هذا من جانب ومن جانب آخر إنّ الصحبة وإن كانت فضيلة في نفسها لأنّ رؤية أو معايشة أعظم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) شرف عظيم جدّا، إلاّ أنّ الصحابة هم أوّل المكلّفين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يمكن بحال أن يكونوا فوق الشرع، ثم لو كانت الصحبة ماحِيةً لكلّ ذنب لكانت زوجيّة زوجات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلى وأفضل، في حين أنّ الله لم يقرَّ ذلك(1) ولا رسوله(2)!
وعلى هذا نخلص إلى القول بأنّ الصُّحبة غير عاصمة لصاحبها، لا من الضلال ولا من العذاب، والصحابة كما دلّ القرآن والسنة فيهم من بلغ مراتب الملائكة وفيهم من انحطّ إلى أسفل سافلين.
____________
1 ـ إشارة إلى قوله تعالى: (يا نساء النبيّ من يأتِ منكنَّ بفاحشة مُبيّنة يُضَاعفْ لَهَا العذابُ ضعفين كان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما) [ سورة الأحزاب: 30 ].
وعلى هذا يمكن لنا أن نقول إنّ مضاعفة العذاب على الصحابي الراكب للكبائر وارد أيضا؟!
2 ـ أنظر: حديث الحوض مثلا في البخاري 8/151 ; صحيح مسلم 4/1792 ـ 1800 كتاب الفضائل، مسند أحمد 6/55 حديث 4042.
وكيف يكون هذا الشيء حراماً وممنوعاً، وقد قال تعالى في كتابه الكريم ذَامّاً الكافرين الّذين اتّبعوا تقاليدهم وصمّوا عقولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(1)؟!
ثمّ إذا كان سفك الصحابة للدماء، ورَميهم لزوجة من زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفاحشة وشتم بعضهم لبعض اجتهادا ومأجورين فيه أجرا واحدا، فليكن هذا البحث اجتهادا منّي وإن أخطأت الحقيقة، أم أنّ المسألة "حلال عليكم حرام علينا" كما يقول المثل عندنا!
ووجدت بعد تحليل ونظر أنّ الصحابة لا يخلو حالهم من أوجه ثلاث: فإمّا أن يكونوا كلّهم عدولا، وإمّا أن يكونوا جميعا قد هلكوا بما جرى بينهم من فتن، أو أنّ هناك أمراً وسطا منطقيا، وهو أنّ بعضهم عدول وبعضهم غير عدول.
____________
1 ـ سورة الزخرف: 22.
أبو هريرة.... سرٌّ آخر:
كثيراً ما كنت أسمع هذه الجملة عند حضوري لصلاة الجمعة في مسجد الجمعة في مدينتي قابس(1)، وذلك بعد صعود الإمام للمنبر وقبل بدء الخطبة، هي... عن الضحّاك... عن أبي هريرة(2) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من قال لصاحبه أنصت فقد لغى... " الحديث.
كنتُ أسمع برواية أبي هريرة هذه وما كنت أعرف شخصيته بالتفصيل، بل كنت أظن أنّ اسمه الفعلي هو أبو هريرة، فتبيّن أن هذه كنيته وذلك لهرّة كانت لا تفارقه! جرى ذكر أبي هريرة يوماً في نقاش آخر لي مع صديقي الشيعي.
فقال صديقي معلّقاً: هو كذّاب، وقد وضع أحاديث كثيرة ونشرها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أرضى بها جبابرة عصره ملوك بني أميّة كمعاوية ومروان.
والعجيب أنّه لقلّة صحبته للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قياسا بباقي الصّحابة كعليّ (رضي الله عنه)وعمر وأبو بكر فإنّه أكثرهم حديثاً! بل فاق زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرواية ممّا جعل الباحثون يشكّون ويطعنون في صدق
____________
1 ـ مدينة على الساحل الجنوبي الشرقي للبلاد التونسيّة سكنها البربر وسمّاها الروم باسم Tacaps عرّبت إلى قابس قطب صناعي حاليّا.
2 ـ هو أبو هريرة الدوسي اليماني لم يضبط اسمه في الجاهلية ولا في الاسلام.
تلقيت كلامه هذا كضربة كهربائية سرت في بدني، لأني كنت مازلتُ لم أهضم بعد صدمتي في الصحابة عموما، رغم اقتناعي بما قاله صديقي عنهم.
قلت وأنا متترّس نفسيّاً بما بقي لي من شجاعة ـ أعلم في داخلي علم اليقين أنّها ستتهاوى أمام مِعول منطق صديقي الشيعي ـ: إنّ أبا هريرة أعظم راوية عندنا، حتّى سُمّي براوية الإسلام، فكيف ترميه بهذا الإفك ولماذا هذا التسرّع في الأحكام؟!
أجاب صديقي بهدوء: خذ بعضاً من حديثه حتّى ترى العجب، ثمّ قَبل ذلك هل تعلم متى أسلم أبو هريرة؟!
سكت ولم أحر جواباً!!
أسلم أبو هريرة سنة سبع للهجرة بعد غزوة خيبر، وكان من أشهر أصحاب الصفّة(1) بل وعرّيفهم.
وقد أُحصي جميع ما رواه فَوُجد خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين مسندا (5374)!، وكان جميع ما رواه الخلفاء الراشدون الأربعة من الحديث لا يمثّل سوى سبع وعشرين بالمائة (27%) لمجموع ما رواه أبو هريرة الذي قلّت صحبته بالنسبة إليهم، وهذا أوّل الوهن.
ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحدّ، حتى صرّح بنفسه أنّه لو قال كلّ ما عنده لقُطع بلعومه(2)!
____________
1 ـ أصحاب الصفّة كانوا من فقراء المسلمين الذين ما كان لهم عشائر ولا منازل وكان المسجد صفتهم ومثواهم.
2 ـ صحيح البخاري: باب حفظ العلم من كتاب العلم ج1 ص 41.
كنت أتقلّب يمنة ويسرة وأشعر بالإختناق وأنا أتمنّى أن لا يكشف لي صديقي أي حديث من أحاديث أبي هريرة الّتي نعتها بأقبح الأوصاف، فإنّ نفسي تنازعني كي لا أذعن وعقلي يدفعني للإطلاع حتّى أكون على بيّنة من أمري.
قال صديقي: خذ لك حديث موسى (عليه السلام) وملك الموت مثلا.
قلت: هات لأسمع منك.
قال: أخرج الشيخان في صحيحيهما بالإسناد إلى أبي هريرة قال: جاء ملك الموت إلى موسى (عليه السلام) فقال له: أجب ربّك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ففقأ عيني، قال: فردّ الله إليه عينه وقال: أرجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت بيدك من شعرة فانّك تعيش بها سنة"(1)الحديث.
ثم تبسّم صديقي وأردف قائلا: كلّ ما في هذا الحديث مخالف للعقل والنقل، فموسى (عليه السلام) نبيّ مدحه الله في كتابه الكريم ووصفه بأحسن الأوصاف، وهو بعد من أولي العزم الخمسة:، وهذه الدرجة لا يُتصوّر معها خوف من موت. ثمّ ما ذنب ملك الموت؟ وهل كان جسدا مثلنا يبصر
____________
1 ـ صحيح مسلم: ج4 كتاب الفضائل فضائل موسى (عليه السلام) ص1842.
فلماذا لم يقتصّ ملك الموت من موسى (عليه السلام) على افتراض صحّة القصّة؟! هل يخالف موسى شريعته وحِبْرُها لم يجفّ بعد؟ أنظر وأعمل عقلك بعيدا عن الأهواء والإمّعيّة(2)، ثم لا تظننّ أن هذا الحديث كبوة جواد، بل هناك ما لا يحصى مثله(3)، بل إنّ أبا هريرة روى أشياء وتحدث عن أحداث لم يعشها!! كروايته عن رقيّة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)التي ماتت في السنة الثالثة للهجرة، بينما أسلم أبو هريرة سنة 7 هجريّة(4).
مضى صديقي لسبيله وتركني في حيرة من أمري...
____________
1 ـ سورة المائدة: 45.
2 ـ من الإمّعَة: وهو الذي يجاري ويقول ويؤمن بكلّ ما يقوله الناس فهو معهم في كلّ شيء.
3 ـ أنظر: صحيح البخاري 4/170 و184 و75 و151 و155 و158 و169 و63 و190، وغير ذلك في الصّحاح والمسانيد.
4 ـ أنظر: الإصابة: 7/202 و8/83، الطبقات الكبرى لابن سعد في ترجمته لابي هريرة 4/52.
زخرف من القول:
جمعني لقاء جديد بصديقي الشيعي، وكانت أغلب لقاءاتنا غير مبرمجة وغير منتظمة لانشغالي ذلك الوقت بالتحضير لامتحان آخر السنة.
قال لي صديقي على حين غرّة وبدون مناسبة: هل سمعت بحديث "الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه(1)؟!
أجبته ببداهة: نعم، وكنت في نفسي أستجمع قواي لعلمي أنني مقبل على "كُربَة" أخرى يخفيها لي أيضا هذه المرّة.
قال: ماذا تقول فيه؟!
قلت: ما رأيك أنت فيه؟! وكنت أقصد أن أترك له الكلام حتّى لا يلاحظ ضعفي ولا يخرج من فمي كلام يسخر به منّي.
قال: إنّه مخالف لكتاب الله دستورنا الأوّل والرئيسي، ومخالف للعقل بل حتّى لعدل الله تعالى.
قلتُ: رويداً رويداً!.
قال: أمّا مخالفته لكتاب الله، فالله تعالى يقول: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ
____________
1 ـ أنظر: صحيح البخاري 2/106 كتاب الجنائز، مسند أحمد 1/41.
مع أنّ رسول الله قد نهى عمر عن إسكاته لنساء كنّ يبكين قتلاهنّ!! [ مسند أحمد 2/110 ].
وبقدر ما أعجبني هذا المنطق الذي يتكلّم به صديقي، إلاّ أنّني كنت أشعر بهزيمة أخرى، فما زالت أحجار بنائي تنقضّ وتتهدّم الواحدة تلو الأخرى.
قلت في نفسي: صحيح ما ذنب الميّت؟!
ورجعت بي ذاكرتي إلى أيام طفولتي حيث كانت تخرج جنائز لأقارب لي أو جيران فكان صراخ النسوة يعلو ويشتدّ حتّى أنّ بعضهنّ تشقّ ثيابها وتخدش خدّيها حتّى تسيل الدماء، وما زلت أذكر تلك الصورة المرعبة التي كانت عليها خالتي عندما ماتت جدّتي، حيث سال الدّم من وجهها إلى الأرض، وظلّت آثار تلك الخدوش إلى شهور بعد ذلك باقية في وجهها، وكان بعض الرجال يصيحون أمام حالة الصياح بكلام غاضب يدعوهنّ إلى الكفّ عن الصياح والبكاء قائلين: لقد أحرقتم الميّت، ارحموه، وكنت وأنا صبيّ أشفق على ذلك الميت وأقول: إنّ صياح
____________
1 ـ سورة فاطر: 18.
2 ـ سورة المدثر: 38.
3 ـ سورة العاديات: 10.
كما حدثني بعض المؤمنين أنّه شهد جنازة امرأة جيء بها إلى الحرم النبوي الشريف، وعند الخروج بها إلى البقيع وإذا بطفل أحسبه ابن تلك المرأة ـ يقول محدّثي ـ تخرج من عينيه دمعتان أفلتتا رغماً عنه، فجاءه رجل جِلف وصفع ذلك الطّفل المسكين، قائلا له بعد أن أكّد له رجولته: تعذّب أمّك؟!
قال صديقي مسترسلا: ثمّ لو صحّ هذا الحديث، فعليه يكون رسول الله أوّل من خالفه عندما بكى بكاء شديدا على ابنه إبراهيم الصغير(1)، حيث بكى (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن ابتلّت لحيته الكريمة، وكذلك بكى على عمّه حمزة بكاء مرّا وتأثر من قلّة البواكي عليه.
وكذلك بكى الصحابة على رسول الله بكاء لم يبكه أحد من العالمين.
وإنّ البكاء في نفسه ممدوح(2) خاصّة إذا كان من خشية الله وحزناً على المؤمنين "ولا نقول إلاّ ما يرضي الله" كما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والحديث المذكور مخالف للفطرة السليمة والتركيبة البشرية للنّاس عموما، والبكاء كما يؤكد الأخصّائيّون هو عملية تنفيس ورفع للغُصص التي قد تؤدّي للهلاك إذا انحبست في داخل المرء.
على أيّ حال نحن لا نشك في هذا الحديث فقط، بل في كثير من الأحاديث، فالله تعالى لم يضمن لنا عدم تحريف السنّة الشريفة وإنّما
____________
1 ـ سير أعلام النبلاء ـ السيرة النبوية ـ 2/288.
2 ـ يعقوب كان من أشهر البكّائين ولم يذمّ الله فعله ذلك في سورة يوسف.
____________
1 ـ سورة الحجر: 9.
2 ـ أنظر: سنن ابن ماجة 1/13 باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، مسند أحمد 1/165 و 2/159.
صفقة رابحة:
قال صديقي ـ وهو يستفزني ويجرّني إلى موضوع جديد ـ: " ماذا تقول في أبي طالب؟!
قلت: إنّه عم رسول الله وكفيله وناصره بقلبه ولسانه ويده، حتّى أنه رفض تسليم ابن أخيه إلى طغاة مكّة الذين يقول فيهم الله لِفَرعنتهم: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدَاً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا)(1)، كذلك سمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العام الذي مات فيه عمّه أبو طالب وزوجته خديجة أم المؤمنين بعام الحزن، لما كانا يمثلانه من دعامة وحصن للدعوة الجديدة وصاحبها، لكن مع الأسف مات أبو طالب مشركا! ولهذا يروي شيوخنا أنّه ـ كرامة من الله لحمايته ابن أخيه ـ في ضحضاح من نار، وتحت رجليه جمرتان يغلي منهما دماغه.
ابتسم صديقي ابتسامة عريضة، وقال لي: ألا تحتمل أنّ أبا طالب كان مؤمنا يخفي إيمانه؟!
قلت: من ناحية الإحتمال لا يمتنع هذا الأمر.
قال صديقي: إنّ كل الشواهد والقرائن تثبت بلا أدنى شك أنّ أبا طالب كان مؤمنا، بل من السبّاقين إلى الإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
قلت ـ والعجب يطبع ملامحي ـ: كيف ذلك؟! فهذا مخالف لما
____________
1 ـ سورة المزمل: 15.
قال: وهل كلّ ما اشتهر صحيح؟ أليس متسالما عند النصارى أنّ المسيح ابن الله وأنّ المسيح صُلب وو...
قلت: هلاّ أوضحت لي الأمر؟!
قال: هل تعرف أبالهب؟!
قلت: أتسخر منّي؟! كيف لا أعرفه، وقد نزلت في حقّه سورة تتوعده بالعذاب الأليم؟!
قال: وما هي قرابة أبي لهب بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
قلت: هو عمّه أخو والده.
قال: إذن ما الّذي يجعل أبا لهب عدوّا مجاهراً بعداوته للرسول والرسالة، ويجعل أبا طالب حامياً مدافعاً عن الرسول والرسالة؟
قلت: ما الذي تريد أن تصل إليه بعد هذه المقدمات؟
قال لي بنبرة حادّة: يا أخي، هل يُعقل أن يأتي شخص بعقيدة تخالف كلّ ما يعتقد به أهل وقوم ذلك الشخص، ثمّ يأتي عمّ ذلك الشخص وبكلّ سهولة فيغضّ طرفه على هذا الشّخص وهو يراه صباحا مساء يُسفّه دينه ويحقّر من شأن عقيدته؟! وعلى افتراض أن الأمر كان هكذا، ما الداعي أن يتحمّل هذا العمّ ما تحمّله من معاداة قومه وإبعاده إلى شِعْب خارج مكّة مع عزلة اقتصادية وو... هل كلّ هذا للرّحم؟! وإذا كان كذلك فما بال أبي لهب لم تثره الرّحم ولا القرابة؟! " قلت: قد يحدث هذا مع ما نعرف للعصبيّة وللرحم وللقبيلة من قيمة في الجاهلية، بل ما للأحلاف بين الأباعد من أهميّة.
قلت وفي نفسي أنّني وجدت المخرج والدليل الذي مافوقه دليل: إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حزن على عمّه لأنّه انتهى إلى النار وبئس المصير.
استدرك صديقي ببداهة قائلا: إذن لماذا لم يحزن على عمّه أبي لهب، بل إنّه كان يتلو على مسامعه ومسامع غيره سورة المسد بما فيها من وعيد؟! حتّى قال أبو لهب إنّ محمّداً قد هجاني.
ثم كيف يرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعيش تحت ظل كافر وفي منعته وهو يتلو قول الله تعالى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِين)(1) وقوله تعالى: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاء)(2) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَوْلِيَاء)(3)؟!
وكيف لا يثور أبو طالب وهو يرى أنّ دعوة ودين ابن أخيه مسّ أقرب الناس إليه، وهو ولده عليّ (رضي الله عنه) الذي كان ملازما للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)ملازمة الظلّ لصاحبه؟!
ثمّ من بعد عليّ ولده جعفر، بل وحتّى زوجته فاطمة بنت أسد؟!
ثمّ ألم تقرأ قول الله تعالى في مؤمن آل فرعون حيث يقول: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَه)(4).
____________
1 ـ سورة الحجر: 95.
2 ـ سورة آل عمران: 28.
3 ـ سورة الممتحنة: 1.
4 ـ سورة غافر: 28.
والشيء الذي لا ينقضي له عجبي هو إصرار علمائنا على إسلام أبي سفيان.
قلت: أولم يسلم أبو سفيان؟!
قال صديقي: إنّ الجماعة جعلوه مسلما قد حسن إسلامه، كما حسن إسلام زوجته هند البتول، وكذلك ابنهما معاوية خال المؤمنين، كل أولئك ربحت تجارتهم بعد أن حاربوا الإسلام من يوم مولده إلى يوم فتح مكّة ولكن أبا طالب مات مشركاً!!
هل رأيت هذه الصفقة المربحة؟! ـ قال صديقي، ثمّ واصل كلامه قائلا ـ: رجل من أعمدة الشرك وأئمة الكفر الذين لم يألوا في بذل الأموال وسل السيوف لمحاربة الدين الجديد، تراهم الآن من أهل الإيمان والجنّة!
ومتى أسلم أبو سفيان؟! نعم، عندما رأى جيوش الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)مقبلة نحو مكّة ورأى أنّ كلّ ما فعله في سبيل محاربة هذا الدّين أصبح هباءً منثوراً.
ثمّ تساءل:
يا أخي ألا تعرف أنّنا نحكم بالظاهر؟! فما المانع أن يكون أبو سفيان وغيره من الطلقاء(1) أسلموا وآمنوا فعلا؟!
____________
1 ـ الطلقاء: جمع طليق، وهم الذين وقعوا تحت أسر رسول الله وجيش الفتح وقال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وكان من أبرزهم معاوية بن أبي سفيان (كاتب الوحي!!).
أجاب صديقي: لكن إذا نظَرت إلى القرائن والظروف التي أحاطت بحياة أبي سفيان لعلمت أنّه من المحال أن يؤمن أبو سفيان.
ألم تُقنع كلّ المعجزات والأدلة التي سمعها من الرسول منذ بزوغ فجر الإسلام في مكة إلى فتح مكة هذا الرجل حتّى يسلم إسلاما مشبوها؟!
إنه في الواقع استسلم ولم يسلم.
وترى يا أخي أنّ كافل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحاميه ومانعه أبو طالب في ضحضاح من نار، وعدوّ الله ورسوله جبّار قريش ورأس الكفر، ومن سعى طوال عمر الدعوة إلى محاربتها، أبو سفيان يتنعم مع هند في الجنّة مع الأنبياء والصدّيقين والشهداء!!! يالها من صفقة ماكيافيلّيّة مربحة!
سكتّ اقتناعاً بما قال صديقي حيث لم أجد لما قال ردّاً ولا استدراكاً، ومضيت وأنا أدعو الله أن يهديني إلى الحقّ حيثما كان.
الصلاة عمود الدّين:
كانت آثار الحيرة بادية على وجهي وأنا ألج مسجد الحيّ أتطلّع في صفوف المصلّين، لقد كان منظرا مألوفا لديّ، لكن نقاشاتي مع الشيعة حول أمور عدّة جعلت هذا المنظر غريبا عليّ وكأنّي أراه للمرّة الأولى!
مجموعة من المصلّين تقف للصلاة أمام بارئها، ويكاد لا يجمعها في صلاتها شيء إلاّ القبلة، فبعض أسدلوا أيديهم، والبعض الآخر يجمعها على بطنه، وهذا يرفعها مابين صدره وبطنه، وذاك رفعها كثيرا حتّى كادت تلامس أسفل رقبته!
قفزت في ذلك الحين إلى ذهني أفكار وتواردت تساؤلات، قلت في نفسي: ألسنا جميعا مسلمين؟! بل ألسنا جميعا على مذهب واحد؟! فما الدّاعي لهذا الإختلاف؟ عجيب! أوصل بنا الحال إلى أن نختلف حتّى في الصّلاة؟! ماذا بقي لنا من موارد الإتفاق؟!
أليست الصلاة عمود الدين؟! ألسنا أمرنا أن نقتدي برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في كلّ شيء؟! أليس يأمرنا القرآن بـ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا)(1)؟!
وقلت في نفسي: ليتني أعرف الطريقة التي صلّى بها رسول
____________
1 ـ سورة الحشر: 7.
وقد يكون حكّام الجور غيّروا وبدّلوا حتّى في الصّلاة(1)؟
هل قصّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في التبليغ؟ أليس الله يقول: (اليَوْم أكْمَلْتُ لَكُمْ دينكُمْ وأَتْمَمْتُ عليكُمْ نِعْمَتي ورَضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دينا)(2)؟
لماذا يقول مالك بالسدل، والشافعي بالتكتّف؟ هل كان دين الله ناقصا فيكمّلوه، أم أنّ أحكام الله كانت غامضة فيُعملوا آراءهم بالاجتهاد والإستحسان والقياس؟! أفتونا بعلم أيها الناس فلقد بلغ السّيل الزبى.
هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يصلّي مذ كان في مكة إلى آخر حياته الشريفة متناقضا، حتّى يصلّي على وجوه عدّة؟! وإذا صلّى كذلك فكيف علّمه الله هذه الصّلاة؟ وإن لم يصحّ ذلك فكيف كانت صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وأذكر أنني كنت أتحدّث مع أحد الإخوان فسألته عن رأيه في الموضوع فلربّما قال شيئاً يرفع به حيرتي حول أمر الصلاة.
فأجابني قائلا: يا أخي إنّ المسألة أبسط ممّا تتصوّر، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى على الوجهين فمرّة بالسّدل وأخرى بالتكتّف.
فعلّقت قائلا: ألا ترى في هذا تناقضا؟! ثمّ أيّ صلاة
____________
1 ـ هذا ما فعله مروان بن الحكم فعلا في صلاة العيد، أنظر: سنن ابن ماجة 1/406 باب ما جاء في صلاة العيدين.
2 ـ سورة المائدة: 3.
نعم، هكذا تصير أحكام الدين الخاتم الشّامل لعبة تحت غطاء اليُسر في الدين! صلّي كما تحبّ، وتوضّأ كما تشتهي، وطلّق كما تستحسن، المهم هو اليسر. عجيب هل يريدنا الله أن نعبده كما يحبّ هو أم كما نحبّ ونستحسن نحن؟!
وذات مرّة سألت أحدهم عن تكتّفه في الصلاة رغم كونه مالكيّا؟ فتعلّل بأنّ تكتّفه في الصلاة يزيد من خشوعه مع الله تعالى.
اجتهاد واجتهاد واستحسان ولا شيء غير ذلك!! خشوع أكثر وخشوع أقلّ، إنّ الخشوع مسألة قلبيّة وليس ممّا يُحصّل بالحركات والسّكنات. إذن لماذا لا نقلّد خشوع المسيحيين أو البوذيين في صلاتهم؟!
والعجب! أنّهم إذا رأوا شيعيّا يصلّي، يطير حلمهم ويعسر يسرهم ويهاجمونه تحمّسا للسنّة وحفاظا عليها، ولا ندري أية سنّة يحفظون، ولا إلى أي صلاة يدعون، هل هي صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم صلاة مروان بن الحكم(1) وغيره من الجبابرة الأمويين والعباسيّين؟!
ما دام رسول الله يهجر(2)! ويذكر آلهة قريش(3)! ويلعن من
____________
1 ـ سنن ابن ماجة 1/406 باب ما جاء في صلاة العيدين.
2 ـ إشارة إلى رزية الخميس، أنظر: صحيح البخاري 6/11.
3 ـ إشارة إلى حديث الغرانيق، أنظر: الدرّ المنثور 6/64 ـ 69 تفسير سورة الحج آية 52، تفسير الطبري 17/131.
بهذا أجابني صديقي الشيعي عندما طرحت عليه الموضوع من جديد.
وأردف قائلا: لكن الحمد لله الذي حفظ كتابه الكريم من تحريف المحرفين ودسّ الدسّاسين، وإلاّ لصار أغرب من التوراة والأناجيل، مليئا بالخرافات، محشوّا بالتناقضات، لكنّ القوم إذ فاتهم تحريفه عمدوا إلى سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبدّلوها وغيّروها، وقطّعوا أوصالها، وحذفوا منها وزادوا، حتّى اختلط الحابل بالنابل، وحتّى أصبح المسلم يعجب ويسأل ويتساءل ويتحيّر ولا تزول حيرته.
لكن القوم تمادوا في غيّهم فحرّفوا كلام الله عن مواضعه بعد أن لم يتمكنوا من تغيير حروفه، فبدلوا معانيها حتّى صار يوسف (عليه السلام) غراميّا يهمّ بالفحشاء! وموسى(عليه السلام) قاتلا جبّارا في الأرض! وذا النّون كان كافرا بقدرة الله! وآدم عاصيا! وداود متهتّكا لاهثا وراء الشهوات! وسليمان غير متوكّل على الله تعالى(3)!
نعم، لقد أقاموا حروف القرآن لكن غيّروا معانيها وشأن نزولها فإنّا
____________
1 ـ أنظر: صحيح مسلم كتاب البرّ والصلة 4/2007، مسند أحمد 5/294 و 2/243.
2 ـ أنظر: سنن ابن ماجة 1/227 باب من نام عن الصلاة أو نسيها، مسند أحمد 2/248.
3 ـ أنظر: صحيح البخاري 9/160 ـ 161 وبعدها، مستدرك الحاكم: 346، 582 من كتاب التّفسير، صحيح مسلم 3/1275 كتاب الإيمان.
قلت لصديقي: فما تقول أنت؟!
أجاب: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي علّم أُمته كيف ينام الشخص في فراشه، وكَيفَ يقول إذا خرج من بَيتهِ، بل كيف نفعل إذا دخل أحدنا بيت الخلاء(1)، هل تتصوّر أنّه يصلّي على طريقتين ويترك أمّته في حيرة من أمرها في الصلاة؟!
ثمّ لو صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجهين لماذا لم يتوضّأ ولم يتيمّم ولم يغتسل على وجهين مختلفين؟!
لمّا أنهى صديقي كلامه شعرت بميل جيّد تجاه هذا المنطق الواضح الذي أزال عنّي تلك الغبرة التي كانت تحجب عن عيني الرّؤية، وأقنعت نفسي بأنّه لو لم يكن تعليل صديقي صحيحا وفي محلّه، فلا ريب عندي أنّه كان الأفضل من بقيّة التّفسيرات والتعليلات التي طالما سمعتها حتّى مجّتها أذناي ولم تقنعني قليلا ولا كثيرا.
____________
1 ـ أنظر: سنن ابن ماجة 1/108 باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء.