لو كان قول عمر رواية:
ولو سلمنا أن قول عمر قد كان رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا تشريعاً من عند نفسه(1)، فإنما هو خبر واحد، لم يرد في الصحيحين اللذين رويا أخبار الحلّية، ولا يثبت النسخ بخبر الواحد، فكيف إذا كان معارضاً بكل تلك الروايات التي تثبت بقاء الحلية في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، وعهد أبي بكر، ثم في شطر من خلافة عمر نفسه، بل وبعد ذلك أيضاً، حسبما أوضحناه في بعض فصول هذا الكتاب..
لماذا سكت عمر؟! ولماذا تكلم؟!.
ولست أدري لماذا لم يظهر عمر هذه الرواية له عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في عهد أبي بكر، أو على الأقل في أوائل خلافته هو نفسه، فهل كان يعلم بحكم الله، ولـم يبلّغه للناس عن عمد وقصد طيلة هذه السنين؟
أم أنه قد نسي أن يبلّغهم إياه؟!.
____________
(1) كما حاولت بعض الروايات أن تدعي فراجع فتح الباري ج 9 ص 149.
وماذا كان يصنع المسلمون في عهد أبي بكر، وفي أيام عمر، قبل تحريمه للمتعة؟!، فهل كانوا يمارسون هذا الزواج؟ أم كانوا ممنوعين عنه؟ فإن كانوا يمارسونه، وكان حراماً، فلماذا لم يمنعهم أبو بكر، عما نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! وإن كانوا ممنوعين عن هذا الزواج، فماذا نصنع بالروايات التي تحدثت عن ممارسة الصحابة لهذا الزواج، بصورة طبيعية، وشائعة، وذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأبي بكر، وشطر من خلافة عمر؟! أم أن الصحابة كانوا يمارسون الزنا المحرم والعياذ بالله؟!..
وقد عرفنا في رواية أم عبد الله ابنة أبي خيثمة: أن ذلك الشامي قد أخبر عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينه عن المتعة، وكذلك أبو بكر، وحتى عمر نفسه في شطر من خلافته، ولم يكذبه عمر في قوله ذاك..
النكير على عمر:
وإذا كان عدم إنكار الناس على عمر يصلح شاهداً على
وقد صرحت بعض الروايات: التي أوردناها في فصل النصوص والآثار بأن الناس كانوا ينكرون على عمر تحريمه لزواج المتعة..
بل إن عمران بن حصين: قد تصدى له في نفس المجلس الذي أعلن فيه أنه يحرم المتعتين، ويعاقب عليهما، فراجع فصل النصوص والآثار الحديث رقم: [56] وغيره.
وإذا كان المقصود: بالنكير عليه هو أن يواجهوه بالعنف، فمن ذلك الذي يجرؤ على ذلك؟.
ثم إنهم أيضاً: لم ينكروا عليه توعده بالرجم لمن يتزوج امرأة إلى أجل! مع أنه عندهم لا يستحق الرجم حتى بناء على التحريم كما أسلفنا!.
كما أنه قد منع النبي من كتابة الكتاب، وقال إن النبي
إن الاعتراض قد لا يتيسر في بعض المواقع، بسبب خطورة الموقف وتهديدات عمر بالرجم تؤذن بوجود خطرٍ عظيم، لو كان ثمة اعتراض من أحد..
كما أن الاعتراض قد لا يكون مفيداً، إذا كان ثمة إصرار على هذا الأمر الواضح والبين..
التحدي والاستفزاز:
والملفت للنظر هنا: أن عمر بن الخطاب يواجه هذا الأمر بطريقة التحدي والاستفزاز: «وأنا أنهى عنهما»
فهل من حق عمر أن يحلل ويحرم؟!
إن ذلك لا يحق للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) نفسه، فهل يحق لعمر؟!!.
سعي الشيعة إلى اتهام عمر:
وقد حاول البعض: أن يدافع عما ذهب إليه من تحريم هذا الزواج بطريقة أكثر جرأة على الادعاء غير الواقعي، فقال ما ملخصه:
إن الشيعة لم يأخذوا بأحاديث تحريم المتعة، لأنها من غير طرقهم وعن غير أئمتهم، وقد روى الشيعة أقوالاً تؤيد مذهبهم، كقول علي (عليه السلام): «لولا أن عمر نهى عن المتعة لما زنى إلا شقي».
وفيه اتهام لعمر بأنه نهى عما كان في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) سائغاً حلالاً، وهذا يوجب إسقاط الحديث، ويوهم أن التحريم لم يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله)، بل صدر عن عمر، مع أن المروي أنه عزا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
وهناك حديث صحيح: رواه الخمسة أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي نهى عنها، ونحن نستبعد صدور هذا الحديث عن علي، وقد روى علي (عليه السلام) نفسه: أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن المتعة..
كما أن حديث عمران بن الحصين، وحديث جابر، وحديث بدون سند عن عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله إلخ..»
ولكننا قرأنا: هذه الأحاديث مجتمعة في تفسيري الطوسي والطبرسي الشيعيين.
والأحاديث الثلاثة المشار إليها (حديث ابن الحصين، وجابر، وعمر) فيها ما يثير الشبهة، وهو أنها تريد أن تثبت كون التحريم ليس نبوياً، وإنما هو من عمر، لتشويه اسم عمر وتصويره أنه حرم ما أحل الله ورسوله عن بينة وقصد، وهو ما لا يعقل وقوعه منه..
وسكوت أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن جملتهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه دليل على أنه محرم من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)(1)، انتهى بتصرف وتلخيص.
____________
(1) المرأة في القرآن والسنة ص 181 و 183.
ونقول:
إن ما ذكره لا يمكن قبوله من جهات عديدة، بعضها ذكرناه فيما تقدم أو سيمرّ معنا فيما يأتي.. وبعضها نشير إليه باختصار شديد هنا.
فنقول:
أولاً:
قوله: إن الشيعة لم يأخذوا بأحاديث تحريم المتعة لأنها من غير طرقهم، وعن غير أئمتهم.. ليس فيه أية غضاضة على الشيعة. بل إن هذا هو النهج الصحيح، والمقبول. ونحن لا نطلب من أحد أن يأخذ بما لا تجتمع فيه شرائط الحجية بحسب ما لديه من قناعات ومقررات..
غير أننا نقول:
إن تشريع هذا الزواج باق وفق الضوابط والمعايير التي يستند إليها أهل السنة أيضاً، وروايات أهل السنة هي التي تثبته، وليس روايات الشيعة فقط.
____________
(1) فقه السنة ج 2 ص 42.
ثانياً:
رده رواية علي (عليه السلام)، بسبب أنها تتهم عمر بأنه قد نهى عما كان حلالاً في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك روايات جابر، وعمران بن حصين، ثم ردّه لقول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلخ..
في غير محله.. فإن علينا أن نأخذ الحقيقة استناداً إلى النصوص الثابتة بغض النظر عن الأشخاص، لأن البحث في أخلاقيات، ومواقف الأشخاص لا يأتي من مجرد الظن، والحدس. وقد ذكرنا:
أ ـ إن بعض التأويلات لما صدر عن عمر، لا يلزم منها اتهامه بما يسيء له حيث قال بعضهم: إن عمر قد منع عن هذا الزواج منعاً مدنياً، بهدف دفع الناس إلى الاحتياط فيه، وعدم التسرع الموجب لظهور المشكلات.
ب ـ قد وجدنا لعمر بن الخطاب نظائر في مجال تناول مفردات التشريع برأيه واجتهاده. وهي تدعونا إلى إعادة النظر في الأوامر التي يصدرها، وذلك كما هو الحال في كلمة «حي على
ثالثاً:
بالنسبة لسكوت الصحابة وعلي (عليه السلام) عن الاعتراض عليه، نقول:
أ ـ إنهم لم يسكتوا بل استمروا على مخالفته في هذا الأمر، وعلى القول بحلية هذا الزواج وممارسته طيلة عقود من الزمن. وقد تقدم ذلك بصورة تفصيلية، فلا نعيد.
ب ـ إنهم إذا كانوا يخافون بطشه، وسطوته، ويريدون الحفاظ على وحدتهم في مقابل الذين يريدون محق دين محمد (صلى الله عليه وآله) ـ على حد تعبير الإمام علي (عليه السلام) ـ فلا مجال للتعجب من هذا السكوت، كما سكتوا في قضية صلاة التراويح، وغيرها..
رابعاً:
قوله: إن حديث عمران بن حصين، وجابر، وقول عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا أحرمهما.. إلخ» وقول علي (عليه السلام): «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي» هي من روايات الشيعة، ليس بصحيح بل هي موجودة في أمهات مصادر أهل السنة وفي الصحاح أيضاً، كما يظهر من ملاحظة المصادر التي أرجعنا القارئ إليها حين
ولا نعتقد أن هذا القائل يجهل هذه الحقيقة، فقد رأيناه، يستقصي أحاديث المنع بما لا مزيد عليه، والأحاديث المشار إليها موجودة معها فلماذا يدعي هذه الدعوى العجيبة والغريبة؟!!.
ويا ليت هذا القائل يناقش روايات المنع بنفس الروح التي يناقش فيها روايات التحليل، لنجد كيف تكون النتيجة عنده.
قد يكون الحضور آنئذٍ أفراداً قلائل.
خامساً:
إن الإنكار المتأخر عن عهد عمر، يكفي في المطلوب: إذ أنه يكشف عن أن السكوت في زمنه قد كان لأسباب قاهرة هي التي فرضته، ولا يكشف عن الرضا.
سادساً:
قد أثبتت النصوص الكثيرة التي ذكرنا الشطر الأكبر منها: أن المتعة لم تنسخ على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل بقيت حلالاً على عهده (صلى الله عليه وآله)، وعهد أبي بكر، وشطر كبير من خلافة عمر نفسه، فلماذا سكت عمر على هذا الأمر طيلة سبع أو ثمان سنوات على الأقل، وسكت هو وأبو بكر وسائر الصحابة على ذلك طيلة خلافة أبي بكر أيضاً..
سابعاً:
إن عدم إنكار الصحابة لا ينحصر بكونهم عالمين بالتحريم وسكتوا، ولا بكونهم عالمين بالإباحة، وسكتوا مداهنة، إذ إن سكوتهم قد يكون بسبب الخوف من سطوته.
قد يكون سكوتهم مجاملة له.
وقد يكون سكوتهم لكونهم ناسين كما نسي خليفتهم حكم القرآن في مسألة الصداق، حين اعترضت عليه تلك المرأة، فإذا جاز النسيان عليه جاز على غيره.
وقد يكون سكوت بعضهم ـ ولعلهم هم الذين حضروا ذلك المجلس ـ بسبب الجهل بأنه لا يجوز له التحريم من قبل نفسه.
أو لأنهم يرون أن الخليفة قد اجتهد برأيه لمصلحة زمنية اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة.
فعدم إنكارهم على هذا الفرض لا يوجب تكفيرهم، إذا اعتقدوا أن لولي الأمر مثل هذه الصلاحية، لكن اتباع الخليفة كانوا بسطاء لا يعرفون ذلك، فالتجأوا إلى دعوى النسخ..
ولعلهم يحتملون أن الخليفة كان يرى أن بعض الأحكام ليس ابدياً، بل هو تابع للظروف الوقتية، وهو رأي وإن كان
بل إن تنزيه الصحابة بهذه الطريقة القاطعة، والشاملة غير صحيح، فإن القول بعدالة كل صحابي يلزم منه تكذيب القرآن الحاكم بوجود المنافقين بينهم، وصريح بانقلاب بعضهم على أعقابه بمجرد موت النبي (صلى الله عليه وآله)..
فلعل من سكت من الصحابة عن هذا الأمر كان من المداهنين المنافقين.
ومن أصر على بقاء التحريم كان من الأتقياء الأبرار..
ومهما يكن من أمر: فقد حرم عمر وغيّر كثيراً من الأمور، ولم يجرؤ أحد على مواجهته.
وقد ذكرنا بعضاً من هذه الأمور: في موضع آخر من هذا الكتاب.
وذكر العلامة: الأميني في كتابه: «الغدير» شطراً من ذلك، فراجع ج 6 ص 83 باب نوادر الأثر في علم عمر.. ويشير رحمه الله إلى أن سكوت الصحابة إنما كان بسبب تهديده بالعقاب..
ثامناً:
قد ثبت أن عمر قد حرم متعة الحج ومتعة النساء
تاسعاً:
دعوى أن بعض الصحابة قد يكونون سمعوا الناسخ ثم نسوه، ثم تذكروه بتذكير عمر لهم، تنافي الروايات التي تتحدث عن إصرار كثير من الصحابة على القول بحلية المتعة، كما أنها تنافي نسبة جابر التحريم إلى عمر بعد أن ذكر استمرار الصحابة على العمل بالمتعة في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعهد أبي بكر، وشطراً أو إلى النصف من خلافة عمر، حيث يظهر منه أنهم إنما امتنعوا من أجل نهي عمر لهم، لا لأجل تذكرهم للنسخ.
كما أن عمران بن حصين، وابن مسعود يؤكدان عدم صحة ما صدر من عمر من منع لهذا الزواج.
وأحدهما يقول: «قال رجل برأيه ما شاء».
والآخر يستشهد: «بقوله تعالى: (لا تحرموا طيبات) إلخ».
عاشراً:
إن آية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).. لا تدل على
ولأجل ذلك نجد: أن عدداً من الصحابة لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر.
أحد عشر:
إن لزوم الكفر من القبول بتغيير أحكام الله، إنما هو فيما لو كان ثمة قبول بذلك من قبل الصحابة.. وقد عرفنا أنهم لم يقبلوا بذلك، بل استمروا على الخلاف، قولاً وفعلاً.
وسكوت بعضهم عن خوف بسبب التهديد والوعيد الصادر من الخليفة كما أشرنا يمنع من نسبة الكفر إلى ذلك البعض..
ثاني عشر:
إن عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يلزم منه الكفر، بل يلزم منه ارتكاب المعصية.
رجم عمر للمتمتع:
ويلفت نظرنا: تهديدات عمر للمتمتع بالرجم، وقد تبعه في هذه الشدة والحدة، عبد الله ابن الزبير حين هدد ابن عباس بالرجم إن هو تمتع.
وهو أمر غريب حقاً، وذلك لما يلي:
1 ـ فإن الفتوى المتداولة إلى يومنا هذا تقول: إنه لا رجم
2 ـ كما أنه لا خلاف في أن الحدود تدرأ الشبهات، فلو لم تكن المتعة حلالاً، فلا أقل من وجود الشبهة فيها، فكيف يجوز التهديد بالرجم، أو الجلد فيها.
3 ـ أضف إلى ذلك: أن عمر نفسه قد درأ الحد عن بغي بأجرة فكيف لا يدرأ الحد عن مستمتع(1) ولذلك حملوا كلامه هذا على المبالغة في النهي(2).
توجيهات لا تجدي لتهديدات عمر بالرجم:
وحين أشكل عليهم توعد عمر بن الخطاب بالرجم لمن تزوج متعة، لأنهم لا يرون عقوبة الرجم فيه، نجدهم قد ذهبوا في توجيه ذلك يميناً وشمالاً، ولعل ما ذكره الكاندهلوي هو الأجمع لأطراف هذه المسألة.
فهو يقول:
____________
(1) تعليقات لصاحب كتاب المناكحات والمفارقات مطبوعة بهامش كتاب صحيح مسلم سنة 1334 هـ ج 4 ص 38.
(2) المصدر السابق.
ويحتمل أن يريد بذلك: لو كنت أعلمت الناس برأيي في ذلك من تحريمه، ووجوب الحد، فيه لأقمت الحد لأن الأحكام لا تجري عند الخلاف إلا على ما رآه الإمام الذي يحكم في ذلك لا سيما إذا كان عنده في ذلك، من النص أو وجه التأويل ما يمنع قول المخالف.
وقال ابن عبد البر: الخبر عن عمر رضي الله عنه من رواية مالك منقطع، ورويناه متصلاً، ثم أسنده عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر: لو تقدمت فيها لرجمت، يعني المتعة، وهذا القول منه قبل نهيه عنها، وهو تغليظ ليرتدع الناس وينزجروا عن سوء مذهبهم وقبيح تأويلاتهم.
واحتمال أنه لو تقدم بإقامة الحجة من الكتاب والسنة على تحريمها لرجمت.. ضعيف لا يصح إلا على من وطئ حراماً، لم يتأول فيه سنة ولا قرآناً.
وروى ابن مزين عن عيسى بن دينار، وعن يحيى بن يحيى، عن ابن نافع: أنه يرجم من فعل ذلك اليوم إن كان محصناً، ويجلد من لم يحصن.
وروى عن مالك أنه قال: يذكر فيه الحد، ويعاقب إن كان عالماً بمكروه ذلك.
وجه قول عيسى بن دينار، ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك للناس، وخطبهم به، وخطبه تنتشر، وقضاياه تنتقل، ولم ينكر ذلك عليه أحد ولا حفظ له مخالف.
ووجه القول الثاني ما احتج به أصبغ: أن كل نكاح حرمته السنة، ولم يحرمه القرآن، فلا حد على من أتاه عالما عامداً، وإنما فيه النكال، وكل نكاح حرمه القرآن، أتاه رجل عالماً عامداً فعليه الحد، قال: وهذا الأصل الذي عليه ابن القاسم.
قال الباجي: وعندي أن ما حرمته السنة، ووقع الإجماع والإنكار على تحريمه، يثبت فيه الحد، كما يثبت فيما حرمه القرآن.
قال: والذي عندي في ذلك، أن الخلاف إذا انقطع، ووقع الإجماع على أحد أقواله بعد موت قائله، وقبل رجوعه عنه، فإن
وقال جماعة: ينعقد الإجماع بموت إحدى الطائفتين، فعلى هذا وقع الإجماع على تحريم المتعة، لأنه لم يبق قائل به، فعلى هذا يحد فاعله. وهذا على أنه لم يصح رجوع ابن عباس عنه.
ومما يدل على أنه لم ينعقد الإجماع على تحريمه: أنه يلحق به الولد. ولو انعقد الإجماع بتحريمه، وأتاه أحد عالماً بالتحريم لوجب أن لا يلحق به الولد، إلى أن قال:
وقال محمد في موطأه، بعد أثر الباب، وقول عمر رضي الله عنه: لو كنت تقدمت فيها لرجمت إنما نضعه من عمر رضي الله عنه على التهديد، وهذا قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا(1).
ونقول:
إننا نلفت النظر إلى أن ما ذكره آنفاً لا يمكن قبوله
____________
(1) أوجز المسالك ج 9 ص 410 و 411.
1 ـ إن هؤلاء يريدون أن ينعقد الإجماع على تحريم المتعة قبل قول عمر الآنف الذكر: «لو تقدمت لرجمت» أو «لا أجد رجلاً نكحها [أي المتعة] إلا رجمته بالحجارة» من أجل أن يصح التوعد بالرجم، بسبب أن الإجماع إذا انعقد صح الرجم، وصح التوعد به، ولأجل ذلك فسروه بأنه لو بيّن عمر ما عنده من النص لانعقد الإجماع، وصح له عند ذلك أن يرجم الفاعل..
ولكن بما أن الخلاف باق فإنه لا يستطيع أن يبادر إلى الرجم..
ونلاحظ على هذا التأويل:
أولاً:
إنه رغم بيان عمر لما عنده، فإن الناس لم يقبلوا منه ذلك، بل استمروا على القول بالحلية، وعلى ممارسة هذا الزواج.
ثانياً:
إن هذا التأويل لا ينسجم مع نسبة عمر المنع عن هذا الزواج إلى نفسه، لا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثالثاً:
إن حكم الرجم تابع لثبوت الحكم بالدليل القاطع، سواء أكان الدليل هو قول الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو الآية، أو الإجماع، أو غير ذلك، وليس تابعاً لخصوص الإجماع..
2 ـ وأما الاحتمال الثاني القائم على أساس قاعدة: «إن الأحكام لا تجري عند الخلاف، إلا على ما رآه الإمام، الذي يحكم في ذلك، لا سيما إذا كان عنده في ذلك من النص، أو وجه التأويل ما يمنع قول المخالف..».
فمن المعلوم: أن هذه القاعدة غير سليمة، والذي أطلقها هو الخليفة نفسه، وقد عارضه في ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) وردها عليه..
فقد روي: أن عمر بن الخطاب كان يعسّ ذات ليلة بالمدينة فلما أصبح قال للناس: «أرأيتم لو أن اماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد، ما كنتم فاعلين؟!
فقال علي بن أبي طالب: [ليس ذلك لك، إذن يقام عليك الحد، إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود](1).
ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم، ثم سألهم. فقال القوم مثل مقالتهم الأولى. وقال علي مثل مقالته الأولى»(2).
هذا إذا كان النظر إلى ما هو من قبيل الموضوعات الخارجية والتطبقيات، وأما في الأحكام، فالأمر فيها أكثر حساسية، وأعظم خطراً، فإذا لم يقبل ذلك في الموضوعات، فإن عدم قبوله في الأحكام يكون أولى.
أضف إلى ذلك: أن النص من شأنه أن يمنع قول المخالف، لكن كيف يمنع وجه التأويل، بل قول من يخالفه في التأويل، ومن الذي يحسم الأمر في مواضع الخلاف على هذا الأمر أيضاً.
ثم إنه لا يعقل أن يكون هذا الأمر العام والشامل، الذي يتعاطاه الناس استناداً إلى الآية الكريمة، وإلى أقوال رسول الله
____________
(1) راجع السنن الكبرى للبيهقي ج10 ص 144 والمصنف للصنعاني ج8 ص 340.
(2) الفتوحات الإسلامية [للسيد زيني دحلان] ج2 ص 466 وراجع: الاستغاثة ص 92 و93. وراجع كنز العمال ج5 ص 457 ط مؤسسة الرسالة بيروت ـ لبنان.
على أن كلام ابن عبد البر يمنع هذا الإحتمال، ويمنع الإحتمال السابق أيضاً، فليتفق هؤلاء على تفسير بعينه ليمكن النظر فيه.
3 ـ وأما عدم إنكار الصحابة على عمر حين هدد بالرجم، فقد ذكرنا مراراً أن عدم اعتراضهم عليه، ربما كان مخافة منه، ولعمر سوابق عديدة في إعلان أمور لا يجرؤ أحد على الاعتراض عليه فيها، مثل صلاة التراويح، وغيرها.
أضف إلى ذلك: أن الكثيرين قد اعترضوا عليه في ذلك، وذلك لإعلانهم عن رفضهم لقراره هذا، وقد قال عمران بن حصين: «قال رجل برأيه ما شاء» وتقدم موقف علي (عليه السلام)، وابن عباس، من أنه لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى
4 ـ واما قولهم: كل نكاح حرمته السنة، ولم يحرمه القرآن، فلا حدّ على من أتاه عالماً، عامداً، وإنما فيه النكال..
فهو غير صحيح:
أولاً:
ما هو الفرق بين التحريم بالسنة، وبين التحريم بالقرآن؟.
ثانياً:
إن هذا يبطل ما يزعمونه، من أن آيات حفظ الفروج، والعدة، والطلاق، والميراث، وغيرها قد حرمت زواج المتعة..
ثالثاً:
ما الدليل على هذه القاعدة المدعاة، فهل دلت عليها آية، أو رواية، أو غير ذلك؟!.
رابعاً:
قال الباجي المالكي: «عندي أن ما حرمته السنة، ووقع الإجماع والإنكار على تحريمه يثبت فيه الحد، كما يثبت فيما حرمه القرآن». وهو ما ذكر في المتن السابق نقله.
توجيهات وافتراضات لما صدر عن عمر:
بعد أن ظهر أن عمر بن الخطاب هو الذي حرّم زواج المتعة، ولم يعد يمكن إنكار ذلك، حتى قال ابن القيم: إن طائفة من الناس يقولون: «إن عمر هو الذي حرمها، ونهى عنها، وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) باتّباع ما سنه الخلفاء الراشدون إلخ..»(1) ـ نعم بعد أن أظهر ذلك ـ تعددت الافتراضات، والتفسيرات حول سر، وسبب إقدام عمر بن الخطاب على تحريم زواج المتعة، والظروف التي رافقت هذا النهي.
ولعل منشأ ذلك هو اختلاف رواياتهم في ذلك:
1 ـ فيرى ابن حزم، وتبعه الباقوري: أن سبب تحريم عمر للمتعة، هو ما رآه من إسراف الناس في الإقبال عليها(2).
وذلك يعني: أنه لم يحرمها، بل حرم الإكثار منها، والإسراف فيها.
2 ـ ويرى البعض الآخر: أن عمر إنما حرم المتعة، التي لا
____________
(1) زاد المعاد ج 2 ص 184.
(2) المحلى ج 9 ص 519 و 520، ومع القرآن ص 174.
3 ـ وهناك أسباب أخرى ذكرتها بعض الرويات في هذا المجال(2) لكن بعض رواتها متهمون؛ فلا مجال للتوقف عندها، ولا سبيل إلى تأييدها، ولأجل ذلك أهملنا التعرض لها..
4 ـ ويرى العلامة الكبير السيد محمد تقي الحكيم: أن سر ذلك يرجع إلى: «.. أن بعض المسلمين أساؤوا استعمال هذا التشريع، ودفعه في سورةٍ عاطفية إلى هذا التحريم المطلق، وقد ذكر اسم عمرو بن حريث في هذا المجال، وما ندري تفصيل قصتة، غير أننا ذكرنا قصته بالتفصيل في فصل: النصوص والآثار، فراجع.
____________
(1) راجع: المصدرين السابقين..
(2) راجع: بحار الأنوار ج 100 ص 303 و 304 وج 53 ص 28.
ونذكر القارئ الكريم هنا:
بأن ما ذكره من أن هذا التشريع كان جديداً على المسلمين هو الحق الذي لا محيص عنه، فإن القرآن الكريم، وكذلك النبي العظيم (صلى الله عليه وآله)، لم يكن ليشرع شيئاً من أمر الجاهلية، أو يقبل بالزنا، ويحلله للناس..
وذلك يوضح: عدم صحة ما ذكره أنيس النصولي في مقال له في جريدة الرأي العام، وموسى جار الله في كتابه: الوشيعة ص 32: من أن المتعة من أنكحة الجاهلية.
ومما يدل على عدم صحة هذه الدعوى أيضاً: أن
____________
(1) الزواج المؤقت ص 40 و 41، وقصة عمرو بن حريث التي أشار إليها قد ذكرنا تفصيلها في فصل: النصوص والآثار.
5 ـ أما العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، فيرى: أن عمر قد استنكر قصة في واقعة، مما أوجب تأثره، وتهيجه الشديد، فرأى أن من المصلحة المنع عنها مطلقاً، خوفاً من تكرار مثل تلك الواقعة الخاصة، اجتهاداً منه ورأياً، تمكن من ذهنه، فهو قد اجتهد برأيه لمصلحة رآها بنظره، في زمانه، ووقته، فمنع من استعمال المتعة منعاً مدنياً، لا دينياً.
ولكن بعض معاصريه، ومن جاء بعده من المحدثين البسطاء، لم يلتفتوا إلى الحقيقة، فارتبكوا، وتحيروا، وحاولوا إيجاد مخرج من هذا الأمر، وتصحيح ما صدر من الخليفة الثاني(2).
فكان ما كان.. ولفقت الحجج، وبذلت المحاولات، التي لم
____________
(1) راجع: صحيح البخاري، وسنن أبي داود، وتيسير الوصول ج 2 ص 330 ط الهند، وغير ذلك.
ومهما يكن من أمر: فإننا وإن كنا نوافق إلى أن الوقائع المختلفة، التي أشير إليها في الروايات المتقدمة تدل على أن عمر، قد اقدم على هذا النهي، بسبب أمر أهاجه، وأثاره، ثم تكرر هذا النهي لتكرر العودة إلى ممارسة هذا الزواج، فكان ثمة إصرار على ممارسته والتأكيد على حليته، يقابله إصرار على المنع، وذلك في مناسبات ووقائع مختلفة، حسبما أشرنا إليه..
نعم، إننا وإن كنا نوافق على ذلك لكننا نقول: إن ذلك لا يبرر التعدي على التشريع، وتناوله بالتغيير والتبديل، كما لا يبرر الانفعال من واقعةٍ بعينها وادعاء الألوهيه أو النبوة من قبل أي كان من الناس، فينصب نفسه للتلاعب بالأحكام، والابتداع وللتشريع وفق أهوائه وميوله.. فإن على من يواجه أمراً يحرجه أن يدفع ثمن التخلص من الإحراج من جيبه هو، ومن حسابه الخاص، لا أن يتعدى على التشريع، ويتصرف فيه كما يحلو له.
وأما دعوى: أنه أراد بذلك مصلحة المسلمين، فلا أدري ما هي مصلحة المسلمين السياسية أو غيرها في المنع عن متعة الحج، التي حرمها مع متعة النساء في مقام واحد..
التحريم إداري أم ديني ؟!:
وقد حاول البعض أن يقول: إن تحريم الخليفة لزواج المتعة إداري لا ديني، والعقاب كما يكون على مخالفة الأمر الديني الشرعي، كذلك يكون على مخالفة الأمر الإداري.
وقد يؤيد هذا القول ما رواه الطبري حيث قال: «حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا عيسى بن يزيد بن دأب، عن عبد الرحمن بن ابي زيد، عن عمران بن سواد، قال: صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان، وسورة معها، ثم انصرف، وقمت معه، فقال: أحاجة ؟ قلت: حاجة. قال: فالحق، قال فلحقت. فلما دخل أذن لي، فإذا هو على سرير ليس فوقه شيء. فقلت نصيحة. فقال: مرحباً بالناصح غدواً وعشياً.
قلت: عابت أمتك منك أربعاً.
قلت: ذكروا أنك حرمت العمرة في أشهر الحج ولم يفعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا ابو بكر (رض)، وهي حلال.
قال: هي حلال، لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية عن حجهم، فكانت قائبة قوب عامها. فقرع حجهم، وهو بهاء من بهاء الله، وقد اصبت.
قلت: وذكروا انك حرمت متعة النساء، وقد كانت رخصة من الله، نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.
قال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أحلها في زمان ضرورة، ثم رجع الناس الى السعة، ثم لم أعلم أحداً من المسلمين عمل بها، ولاعاد إليها، فالآن من شاء نكح بقبضةٍ وفارق عن ثلاث بطلاق وقد اصبت.
قال: قلت: وأعتقت الأمة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها.
قال: الحقت حرمة بحرمة، وما أردت إلا الخير واستغفر الله.
قلت: وتشكو منك نهر الرعية، وعنف السياق.