مقدّمة المركز:
إنّ الحوار يعتبر من أهمّ العوامل المؤدّية إلى توسيع آفاق الرؤية، وإثراء الرصيد المعرفي بالمعلومات الجديدة، وتخطّي الحواجز الموجودة بين الّذين يختلفون معاً في الرأي، لأن فيه يكتسب كلّ من طرفي الحوار ـ عن طريق تبادل الرأي وتلاقح الفكر ـ الرؤية الواضحة عن فكر الآخر، فيؤدّي ذلك إلى التفاهم والتقارب الفكري بين الطرفين، يشعر كل منهما بأن الآخر يساعده للوصول إلى الصورة الكاملة عن الحقيقة.
والسبب في ذلك هو أن كلّ إنسان يشاهد الواقع من زاوية معيّنة، فلهذا قد يرى الإنسان حين رؤيته الحقائق ما لا يراه الآخر، وفي الحوار تتوجّه الجهود ويتمّ التعاون بين الطرفين، ليُرى كل منهما صاحبه الواقع من زاوية أخرى، ويقوم كل منهما ـ على قدر وسعه ـ بتصحيح أفكار المقابل، وتعديل صورته الذهنية عن الحقيقة، وإزالة ما قد التبس عنده من مفاهيم، وبهذا تكتمل صورة الحقيقة عند الطرفين، ويشعر كل منهما أنه قريب من الآخر، نتيجة التعاون الذي أجروه معاً لاكتساب الشمولية في الرؤية.
وكما لا يخفى على أحد إنّ التشيع لاقى ـ على مرّ العصور ـ أشدّ المعاناة والمحن من قبل الخصوم ومن قبل السلطات الجائرة التي
ولكن بعد أن كثر الدعاة إلى حرية الفكر وبعد ارتقاء تقنية وسائل الإعلام، فقدت القوى الحاكمة قدرتها ـ نسبةً ما ـ على تعتيم الحقائق وحصر الناس في دوائر ضيقة.
فاستطاع الشيعة أن يعرّفوا الناس بأفكارهم ومبادئهم التي تلقوها من مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).
ومن هذا المنطلق انكشفت الحقائق لكثير من الناس، فاعتنق الكثير مذهب التشيع، وتصدّوا بعد ذلك إلى حمل اعباء الدعوة لهذا المذهب في أوساط مجتمعاتهم، وكان الحوار أبرز السبل التي اتخذها هؤلاء لتبين الحقائق للآخرين.
وهذا الكتاب "حوار مع صديقي الشيعي" هو واحد من تلك الحوارات الكثيرة اتخذها اتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وسيلة ليعرّفوا من خلالها أهل السنة على الحقائق التي من حقهم أن يحيطوا بها، لأننا في زمان قد آن فيه أن يتحرّر الجميع من التعتيم الذي فُرض عليهم في العصور السابقة.
مركز الأبحاث العقائدية
فارس الحسّون
إهداء:
إلى فتاة قريش الأولى...
إلى التي اختارها الله تعالى وعاءاً لأفضل خلقه وسيّد رسله
إلى من رُميت بالشّرك ظلما وعُدوانا...
إلى أول إنسان فتح عليه رسول الله عينيه
إلى آمنة بنت وهب
إلى سيف الله المسلول...
إلى الجنديّ المجهول...
إلى من مات واقفاً وفي يمينه ((سيف وكتاب))
إلى مالك بن الحارث الأشتر النخعي
أهدي كتابي هذا
مقدمة المؤلف:
هذا الكتاب: هو خلاصة لنقاشات وحوارات دارت بيني وبين أحد الأصدقاء الشيعة في مدينتي "قابس"، وقد خضت مع صديقي هذا حول عقائد أو أشهر عقائد الشيعة الإثني عشرية.
وأدعو القارئ الكريم أن يخوض معنا في هذه الحوارات من جانبه وأترك له الخروج بالنتائج.
البِداية:
ما زلت أذكر تلك اللّيالي الشتويّة الطويلة التي كنت أقضيها طائرا بخيالي وأنا ابن ستّ سنين مستمعاً بشوق لأساطير طالما سردتها علينا عجائز ونساء من أقربائي. كانت أساطير عن الغول والقزم والعفاريت والشجعان، وكانت تلكم الأساطير أهمّ وسائل الترفيه وقضاء الوقت، خاصّة في تلك اللّيالي الشتوية الطويلة، تحت نور المصباح الزيتي الخافت وقرب موقد الجمر الذي كان يدفىء لنا غرفة السهر في بيت عمّي، حيث كانت كؤوس الشاي تدار على الحاضرين والجمع منصت للراوية الذي كانت حكاياته تبدو بلا نهاية، ولربّما كان يزيد فيها من خياله وذوقه الشيء الكثير.
كنت وقد وهبني الله تعالى حافظة قويّة لا أنسى كلمة واحدة من تلك الأساطير والحكايات العجيبة، ولطالما تمنّيت بشوق وانتظرت على أحرّ من الجمر قدوم عجوز معروفة بأساطيرها لزيارة بيت عمّي والمبيت عندنا حتّى تسرد لنا ممّا في ذاكرتها من حكايات. ولقد كنت أتوسّل إلى العجائز من أرحامي أن تحكي لنا قصّة كانت قد احتفظت بها في ذاكرتها منذ عهد صباها.
كانت أياماً حلوة حقّاً، فبعد العودة من المدرسة، وبعد ممارسة بعض الأعمال الزراعيّة وتفقّد الأغنام، نعود إلى البيت عندما يبدأ الظلام
ثلاث سنوات قضيتها في عالم خيالي مملؤة بالبساطة والصفاء، خرجت بعدها من ذلك العالم الأسطوري إلى جوّ المدينة الصاخب، حيث يصبح الإنسان أكثر وعياً بالزمن وأكثر اهتماماً بعقارب الساعة.
لقد افتقدت في جوّ المدينة ـ الجديد عليّ ـ دجاجات وكتاكيت زوجة عمّي، وافتقدت حمارنا الصابر على الأعمال الشاقة والقانع برزقه الخشن وعيشه الجشب، كما افتقدت تلك الحقول التي كنت أرتع وأمرح فيها. نعم، افتقدت كلّ ذلك الجوّ ما خلا شيئاً واحداً، وهي تلك القصص الممتعة التي بقيت محفورة في ذهني، تلك القصص التي كانت سبباً وأساساً لتبدّل حياتي لاحقاً رأساً على عقب.
دخلت المدينة وسرعان ما خبا ذلك الشوق الذي كنت أحمله تجاهها، حيث كنت أمنّي النفس بحياة ممتعة لا تفارقها البهجة لكثرة ما في المدينة من أضواء وسينماوات وشوارع وحركة دائمة. خبى ذلك الشوق إلى المدينة منذ وصولي إليها وعادت تلك الأماني عنها سراباً ووهماً كبيراً، ثمّ عاد لي شوقي وحنيني إلى قريتنا الوادعة المنسيّة والتي تبدو وكأنّها خارج الزمن، لكني كنت أغتنم تلك الفرص القليلة التي تتوفر لي لزيارتها والوقوف على أطلال ذكرياتي بها.
لكن من لي بهذه المدينة "العاقلة" الرماديّة ليحكي لي تلك الأساطير؟! إنّ عجائز المدينة واعيات أكثر من اللاّزم، وقد لا تتوفر لهنّ الفرصة لسرد أقاصيص سمعنها في طفولتهنّ، ففي بيوت أبنائهن وبناتهنّ الكلّ منشغل، فالكبار يتابعون الأخبار على موجات الراديو المحليّة والعالميّة، والأطفال أغنتهم قصص الصور المتحركة عن الإنجذاب إلى حكايات غير مرئيّة.
ولطالما أغاظتني حكايات رفاقي الأطفال في مدرستنا عن ذلك المسلسل أو تلك المسرحيّة التلفزيونيّة وأبطالها، حيث كنت أسمع أحاديثهم والأسف يعتصرني لأنه لم يكن عندنا بالبيت جهاز تلفزيون، لكن عزائي الوحيد كان في القصص.
نعم، لئن كنت فاقداً في بيئتي الجديدة للأساطير القروية وفاقداً لجهاز تلفزيون في المدينة، فقد اتجهت رغبتي وانصبّ شوقي إلى المطالعة التي كان معلّمونا يشجعوننا عليها ويوفرونها لنا مجّاناً في المدرسة، وكنت أرى في تلك الأقاصيص الطفولية امتداداً لعالم الأساطير وتعويضاً عنها، حيث كانت تلك القصص مطرّزة بأغلفة مزيّنة وجذابة، وكذلك الحال مابين صفحاتها.
كم كنت نهما في مطالعتها، ربّما لأنّها كانت تحيلني إلى جنّتي المفقودة ـ قريتنا ـ حيث كانت أحداث تلكم القصص تدور حول الذئب المغرور، وقصة حياة حبّة قمح، أو لربّما كانت تحكي عن جحا
كان المعلّمون يرغّبوننا بالمطالعة لتقوية زادنا في العربيّة والفرنسيّة، وكان إعطاؤنا القصص يتجاوز المنحى الترفيهي إلى المنحى التعليمي، حيث كنّا نُسأل عن مضمون القصّة ونُكلَّف كذلك بتلخيصهاوما كان أيسره من عمل!
بعد الفراغ من القصّة نعيدها ثانية ونقوم بتبادل قصصنا مع بعضنا البعض وهكذا.
مع مرور الزمان بدأت أقرأ بشغف قصصاً أكبر حجماً وأعمق مضموناً، كحكايات الألغاز البوليسيّة، وقصص الأدب العربي ككليلة ودمنة وحي بن يقظان، وقصص الظرفاء والسندباد البحري وألف ليلة وليلة وغيرها.
لكن مع دخولي مرحلة المراهقة بدأ وضعي الجديد يفرض عليّ الابتعاد عن القصص الملوّنة الجميلة، حيث صارت تمثّل لي مرحلة من العمر بدأت في مفارقتها، ولم تعد تلكم القصص تروي غليلي، إذ أنّها من ناحية كمّها كانت تبدو صغيرة جدّاً ومن ناحية كيفها بدأ الجوّ الدراسي العام يشعرنا بأننا كبرنا عليها وينبغي الاتجاه إلى تلخيص وتحليل روايات وآثار معاصرة لأدباء معاصرين. وفي الواقع كنت أشعر بالضجر من هؤلاء الكتاب الذين يضمّنون رواياتهم وقصصهم بُعداً رمزيّاً أو بعداً واقعيّاً ـ بما في الواقع من رماديّة ـ خالياً من تلك المسحة الشعريّة التي كنت أتوق إليها دائماً.
روايات كنتُ وما زلت أعتبرها فارغة فراغ فؤاد أم موسى، تتحدث
لكن سرعان ما استعضت عن هذه الروايات بشيء أكثر بريقاً وأكثر إمتاعاً، حيث وجدت في التاريخ ضالتي المنشودة التي تحقق لي حاجتي إلى التّسلية والتحليق في فضاء أرحب وأوسع.
وكما هو الحال في أغلب المناهج الدراسية للدول، يُبدأ بتدريس فترة ماقبل التاريخ وانسان ما قبل التاريخ، ثم يُبدأ بتدريس تاريخ البلاد القديم والأوسط والحديث.
وهكذا كان، فبعد تعريف علم التاريخ وفائدته، ولَجْنا إلى عصر الإنسان البدائي، ثمّ تدرّجنا في تاريخ تونس القديم وأهم الحضارات التي مرّت عليها من فينيقيين وبربر وروم غربيين وبيزنطيين وعرب.
لقد وجدت ضالتي المنشودة في مطالعة التاريخ، فقد فتحت لي آفاقاً شاسعة وصُنع لي من قصة الحضارة شريطاً حلواً بأبطاله وأحداثه التي بدورها فتحت لي مجالات أخرى للتحليل وربط "الخيوط" ببعضها البعض، بل زاد حبّي للتاريخ من شوقي للتعرّف على تاريخ بقيّة البلدان العربيّة والإسلاميّة.
وهكذا يبدو الأمر طبيعيّا جدّا، أليس لكلّ واحد منّا ولعٌ وشغف بشيء ما؟! فهناك المُولع بالجغرافيا وهناك المولع بالشعر وهناك الشغوف بالموسيقى أو الرياضة...
لكن شغفي أنا بالتاريخ فتح عيني على حقيقة عظمى وغيّر من حياتي الشيء الكثير!!
صلاة الجمعة الأولى:
كنت أتطلّع إلى سقف المسجد الخشبي وإلى المراوح الكهربائيّة المثبتة فيه لتلطيف جوّ المسجد المكتظّ بالمصلّين في صفوف متناسقة، كنت منشغلاً عن إمام الجمعة وهو يعتلي المنبر الخشبي الجميل ذو الدرجات، وهو ممسك بعصى طويلة بيده اليمنى.
كانت تلك أول صلاة جمعة أحضرها وأنا صبيّ مع والدي الذي ألححتُ عليه لكي يأخذني معه إلى هذا التجمّع الأسبوعي الهائل، كان كلّ شيء جديد بالنسبة لي، فهذا ستار خشبي متشابك يرتفع بطول قامة الفرد يفصل مابيننا وبين المكان المخصّص للنساء، وجرارُ الماء الصغيرة المنتشرة على طول صفوف المصلّين أمام صواري المسجد العديدة وكان يملأها كلّ أسبوع رجل كهل في أواخر العقد الخامس من عمره طلباً للثواب.
أنهى الإمام خطبتيه ونزل عن المنبر فارتفع الأذان ثلاث مرات متتالية تمهيداً لصلاة الجمعة التي صلّيناها، ثمّ أردفناها بصلاة العصر بعد استراحة قصيرة قام فيها بعض خدام المسجد بجمع المال لتوسعة الجامع الكبير(1).
____________
1 ـ الجامع الكبير تمييزاً له عن بقيّة المساجد العديدة التي لا تقام فيها جمعة وهو عادة أقدم وأشهر المساجد في كل مدن تونس.
عالم جديد ألِجُه بكلّ شوق وحبّ واستطلاع، إلى أن صارت حياتي كلّها مسجداً، فما كانت تفوتني من الصلوات اليومية في ذلك المسجد إلاّ صلاة الصبح حيث كان المانع منها صغر سنّي فما كان يسمح لي بالخروج في تلك الساعة المبكّرة.
كانت تُقام في مسجدنا في الحيّ العتيق من المدينة دروس يلقيها علينا بعض المشايخ كنت أحضرها أحياناً، وكان يشدني فيها تلك الحكايات عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته وإخلاص الصحابة وتفانيهم في خدمة الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتسابقهم على التبرّك بفضلة وضوءه وبصاقه الشريف، وكان الحديث يدور أحياناً حول قصص الأنبياء والرسل(عليهم السلام)وماجرى لهم مع قومهم من محن وشدائد.
كنت بمجرّد سماع هذه القصص أحفظها من ألفها إلى ياءها وأعود لأحكيها لأهلي وأرحامي وأصدقائي، فتارة أحدّثهم عن جود أبي بكر الصدّيق، وأخرى عن الفاروق وشدّته في ذات الله، ومرّة أحدّثهم عن إنفاق عثمان ذي النورين، وثانية عن الصحابي المنافق ثعلبة(1) الذي
____________
1 ـ هو ثعلبة بن حاطب الأنصاري.
كما كنت أحفظ أشعارا بالعامّية في مدح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان بعض الذين يستمعون إليّ ممّن هم أكبر سنّاً يتعجبون من قوّة حافظتي، حيث كنت أحكي لهم عن أحداث ووقائع وشخصيّات لم يسمعوا بها من قبل.
وكنت أفاخر بأنّ المذهب المالكي هو روح الإسلام ولبّه وأنّه المذهب الوسط بين المذاهب الإسلاميّة، فلا هو يميل إلى المعتزلة المتعقلين أكثر من اللاّزم ولا يقترب من الحنابلة المجسّمة والخرافيّين المضحكين.
وفي الحقيقة ما كنت أعرف عن المذهب المالكي ولا عن مؤسسه القليل ولا الكثير، لكن هذا ما كنت أسمعه دائماً من شيوخنا وكبارنا حيث قالوا فقلنا، وعلى رأي المثل عندنا "الشَّنْقَةُ مع الجماعة خلاعة"(2)، ثمّ ما الحاجة إلى البحث والتنقيب؟! أوليس قد ولدنا مالكيّين وعشنا مالكيين ونموت مالكيّين؟! أوليس المذهب المالكي من أعظم المذاهب
____________
1 ـ أنظر إلى قوله تعالى فيه: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحين * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وِتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُون * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقَاً فِي قُلُوبِهِم إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُون) [ سورة التوبة: 75 ـ 77 ].
2 ـ مثل تونسي عامي ومعناه "كلّ شيء مع الجماعة ممتع حتّى المشنقة".
الصدمة...:
وصلنا في دراستنا للتاريخ إلى الحقبة الإسلامية، حيث بدأنا بظهور الإسلام في مكّة ثمّ هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه إلى يثرب أو المدينة المنوّرة مرورا بحروب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفتوحاته، وصولا إلى انتشار الإسلام في جزيرة العرب ومن ثَمّ شرقا وغربا طيلة فترة الخلافة الراشدة.
كان يوماً عاديّا حيث كنت جالسا في آخر الفصل، في حصّة مسائية للتاريخ وبدأ الدّرس، كان أستاذ التاريخ كهلا في العقد الخامس من العمر، كان رجلا نحيفا ضعيف النظر معتنقا للفكر القومي الذي لا يرى الإسلام إلاّ منتوجا عربيّا محضا، فالإسلام عربي وابن سينا عربي والرازي عربي وسيبويه عربي، بل حتّى البربر عرب وكلّ شيء عربي!
والعجب من هذا الفكر الذي يحصر هذه الثقافة الإنسانية الخالدة والشاملة في بوتقة عرقية ضيّقة وما هي إلاّ حلقة من حلقات هذه الحضارة النبيلة! هذا الفكر يذكّرني بطرفة واقعية حدثت لرجل عربي حيث استفزّه بعض الأعاجم وسخروا منه فقال مغضبا: نعم أنا عربي والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عربي... والله عربي، فدهش الحضور، وقالوا له: أمّا كون الرسول عربي فقد تعقّلناها وأقررنا لك بها، لكن كيف يكون الله ـ تعالى ـ عربيّا؟! فأجاب هذا الرجل ببداهة قائلا: آثاره تدلّ عليه، أليس القرآن
بدأ أستاذ التاريخ بالدرس وكان عن الفتنة الكبرى كما تسمّى، تكلّم الأستاذ عن حرب صفّين، عن بداياتها، أسبابها، طولها، شراستها، عدد القتلى فيها، وتكلّم عن بشائر النصر التي كانت بدأت تلوح لجيش عليّ بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، وتحوّل القتال إلى خيام معاوية بن أبي سفيان، والمأزق الذي وقع فيه جيش الشام. رفع الأستاذ رأسه وابتسامات التهكّم تملأ فمه المليء بالأسنان الصفراء قائلا: "لكن قام الدّاهية عمرو بن العاص بحيلة رفع المصاحف حتّى يكفّ عنهم جيش عليّ ويبثّوا البلبلة في صفوف جيش العراق. وفعلاً ذاك ما حدث حيث انقلب حال المعركة رأساً على عقب وافترقت الأمة أحزابا...".
نزل هذا الكلام عليّ نزول الصّاعقة!! عمرو بن العاص صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يحتال ويخادع ويغدر ويمكر! عمرو بن العاص الذي يروى فيه شيوخنا مدح الرسول فيه.
عمرو بن العاص يخدع؟! هل الغاية تبرّر الوسيلة في دين الله المبتني على الإخلاص؟!
يا له من موقف عصيب، أين الحقيقة؟! هل ما يقوله هذا الأستاذ المتحامل على الصّحابة الكرام، أم ما يقوله شيوخنا الموقّرين عن فضائل عمرو بن العاص؟!
لكن الأستاذ ما جاء بشيء من عنده، فهذا الكتاب يقول نفس الشيء، وماذا عن تلك الجلسات التي كنت مواظبا على حضورها والتي كانت تفيض نبلا من كرامات الصحابة وخاصّة المهاجرين والأنصار؟!
بقيتُ متحيّراً حتّى عاد أخي في المساء فسارعتُ بمساءلته لعلّي أجد جواباً شافياً أو على الأقل مسكّناً لثورة الشكّ وناره التي اضطرمت في داخلي.
بادرت أخي قائلا: ألا تعجب من فعل هؤلاء الصحابة الذين نحترمهم ونقدسهم حبّاً منّا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
قال أخي: خيراً، ما رأيتَ منهم؟!
قلتُ معترضاً على أخي: ومن أين يأتي الخير وهؤلاء الصحابة يقتل بعضهم بعضاً، ويشتم بعضهم بعضاً، ويخدع بعضهم بعضاً!!
ثم ما هي القضيّة أصلا؟! لماذا القتال ولماذا الخداع؟! أكان ذلك للدّين؟
أليسوا هم أصل الدين؟ أليسوا هم من علّمنا الدين؟ أم كان ذلك كلّه للدنيا، وما هكذا الظنّ بهم، وعلى الدنيا والدّين العفى لو كان ذلك كذلك".
أجاب أخي بلغة المحذّر المشفق: لا تستعجل في حكمك عليهم فهناك أمور نجهلها وليس من اليسير فهمها.
كان جواب أخي بارداً باهتاً، غير مقنع بالمرّة، وكأنّه كان يضرب على حديد بارد، وأنّى له أن يقنعني! أنا الذي عشت كلّ صباي وقْفاً على فضائل الصحابة، حيث كنت أرفعهم جميعاً على منزلة الملائكة!
ما الذي جعل الصحابة يدخلون هذه الفتنة العمياء؟ ويا ليت علماءنا أشاروا علينا بمن أشعلها وأجّج أُوارها!
هلاّ تعاطوا المسائل بلين ورفق وسعة صدر كما نبّه إلى ذلك القرآن والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! أيصل الأمر إلى قتل وقتال وسفك دماء وهتك أعراض!!
وإذا كان هذا فعل الصحابة الّذين ما زال صوت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يتردّد في آذانهم وآثاره قائمة ثابتة أمام أعينهم، فلا لوم إذن على غيرهم، ولا لوم علينا إن أتينا بالمنكرات العظام، فليس بعد سفك الدماء وقطع الرؤوس من كبيرة كما أشار القرآن على ذلك(1).
ثمّ أليس يروي لنا شيوخنا: "أنّ القاتل والمقتول من المسلمين في النار؟!"(2) فعلى هذا فكلّ من اقتتل من الصحابة في النار!
وإذا كانت المسألة فتنة فكيف انساق وراءها الصحابة، بل أعظم الصحابة؟! أليسوا هم رموز التعقّل والوعي والإيثار!
أم أنّ هناك أطرافا خارجيّة ـ على رأي أنظمة هذا العصر ـ أشعلت تلكم الفتنة؟ أليس هناك فيمن تقاتل مبشّرون بالجنّة؟!(3)
____________
1 ـ إشارة إلى قوله تعالى: (ومَنْ يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاءه جَهَنَّم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عَظيماً) [ سورة النساء: 93 ].
2 ـ لحديث يروونه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما في النار" [ البخاري 9/92، وأيضا سنن ابن ماجه 2/1311، كتاب الفتن ومسند أحمد 4/418 ].
3 ـ مثل طلحة والزبير وعلي وعثمان وغيرهم على ما تروي الصّحاح والمسانيد؟!
يا لها من حيرة، ويا له من مأزق استعصى حلّه عليّ وأنا ابن الثالثة عشرة سنة من عمري!
ثمّ اسأل من شيوخنا فلا أرى عندهم أي جواب مُقنع غير أنّهم يقولون: إنّ تلك الأحداث كانت فتنة، والصحابة اجتهدوا وأخطأوا أو أصابوا وكلّهم مأجورون، وهذا خطّ أحمر لا يجوز لنا تعدّيه(3).
خطّ أحمر لا يجوز لنا تعدّيه! هذا ما عندهم من العلم، سياسة النعامة ودسّ الرأس في التراب.
نعم هو خطّ أحمر وما أيسره من جواب لكلّ سائل وكفى الله المؤمنين القتال.
فيامن ملأتم الخافقين بفضائل وعصمة وعَظَمة كلّ الصحابة
____________
1 ـ سورة الحاقة: 44 ـ 46.
2 ـ سورة الزمر: 65.
3 ـ يقول السفاريني النابلسي في كتابه (نظم الدرة المضيّه في عقد أهل الفرقة المرضية) في الصحابة:
واحذر من الخوض الذي قد يزري | بفضلهم ممّا جرى لو تدري |
فإنه عن اجتهاد قد صدر | فاسلم أذلّ الله من لهم هجر |
أَغايةُ الدينِ أن تُحفوا شواربَكم | ............................. |
نعم لقد صار الدين حفّ شوارب وإطلاق لحى ولفّ عمائم، وهروب إلى الربوة! أتعتبرون قتل الألوف وحرق الدور ووو... اجتهادا؟! هل تحكمون بارتداد مانع الزكاة وتزعمون الأجر لمن قتل النفوس وحزّ الرؤوس؟!
لكنّي تركت حيرتي داخل القمقم ودست على جراح نفسي وغضّيت الطرف... ومضيت مع القطيع...
هل أتاك الحديث عن الشيعة:
لا زلت أذكر تلك الحكايات التي تُحكى عن الشيعة عندنا.
إنّهم قوم لم أرهم ولم يرونِ ـ وكأنّه لا يجمعنا وإياهم كوكب واحد ـ قوم على ما سمعت ـ وإن جاءكم فاسق ـ يتّهمون جبرائيل (عليه السلام)بخيانة الأمانة، فعوض أن ينزلها على عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنزلها خطأ أو حسدا على محمّد، وهم يعظّمون عليّا، حتّى أنّ بعض فرقهم تعبده من دون الله!!
كانت هذه الحكايات تجول في خاطري، ولا ينقضي عجبي من هؤلاء القوم الذين لم أر واحدا منهم طيلة حياتي.
عجيب أمر هؤلاء القوم أليست لهم عقول؟! كيف يعتقدون بمثل هذه الاعتقادات؟! أليس منهم رجل رشيد يكفّ عن غيّه؟!
... كنّا يوم متحلقين حول ابن عمّي الذي عاد من سفره من ألمانيا حيث يعمل، وجرى حديث عن الشيعة، فقال ابن عمّي: إنهم قوم متطرفون في دينهم، وإنّ " تلفزيونات " الغرب تعرض أحيانا ما هم عليه من منكرات، وخاصة ما يفعلونه بأنفسهم في يوم عاشوراء، حيث يشدخون رؤوسهم ويمزّقون ظهورهم حتّى تسيل منهم الدماء غزيرة حزنا على الحسين بن علي (رضي الله عنه).
لا نملك إلاّ الضحك بفم عريض على هؤلاء الجهّال الذين يفعلون
إنّ سيدنا الحسين (رضي الله عنه) لا يرضى منهم بهذه الفعال الشنيعة، زد على هذا أنّ الغربيّين سيشنّعون على المسلمين بما تفعله هذه الفرقة، وسوف لن يقتنعوا بقولنا إنّ الإسلام هو دين التسامح والصفاء، لكن ما الحيلة فهؤلاء الشيعة بعيدون عنّا آلاف الأميال وإلاّ لكنّا أقنعناهم وأعدناهم إلى جادة الصواب.
والحمد لله على نعمته فنحن مالكيّون وأصحاب مذهب صاف كزرقة السماء، أوليس مالك بن أنس إمامنا وهو إمام دار الهجرة، والذي قيل فيه: "لا يُفتى ومالك في المدينة؟!"، أوليس الشيخ الإمام سحنون هو ناشر المذهب في ربوع مغربنا العربي الكبير؟!
الضالَّة:
وتمضي سنين وسنين...
كنت في بيت أحد الأصدقاء وجرى ذكر فلان ـ جارهم ـ، فقال أحد الحاضرين معلّقاً: إنّه شيعي، وقال: إنّهم ـ أي الشيعة ـ يشتمون الصحابة.
وقع كلامه في نفسي موقعاً كبيراً، وقلت: أو في بلادنا شيعة؟! ولماذا هذا الاقتران بين الشيعة وسبّ الصحابة؟!
وتشوّقت نفسي للالتقاء بأحد الشّيعة حتّى أسأله سؤالا واحدا: لماذا تشتمون الصحابة؟ وكنت أقصد ما هو الداعي الذي يجعلهم يشتمون الصحابة، وإلاّ فلا بدّ من أن يكون هناك توجيه أو سبب قويّ لديهم حتّى تصبح هذه التّهمة لهم كبيرة، أضف إلى حبّ الاطلاع الذي كان عندي حول الملل والنحل ـ وما زال ـ كان وراء رغبتي في الالتقاء بأحدهم.
لكن وللأسف لم تتوفّر الفرصة لذلك، حيث كنت منشغلا طوال تلك السّنة بالاستعداد والتحضير لامتحان الباكالوريا(1)، حيث يعتبر أهم امتحان شعبي ورسمي في تونس على الإطلاق.
وذات يوم من أيام الشتاء التقيت بأحد زملاء الدراسة وتذاكرنا في
____________
1 ـ هو امتحان الثانوية العامة في بلاد المشرق العربي.
فأجبته بكلّ عفوية ممزوجة بكثير من الدهشة والإستغراب: وهل هناك طائفة شيعية في تونس حتّى يكون لها زعيم؟!
أجاب الصديق قائلا: ألا تعرف بأنّ فلاناً وفلاناً ـ بعض أصدقائي ومعارفي ـ صاروا من الشيعة؟!
فازدادت دهشتي، وقلت: فلان شيعي!! لا يمكن ذلك، ماذا حدث له حتّى يصبح كذلك؟!
افترقنا وأنا أضحك في نفسي من أحد أصدقائي الّذي صار شيعيّاً وقلت: إنّها نزوة من نزواته، فكما يتأثر بعض الشّباب عندنا بفلان المطرب أو بفلان الرّياضي أو بهذا اللّباس أو بتلك التّقليعة، فهذا الصديق يبدو أنه تأثّر بفكر الشيعة من باب "خَالِفْ تُعرَفْ".
ثم عزمت في الأثناء أن ألتقي بهذا الصديق "المُسْتَشْيع" حتّى أبحث معه هذا الموضوع، ولتتوفّر لي الفرصة القديمة لمعرفة فكر الشيعة "فربّ صدفة خير من ألف ميعاد".
لم تمض إلاّ أيّام يسيرة حتّى التقيت به في أحد شوارع حيّنا، سلّم عليّ ودعاني إلى بيته، دخلنا البيت ثمّ ولجنا إلى غرفته الخاصّة الصغيرة، فكان ممّا قلت له: هل جُننتَ؟! ما هذا التحوّل الذي أصابك؟!
ضحك ـ وكان ذا شخصية مرحة ظريفة ـ لكن لم يجبني صراحة.
لمحتُ على مكتبه كتاباً كبيراً شدني حجمه في البداية ـ لأنّ من
لم تطل بنا الجلسة، حيث كان عنده أحد الضيوف، فتواعدنا على لقاء آخر.
في الموعد اللاّحق أردت أن أخرج بصديقي من حالة الهزل إلى حالة الجدّ، فسألته أسئلة من أهمّها: لماذا يتحرّش الشيعة بالصحابة ـ هذه النخبة التي ما وجد ولا يوجد إلى يوم القيامة مثلها ـ وكنت ما زلت غير متفهّم كون صديقي صار فعلا شيعيّا.
قال صديقي مجيباً ـ وكأنه يريد أن يدخل بي الموضوع من حيث تؤكل الكتف ـ: هل تعرف حديث العشرة المبشّرين بالجنّة(2)؟!
قلت: " نعم، لقد حفظت أسماءهم، وعرفت سيرتهم منذ نعومة أظفاري.
فقال لي: سَمّهم لي؟
أجبت ببداهة: هم الخلفاء الأربعة الراشدون، أبو بكر الصدّيق، وعمر الفاروق، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقّاص، وعبدالرحمان بن عوف، وسعيد بن زيد، وبلال في قول، وطلحة
____________
1 ـ المراجعات كتاب قيّم للعلامة السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي اللّبناني يمثل مناظرات في العقيدة والإختلافات بين السنة والشيعة وهو مفيد لكلّ باحث عن الحقيقة.
2 ـ أنظر: سنن ابن ماجة ج1 فضائل العشرة.
قال لي: طيّب، هل تعرف الحديث القائل بأنّه إذا اقتتل مسلمان فالقاتل والمقتول في النّار(1)؟
قلت: نعم، وماذا في هذا؟!
قال: على هذا القول يكون عثمان بن عفّان وعليّ وطلحة والزبير بن العوّام وغيرهم من أهل النّار؟!
قلت: كيف ذلك؟!
قال: دقّق جيّداً في معنى الحديثين وسترى التّناقض، فلو صحّ حديث العشرة لا يصحّ حديث القاتل والمقتول في النّار، ولو صحّ هذا الثاني لم يصحّ الأوّل.
صمتُّ هنيئة أدقّق في هذا الكلام المنطقي، العاري عن الزّيف والزخارف والمتين عقلا!
أجبته بصوت بادىء الضعف: فكيف الحيلة؟!
قال: من غير المعقول أن يكون جميع الصّحابة كلّهم، من أسلم في أيام الدعوة الأولى في مكّة ومن أسلم في المدينة ومن أسلم بعد الفتح كلّهم متساوون، وهذا أمر بديهي، فليس من تربّى في حجر الرسالة من يومها الأول كعليّ يكون مثل معاوية الذي أسلم يوم فتح مكّة، ولا أبو سفيان بن حرب كصحابي عمّار بن ياسر، هذا شيء طبيعي وبديهي في كلّ دعوة سماوية كانت أو وضعيّة.
ثمّ إنّ صحبة هؤلاء وهؤلاء للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست واحدة، وعليه
____________
1 ـ البخاري 2/92، سنن ابن ماجة 2/1311 كتاب الفتن، مسند أحمد 4/418.