن عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين وغيرهم، كأهل مكة واليمن، وأكثر أهل الكوفة، يقولون باستمرار الحكم بإباحة هذا الزواج، بل حكي القول بالحلية عن جميع الصحابة، كما ذكره ابن حزم، عن جابر، وحكي أيضاً عن بعض أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم، وعن أكابر علماء الأمة، فضلاً عن أهل البيت، وشيعتهم رضوان
رابعاً:
إن عدداً ممن ينسب إليهم القول بالنسخ لا تصح نسبة ذلك إليهم.. خصوصاً ابن عباس وعلي (عليه السلام) كما سيأتي في الحديث عنه في فصل مستقل بالإضافة إلى ما سيمر علينا من دلائل على عدم صحة ذلك حين الحديث عن النسخ في خيبر، وفي حجة الوداع، وفي تبوك، وسيأتي في فصل النصوص والآثار: أن علياً (عليه السلام) قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي، وسيأتي أيضاً أنه عليه السلام تمتع بامرأة من بني نهشل بالكوفة..
وأما سعيد بن جبير فسيأتي في فصل النصوص والآثار أنه هو نفسه قد مارس هذا الزواج..
وسنذكر في فصل النصوص والآثار، وتقدم أيضاً: أن الحكم بن عتيبة سئل عن آية المتعة، هل هي منسوخة؟ فقال لا.
وقد صرح عمران بن الحصين بعدم نسخ آية المتعة.
وأما ابن عباس، فقد تقدم قوله: «إن الآية محكمة غير منسوخة».. وكان يستدل بها على بقاء تشريع هذا الزواج.
وسنذكر في فصل: علي (عليه السلام) وابن عباس، أنه لم يرجع عن ذلك.
خامساً:
إن الروايات الكثيرة جداً، ـ وستأتي ـ صريحة في أن التحريم لم يكن في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) ولا في زمن أبي بكر، ولا شطراً من خلافة عمر بن الخطاب.
سادساً:
يقول الجمهور: «إن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به»(2).
ولهذا التجأ البعض إلى أن يقول:
إن النسخ إنما هو بالأخبار، والإجماع مظهر، لأن نسخ الكتاب والسنة بالإجماع ليس بصحيح على المذهب الصحيح(3).
____________
(1) الهداية ج 1 ص 195، ورجوع ابن عباس مذكور في البحر الزخار ج 4 ص 23 وراجع: الجامع الصحيح للترمذي المطبوع مع تحفة الآحوذي ج 4 ص 268، وراجع: مرقاة المفاتيح ج 3 ص 422.
(2) راجع: البناية في شرح الهداية ج 4 ص 100.
(3) راجع: شرح التلويح للتفتازاني والمستصفى للغزالي ج 1 ص 126، والإحكام ج 3 ص 146 وشرح فتح القدير لكمال الدين محمد عبد الواحد ج 3 ص 150، وشرح النووي على صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري ج 1 ص 50
=>
وكيف أيضاً إذا كان أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم مخالفين لهؤلاء المجمعين، ويفتون بخلافهم؟.
هذا.. عدا عن وجود مخالفين كثيرين من غيرهم، حتى أئمة المذاهب الأربعة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل: أقوال ومذاهب.
سابعاً:
إن هذا الإجماع قد علم فيه مستند المجمعين، فلا يكون حجة بل ينظر إلى مستندهم نفسه.
ثامناً:
قال التفتازاني في شرح التلويح صفحة 51: ذكر الجمهور أن الإجماع القطعي، وهو إجماع الصحابة لا يجوز تبديله ونسخه بإجماع آخر متأخر عنه(1) فإن كان ثمة إجماع
____________
<=
و52و53، وفواتح الرحموت بهامش المستصفى ج 2 ص 81، ومنهاج الوصول للبيضاوي، وشرحه المسمى بنهاية السؤل للأسنوي ج 2 ص 589، وإرشاد الفحول ص 197، وراجع: مرقاة المفاتيح ج 3 ص 422.
(1) المتعة في الإسلام للعلامة السيد حسين مكي ص 38.
تاسعاً:
وبعد ما تقدم نقول: لعل الذين يقولون بالنسخ بالإجماع هم من أولئك الذين يعتبرون الإجماع نبوة بعد نبوة(1) وهو حجة قاطعة للعذر متى انعقد وفي أي عصر كان(2) ويرون أن الأمة معصومة(3) وأن المراد بالأمة المعصومة، وبالنبوة هو من عدا أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.
عاشراً:
أما بالنسبة لهذا الأمر الذي يطال الخليفة الثاني بالتساؤل فلا بد أن يتحقق إجماع ناسخ حتى ولو خالف فيه خليفة آخر هو رابع الخلفاء الراشدين، وثلاثة من الأئمة الأربعة، وخالف أهل مكة واليمن وأكثر علماء أهل الكوفة
____________
(1) راجع: المنتظم ج 9 ص 210 والإلمام ج 6 ص 123 والإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 204 و 205 وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص 27.
(2) الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 208 وتهذيب الأسماء ج 1 ص 42 والنشر في القراءات العشر ج 1 ص 7 و31و33 و أي كتاب يبحث في حجية الإجماع على مذاق أهل السنة.
(3) راجع: تهذيب الأسماء ج 1 ص 42 والإلمام ج 6 ص 142 والباعث الحثيث ص 35 وشرح صحيح مسلم [مطبوع بهامش إرشاد الساري] ج 1 ص 28 ونهاية السؤل ج 3 ص 325 وسلم الوصول ج 3 ص 326 وعلوم الحديث لابن الصلاح ص 24 وإرشاد الفحول ص 82 والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج 4 ص 188 و 189.
حادي عشر:
قال أمين محمود خطاب: «وأجيب: بأن الخلاف إنما كان في الصدر الأول إلى آخر خلافة عمر (رض). والإجماع إنما هو فيما بعد..».
إلى أن قال: «وأكثر أهل العلم على تحريم المتعة»(1).
ثاني عشر:
إن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع الخلاف السابق، فلاحظ التصريحات التالية:
أ ـ قال الزرقاني: «وتعقب قوله: لم يخالف إلا الروافض» بأنه ثبت الجواز عن جمع من الصحابة كجابر، وابن مسعود، وأبي سعيد، ومعاوية، وأسماء بنت أبي بكر، وابن عباس، وعمر بن الحويرث، وسلمة، وعن جماعة من التابعين..
وأجيب: بأن الخلاف إنما كان في الصدر الأول إلى آخر خلافة عمر، والإجماع إنما هو فيما بعد.
واختلف هل رجع ابن عباس إلى التحريم أم لا..
____________
(1) فتح الملك المعبود ج 3 ص 225.
واختلف الأصوليون في الإجماع بعد الخلاف، هل يرفع الخلاف السابق أم لا يرفعه، ويكون الخلاف باقياً، ومن ثم جاء الخلاف في من نكح متعة هل يحدّ أم لا؟ (1).
ب ـ «وقالوا: إن الخلاف إذا انقطع ووقع الإجماع على أحد أقواله بعد موت قائله وقبل رجوعه عنه فإن الناس مختلفون فيه، فذهب القاضي أبو بكر إلى أن الإجماع لا ينعقد بموت المخالف، فعلى هذا حكم الخلاف باقٍ في حكم قضية المتعة.. وبذلك لا يحد فاعله، وقال جماعة: ينعقد الإجماع بموت إحدى الطائفتين.. إلى أن قال: فعلى هذا يحدّ فاعله»(2).
وقال: «ومما يدل على أنه لم ينعقد الإجماع على تحريمه أنه يلحق به الولد»(3).
ج ـ ورغم أن النووي قد قال: «ووقع الإجماع بعد ذلك على
____________
(1) شرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 47.
(2) أوجز المسالك ج 9 ص 410.
(3) المصدر السابق.
لكنه ألحقه بقوله: «وكان ابن عباس يقول بإباحتها، وروي عنه أنه رجع عنها».
إلى أن قال: «واختلف أصحاب مالك، هل يحدّ الواطئ فيه، ومذهبنا أنه لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف..».
ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف، وتصير المسألة مجمعاً عليها، والأصح عند أصحابنا أنه لا يرفعه بل يدوم الخلاف، ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعاً عليها أبداً، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني (1).
د ـ وقال ابن حجر الهيثمي: «.. ثم حرّم عام خيبر، ثم جاز عام الفتح، وقيل: حجة
____________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم ج 9 ص 180 وراجع أوجز المسالك ج 9 ص 410 و 411.
وحكاية الرجوع عنه لا تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع من السلف أنهم وافقوه في الحل، لكن خالفوه، فقالوا: لا يترتب عليه أحكام النكاح، وبهذا نازع الزركشي في حكاية الإجماع فقال: الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه»(1).
هـ ـ «وفي نور الأنوار: قيل: يشترط للإجماع اللاحق عدم الاختلاف السابق عند أبي حنيفة، يعني إذا اختلف أهل عصر في مسألة وماتوا عليه، ثم يريد من بعدهم أن يجمعوا على قول واحد منهما، قيل لا يجوز ذلك الإجماع عند أبي حنيفة، وليس كذلك في الصحيح، بل الصحيح أنه ينعقد عنده إجماع متأخر، ويرتفع الخلاف السابق من البين، وفي هامشه على قوله عند أبي حنيفة اختار هذا القول أحمد بن حنبل، ومن الشافعية الغزالي، وقال الموفق: لا يجب الحد بالوطئ في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة وغيرها، وهذا قول أكثر أهل العلم، فإن الاختلاف في إباحة الوطئ فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات، قال ابن المنذر
____________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج 7 ص 224.
وأخيراً، فلا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بسقوط القول: بوجود شورى للصحابة حين أعلن عمر تحريم المتعة على المنبر.. فإنه لم يكن ثمة من شورى آنئذٍ، بل كان هناك فرض للمنع من قبل عمر، كما سيأتي توضيحه في أكثر من موضع من هذا الكتاب.. وسنذكر أن كثيراً من الصحابة لم يلتزموا بما فرضه عليهم عمر..
تقرير الإجماع بطريقة أخرى:
ويقول البعض ما ملخصه: «إن الإجماع قائم على تحريم نكاح المتعة، وذلك بالبيان الآتي: إن عمر قد نهى عن المتعة، وتوعد عليها وغلظ أمرها.. وذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نهى عنها على المنبر، بحضرة المهاجرين والأنصار، ولم يعارضه، ولا رد عليه منهم أحد، مع ما كانوا عليه من الحرص على إظهار الحق، وبيان الواجب والخطأ.
____________
(1) أوجز المسالك ج 9 ص 411.
فسكوتهم يعلمنا أن التحريم ثابت، وأن الحلية منسوخة عندهم كما هو الحال عند عمر.
ولو لم يقل بتحريم المتعة إلا واحد من الصحابة رضوان الله عليهم إذا لم يكن له فيهم مخالف لوجب علينا الأخذ بقوله، والمصير إلى علمه، لأنه لم يقل ذلك إلا عن علم ثاقب، ورأي صائب، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وقد أجمعوا كلهم على ذلك: فكان من خالف ذلك، واستحل نكاح المتعة مخالفاً للإجماع، معانداً للحق والصواب»(1).
ويقول أيضاً: «إباحة نكاح المتعة ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 77 و 78
1ـ أقول:
الصحيح هو أن الذي اعترض على عمر لتحريمه المتعة هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعمران بن الحصين، وابن عباس، بل اعترض عليه كل القائلين بالتحليل من بعده حسبما يظهر في فصل: أقوال ومذاهب، وفي فصل النصوص والآثار. فلا معنى لهذا الجزم القاطع من هذا القائل..
ثانياً:
سيأتي: أن عدم الاعتراض عليه، وهو يتوعد ويتهدد لا يدل على رضا الساكتين وموافقتهم على ما يقول. وسيأتي مزيد توضيح لهذا الأمر في القسم الثالث من هذا الكتاب. وليكن استمرارهم على ممارسة هذا الزواج، وعلى القول بحليته رغم كل هذه الشدة والحدة، نعم ليكن ذلك أبلغ رد عليه وأوضح اعتراض على قرار المنع الصادر منه.
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 79.
ثالثاً:
إن إباحة المتعة، وارد في كتاب الله في قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن)، ثم هو ثابت أيضاً في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أجمعت عليه الأمة، لكن البعض يدعي وجود ناسخ، وأنى له بإثباته، بل الثابت عكسه..
بل إن الخليفة الثاني نفسه، قد أقر باستمرار تشريع هذا الزواج في عهد أبي بكر، ثم في النصف الأول من خلافته هو، وأنه هو الذي ينهى ويمنع.
رابعاً:
قد عرفت أن طائفة كبيرة من الصحابة والتابعين، ومن فقهاء الإسلام، بل إن الأئمة الأربعة ـ باستثناء الشافعي ـ قد نقل عنهم القول، باستمرار الحلية، وإن كان بعض هؤلاء قيدها في صورة الضرورة.
خامساً:
إن الحديث المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
لا تصح نسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كيف وقد كان أصحابه يكفر بعضهم بعضاً، ويقتل
وإذا صح الاقتداء بهم، فهل يقتدى بهم، حتى في التكفير والقتل، حين قتلوا عثمان وغيره، ويلزم كون محارب علي (عليه السلام) على الهدى..
فإن كان هذا الحديث صحيحاً فلا بد أن يحمل على جماعة مخصوصين من أصحابه لا على كل من رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والصحيح في هذا الحديث هو أنه (صلى الله عليه وآله) قال: «أهل بيتي كالنجوم إلخ..»(1) لأن أهل البيت (عليهم السلام) نور واحد، لا خلاف فيما بينهم، ولا اختلاف فيما ورد عنهم بل نهجهم واحد، وفكرهم واحد..
سادساً:
إن خضوع عمر واستسلامه، واعترافه بالخطأ على المنبر حيث أخبرته المرأة بما قاله الله تعالى في شأن
____________
(1) لسان الميزان ج 1 ص 136.
فقال: امرأة أصابت ورجل أخطأ، أو نحو ذلك.
لا يفيد شيئاً.. بل هو يدل على أن من كان هذا حاله، فلا يصح الأخذ بقوله.. لأنه قد يحرم الحلال، ويحلل الحرام، حتى ولو كان منصوصاً عليه في الكتاب العزيز مثل، مقالته في مهور النساء، كما أنه قد أراد رجم الحبلى، حتى نهاه علي (عليه السلام)، وقال له: إن كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على الذي في بطنها.
فمن كان هذا حاله لم يكن له أن يستبد برأيه، بل عليه أن يرجع إلى الصحابة ويأخذ عنهم..
وسيأتي في القسم الرابع من هذا الكتاب المزيد مما يوضح الكثير من مواضع الخلل في الأقوال الآنفة الذكر.
وقد أعرضنا عن ذلك هنا مخافة التكرار الممل، والمخل في نسق الكتاب، والله هو الموفق والهادي إلى الحق والصواب.
الإجماع على الإباحة إجماع على التحريم:
وقد حاول بعضهم أن يقول: إن أهل العلم متفقون على
فإن قيل: إن هناك إجماعاً على الترخيص..
قيل: هناك إجماع على التحريم أيضاً..
على أن لفظ الترخيص مؤذن بالتوقيت، مشعر بأن هذا الحكم في طريقه إلى النسخ(1).
ونقول:
1 ـ إن هذا المعترض يجعل ما هو محل النزاع مورداً للاتفاق. فإن أهل العلم وان كانوا قد اتفقوا على تشريع المتعة، لكنهم لم يتفقوا على النسخ، وخلاف ابن عباس كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار، هذا فضلاً عن غيره من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد ذكرنا شطراً من القائلين بحلية هذا الزواج في فصل أقوال ومذاهب..
____________
(1) تحريم المتعة للمحمدي ص 186 بتصرف.
فما معنى قول هذا المعترض: إن أهل العلم متفقون على الطرفين، فإن كان يقصد به أهل العلم الذين يوافقونه، فلا يفيده ذلك شيئاً، وإن كان يقصد أهل العلم من المسلمين على سبيل العموم والشمول، فهو غير صحيح.
وفي مطلق الأحوال، إننا لا نستطيع أن نجد معنى صحيحاً، أو معقولاً لما يدعيه هذا المعترض من وجود إجماع على التحريم ليعارض به الإجماع على الترخيص. فهل هو لا يرى علياً (عليه السلام) وابن عباس، وجابراً وابن مسعود، وابن جبير والحكم وعمران بن الحصين، وحتى ابن عمر، وابن أم أراكة.. وعلماء مكة واليمن والمدينة، وعدداً من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم وغيرهم، هل لا يرى في هؤلاء جميعاً من يصلح لخرق الإجماع الذي يدعيه على التحريم؟!
2 ـ قوله: إن لفظ الترخيص مؤذن بالتوقيت، ومشعر بالنسخ، هو مجرد ادعاء وتحكم، إذ إن هذا اللفظ لا يشعر بهذا ولا يؤذن بذاك.
ثم يقول: إن أمد الرخصة ينتهي بعد سنة من الآن فقوله الثاني ليس ناسخاً للأول بل هو قرينة عليه..
أما إن لم يبلغ حد الدلالة الظاهرة فإنه لا يكون مؤذناً بالتوقيت. ولا مشعراً بالنسخ.
4 ـ قوله: إن الترخيص كان لظروف خاصة، ثم ادعاؤه الإجماع على ذلك. لا يصح إذ لا إجماع على التقييد بالظروف الخاصة.. بل إن ظاهر التشريع هو جعل الحكم لموضوعه بصورة مطلقة، كتشريع الزواج الدائم تماماً وكتشريع أحكام الإرث، والطلاق، والحج و..
الإجماع على الإذن، لا على الإباحة:
وزعموا أيضاً: أن الاجماع لم ينعقد على إباحتها ـ والتعبير بـ «إباحتها» خطأ. بل انعقد على الإذن بها، كما أذن بأكل الميتة، فإن الإباحة تكون لأمر ذاتي في الفعل.
ونقول:
أولاً:
إن كانت المتعة زنا كما يزعمون، فهل أذن الله ورسوله بالزنا؟.
ثانياً:
هل يمكن أن نتصور أن الاضطرار إلى النساء يصل إلى درجة يصبح الزنا فيها حلالاً؟ فيكون كالاضطرار إلى أكل
____________
(1) راجع: تحريم المتعة للمحمدي ص 188 و189.
(2) المصدر السابق ص 189.
ثالثاً:
أي دليل يدل على أن الأئمة قد تسامحوا فعبروا عن الإذن بالإباحة؟! إن هذا مجرد ادعاء يحتاج إلى إثبات.
رابعاً:
من الذي قال: إن إباحة المتعة لم تكن لأمر ذاتي في الفعل، تماماً كما هو الحال في الزواج الدائم؟! وكيف يمكن إثبات الخطأ في التعبير بكلمة: «إباحة».
خامساً:
إذا كان هذا المعترض ممن يقول بأن الحسن هو ما حسنه الشارع، وليس بالضرورة أن تكون الأحكام المجعولة تابعة للمصالح والمفاسد في نفس الأمر والواقع.. فلا يبقى معنى لاشتراط أن تكون الإباحة اقتضائية وناشئة عن أمر ذاتي في الفعل.
سادساً:
إن تحريم الزنا قد كان في مكة، وقبل الهجرة وأسوأ مظاهره إذا كان هو اتخاذ الاخدان والخلائل، فهل يمكن أن يكون الله قد حرم الزنا، الذي قد يتفق لإنسان ما مع امرأة ما، ويترك ما هو أشر وأضر، وهو اتخاذ الأخدان الذي يعني العشرة والانغماس في أجواء الزنا لمددٍ متطاولة.
وهل يصح للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يعفو عن أمر
سابعاً:
قال تعالى في سورة النساء الآية 25: (وآتوهن أجورهن بالمعروف، محصنات غير مسافحات، ولا متخذات أخدان).
وسورة النساء قد نزلت في أوائل الهجرة، فكيف ينهاهم الله عن المخادنة ثم يعفو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويتركهم ولا ينهاهم عنها إلى عام خيبر بل إلى عام أوطاس والفتح، وحجة الوداع؟!..
لا يرجع في المختلفات إلى علي وآل بيته (عليه السلام):
والغريب في الأمر قولهم: «قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته (عليه السلام)، فقد صح عن علي (عليه السلام) أنها نسخت، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد: أنه سئل عن المتعة، فقال هي الزنا