مناقشة أدلة التخصيص بالمضطر:
ونقول:
إن ذلك كله لا يصح، لما يلي:
1 ـ إنهم يروون أن ابن أبي عمرة سأل ابن عباس عن متعة النساء، فرخص له فيها، فقال مولى له: «إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة، فقال ابن عباس: نعم»(1).
فالقول بأنها أحلت للضرورة ليس هو قول ابن عباس، وإلا، لم يكن لقول ابن أبي عمرة معنى.
2 ـ قولهم: إن ابن عباس قد رجع حين رأى اكثار الناس منها، عجيب وغريب، فهل يصح أن يجعل اكثار الناس من أمر سبباً في الرجوع عن حكم الله تعالى فيه؟!.
3 ـ إن هذا التعليل للرجوع معناه: أن ابن عباس قد اجتهد في مقابل النص.
4 ـ إن من البديهي: أن الرخصة لأجل الضرورة، لا تجعل
____________
(1) نيل الأوطار ج 6 ص 134 ط دار الحديث ـ القاهرة.
على أن أدلة حلية المتعة، ولو في زمن خاص، واضحة الدلالة على جوازها اختياراً، وهو مجمع عليه.
هذا كله، مع قطع النظر عن أسانيد هذه الأخبار، بل سائر أخبار النسخ، وإلا، فالكلام في ذلك واسع المجال(1).
5 ـ ونضيف أيضاً إلى ما تقدم: أن قياس الاضطرار للمتعة على الاضطرار إلى الدم والميتة، ولحم الخنزير، قياس مع الفارق، إذا لوحظ: أن الاضطرار للميتة، ونحوها، إنما هو فيما لو توقفت حياة الإنسان على ذلك، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى المتعة، فلا مجال لدعوى الضرورة فيها من
____________
(1) دلائل الصدق ج 3 ص 106.
قال الخطابي: بالنسبة لما نسب إلى ابن عباس من إحلالها للمضطر: «فهذا يبين لك أنه سلك فيه مذهب القياس، وشبهه للمضطر إلى الطعام الذي به قوام الأنفس، وبعدمه يكون التلف، وإنما ذلك من باب غلبة الشهوة، ومصابرتها ممكنة وقد تحسم مادتها بالصوم والعلاج، وليس أحدها في حكم الضرورة كالآخر»(1).
وبعبارة أخرى: «سلك فيه (رض)، طريق القياس، ولكنه غير صحيح، فإن الميتة أبيحت لدفع الهلاك، وحبس الشهوة لا هلاك فيه»(2).
6 ـ وأيضاً، فإن اجتهاد ابن أبي عمرة أو غيره، لا يكون حجة علينا، والحجة فقط هي النص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا نص عنه في ذلك، كما لا شيء في القرآن
____________
(1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ ص 179، ونكاح المتعة للأهدل ص255 عن معالم السنن ج3 ص193.
(2) غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول ج 2 ص 335، وراجع: فتح الملك المعبود ج 3 ص 227 عن الخطابي في معالم السنن ج 3 ص 190، وعون المعبود ج 6 ص 84، والمنتقى للفقي ج 2 هامش ص 521.
7 ـ وإذا كانت المتعة قد أحلت للضرورة، فالضرورة لا تزال قائمة، ولسوف تبقى، لأن الضرورة إن كانت هي السفر، فالناس لا يزالون يسافرون أسفاراً طويلة، وبعيدة وشاقة، وإن كانت الضرورة هي الجهاد، فالجهاد لا يزال، وإن كانت هي الشبق والشهوة الجنسية فهي باقية أيضاً.
وإن تشريعها لمدة ثلاثة أيام في كل تاريخ الإسلام لا يزيل الشبق عنهم ولا عن غيرهم، إن لم نقل: إزدادت حدة عما كانت عليه في ظرف تشريع هذا الزواج في صدر الإسلام الأول.. فلماذا نسخت كما يدعون؟
8 ـ هل الحكم الإرفاقي التسهيلي قابل للنسخ؟! وهل ثمة سياسة إلهية في الإرفاق بفريق والتسهيل عليه، وعدم الإرفاق بل التشديد على فريق آخر؟! ولماذا كانت هذه السياسة وما هي مبرراتها؟!!!.
قال ابن كثير: «.. وقيل: إنها إنما أبيحت للضرورة، فعلى
9 ـ ولو كانت قد أحلت للضرورة، فإن ذلك إنما يوجب حليتها لخصوص المضطر، لا لجميع الناس، كما حصل في صدر الإسلام.
وبعبارة أخرى: إن أبيحت لمن اضطر إليها فاللازم القول ببقاء اباحتها لكل مضطر، فإن الاضطرار للشيء في كل زمان يوجب حلية ذلك الشيء إذا خاف على نفسه التلف، وإن كانت أبيحت لكافة المسلمين لوجود بعض المسلمين المضطرين فهذا حكم لم نسمع بمثله إذ كيف يكون اضطرار شخص موجباً للحلية لغيره..
هذا كله عدا عما تقدم، وسيأتي مما يلقي الضوء على فساد هذا الزعم الواهي.
10 ـ أضف إلى ذلك: أن الصحابي الذي أحلت له أولاً للاضطرار، هل يرتفع اضطراره بمجرد وفاة رسول الله (صلى
____________
(1) البداية والنهاية ج 4 ص 318.
11 ـ إن معنى قولهم: ان المتعة إنما حللت للمضطر(1) هو:
أن المتعة من قسم الفحشاء أحلت للمضطر، وأذن له فيها، وعلى هذا نقول:
أ ـ ما معنى قوله تعالى: (إن الله لا يأمر بالفحشاء)؟!.
ب ـ وما معنى استشهاد ابن مسعود بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم). فإن المتعة إذا كانت من الطيبات، فكيف تكون من الزنا أو من الفحشاء، التي لا يأمر الله تعالى بها؟!.
12 ـ وأخيراً.. فإن هناك من علماء أهل السنه من ينكر وجود أية ضرورة لتحليل زواج المتعة: يقول الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي:
____________
(1) قد جاء ذلك أيضاً في مجلة: الهلال المصرية عدد 13 جمادى الأولى سنة 1397 هـ.ق. أول مايو سنة 1977 م. ومصادر أخرى لهذه المقولة..
ونقول:
إن إنكار الضرورة مطلقا مما لا يمكن قبوله، فإن الزوجات العفيفات لأجل الدائم موجودات، ولكن لا يستطيع كل أحد منهن ومن الرجال الزواج الدائم في مدد طويلة من حياتهما، وهي المدة الأكثر شراسة في طغيان الحافز الجنسي لدى الشاب والفتاة.
فإن كان يقصد أن لا ضرورة اجتماعية فهو صحيح، وإن كان يقصد نفي الضرورات الشخصية فهو غير مقبول، بل إن هناك ضرورة اجتماعية عامة أيضاً، إلى جانب الضرورات
____________
(1) زواج المتعة حلال ص 142 و 143 عن الشماعي الرفاعي.
قياس ابن عباس:
وقال بعضهم: «إن ابن عباس قد بلغه من علي بن أبي طالب تحريمها بخيبر، فكيف ساغ له القياس مع وجود النص واطلاعه عليه، حتى إن ابن الزبير لما حاوره في شأنها قال: «لقد فعلت في عهد إمام المتقين» وذلك في خلافة ابن الزبير، كما يدل على ذلك قوله: فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك».
فالجواب:
أن ابن عباس لم يكن مستنده في ذلك إلا آية الاستمتاع، وفعلها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام في ظروف الغزو والعنت في الأسفار فعندما أعلم تحريمها بخيبر التي وسع الله فيها على المسلمين، أدرك زوال الأسباب المرخصة فيها، فبقي على تحريمها في حالة السعة وإباحتها في حالة الضيق. ولو أعلم بتحريمها تأبيداً لقامت عليه الحجة، ولما استمر في الترخيص فيها لمن احتاج إليها.
وذكر الألوسي: «أنه استمر على القول بجوازها حتى إلى ما بعد وفاة علي رضي الله عنه وهو ظاهر محاورته مع ابن الزبير
ونقول:
أولاً:
إنه قد ادعى: أن التحريم الذي أخبره به علي عليه السلام إنما هو التحريم يوم خيبر، ونلاحظ عليه:
ألف: إنه هو نفسه قد أقر بأن هذا التحريم لم يكن للتأبيد إذ قد تعقبه التحليل في يوم الفتح(2) فلا يبقى معنى لاستدلال علي (عليه السلام) على ابن عباس به. كما لا معنى لقبول ابن عباس بهذا الاستدلال.
ب: إن النهي عن المتعة في الغزو ـ سواء في غزوة الفتح، أو في خيبر أو في غيرها لا يعني التحريم، بل إن ذلك لو صح، فإنه يكون من أجل قرب مغادرة الناس لتلك المنطقة، فلا معنى لتجديد عقود في وقت يكون العاقد فيه على أهبة السفر، بل المناسب هو تسريح المعقود عليهن بطريقة تحفظ الحقوق، وتقلل من احتمالات الوقوع في السلبيات، فيكون النهي يوم خيبر ـ لو
____________
(1) راجع: نكاح المتعة للأهدل ص257.
(2) المصدر السابق ص321.
ج: ومع غض النظر عن هذا وذاك فإن التحريم في خيبر يعاني من إشكالات كثيرة قدمنا شطراً كبيراً منها في الجزء الأول من هذا الكتاب، تجعل الاعتماد على مثل هذه الدعوى مجازفة كبيرة لا مجال للدخول فيها، ولا لقبولها من أحد..
ثانياً:
قد تقدم، ما يمنع بصورة قاطعة من قبول دعوى أن تشريع المتعة قد كان على سبيل الاضطرار كالاضطرار إلى الميتة ولحم الخنزير، فلا نعيد.
كانت المتعة لنا خاصة:
وإذ تحقق لدينا عدم صحة القول بأن المتعة إنما شرعت لخصوص المضطر، وتحقق لدينا أيضاً عدم صحة القول بنسخ هذا التشريع، فإننا نعرف أن ما ينسب إلى أبي ذر رحمه الله مما يظهر منه ذلك، لا يمكن القبول به. ولا بد من رده على قائله ولا أقل من الشك في صحة نسبة ذلك إلى هذا الصحابي الجليل فقد قال أبو عمر: أخبرنا محمد بن إبراهيم قال: أخبرنا محمد بن معاوية، قال أخبرنا أحمد بن شعيب، قال: أخبرنا
وأخرج البيهقي من حديث أبي ذر بإسناد حسن: «إنما كانت المتعة لحربنا وخوفنا»(2).
ويمكن أن يقال: إن هذين الحديثين لا يدلان على اختصاص حكم المتعة بالصحابة، بل المراد بيان الحال العامة في بداية التشريع.
فالحديث التالي: هو الصريح ـ فقط ـ في هذا الاختصاص حيث يقول: «فقد روى نصر بن إبراهيم المقدسي عن نصر بن سرور الرهاوي، عن محمد بن إبراهيم البصري، عن خيثمة بن سليمان عن أحمد بن حازم عن أبي نعيم، عن عبد السلام، عن ليث، عن طلحة، عن خيثمة عن أبي ذر قال: «إن متعة النساء كانت كرامة أكرم الله بها أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله)، وكانت رخصة
____________
(1) التمهيد ج 23 ص 364.
(2) فتح الباري ج 9 ص 148 والسنن الكبرى ج 7 ص 207 ونيل الأوطار ج 6 ص 270.
وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن فضيل، عن زبيد عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال:
قال أبو ذر (رض): لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج(2).
فإن كان أبو ذر قد أراد بكلمة: «لنا» هو أمة محمد (صلى الله عليه وآله) دون سائر الأديان، فهو ظاهر في حلية المتعتين، وإن كان مراده خصوص الصحابة، فقوله لا تصلح المتعتان إلا لهم خاصة لم يعرف وجهه، حيث يظهر من سياق الكلام أنه اجتهاد منه..
ويلاحظ: أن هذا الحديث مروي عن أبي ذر بصيغة أخرى، فقد جاء عن أبي معاوية، عن الأعمش إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: «كانت المتعة لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 67 و 68.
(2) صحيح مسلم ج 4 ص 46 وشرح معاني الآثار ج 3 ص 26 والتمهيد ج 23ص 364.
والملفت: أن الصحابة قد استمروا على ممارسة المتعة والجهر بتحليلها رغم التهديد الشديد والوعيد من قبل الخليفة الثاني.. هذا فضلاً عن استمرار أهل مكة واليمن وغيرهما من البلاد على ممارسة هذا الزواج، والفتوى بحليته وبقاء تشريعه، بل إنك لتجد فتاوى للأئمة الأربعة باستثناء الشافعي تبيح هذا الزواج في حالات الضرورة وغيرها، فضلاً عما يذهب إليه أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.
جمع فأوعى:
ونلاحظ هنا: أن البعض قد التزم بالشروط كلها، فجمعها في صعيد واحد حين أجاب عن أخبار التحليل بجوابين:
أحدهما:
1 ـ إن الإباحة كانت على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) مخصوصة، وهي ثلاثة أيام.
____________
(1) صحيح مسلم ج 4 ص 46.
3 ـ إنها لعذر مخصوص وهو الحاجة، والضرورة إلى النساء في المغازي، والمباح بهذه الشروط لا يجوز الحكم ببقائه بدونها.
الثاني:
إن أخبار التحريم قد جاءت بعد أخبار التحليل، وقد نسخته إلى يوم القيامة «لأنه كان في زمن الفتح في حجة الوداع» ولم يكن بعدها في الغزوات ما كانوا يحتاجون فيه ويضطرون إلى ذلك. انتهى بتصرف وتلخيص(1).
ثم هو يلحق بهذا الجواب جواباً ثالثاً، وهو:
أن أخبار التحريم: «ناقلة عن الأصل الذي كان في الجاهلية، وبعض الإسلام، وأخبارهم مبقية على الأصل، فكان الناقل أولى، كما قلنا في نظائر ذلك»(2).
____________
(1) تحريم نكاح المتعة ص 100 و 101.
(2) رسالة: تحريم نكاح المتعة ص 102.
ونقول:
أما بالنسبة لدليله الأول فهو لا يصح، لما يلي:
أ ـ إن الإباحة لو كانت مخصوصة بهم لوجب بيان ذلك، حتى لا يقع الآخرون في المحذور.
ب ـ إن أبا ذر قد صرّح في ما روي عنه بأنه لا يدري إن كانت المتعة خاصة بهم أم أنها عامة..
فإذا كان مثل هذا الرجل العظيم لا يدري وهو حاضر وناظر، وهو من العلماء الفهماء، فهل يدري غيره من عوام الناس الذين ليس لهم منزلته ومقامه في العلم والفهم، والفضل، فضلاً عن غيرهم ممن غاب عن المشهد، وسمع من الناس.
ج ـ إن حاجتهم إلى النساء في المغازي لم تنته يوم الفتح، فقد أعقب ذلك غزوات كانوا فيها أشد حاجة إلى النساء، مثل غزوة تبوك التي كانت الشقة فيها بعيدة..
د ـ لماذا يخلط في كلامه بين يوم الفتح، وحجة الوداع، فإن الفرق بينهما كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار،
هـ ـ إذا كانت قد حللت لمدة ثلاثة أيام فقط في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهل يعقل أن لا يحتاج الصحابة إليها في كل تلك الغزوات إلا هذه الثلاثة أيام؟! وماذا كان يصنع المسلمون في سائر غزواتهم وسراياهم التي يقال: إنها أنافت على الثمانين غزوة وسرية؟!.
و ـ إذا كانت قد شرعت لعذر مخصوص، وهو الحاجة إلى النساء في المغازي وقد زال هذا العذر، ولم يعد ثمة حاجة إلى النساء.
فهل كان: زوال العذر بسبب فقد الناس الغريزة الجنسية؟!
أم بسبب: توفر النساء لكل غاز ومسافر؟!
أم بسبب: زوال حالات الغزو والحرب فيما بين البشر بمجرد موت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟؟!.
وأما بالنسبة لدليله الثاني:
وهو: ناسخية أخبار التحريم لأخبار التحليل لكونها قد جاءت بعدها فيرد عليه:
أ ـ ما ذكرناه آنفاً في فقرة: جيم.
ج ـ ما ذكرناه في فقرة: واو.
د ـ قد عرفت عدم صحة الأخبار التي ذكرت: أن النسخ كان عام الفتح فراجع: ما ذكرناه حول هذا الموضوع، حين تكلمنا عن النسخ بالأخبار.
هـ ـ إن تشريع هذا الزواج إن كان بالكتاب فهو لا ينسخ بالأخبار.
و ـ قد ذكرنا: أن هذا الزواج لم يكن من أنكحة الجاهلية.
ز ـ إن أخبار التحليل قد تضمنت إصرار الصحابة على حلية هذا الزواج وعلى ممارسته رغم منع عمر منه، وعنه، فالصحابة أنفسهم لا يرضون، ولا يصدقون دعوى التحريم. ولا نقل ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو سلم نقل ذلك لهم، والممتنع منهم إنما إمتنع خوفاً من العقوبة، لا قبولاً بالنسخ.
ح ـ إن عمر بن الخطاب قد نسب المنع إلى نفسه، ولم ينسب ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا يعارض الأحاديث الواردة بالتحريم عنه (صلى الله عليه وآله)، ويسقطها عن الاعتبار..
الفصل الرابع
اشكالات هي أشبه بالمغالطات..
لا توجد تفاصيل حول المتعة:
حاول بعضهم: أن ينكر تشريع المتعة استناداً إلى أنه «ليس بمعقول أبداً أن يذكر القرآن تشريع نكاح بقوله تعالى (فما استمتعتم به) التي هي في حقيقتها أكثر من قضية الزواج تعقيداً، وأشد عسراً، وأخطر أثراً بالإشارة إليها تلك الاشارة الخفية، لو صح أن الإشارة كانت إليها. ولما عرضها هذا العرض الخاطف، بل لجعلها قضية بذاتها، ولرسم حدودها، وبين معالمها، وموقف كل من الرجل والمرأة فيها.
ولما ترك المجال للبشر ليشرعوا أحكامها وقوانينها؛ هذا يقول: ترث وذاك يقول: لا ترث إلا مع الشرط. وآخر يقول: اشترطا أو لم يشترطا لا ترث».
ولكن ماذا نفعل والحال والواقع أن لا هذا ولا ذاك وقع، إذ لا يوجد حديث واحد، ولو ضعيف، أو حتى موضوع، سواء حول تفسير الرسول (صلى الله عليه وآله) لهذه الآية في أنها نزلت في المتعة، أو بيان أحكام امرأة المتعة»(1).
ونقول:
أولاً:
كأن بعض الناس يريد أن يرسم لله ولرسوله سياسة تبليغ الأحكام، ويحدد كيف ومتى، وأين يقول. وبأي مقدار. بل ويريد أن يتدخل في اختيار الكلمات أيضاً!!. نسأل الله سبحانه أن لا يجعله في عداد اولئك الذين تحدث عنهم في سورة الإسراء الآيات 90 ـ 93.
وكأن هذا المتحدث قد غفل عن أن أطول آية في القرآن هي
____________
(1) تحريم نكاح المتعة في الكتاب والسنة، ليوسف جابر المحمدي ص 74.
بل أوكل بيان كل تلكم التفاصيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد بين قسماً من هذه الأحكام لعامة الناس. وأودع باقيها عند وصيه، الذي يبلغ الناس ما يحتاجونه، ثم يودع الباقي عند وصيه، وهكذا إلى آخر الأئمة أو الأمراء، أوالخلفاء الاثني عشر وكلهم من قريش. الذين أخبر عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ورد في كتب الصحاح وغيرها..
ثانياً:
إن أحكام زواج المتعة تتفق مع أحكام الزواج الدائم إلا ما استثني، فبيان أحكام أحدهما يكفي عن بيان أحكام الآخر.. وموارد الاستثناء يشار إليها على حدة..
ثالثاً:
إن هذا الزواج كان ـ بلا شك ـ مشرعاً في عهد رسول الله، فهل بيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس أحكامه، أم سكت عنها؟!
رابعاً:
إنه إذا اختلف الفقهاء في بعض أحكام هذا الزواج، فإن ذلك لا يعني أن الله لم يشرعه سبحانه من الأساس.. فإن الفقهاء قد اختلفوا في كثير من أحكام الصلاة والزكاة، والحج والصوم وفي مختلف أبواب الفقه، فهل ذلك يعني أنه لا صلاة ولا زكاة، ولا حج ولا ولا.. في الإسلام؟!
خامساً:
إن زواج المتعة لم يزل مضطهداً منذ حرمه عمر بن الخطاب وتوعد فاعله بالرجم، واتبعه في ذلك كثير من الناس.. والتزم الحكام الأمويون والعباسيون ـ إلا ما شذ منهم، كالمأمون ومعاوية ـ أن لا يسمحوا بهذا الزواج، وأن يغرسوا تحريمه في أذهان الناس. فلم يكن الناس أحراراً في نقل الترخيص فيه، لا سيما مع تشدد الملتزمين بالتحريم، واعتباره من قسم الزنا، كما يظهر من تتبع كلمات المانعين..
سادساً:
ما معنى قوله ولما ترك المجال للبشر ليشرعوا أحكامها وقوانينها الخ.. فهل الاختلاف في بعض التفريعات معناه: أن الله قد ترك للبشر مجالاً للتشريع وسن القوانين. فإن الاختلاف له أسبابه ومناشئه الكثيرة ومنها الاختلاف في فهم النص أو في توثيقه وعدمه، وغير ذلك.
التحليل كان لأمر عارض:
ويزعم بعض من قال بالتحريم:
«أن هذه «الإباحة» لأمر عارض، يوم فتح مكة، وهذا استنثاء من أصل التحريم العام، وقد ثبت قطعاً نسخها، بالأحاديث الصحيحة فنعود إلى الأصل، وهو التحريم..
على أن ثمة تصريحاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتحريمها مؤبداً وإلى يوم القيامة، وهذا إيذان بأنه إذا تكرر السبب فلا يترتب عليه المسبب، لأن النسخ ابدي، وهو يمنع القول بالاستمرار.
ولو تجدد السبب، استصحاباً للحال فلا يجوز اللجوء إلى هذا الاستصحاب، ما دام قد قام الدليل على حكم التحريم على التأبيد»(1).
ونقول:
1 ـ كيف ثبت لهذا البعض: أن الإباحة كانت لأمر عارض يوم فتح مكة؟! ولماذا لا يكون تشريعاً ثابتاً اقتضته المصلحة القائمة في واقع الحياة كسائر التشريعات؟!
____________
(1) تحريم المتعة في الكتاب والسنة للمحمدي ص 185.
3 ـ كيف ثبت لهذا البعض: أن الأصل هو التحريم، وأن إباحتها يوم فتح مكة قد كان استثناء من التحريم العام؟!. ولماذا لا يكون الحكم العام الثابت هو التحليل تماماً كما هو الحال في النكاح الدائم؟
4 ـ إنه هو نفسه يعترف باختلاف أحاديث النسخ وضعفها باستثناء ثلاثة أحاديث منها.. فكيف يثبت النسخ قطعاً بأحاديث ثلاثة مختلفة ومتعارضة فيما بينها، وفيها من العلل والأسقام، والاشتباهات والأوهام الشيء الكثير حسبما اشرنا إليه في القسم الأول من هذا الكتاب؟!
5 ـ والأعجب من ذلك دعواه: أن السبب الذي اقتضى تشريع المتعة سابقاً لا يصلح ولا يقتضي تشريعها لاحقاً، وأنه إذا تكرر السبب فلا يترتب عليه مسببه؟! فهل التشريع تابع للسبب؟ أم هو تابع للهوى؟..
6 ـ ثم إنه عاد إلى الحديث عن ثبوت الحلية
مصادرات على المطلوب:
ومن الغريب إقدام بعضهم على الاستدلال على ما يذهب إليه من التحريم بأنه: «لو كانت الإباحة باقية لورد النقل بها مستفيضاً، متواتراً؛ لعموم الحاجة إليه، ولعرفتها الكافة، كما عرفتها بدياً، ولما اجتمع الصحابة على تحريمها لو كانت الإباحة باقية، لما وجدنا الصحابة منكرين لإباحتها، موجبين لحظرها، مع علمهم بدياً بإباحتها، دل ذلك على حظرها بعد الإباحة.
ألا ترى أن النكاح لما كان مباحاً لم يختلفوا في إباحته، ومعلوم: أن بلواهم بالمتعة لو كانت مباحة كبلواهم بالنكاح. فالواجب إذن أن يكون ورود النقل في بقاء إباحتها من طرق الاستفاضة. ولا نعلم أحداً من الصحابة روي عنه تجريد القول
ونقول:
إن لنا وقفات عديدة مع هذه الأقاويل. وإليك بعضها:
1 ـ قوله: لو كانت الإباحة باقية لورد النقل بها مستفيضاً..
يقال في جوابه:
أولاً:
إن ما ذكرناه في فصل «النصوص والآثار» في مصادر أهل السنة، يفوق حد التواتر.. وهو يدل على بقاء الإباحة، وعلى أن المنع إنما جاء من قبل عمر بن الخطاب.
ثانياً:
إن الحكم المجعول في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يختلف عن حكم الزواج الدائم المجعول من قبل الشارع، قد جعل على نحو يشمل جميع الأحوال والأزمان، فدليل جعله صالح لإثباته في كل زمانٍ، تماماً كقوله تعالى: (أقيموا الصلاة..) وكقوله تعالى: (أوفوا بالعقود..) وقوله: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير..) وما إلى ذلك.
ثالثاً:
إن إصرار الصحابة وغيرهم من أعلام الأمة، وكذا أهل مكة والمدينة واليمن، وغيرهم ممن ذكرناهم في فصل مستقل على القول بحلية المتعة، يشير إلى عدم وجود ما يثبت لهم: أن النهي صادر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).. وأنهم مقتنعون أن النهي عن المتعة هو مبادرة من عمر نفسه لدوافع قد يكونون يجهلونها، أو يعلمونها.
رابعاً:
إن روايات النسخ هي أخبار آحاد، فيها الكثير من الاشكالات التي لا مجال للإجابة عنها، والمشكلات التي لا طريق إلى معالجتها.
2 ـ إن هذا البعض يناقض نفسه هنا بصورة فاضحة وواضحة، فهو تارة يقول: إن عموم الحاجة يقتضي أن يعرف الصحابة وكافة الأمة ببقاء الإباحة، كما عرفوا إباحتها في بادىء الأمر..
وتارة يقول: إن الكثيرين من الصحابة لم يعرفوا بنسخ الإباحة، لأن المتعة نكاح سر.. إلى أن مضى نحو عقد من السنين، حتى أعلمهم بذلك عمر بن الخطاب في أواسط خلافته..
3 ـ وأما دعواه اجتماع الصحابة على تحريمها، غير ابن عباس، فقد ذكرنا أكثر من مرة أنه غير دقيق، بل الكثيرون منهم إن لم نقل أكثرهم قد سكتوا على مضض، خوفاً من تهديدات عمر لهم. كما سكتوا حتى عن جرأته على رسول الله، حين قال وهو (صلى الله عليه وآله) يسمعه: إن الرجل ليهجر.. وكما سكتوا عن كثير من الأمور حسبما أوضحناه في موارد عديدة من هذا الكتاب.
4 ـ إن من المفارقات أن نجد من يدعي النسخ يطلب من القائلين ببقاء التشريع أن يأتوه بالروايات الدالة على البقاء، مع أن المنطق والإنصاف يقضيان بمطالبة مدعي النسخ بإظهار ما يثبت مدعاه من النقل المتواتر والقاطع للعذر، لا أن يستند إلى ثلاثة روايات يصححها هو فقط.. وهي متناقضة ومتخالفة فيما بينها، لا يقوم بها حجة، ولا يقطع بها عذر!!.
5 ـ ومع التهديدات التي أطلقها عمر بن الخطاب هل
6 ـ إذا كان ما فعله عمر هو مجرد إعلام بالنسخ الصادر في السابق من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)، فما هو وجه الحاجة إلى التهديد.. وهل هو يظن السوء بالصحابة إلى درجة أنهم يقدمون على الزنا عن سابق علم بالنسخ، وإصرار على الممارسة المحرمة؟!
لماذا خفي النسخ على الصحابة:
وقد زعم شارح بلوغ المرام: أن المبيحين بنوا على الأصل حيث لم يبلغهم الناسخ. والذي أوجب خفاء الناسخ على بعض الصحابة أمور أهمها:
أ: إن هذا النكاح «نكاح سر»، حيث لم يشترط فيها
ب: إن هذا النكاح وقع فيه الترخيص مرتين، وقد يحضر الصحابي موطن الرخصة، فيسمعه، ويفوته سماع النهي، مما أدى إلى تمسك بعضهم بالرخصة فيه(1).
ونقول:
إننا نلاحظ هنا ما يلي:
1 ـ إن عدم اشتراط الإشهاد، لا يلزم منه عدم الإعلان. ولا كون المتعة نكاح سر بحيث تخفى حتى على القريب، فهناك كثير من الأمور ليس فيها إشهاد، وليست هي بسر، بحيث تخفى إلى هذا الحد. فالطلاق مثلاً عند هذا المعترض لا يشترط فيه الاشهاد، فهل هو سر بحيث يخفى حتى على القريب؟ وكذلك البيع والشراء، وغيره من المعاملات وجميع العبادات؟
2 ـ ولو سلم كون المتعة نكاح سر، فهل يلزم أن يكون تشريعه سراً أيضاً؟ ألم يخرج منادي رسول الله (صلى الله عليه
____________
(1) تحريم المتعة في الكتاب والسنة للمحمدي ص 160.