الصفحة 68

قال: فشرع الدرة ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: أنا زميل محمد الخ»(1).

ونقول:

إن لنا تحفظاً على هذا الاعتذار نوضحه فيما يلي:

1 ـ إن التحريم الإداري لا يقتضي العقوبة بالرجم، بل الذي يقتضي ذلك هو خصوص التحريم الشرعي؟.

2 ـ إن سياق كلام الخليفة لا يتلائم مع هذا التخريج، لأنه قد حرم متعة الحج أيضاً، وكذلك حي على خير العمل في الأذان في نفس الوقت.. ولا نجد وجهاً للتحريم الإداري لهما.

3 ـ إن تشريعها لحالات الضرورة، يقتضي عدم المنع عنها بصورة مطلقة. إلا بعد دراسة كل حالة على حدة، والتحقق من عدم وجود الضرورة فيها..

4 ـ سيأتي الحديث عن أن القول بأن تشريعها لأجل الضرورة لا يصح.

____________

(1) تاريخ الأمم والملوك ج3 ص 290 و291 وشرح النهج للمعتزلي ج12 ص 121 والجواهر ج30 ص 146 والغدير ج6 ص 212.


الصفحة 69

شواهد على أن التحريم إداري:

ولعل البعض يقول: إن ما تقدم من أن عمر لم يحرم المتعة دينياً، وإنما حرمها تحريماً مدنياً، وقتياً، حسبما أدى إليه اجتهاده، ورأيه، بسبب أن البعض قد أساء استعمال هذا التشريع، أو بسبب ثورة عاطفية كما يراه الحكيم، هو الصحيح، والحق الصريح، الذي لا محيص عنه، ولا مجال لإنكاره وله شواهد كثيرة.

فنلاحظ في الروايات المتقدمة: أن فيها ما يشير إلى ارتباك في تعليل النهي، وفي مورده من قبل الناهي نفسه..

فتارة: ينهى عن أن يتزوج المحصن متعة.

وتارة: ينهى عنها، لعدم الإشهاد الصحيح، والكافي بنظره.

وثالثة: بسبب أن البعض قد ولد لهم من المتعة، ولم يلتفتوا إلى أولادهم، أو أنكروا الأولاد.. وهكذا.. فقد تعددت واختلفت التعليلات باختلاف وتعدد الوقائع، حسبما قدمنا.

وهذا ما يؤيد، ويؤكد: أن النهي لم يكن على سبيل التشريع، أو جعل الحكم، بل على سبيل الاستفادة من هيبة الحكم، وشوكة السلطان.


الصفحة 70
ومما يدل على ذلك: أن لدينا تصريحاً بهذا الأمر من قبل عمر نفسه، واعترافاً منه بأنه لم يحرم المتعة اصلاً، بل يعترف: أنه ليس لعمر أن يحرم ما أحل الله، فقد روى: أحمد بن عيسى، عن القاسم، عن أبان، عن إسحق، عن الفضل، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «بلغ عمر: أن أهل العراق يزعمون: أن عمر حرم المتعة، فأرسل إليهم فلاناً ـ سماه ـ فقال: أخبرهم: إنّي لم أحرمها، وليس لعمر أن يحرم ما أحل الله، ولكن عمر قد نهى عنها..»(1).

وهذا التفريق بين النهي والتحريم، كان موجوداً منذ ذلك الحين.

فقد روى: في الكافي بسنده عن علي بن يقطين قال: «سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر، هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل، فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم لها، فقال له أبو الحسن: بل هي محرمة في كتاب الله إلخ..»(2).

____________

(1) البحار ج 100 ص 319، وفي هامشه عن: نوادر أحمد بن محمد بن عيسى ص 66، ومستدرك الوسائل ج 2 ص 87، عن النوادر أيضاً.

(2) الكافي ج 6 ص 406 والبحار ج 48 ص 149.


الصفحة 71

ونقول:

إن ذلك كله لا يصلح شاهداً على ذلك، وذلك لما يلي:

1 ـ إن عمر قد قال في خطابه لهم بالتحريم: إن المتعتين وحي على خير العمل قد كانتا حلالاً في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو يحرمها جميعاً.. والحديث هو عن التحريم المقابل لتحليل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2 ـ إننا لا نجد وجهاً للتحريم الإداري لمتعة الحج، وحي على خير العمل..

3 ـ إن التهديد بعقوبة الرجم يشير إلى ذلك أيضاً.

4 ـ محاولات عمر بعد ذلك: نسبة التحريم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن من يتمتع فإن عليه أن يأتي بأربعة يشهدون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أحلها بعد إذ حرمها.. وغير ذلك مما تقدم. يشهد على أن عمر قد حرم ما أحل الله، ولم يكن ما فعله مجرد منع إداري.

ولعله، حين ظهرت الاعتراضات عليه، وتفاقمت الأمور ضده.. قد حاول أو حاول محبوه تلطيف الأجواء، والتخفيف من وقع وهول ما جرى. فكانت التأويلات والتعليلات..


الصفحة 72

خلاصة وبيان:

ومهما يكن من أمر، فإننا لو سلمنا: أن تحريم عمر للمتعة كان تحريماً إدارياً لظروف معينة اقتضت ذلك، فإن ذلك يدل على أنه لا مسوّغ لاستمرار القول بالتحريم، لأن التدبير الإداري ينتهي بانتهاء ظرفه، ولا مجال بعد ذلك للاستمرار فيه.

وإن كان تحريمه: لأن لديه رواية في التحريم عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن ذلك يتعارض مع قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرمهما، حيث نسب التحريم إلى نفسه، لا إلى رواية رواها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى النصوص الأخرى التي تدل على بقاء الحلية بعد النبي (صلى الله عليه وآله).

بالإضافة إلى شواهد أخرى: أشرنا إلى كثير منها فيما سبق.

وإن كان تحريمه بسبب: أنه يرى أن له الحق في الاجتهاد في مقابل النص، فذلك أمر يرجع إليه وحجته فيه قائمة عليه، وليس حجة على سواه، والله ورسوله أولى بالاتباع من عمر، ومن كل أحد.


الصفحة 73


الفصل الثاني
في أجواء التحريم..





الصفحة 74

الصفحة 75

الرازي يحتج بإقرار عمر، بحلية المتعة:

إننا قبل أن نشرع في الحديث نشير إلى أن الرازي قد ذكر أن عمر قد أقر بحلية زواج المتعة، وأن قوله هذا حجة للقائلين بتحليل المتعة.

فهو يقول: «الحجة الثالثة: ما روي: أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا أنهى عنهما: متعة الحج ومتعة النكاح».

وهذا.. منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) وقوله: «وأنا أنهى عنهما» يدل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) ما نسخه، وإنما عمر هو الذي نسخه، وإذا ثبت هذا..

فنقول:

هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتاً في عهد

الصفحة 76
الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنه ما نسخه، وأنه ليس ناسخ إلا نسخ عمر، وإذا اثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخاً بنسخ عمر، وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال: «إن الله أنزل في المتعة آية، وما نسخها بآية أخرى، وأمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمتعة، وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء..

يريد: أن عمر نهى عنها»(1).

وبعد هذه الحجة الظاهرة، وهذا الاعتراف الصريح، ومن أحد أشد المدافعين عنه، ندخل في الحديث عن اعتذاراتهم عن عمر في تحريمه لهذا الزواج المشروع، فنقول:

متابعة الصحابة لعمر إجماع على التحريم:

يقول الطحاوي: «فهذا عمر رضي الله عنه قد نهى عن متعة النساء، بحضرة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم ينكر ذلك

____________

(1) التفسير الكبير ج 10 ص 54.


الصفحة 77
عليه منهم منكر، وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه من ذلك، وفي إجماعهم على النهي في ذلك عنها دليل على نسخها، وحجة»(1).

ونقول:

1 ـ لماذا ينقم الناس إذن على عمر تحريمه لزواج المتعة، حسبما ذكرته رواية الطبري؟! لقد كان ينبغي لهم ـ لو كان ثمة نهي ديني ـ أن ينقموا على الله ورسوله، والعياذ بالله، لا على عمر بن الخطاب.

2 ـ ما ذكره الطحاوي من متابعة الصحابة لعمر، وإجماعهم على ما نهى، عجيب وغريب وفي الفصول المتقدمة إجابة شافية وكافية على هذا القول.

3 ـ وإذا كان الصحابة مجمعون على التحريم، فلماذا استمر أهل مكة والمدينة واليمن على القول بحلية هذا الزواج، بل إن ابن جريج قد تمتع بسبعين أو بتسعين امرأة حسبما تقدم.

____________

(1) شرح معاني الآثار ج 3 ص 27.


الصفحة 78

قول عمر معارض بقول غيره:

قد تبذل محاولة لتبرئة عمر على اعتبار: أنه صحابي، وقول الصحابي حجة. فلابد من التسليم..

والجواب:

أولاً:

لا دليل على حجية قول الصحابي.

ثانياً:

لو سلمنا حجيته، فإنما هي في صورة عدم وجود نص على خلافه، فكيف إذا صرح الصحابي نفسه بوجود النص وبتعمد مخالفته؟!.

ثالثاً:

إذا كان قول عمر حجّة، لأنه صحابي، فليكن قول علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، و.. و.. حجة لأنهم من الصحابة أيضاً..

أو على الأقل ليكن قول هؤلاء معارضاً لقول الخليفة وحده، وليتساقط القولان، فيرجع إلى أصالة الحلية.

لماذا سنة عمر، وليس سنة علي (عليه السلام)؟

ولعل بعضهم يتخيل: أن هذه سنة عمر، وهو من الخلفاء الراشدين، ويجب أن يعضوا عليها بالنواجذ، كما أمرهم

الصفحة 79
الرسول (صلى الله عليه وآله).

والجواب:

أولاً:

إن هذا الحديث موضع ريب وشك.

ثانياً:

إن ما سنه الخلفاء فيه الكثير من التناقض والاختلاف فهل يؤخذ به وهو على هذه الصفة.

ثالثاً:

إن ما سنوه إذا خالف النص كان ابتداعاً وليس سنة.

رابعاً:

لو سلمنا، فمن الذي قال: إن المقصود هم الخلفاء الأربعة.. بل الظاهر أن المقصود هم الأئمة الاثنا عشر، الذين تحدث عنهم جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) كما في الصحاح حيث عبر عنهم في ذلك الحديث: بالخلفاء.

خامساً:

لو سلمنا، فلماذا لا يأخذون بسنة علي (عليه السلام) في التحريم؟! مع أنه من الخلفاء الراشدين أيضاً.

هل قصر الصحابة:

إن القول: إن عمر وحده هو الذي عرف وروى التحريم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيه اتهام لكبار

الصفحة 80
الصحابة، بل للصحابة جميعاً، بالتقصير في تبليغ أحكام الله، أو بالجهل، أو بعدم الاهتمام بتوجيهات الرسول (صلى الله عليه وآله).

سكوت الصحابة لماذا؟!:

ولربما يحلو للبعض: أن يعتبر سكوت الصحابة وعدم اعتراضهم على عمر بن الخطاب حين تحريمه لهذا الزواج.. يدل على أنهم كانوا يرون حرمة هذا الزواج أيضاً(1).

وسيأتي كلام الفخر الرازي حول هذا الموضوع بالذات أيضاً، فانتظر.

ونقول:

أولاً:

قد تقدم أن عمران بن حصين قد أنكر على عمر هذا الأمر، كما أنكره عليه آخرون، وأصروا على مخالفته، واستمروا على ممارسة هذا الزواج بالرغم من تهديده ووعيده،

____________

(1) مجلة الهلال المصرية عدد13 جمادى الأولى سنة1397 هـ. ق. أول مايو سنة 1977م.


الصفحة 81
وهذا يعتبر أبلغ اعتراض عليه بل ليس ثمة من إنكار أعظم من ذلك.

ثانياً:

إن هذا لا يصلح دليلاً على ذلك، لا سيما مع تهديد عمر لهم بالعقاب الذي كان يمارسه ضدهم في كل المواقع التي أقدم فيها على مثل هذا، فقد كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر(1) وقد تهدد أبا موسى الأشعري في حديث الاستئذان(2)، وكان يضرب من يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)..

وقد ذكر الجاحظ كلاماً يجيب به على سؤال: كيف لم ينكر الصحابة على أبي بكر في حكمه الخاطئ بدفع الزهراء عن الميراث، فإن في رضاهم وإمساكهم عن النكير عليه دليلاً على صوابه.. فكان مما قاله الجاحظ: «وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة، ودلالة واضحة،

____________

(1) أحكام الأحكام لابن حزم ج 5 ص 821.

(2) راجع مسند أحمد ج3 ص19 وسنن الدارمي ج2 ص274 ومشكل الآثار ج1 ص499 والغدير ج6 ص 158 عنهم وعن المصادر التالية: صحيح مسلم ج2 ص 234 كتاب الآداب وصحيح البخاري ج3 ص 837 ط الهند وسنن ابي داود ج2 ص 340.


الصفحة 82
وقد زعمتم: أن عمر قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله): متعة النساء ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما، فما وجدتم أحداً أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطّأه في معناه، ولا تعجب منه، ولا استفهمه؟!.

وكيف تقضون بترك النكير، وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: الأئمة من قريش، ثم قال في شكاته: لو كان سالم حياً ما تخالجني فيه شك، حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى، وسالم عبد لامرأة من الأنصار، وهي أعتقته، وحازت ميراثه.

ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل إنسان بين قوله، ولا تعجب منه.

وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلاً على صدق قوله وصواب عمله.

فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة، والأمر والنهي، والقتل والاستحياء، والحبس والإطلاق، فليس بحجة

الصفحة 83
تشفي، ولا دلالة تضيء»(1).

كما أنهم لم ينكروا منعه عن متعة الحج، ولا منعه من كتابة ورواية حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن أراد الاطلاع على شواهد كثيرة في هذا المجال، فليراجع كتاب الغدير ج 6 باب نوادر الأثر في علم عمر.. وغير ذلك..

والخلاصة: أننا لو سلمنا أنهم لم ينكروا عليه؛ فلعل عدم إنكارهم عليه يعود إلى بعض الأمور التالية:

1 ـ إنهم قد فهموا، أن نهيه لم يكن تحريماً تشريعياً مؤبداً، وإنما كان لمصلحة وقتية.. ويرون أن للحاكم أن يقدم على هذا لمصلحة يراها بنظره، وسيأتي الشاهد على ذلك من كلام عمر نفسه..

2 ـ خوفهم من بطشه، ولا سيما بملاحظة ما نعلمه من هيبة عمر وشدته على من خالفه، لا سيما مع ما يرونه من إصراره على المنع، وتهديده العنيف لمن يخالف.

____________

(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 16 ص 265 و 266، والشافي ج 4 ص 86 و 87.


الصفحة 84
3 ـ ولو سلمنا، فإننا نقول: إن اقتناعهم بأنه لا فائدة من الاعتراض.. ما دام أنه يصرّح لهم بأنه يعلم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أحل هذا الزواج وشرعه ـ نعم في اقتناعهم هذا ـ يجعلهم ينصرفون عن الاعتراض عليه، حيث يرون أن ذلك لا يجدي ولا يفيد..

وهذا هو الفارق بين هذا المقام، وبين الموارد التي رجع فيها إلى آراء الصحابة، حيث لم يكن عالماً بالحكم هناك وهو عارف به هنا.

كما أنه هناك كان يبدي استعداداً للعمل بما يقال له، أما هنا فهو يبدي إصراراً وعناداً على الخلاف والمنع..

وثالثاً:

لا يستطيع أحد أن يدعي أن ثمة من رجع منهم عن القول بالحلية، بل غاية ما يدعى هو امتناعهم عن الممارسة وعن الجهر بالخلاف، وهذا لا يلازم ذلك..

هل كفر الصحابة بسكوتهم ؟!

قال الفخر الرازي: الحجة الثانية ـ أي في تحريم المتعة ـ ما روي عن عمر بن

الصفحة 85
الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال في خطبته: (متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما) ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد.

فالحال ههنا لا يخلو من إشكال: إما أن يقال: إنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا إباحتها، ولا حرمتها فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك.

والأول: هو المطلوب.

والثاني: يوجب تكفير عمر، وتكفير الصحابة، لأن من علم أن النبي (صلى الله عليه وآله) حكم بإباحة المتعة ثم قال: إنها محرمّة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله تعالى، ومن صدّقه عليه مع علمه بكونه مخطئاً كان كافراً أيضاً، وهذا يقتضي تكفير الأمة، وهو على ضد قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).

والقسم الثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة

الصفحة 86
مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا، فهذا باطل أيضاً(1) لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح.

وإحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل.

ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفياً بل يجب أن يشتهر العلم به فكما أن الكل كانوا عالمين بأن النكاح مباح وأن إباحته غير منسوخة وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك.

ولما بطل هذان القسمان: ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر (رض) لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الإسلام(2).

وإن شئت قلت: إن المتعة كانت حلالاً في الإسلام بلا خلاف والخلاف إنما هو في الناسخ.

فلو كان الناسخ موجوداً لعلم بالتواتر أو بالآحاد، ولو كان بالتواتر لكان علي، وابن عباس، وابن الحصين منكرين لما علم

____________

(1) وهو يقتضي تكفير عمر، إذا كان عالماً بعدم الحرمة، ومع ذلك يصر على التحريم.

(2) التفسير الكبير ج 10 ص 52.


الصفحة 87
بالتواتر، وذلك يوجب تكفيرهم، وهو باطل قطعاً.

ولو كان بالآحاد: للزم نسخ المقطوع بالمظنون، وهو باطل..

وأجاب الرازي بما يلي:

أولاً:

لعل بعضهم سمع الناسخ ثم نسيه، ثم تذكروه بتذكير عمر لهم، فسلموا له وقبلوا.

فإن قيل: إن عمر أضاف النهي إلى نفسه.

قلنا: لو كان مراده: أن المتعة حلال في شرع محمد، وأنا أنهى عنها.. لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه من الصحابة حتى علي (عليه السلام)، فلا بد أن يكون مراده: أنها كانت مباحة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنا أنهى عنها لما ثبت عندي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نسخها(1).

وهذا هو السبب: في سكوت الصحابة عن الاعتراض على عمر، أي لأنهم صاروا عالمين بأن المتعة منسوخة من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

____________

(1) راجع المصدر السابق: ص 52 و 53 و 54.


الصفحة 88

ونقول:

قد تقدم بعض ما يدل على عدم صحة ما ذكروه فيما يرتبط بعدم اعتراض الصحابة عليه، ونعود هنا لنؤكد على ما تقدم ولنشير إلى مؤاخذات أخرى تسقط كلام الرازي عن الاعتبار، وهي التالية:

أولاً:

إن عمر بن الخطاب قد نسب الحرمة إلى نفسه صراحة معترفاً بأن المتعتين: كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: «وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما».

فلو كانت المتعة محرمة على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لقال: متعتان حرمهما رسول الله، فأنا أعاقب عليهما ـ لأنني صاحب السلطة..

ثانياً:

من الذي قال: إن جميع الصحابة قد سكتوا ولم يعترضوا؟! فإنه لا يوجد نص ينفي ذلك، غاية الأمر أن ذلك لم ينقل إلينا، والدواعي متوفرة على إخفائه لو كان..

ثالثاً:

قد تقدم في فصل النصوص والآثار: أن عمران بن حصين قد واجهه في نفس المجلس الذي أعلن فيه تحريم المتعة، كما أن الروايات قد صرحت بعدم قبول الكثيرين منهم هذا

الصفحة 89
التحريم منه، ومنهم علي (عليه السلام)، وابن عباس، وجابر، وابن مسعود، وحتى معاوية إلى أخر القائمة الكبيرة من الصحابة ممن قدمنا شطراً من أسمائهم، وأقوالهم وممارساتهم وأفعالهم في فصول هذا الكتاب فلا نعيد..

بل إن رواية الطبري تشير إلى أن الأمة كانت تعيب عليه تحريمه للمتعة، فراجع قول عمران بن سواد له: «عابت أمتك أربعاً»: وقد ظهر من جواب عمر: أنه يرى أن النبي (صلى الله عليه وآله) أحلها للضرورة.

فالمعيار: هو أن يسكت الصحابة ويقبلوا بما قال.. والنصوص تثبت عكس ذلك، فإن الكثيرين منهم قد أصروا على الجهر بحلية هذا الزواج، ومارسوه عملياً إلى درجة أنه أصبح شائعاً كثيراً في أهل مكة، والمدينة، واليمن كما ذكرناه فيما سبق.

رابعاً:

من قال: إن الصحابة كانوا حاضرين جميعاً في ذلك المجلس.


الصفحة 90

تمتع الصحابة أعمال فردية:

هناك من يقول: إن نهي عمر، وموافقة أكثر الصحابة له، يدل على أن التحريم للمتعة كان ثابتاً عندهم، كما كان ثابتاً عند عمر.. وأما فتوى ابن عباس وغيره بالحلية، كما أن عمل بعض الناس بها في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) وزمن أبي بكر، وعمر، فهو عمل فردي، لا يصلح حجة على صدور الإباحة العامة والمستمرة، ولا يصلح دليلاً على خطأ عمر فيما أقدم عليه.

ويرد عليه:

أن قول ابن مسعود: «كنا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل».

وقول عمران بن الحصين: «تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)»، وقول جابر: «كنا نستمتع»، «واستمتعنا».

وقول غيره: «ما كنا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) زانين ولا مسافحين..» وما إلى ذلك.

إن ذلك كله: سواء يدل على أنهم يتحدثون عن ظاهرة عامة لا تقتصر على أفراد قليلين لم يبلغهم النهي..


الصفحة 91
خصوصاً مع دعوى أن النهي قد صدر في تجمعات كبيرة مثل خيبر، والفتح، وحجة الوداع، وحنين، وأوطاس، وتبوك..

النهي لم يبلغ الذي استمتع:

وقد اعتذر البعض: عن تلك الروايات، بأن من الممكن أن يكون النهي النبوي لم يبلغ جابراً، ولا غيره من الصحابة الذين نقل عنهم استمرارهم على تحليل هذا الزواج بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، إلى أن نهى عمر عنه، بل قد احتمل ذلك في حق علي (عليه السلام) أيضاً(1).

ونقول:

إن ما تقدم من تصريح الروايات بأن عمر يضيف النهي إلى نفسه، يجعل هذا الاعتذار على درجة كبيرة من الوهن والضعف.

ويزيده وهناً: تصريحهم بأن هذا الزواج كان حلالاً في

____________

(1) فتح الباري ج 9 ص 149، وراجع ص 147، حول احتمال بلوغ النهي لعلي (عليه السلام) يوم خيبر، وراجع: شرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 47، وشرح معاني الآثار ج 3 ص 27.


الصفحة 92
عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر..

كما أن إصرارهم على: عدم قبول ذلك من عمر، يجعل من هذا الاعتذار مثاراً للاستخفاف، وجنوحاً إلى السخرية والاستهزاء.

تباعد الأمصار دعا لإعادة إبلاغ الحرمة:

ويزعم بعضهم: أن ما صدر عن عمر بن الخطاب لم يكن سوى إبلاغ للحكم الذي صدر من النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن تباعد الأمصار الإسلامية مع عدم توفر وسائل إعلام، قد جعل وصول الحكم إلى الناس صعباً، فاحتاج إلى تعدد التذكير والتحذير..

ونقول:

1 ـ لماذا اختص هذا الإبلاغ بهذين الأمرين متعة النساء، ومتعة الحج، أو الثلاثة، بإضافة المنع من «حي على خير العمل» في الأذان.

فإن الأحكام الشرعية فوق حد الحصر.. ولم يحصل فيها

الصفحة 93
ما حصل لهذه الأمور الثلاثة.

2 ـ إن الذين يعترضون على التحريم، ويرفضون الأمر الذي أصدره عمر لهم هم من الصحابة، بل هم من كبارهم، ولم يكونوا من أهل الأمصار الأخرى..

3 ـ إن الكلام الذي صدر عن الخليفة الثاني يأبى عن هذا التفسير، فإنه قال: أنا أحرمهما، وأعاقب عليهما..

بالإضافة إلى صراحة النصوص الأخرى في استمرار هذا التشريع من زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى زمن عمر..

4 ـ على أن الأمر لو كان كذلك لاقتضى تكرار هذا الإبلاغ من غير الخليفة الثاني أيضاً، فلماذا لم يبلغهم ذلك أبو بكر قبله، ولماذا سكت عمر إلى مضي النصف من خلافته؟!.

متعتا الحج والنساء كيل بمكيالين:

وتتميماً لما سبق نقول:

1 ـ ثم لماذا لم ينكروا على عمر تحريمه لمتعة الحج؟! مع أنه يتحداهم، ويقول كما يروي ابن عباس: إني لأنهاكم عن

الصفحة 94
المتعة، وإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعني العمرة في الحج(1).

نعم، إنه يتحداهم على هذا النحو الصريح والفاضح، ولا يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه، رغم إعترافه صراحة بأن ما ينهاهم عنه موجود في القرآن، وقد فعله النبي (صلى الله عليه وآله).

2 ـ وإذا كانوا قد وجهوا نهي عمر عن متعة النساء، بأن هذا الزواج قد نسخ، فلماذا لا يحمل نهيه عن متعة الحج على النسخ أيضاً، فإن الخليفة الثاني قد حرمهما ونهى عنهما بلفظ واحد، وفي مقام واحد، فقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما.. إلخ.

____________

(1) سنن النسائي ج 5 ص 153، وقد تقدم أن تفسير الراوي للمتعة بـ «متعة الحج» كان اجتهاداً منه، لحاجة في نفسه قضاها!!.. وليراجع: الغدير ج 6 ص 205، فإن فيه رواية أخرى بهذا المضمون، وفيها دلالة أيضاً على أن ذلك كان اجتهاداً من عمر، فلا يصح نسبة ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله)..


الصفحة 95

النهي عن متعة الحج للتنزيه لا للتحريم:

وقال البيهقي: «نحن لا نشك في كونهما على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لكنا وجدناه نهى عن نكاح المتعة عام الفتح، بعد الإذن فيه، ثم لم نجده أذن فيه بعد النهي عنه، حتى مضى لسبيله (صلى الله عليه وآله) فكان نهي عمر بن الخطاب (رض) عن نكاح المتعة، موافقاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأخذنا به.

ولم نجده (صلى الله عليه وآله) نهى عن متعة الحج، في رواية صحيحة عنه، ووجدنا في قول عمر (رض) ما دل على أنه أحب أن يفصل بين الحج والعمرة، ليكون أتم لهما، فحملنا نهيه عن متعة الحج على التنزيه، وعلى اختيار الإفراد على غيره، لا على التحريم»(1).

وقال الترمذي: «وأهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة والحج وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق»(2).

____________

(1) السنن الكبرى ج 7 ص 206 وراجع: شرح الموطأ للزرقاني ج 4 ص 46.

(2) الجامع الصحيح ج2 ص 159 ذيل حديث ص 823.


الصفحة 96

ونقول:

إن كلامهم هذا لا يمكن قبوله:

أولاً:

لما عرفناه من أن المتعة قد بقيت حلالاً، وبقي الصحابة يعملون بها إلى زمان عمر نفسه.

وما قيل من أن النهي عنها قد كان عام الفتح، قد تقدم أنه لا يصح.

ثانياً:

كيف يصح ما ذكره البيهقي وغيره من أن نهي عمر عن متعة الحج، قد كان للتنزيه، لا للتحريم، ونحن نجد أن عمر قد حرمهما «الحج والنساء» معاً، وتوعد بعقاب الفاعل لهما والمخالف فيهما على حد سواء؟.

فهل يصح العقاب على مخالفة الأمر التنزيهي؟!.

وثالثاً:

بالنسبة للرواية التي نقلها البيهقي عن عمر بن الخطاب، ونسب فيها النهي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتكذبها الرواية التي ذكرها البيهقي نفسه، عن عمر نفسه أيضاً، ويصرح فيها بأنه لو تقدم بالنهي عن متعة النساء لرجم فاعلها.

رابعاً:

إذا كانوا قد حملوا نهيه عن متعة الحج على