ونقول:
أولاً:
قد عد كثير من العلماء والمفسرين عمران بن حصين في جملة القائلين بحلية نكاح المتعة، إستناداً إلى هذه الرواية بالذات.
وقد ذكرنا مصادر ذلك فيما تقدم.
كما أن كثيرين قد ذكروا الرواية في دائرة متعة النساء، فراجع ما أورده النيسابوري، والرازي، وأبو حيان، والثعلبي، وغيرهم..
فإن كان البخاري وغيره قد فهموا أن المراد هو متعة الحج، فأوردوا الرواية في بابه؛ فهؤلاء قد فهموها في متعة النساء، فلماذا يرجح فهم اولئك على فهم هؤلاء.
وكلمة متعة الحج في بعض نصوصها إنما هي من تفسيرات الراوي وتوضيحاته التي ترمي إلى تأييد اتجاه معين.
إذ لو كانت في أصل الرواية لم يختلف هؤلاء وأولئك
____________
(1) راجع: تحريم المتعة للمحمدي ص 128.
ثانياً:
إن هذا الإصرار من عمران بن حصين إنما يناسب متعة النساء، فإن متعة الحج لم تكن مورداً للتحدي..
ويؤكد ذلك قولهم إن عمر حين منع عن عمرة التمتع «لم يرد إبطال التمتع، بل ترجيح الإفراد عليه»(1).
ثالثاً:
إن ظاهر رواية مسلم هو أن الراوي هو الذي فسر المتعة بمتعة الحج.. فإنه قد ذكر الرواية بطريقين فقال: «حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا قتادة عن مطرف، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم ينزل فيه القرآن قال رجال ما شاء»(2).
وذكر نصاً آخر:
«عن حامد بن عمر البكراوي، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، عن بشر بن المفضل، عن عمران بن مسلم، عن أبي
____________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي ج9 ص 208.
(2) صحيح مسلم ج 4 ص 48.
فنجد أن الراوي في الرواية الثانية: قد فسر فيها في البداية مراد عمران، ثم أقحمت في الرواية عبارة أفسدت السياق، فلاحظ قوله: ثم لم تنزل آية تنسخ آية المتعة في كتاب الله الخ..
وهكذا الحال في غير ما ورد في صحيح مسلم..
رابعاً:
قولهم في رواية النسائي وغيرها: «ان رسول الله قد تمتع وتمتعنا معه» يدل على أن المراد هو متعة الحج، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يمارس متعة النساء.
لا يصح، وذلك لما يلي:
1 ـ قد وردت نصوص دلت على أنه (صلى الله عليه
____________
(1) صحيح مسلم ج 4 ص 48 و 49.
2 ـ وحتى لو لم يثبت ذلك، فلا دليل على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يمارس هذا الزواج المؤقت.. بل تكون هذه الرواية نفسها دليلاً وشاهداً على حصول ذلك منه.
3 ـ قوله: «فعلناها مع رسول الله» لا يدل على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد فعل ذلك معهم بل يدل على أنهم قد فعلوها حين كانوا مع الرسول وفي عهده، وبمرأى ومسمع منه..
خامساً:
قد صرحت الرواية رقم 57، عن عمران بن الحصين بأنه يتحدث عن متعة النساء، فإطلاق الكلام في رواية أخرى للبخاري ومسلم والنسائي لا بد أن يحمل على ما صرحت به تلك الرواية..
والتقييد الوارد في رواية أخرى، يصبح غير ذي قيمة مع
____________
(1) وسائل الشيعة ج 21 ص 10 عن رسالة المتعة للمفيد وص12 و 13، ومستدرك وسائل الشيعة ج 14 ص 451 و 452 ومن لا يحضره الفقيه ج3 و 463 و 466 و467 ط جماعة المدرسين، وقرب الإسناد ص 44 والبحار ج 100 ص 305 و 306.
سادساً:
ولو سلمنا التصريح بمتعة الحج، فإننا نقول: إنه لا مانع من أن يكون عمران قد تحدث مرة عن متعة النساء، وأخرى عن متعة الحج، وأشار إلى نزول القرآن بتشريع هذه وتلك، مستعملاً نفس الأسلوب، ما دام أن ثمة توافقاً في إطلاق كلمة «المتعة»، وفي نزول آية قرآنية في هذه وفي تلك.. وفي تحريمهما من قبل الخليفة الثاني في مقام واحد.
سابعاً:
قولهم: إن قول عمران «فعلناها مع رسول الله» يقتضي التعميم. وهذا ما حدث في حجة الوداع حين أمر (صلى الله عليه وآله) أصحابه الذين لم يسوقوا هدياً أن يحلوا من إحرامهم بعمل عمرة..
غير كاف في إثبات ما يرمون إلى إثباته. وذلك لما يلي:
1 ـ إنه يكفي في صحة قوله فعلناها. هو فعل طائفة من الصحابة لأمر مّا بمرأى ومسمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليدل ذلك على جوازه. ولا يلزم أن يفعله الجميع..
2 ـ إنه إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد
ثامناً:
قولهم: إن قول عمران «ولم ينه عنها حتى مات» لم يحصل إلا بشأن متعة الحج أما المتعة فقد نهى عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله)..
عجيب وغريب، فإنه مصادرة على المطلوب، واستدلال بما هو محل النزاع، وبما هو غير ثابت، بل الثابت خلافه.. وأن عمر هو الذي نهى عنه كما نهى عن متعة الحج..
لم ينهنا أي: ما بلغنا:
وثمة من يحاول الهروب من غائلة القول بإستمرار حلية زواج المتعة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيفسر قول عمران بن الحصين: «قال رجل برأيه ماشاء».. كما ويفسر قولهم: «لم ينهنا عنها».
بأن المراد: ما بلغنا أنه نهى عنها.
ونقول:
إن من الواضح: أن هذا تأويل بارد ورأي فاسد، لا ينسجم مع ظهور الكلام، الذي ينفي صدور النهي من الأساس من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإلا، فقد كان بإمكانه أن يقول: ما بلغنا أنه نهى عنها، فإنه عربي صميم، يعرف كيف يعبر عن مقاصده.
ولو فتح باب التأويلات: من هذا الطراز لم يبق حجر على حجر، ولأمكن قلب الحقائق، ولظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي المؤولين..
مع رواية ابن مسعود حول المتعة:
ذكرنا في فصل النصوص والآثار، رواية لابن مسعود حول المتعة، قرر فيها حليتها، مستشهداً لذلك بآية: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ولا تعتدوا.
قال البيهقي: قال الشافعي: «ذكر ابن مسعود الإرخاص في نكاح المتعة، ولم يوقت شيئاً يدل، أهو قبل خيبر؟ أو بعدها. وأشبه حديث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، في نهي النبي
ثم أشار البيهقي إلى رواية أخرى، لابن مسعود، تذكر: «أن المتعة إنما حللت لهم وهم شباب، مع أن ابن مسعود كان له من العمر يوم خيبر أربعون سنة، أو قريباً منها، والشباب كان قبل ذلك، فتحليل المتعة لا بد أن يكون قبل خيبر»(1).
ونقول:
أولاً:
إذا كان ابن مسعود هو الذي تلا هذه الآية: (لا تحرموا ما أحل الله لكم..) كما هو صريح رواية البيهقي ومسلم، وكثير ممن نقلوها عن البخاري.. فإن هذا يكون إعتراضاً من ابن مسعود على عمر في تحريمه لزواج المتعة، ويكون ابن مسعود من القائلين بإستمرار حليتها.
وهذا ما لا بد من إستظهاره: من كل من جعل الآية من تلاوة ابن مسعود، وهو أيضاً ما اعترف به النووي، والقرطبي،
____________
(1) سنن البيهقي ج 7 ص 201.
وأما إذا كانت كلمة عبد الله قد حذفت من قوله: «قال عبد الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم..).
فكما يحتمل أن تكون الآية من تلاوة ابن مسعود، كذلك يحتمل أن تكون من تلاوة النبي (صلى الله عليه وآله) ـ كما فهم المظفر والجصاص..(2).
ومعنى ذلك هو: أن النبي (صلى الله عليه وآله) يتنبأ بأن البعض سوف يقدم على تحريم هذا الزواج بعد وفاته (صلى الله عليه وآله).
فيكون ذلك منه (صلى الله عليه وآله): بمثابة تحذير، وزجر لمن يريد أن يفعل ذلك، وإدانة لما يقدم عليه، لما فيه من تحريم ما أحله الله سبحانه..
وقد رأينا منه (صلى الله عليه وآله): العديد من التنبؤات
____________
(1) راجع: شرح صحيح مسلم [مطبوع بهامش إرشاد الساري] ج 6 ص 123، وفتح الباري ج 9 ص 102، وزاد المعاد ج 4 ص 6.
(2) أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 151، ودلائل الصدق ج 3 ص 99.
ومهما يكن من أمر فقد قال ابن قيم الجوزية: «ظاهر كلام ابن مسعود إباحتها»(2).
وثانياً:
قول البيهقي: «إن وصف الشباب لا يصدق على من له من العمر أربعون سنة»، لا يصح، بل ان سن الأربعين هو عنفوان الشباب، كما هو معلوم.
____________
(1) راجع سنن ابن ماجة ج 1 ص 6 و 7، ومسند أحمد ج 4 ص 131 و 132 و ج 6 ص 8، ودلائل النبوة للبيهقي ج 1 ص 24، ومصابيح السنة ج 1 ص 158 و 159، ومستدرك الحاكم ج 1 ص 108 و 109، وتلخيص المستدرك للذهبي [مطبوع بهامشه]، والجامع الصحيح للترمذي ج 5 ص 37 و 38، وسنن الدارمي ج 1 ص 144، وسنن أبي داود ج 4 ص 200 و ج 3 ص 170، والإملاء والاستملاء ص 4، وكشف الأستار عن مسند البزار ج 1 ص 80، والمصنف للصنعاني ج 1 ص 453 والأم ج 7 ص 410، والكفاية في علم الرواية ص 8 و 11.
(2) زاد المعاد ج 4 ص 204.
الزيادة في رواية ابن مسعود:
وقد زعم العسقلاني: ان رواية ابن مسعود المتقدمة في الفصل السابق برقم: 56، لا تدل على حلية زواج المتعة فقد ذكر أن ظاهر استشهاد ابن مسعود بالآية هنا: يشعر بأنه كان يرى جواز المتعة، فقال القرطبي: لعله لم يكن حينئذٍ بلغه الناسخ ثم بلغه فرجع بعد.
فعقب عليه العسقلاني بقوله:
«قلت: يؤيد ما ذكره الإسماعيلي: أنه وقع في رواية أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد: «ففعله ثم ترك ذلك» قال: وفي رواية لابن عيينة، عن إسماعيل، ثم جاء تحريمها بعد، وفي رواية معمر عن إسماعيل «ثم نسخت»(1).
ونقول:
1 ـ لو كان لهذه الزيادات المزعومة أي اعتبار لذكرها البخاري، ومسلم في صحيحهما..
____________
(1) فتح الباري ج 9 ص 102.
كما أن قوله: «ثم جاء تحريمها بعدً لا يدل على أن التحريم جاء من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) بالخصوص، وعلى هذا، فلا يمكن الاعتماد على زيادة هذه حالها».
3 ـ إن هذه الزيادة تتناقض مع الاستشهاد بالآية، لأن هذا الاستشهاد يفيد الإنكار على من حرم، ومنع، وهذا الاستشهاد يفيد صوابية هذا التحريم والمنع، وهذا ظاهر.
زيادة في رواية ابن مسعود:
قال بعضهم معترضاً: أما حديث ابن مسعود (رض) فهو موضع اتفاق عليه، ولكن أخرج عبد الرزاق في مصنفه زيادة فيه، تحدد زمن
ونحن لا ننكر الترخيص فيها قبل خيبر، ثم تحريمها كما سبق.
وأما قوله: «إن استشهاد الرسول يتضمن إنكاره لقول من يقول بالتحريم».
فالجواب: أن الآية الكريمة، صرح مسلم: أن ابن مسعود هو المدلل بها على ما ذكر، ولفظه: «ثم قرأ علينا عبد الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)، وليس الرسول (صلى الله عليه وآله)»(2).
ولا دليل على ما ذكره المخالف، إذ أن المتعة في زمن الترخيص فيها من الرسول (صلى الله عليه وآله) كانت من الطيبات، ثم لما وقع الحظر منه (صلى الله عليه وآله) صارت محرمة(3). انتهى كلام هذا المعترض.
____________
(1) المصنف ج7 ص506.
(2) قد أرجع المعترض إلى: صحيح مسلم 5/1/182 وصرح بذلك أيضاً الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري. كذا في الفتح 9/119.
(3) نكاح المتعة للأهدل ص311.
ونقول:
قد اعترف هذا المستدل بأن ابن مسعود هو الذي استشهد ودلّل بالآية الكريمة على مقصوده، وليس هو الرسول..
ومن الواضح: أن ذلك أشد إحراجاً للمستدل، لأنه يدلل على استنكار ابن مسعود على من يحرم المتعة، ويقول له: كيف تحريم طيبات أحلها الله لك؟!
بل لو أن الآية كانت من كلام الرسول لصح القول: إن الرسول إنما يرد على من استنكف عن المتعة، ولم يرض بها حين حللها الله ورسوله.. ولا يدل على استمرار الحلية إلى ما بعد وفاته.
ومهما يكن من أمر: فإنه لما كان ابن مسعود هو الذي يستنكر على من حرمها. ويقول له: لا تحرم طيبات أحلها الله لك، فإن ذلك أدلّ على بقاء حلية زواج المتعة إلى ما بعد وفاة الرسول..
وذلك يتناقض مع عبارة: «ثم حرمها بخيبر» ويدل على أنه كلام غريب قد دس في كلام ابن مسعود بصورة عشوائية، لحاجة في النفس، وقد أوجب إدراجه فيه اختلالاً وتناقضاً
ألا نستخصي.. ودلالاتها:
وبالنسبة لرواية عبد الله ابن مسعود التي مرت في الفصل السابق برقم 56 وفيها أنهم كانوا في الغزو فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «ألا نستخصي، فنهاهم ثم رخص لهم بالمتعة».
نقول:
قال أبو حاتم: «الدليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله): ألا نستخصي عند عدم النساء، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى»(1).
ونقول:
لعل ابن مسعود لم يكن يعلم لا بحظرها، ولا بإباحتها، ففهم من توجيه النبي (صلى الله عليه وآله) لهم أنها
____________
(1) الإحسان ج 9 ص 449 ط بيروت، دار الكتب العلمية 1407 هـ 1987 م، والجامع لأحكام القرآن ج 5 ص 130.
وقال البيهقي تعليقاً على قول ابن مسعود: «كنا ـ ونحن شباب ـ فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصي، قال: لا، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل» ما يلي: «وفي هذه الرواية ما دل على كون ذلك قبل فتح خيبر أو قبل فتح مكة، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه توفي سنة إثنتين وثلاثين من الهجرة، وكان يوم مات ابن بضع وستين سنة. وكان فتح خيبر في سنة سبع من الهجرة، وفتح مكة سنة ثمان فعبد الله سنة الفتح كان ابن أربعين سنة أو قريبا منها. والشباب قبل ذلك [وقد نهى] رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن متعة النساء زمن خيبر»(1).
ونظن أننا: لسنا بحاجة إلى التعليق على هذا القول، فهل كان ابن مسعود شاباً سنة سبع ثم أصبح شيخاً في سنة ثمان أو تسع؟!.
____________
(1) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 201.
ابن مسعود يسمي المتعة سفاحاً:
وقد ذكر البعض: أن ثمة روايات صحيحة سنداً، تقول: إن ابن مسعود سمى المتعة سفاحاً، ويقرب من المستحيل أن يفتي بإباحتها بعد أن يعلن أنها بمنزلة السفاح(1).
ونقول:
أولاً:
إن روايات تحليل ابن مسعود للمتعة صحيحة السند، وقد رويت في كتب الصحاح فإذا كان من المستحيل أن يفتي بإباحتها بعد أن اعتبرها بمنزلة السفاح، فإن من المستحيل أيضاً: أن يعتبرها بمنزلة السفاح بعد أن أفتى بإباحتها.
ثانياً:
إذا كان الله ورسوله قد حرما هذا الزواج فإنه يكون سفاحاً بالفعل لا بمنزلة السفاح..
ثالثاً:
إن لنا أن نحتمل أن تكون روايات التحريم عنه قد كانت قبل وفاة عمر، وذلك مجاراة له بسبب خوفه منه وذلك لتهديده برجم فاعلها، ولكنه لم يصرح بالتحريم بل اعتبرها ـ بمنزلة ـ السفاح. فلما مات عمر وارتفع المانع عاد فجهر
____________
(1) نكاح المتعة للأهدل ص307.
إلا أن يدعي هؤلاء: ان ابن مسعود أيضاً قد علم بالتحريم من قبل عمر بن الخطاب أيضاً حينما أعلن أنه هو الذي حرم ما كان حلالاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعهد أبي بكر.
فإذا كان الأمر كذلك: فلا بد أن نسأل عن السبب في انحصار المعرفة بالتحريم المؤبد بهذا الرجل الذي أظهرت الروايات أنه لم يكن على اطلاع على كثير من الأحكام. وقد أورد في كتاب الغدير، وفي كتاب النص والاجتهاد، وفي كتاب دلائل الصدق وغير ذلك الكثير من الموارد والشواهد على هذا الأمر..
الفصل الخامس
محاذير لا تصح في روايات
ابن عباس، وعلي (عليه السلام)، وابن عمر.. و..
سل أمك:
قد ورد في فصل النصوص والآثار [حديث 27 و 28]: أن ابن عباس قال لابن الزبير: سل أمك.. الخ، فسألها، فأقرت بأنها ما ولدته إلا في المتعة.
وثمة أحاديث كثيرة أخرى ذكرناها في ذلك الفصل تدخل في هذا السياق فراجع.
وقد ناقش البعض في هذه الرواية: بإستبعاد أن يكون المراد هو متعة النساء، فقال ما ملخصه:.. قلت: وهذا أضعف ناصر، وأوهى دليل، وأدل على ضعف المستدل به، وقلة علمه بأحكام الشريعة، وأخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسيرة أصحابه، حين ترك الظواهر الصحاح من ذلك، وعدل إلى ما لا نفع له فيه..
وذلك أن أصحاب السيرة والتاريخ نقلوا أن الزبير تزوج
وما ذكره المخالف: لا أصل له، ولم يعرف في كتاب أحد من أئمة الحديث، وأصحاب التصانيف، وحافظي الصحاح.
والذي يدل على صحة ذلك: أن الحجاج لما حصر عبد الله بن الزبير بمكة كان أصحابه يعيرون عبد الله فيقولون: يا ابن ذات النطاقين، فذكر ذلك لأمه أسماء فقالت: وتلك شكاة زائل عنك عارها، وأخبرته أنها سميت بذات النطاقين لأنهم لما صفوا سفرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين هاجر هو وأبو بكر لم يحضرهم ما يشدون به السفرة، فأمرها أبو بكر أن تشق نطاقها إثنتين، وربطت بأحدهما السفرة، والسقاء بالآخر.
فلو كان هذا الذي ادعاه المخالف صحيحاً: لم يجد الحجاج وأصحابه مع مخالفتهم في جواز المتعة وإعتقادهم لبطلانها عيباً لعبد الله بن الزبير مثل أن يعيروه بأن أمه تزوجت متعة، وذلك لا يجوز عندنا وعندك، فهذا عيب فيك..
وكان ذلك أبلغ من ذكر النطاقين الذي هو مدح له، وهم يعرفون ذلك، فلما لم يذكروا ذلك دل على أنه لا أصل له..
وعلى أنه لو أورده المخالف في كتاب وإسناد ـ ولا يقدر
ويقول المسعودي: «.. الزبير قد تزوج أسماء بكراً في الإسلام، وزوجه أبو بكر معلناً، فكيف تكون متعة النساء؟!»(2).
أي فلا بد أن يكون المراد: أنها ولدته في متعة الحج..
وقالوا أيضاً ما يلي:
أ ـ لو كانت أسماء ولدت ابن الزبير في المتعة لكان على الزبير أن يخلي أسماء ويفارقها عندما قال النبي (صلى الله عليه وآله): «فمن كان عنده شيء فليخل سبيلها».
ب ـ إن رواية الراغب في محاضرات الأدباء ليس لها سند فلا تعارض الروايات المسندة.
ج ـ إن ابن عباس يصف ابن الزبير بأنه عفيف في الإسلام، قارىء القرآن، أبوه حواري رسول الله، أمه بنت
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 118 و 120.
(2) مروج الذهب ج 3 ص 82.
فلا يعقل إذن: أن يقوله في وجهه، وفي إمارته، وعلى ملأ من الناس: «سل أمك أسماء إذا نزلت عن بردي عوسجة..» الخ.
د ـ إن حديث سطوع المجامر أخرجه أحمد في مسنده ج6 ص344 و 345 وذكر أن سطوع المجامر إنما كان في حج التمتع لا في متعة النساء.
ولكن هذه المناقشة غير واردة وذلك لما يلي:
أولاً:
إن كان المقصود أنها إنما ولدته في متعة الحج فإن ابن الزبير قد ولد في أوائل الهجرة، ولم تكن أسماء ولا الزبير قد أحرما للحج، ولا أرادا مكة.
وحتى لو فرض أنها كانت قد حملت به في مكة في موسم الحج فإنه ليس على المقيم في مكة حج تمتع.
كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن قد تحدث عن هذا الأمر.
ولا كانت آية متعة الحج قد نزلت بعد..
وثانياً:
إن زواج المتعة لا ينافي الإعلان، ولا البكارة، إذ أن
وعليه.. فلم يكن ثمة مانع من الإعلان، ولا من إذن الأب لابنته في التزوج متعة، فضلاً عن عدم مانعية البكارة من ذلك، فإنه يجوز التمتع بالبكر كما يجوز بالثيب، تماماً كما هو الحال في النكاح الدائم.
وثالثاً:
قد صرحت بعض نصوص هذه القضية بأن الحديث بين ابن عباس وابن الزبير قد كان عن خصوص متعة النساء حيث يذكر ابن عبد ربه مثلاً: «أن ابن الزبير عيّره بقتال أم المؤمنين، وبأنه يفتي بزواج المتعة..».
فكان من جواب ابن عباس له قوله: «.. وأول مجمر سطع
ورابعاً:
قد ذكرنا في ذلك الفصل حديث مسلم القرى قال: دخلنا على أسماء بنت أبي بكر، فسألناها عن متعة النساء فقالت: فعلناها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2). وهي رواية صحيحة السند.
وخامساً:
إن مدة المتعة قد تطول إلى عشرين، وثلاثين سنة، أو أكثر، ولولم تطل، فإن ذلك لا يمنع من التمتع لمدة، فيولد لهن من المتعة أولاد ـ كما حصل ذلك في زمن عمر، بالنسبة لابن أم أراكة، وغيره.. وقد يدعوهم ذلك إلى تجديد عقد زواج دائم، إما لحفظ المولود الجديد، أو لتحقق القناعة والانسجام بين الزوجين، أو لغير ذلك من أسباب.
وسادساً:
قوله: إن تعييره بأنه ولد في المتعة، أبلغ من تعييره بأنه ابن ذات النطاقين «الذي هو مدح له، وهم يعرفون ذلك».
أضف إلى ذلك: أن ولادته من المتعة في أول الإسلام ليس فيها ما يوجب التعيير، لأنه ولد من نكاح شرعي صحيح.
وسابعاً:
قوله: إن ابن الزبير سأل عن أمر النطاقين، فأخبرته بشقها لنطاقها حين الهجرة لأجل زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر.. يفيد: أن ابن الزبير لم يكن إلى ذلك الوقت على علم بأعظم فضيلة تنسب إلى أمه، ويناله شرفها، وفضلها رغم مرور عشرات السنين قد تصل إلى ما يقارب السبعة عقودمن الزمن.. فهل يعقل أن يعرف الناس لهم هذه الفضيلة، ثم لا يعرف بها من تعنيه أكثر من أي إنسان آخر على وجه الأرض؟!.
وثامناً:
إن قضية النطاقين يشك في صحتها من الأساس، وقد تحدثنا عن ذلك في كتاب الصحيح في سيرة النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) حيث ذكرنا هناك.
2 ـ يقول المقدسي: «ويقال: لما نزلت آية الخمار ضربت يدها إلى نطاقها، فشقته نصفين، واختمرت بنصفه»(2).
3 ـ يقال: إنها قالت للحجاج: «كان لي نطاق أغطي به طعام رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النحل، ونطاق لا بد للنساء منه»(3).
فأي ذلك هو الصحيح يا ترى؟.
وتاسعاً:
قولهم: إنه لو كان الزبير قد تزوج أسماء متعة لكان عليه تخلية سبيلها كما أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
لا يصح، وذلك لما يلي:
أ ـ إنه قد يكون تزوجها متعة لفترة سنة أو أكثر فولدت له، ثم تزوجها زواجاً دائماً بعد ذلك..
____________
(1) راجع لبعض موارد التناقض: الإصابة ج 4 ص 230، والاستيعاب المطبوع مع الإصابة ج 4 ص 233.
(2) البدء والتاريخ ج 5 ص 78.
(3) الإصابة ج 4 ص 230، والاستيعاب المطبوع مع الإصابة ج 4 ص 233.
ج ـ لو صح أنه (صلى الله عليه وآله) قد أمر بذلك، فإنما يكون قد أمر الذين تمتعوا في الغزو وأرادوا الرجوع إلى بلادهم، حيث لا معنى لإبقاء العلقة بينهم وبين أزواج قد لا يرونهم ولا يتيسر لهم اللقاء بهم بعد ذلك.
عاشراً:
بالنسبة لسند رواية الراغب نقول: إننا لم نستدل بها وحدها بل هي تمثل مفردة تضاف إلى عشرات أمثالها ليشكل المجموع تواتراً على بقاء هذا التشريع.
على أن هذه الرواية لا تختص بما أورده الراغب، فهناك ما أورده الطحاوي أيضاً وغيره، فراجع فصل النصوص والآثار في مصادر أهل السنة.
حادي عشر:
وحول وصف ابن عباس لابن الزبير هو الآخر لا يصح، كيف، وقد حاربه في الجمل.. وأراد ابن الزبير أن يحرق بني هاشم في مكة.. وقد قطع الصلاة على النبي أربعين جمعة بغضاً ببني هاشم.. وقال عن ابن عباس: إنه أعمى الله قلبه كما أعمى بصره كما في الصحاح.
وأما حديث سطوع المجامر فإننا نقول:
أ ـ لماذا لا يقال بتكرر القصة في متعة النساء تارة ومتعة الحج أخرى.
ب ـ إن الحساسية إنما كانت شديدة في قضية متعة النساء.. وهي التي كان ابن الزبير يتهدد ويتوعد فاعلها بالرجم.
ج ـ من الذي قال: إن القضية لم تحرف من متعة النساء إلى متعة الحج لوجود دواع قوية لهذا التحريف.
المتعة قبل الهجرة حلال أم حرام؟!
ولكن يبقى أن نشير: إلى أن تشريع المتعة إذا كان في المدينة، فهذه الرواية أعني زواج الزبير بأسماء متعة إنما تصح على قول الواقدي، وغيره من أن ولادة ابن الزبير، قد كانت في
ويقول العلامة الطباطبائي رحمه الله: «من المعلوم بالضرورة: أن التمتع كان معمولاً به في مكة قبل الهجرة في الجملة، وكذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة..»(2).
ولعل ملاحظة أقوال القائلين بالتحريم تؤيد هذا المعنى.. لا سيما رواية ابن مسعود القائلة: «إن تشريع المتعة إنما كان في أول الإسلام».
ولا مانع من صحة ذلك: فإن التشريع لا ينحصر بنزول الآيات، بل قد يكون على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أولاً، ثم تنزل الآية بعد ذلك ـ ولو بسنوات ـ لوجود ما يقتضي
____________
(1) راجع الإصابة ج 2 ص 309، والإستيعاب بهامش الإصابة ج 4 ص 301، وتهذيب التهذيب ج 5 ص 213.
(2) تفسير الميزان ج 15 ص 14.
استدلال باطل:
وبذلك يتضح عدم صحة قول بعضهم: إن المتعة كانت محرمة قبل الهجرة بدليل: أن أول حديث جاء بشأنها قبل خيبر ورد بلفظ رخص. ورخص فعل يؤذن بالإباحة قبل الحظر، فقد ورد في حديث ابن مسعود: «ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل.. ثم رفعت هذه الرخصة بنهي الرسول وتحريمه لها بخيبر، ثم رخص فيها ثلاثة أيام عام الفتح، ثم حرمت إلى يوم القيامة»(1).
ونقول:
أولاً:
إن رواية ابن أبي شيبة وأحمد وغيرها تقول: إن ابن مسعود قال: «كنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) ونحن شباب، قال: فقلنا:.. الخ..» فكيف عرف هذا المستدل أن ذلك قد كان أيام خيبر،
____________
(1) نكاح المتعة للأهدل ص321.