الصفحة 11
لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني، فيقول الله: أدليت بالحجة (1) فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة.

وقال أبو محمد عليه السلام: قالت فاطمة عليها السلام وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا في شئ من أمر الدين إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا، فقالت فاطمة: إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإن الله عز وجل قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها، واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان له معدا من الجنان.

وقال أبو محمد عليه السلام: قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام وقد حمل إليه رجل هدية فقال له: أيما أحب إليك أن أرد عليك بدلها عشرين ضعفا [ عشرين ضعفا عشرين ضعفا - يعني ] (2) عشرين ألف درهم - أو أفتح لك بابا من العلم تقهر فلانا الناصبي في قريتك تنقذ به ضعفاء أهل قريتك؟ أن أحسنت الاختيار جمعت لك الأمرين، وإن أسأت الاختيار خيرتك لتأخذ أيهما شئت. فقال: يا بن رسول الله فثوابي في قهري ذلك الناصب واستنقاذي لأولئك الضعفاء من يده قدره عشرون ألف درهم؟ قال: بل أكثر من الدنيا عشرين ألف ألف مرة. قال:

يا بن رسول الله فكيف أختار الأدون بل أختار الأفضل، الكلمة التي أقهر بها عدو الله وأذوده عن أوليائه. فقال الحسن بن علي عليهما السلام: قد أحسنت الاختيار، وعلمه الكلمة وأعطاه عشرين ألف درهم، فذهب فأفحم الرجل، فاتصل

____________

(1) أدلى بالحجة: أظهرها.

(2) هذه الزيادة ليست في بعض النسخ.

الصفحة 12
خبره به فقال له حين حضر معه: يا عبد الله ما ربح أحد مثل ربحك ولا اكتسب أحد من الأوداء مثل ما اكتسبت مودة الله أولا ومودة محمد وعلي ثانيا ومودة الطيبين من آلهما ثالثا ومودة ملائكة الله تعالى المقربين رابعا ومودة إخوانك المؤمنين خامسا، واكتسبت بعدد كل مؤمن وكافر ما هو أفضل من الدنيا ألف مرة، فهنيئا لك هنيئا.

وقال أبو محمد عليه السلام: قال جعفر بن محمد عليهما السلام: من كان همه في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين حمية لنا أهل البيت يكسرهم عنهم ويكشف عن مخازيهم ويبين عوارهم (1) ويفخم أمر محمد وآله جعل الله تعالى همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره، يستعمل بكل حرف من حروف حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا، قوة كل واحد يفضل عن حمل السماوات والأرضين، فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين.

وقال أبو محمد عليه السلام: قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام:

أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنته أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله، يقوم من قبره والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله، فيحملونه على أجنحتهم يقولون له: مرحبا طوباك طوباك (2) يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار.

وقال أبو محمد لبعض تلامذته - لما اجتمع إليه قوم من مواليه والمحبين لآل محمد رسول الله بحضرته وقالوا: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله إن لنا جارا من النصاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين عليه السلام ويورد علينا حججا لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها -: مر بهؤلاء إذا

____________

(1) عوارهم: عيوبهم.

(2) طوباك: طوبى لك، وطوبى اسم للجنة، وقيل شجرة فيها.

الصفحة 13
كانوا مجتمعين يتكلمون فتستمع عليهم فسيستدعون منك الكلام فتكلم وافحم صاحبهم واكسر عربه (1) وفل حده (2) ولا تبق له باقية، فذهب الرجل وحضر الموضع وحضروا وكلم الرجل فأفحمه وصيره لا يدري في السماء هو أو في الأرض.

قالوا: ووقع علينا من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وعلى الرجل والمتعصبين له من الغم والحزن مثل ما لحقنا من السرور. فلما رجعنا إلى الإمام قال لنا: إن الذين في السماوات لحقهم من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله كان أكثر مما كان بحضرتكم، والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطين من الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم، ولقد صلى على هذا العبد الكاسر له ملائكة السماء والحجب والعرش والكرسي، وقابلهما الله تعالى بالإجابة فأكرم إيابه وعظم ثوابه، ولقد لعنت تلك الأملاك عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشدد حسابه وأطال عذابه.

____________

(1) عربه: حدته، وفي بعض النسخ " عرنينه " وهو أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين.

(2) فل حده: مثل حد سيفه، وهو كناية عن كسر الشوكة.

الصفحة 14

فصل



في ذكر طرف مما جاء عن النبي (ص)
من الجدال والمحاجة والمناظرة وما يجري
مجرى ذلك مع من خالف الإسلام وغيرهم

قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام: ذكر عند الصادق عليه السلام الجدال في الدين وأن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام قد نهوا عنه، فقال الصادق عليه السلام: لم ينه عنه مطلقا، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله يقول: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " (1) وقوله:

" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (2) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله على شيعتنا، وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول: " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " (3) وقال الله تعالى: " تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (3) فجعل الله علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتي ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن.

قيل: يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن؟ قال: أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له

____________

(1) العنكبوت: 46.

(2) النحل: 125

(3) البقرة: 111.


الصفحة 15
على باطله، وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم (1) لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.

وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله له حاكيا عنه: " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " فقال الله تعالى في الرد عليه: " قل [ يا محمد ] يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " (2) إلى آخر السورة، فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟

فقال الله تعالى: قل " يحييها الذي أنشأها أول مرة " أفيعجز من ابتدأ به لا من شئ أن يعيده بعد أن يبلى بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثم قال " الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا " أي إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر، ثم قال " أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم " (3) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.

قال الصادق عليه السلام: فهو الجدال بالتي هي أحسن، لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم. وأما الجدال بغير التي هي أحسن فإن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق، فهذا هو المحرم لأنك مثله جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر.

وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: فقام إليه رجل آخر وقال: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله أفجادل رسول الله؟ فقال الصادق عليه السلام: مهما ظننت برسول الله من شئ فلا تظنن به مخالفة الله، أليس الله قد قال: " وجادلهم بالتي هي أحسن " و " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " لمن ضرب الله مثلا، أفتظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله خالف ما أمر

____________

(1) تغم قلوبهم: تغطي قلوبهم.

(2) يس 78 - 80.

(3) يس: 81.

الصفحة 16
الله به فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به، ولقد حدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أنه اجتمع يوما عند رسول الله صلى الله عليه وآله أهل خمسة أديان: اليهود، والنصارى، والدهرية، والثنوية، ومشركو العرب (1).

فقالت اليهود: نحن نقول عزير ابن الله، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت النصارى: نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به، وقد جئناك لننظر ما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت الدهرية: نحن نقول إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة، وقد جئناك لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت الثنوية: نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران. وقد جئناك لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك، وإن خالفتنا خصمناك.

وقال مشركو العرب: نحن نقول إن أوثاننا آلهة، وقد جئناك لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: آمنت بالله وحده لا شريك له وكفرت [ بالجبت

____________

(1) اليهود هم أتباع النبي موسى بن عمران عليه السلام وكتابهم المقدس هو التوراة، والنصارى هم أتباع النبي عيسى بن مريم عليه السلام وكتابهم المقدس هو الإنجيل، والدهرية هم الذين ينفون الرب والجنة والنار ويقولون وما يهلكنا إلا الدهر وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت، والثنوية هم الذين يثبتون مع القديم قديما غيره، قيل هم المجوس الذين يثبتون مبدأين مبدأ للخير ومبدأ للشر وهما النور والظلمة ويقولون بنبوة إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل هم طائفة يقولون إن كل مخلوق للخلق الأول. ومشركو العرب هم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم ويعبدونها من دون الله تعالى ويعتقدون فيها أنها منشأ الخير والشر وواسطة بين العبد والرب.

الصفحة 17
والطاغوت و ] (1) بكل معبود سواه.

ثم قال لهم: إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيرا ونذيرا وحجة على العالمين، وسيرد كيد من يكيد دينه في نحره.

ثم قال لليهود: أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا: لا. قال: فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله؟ قالوا: لأنه أحيى لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فكيف صار عزير ابن الله دون موسى وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورؤي منه من المعجزات ما قد علمتم. ولئن كان عزير بن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة فلقد كان موسى بالبنوة أولى وأحق، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من البنوة، لأنكم إن كنتم إنما تريدون بالبنوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيه صفات المحدثين، فوجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا وأن يكون له خالق صنعه وابتدعه.

قالوا: لسنا نعني هذا، فإن هذا كفر كما دللت لكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره " يا بني " و " أنه ابني " لا على إثبات ولادته منه لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه، وكذلك لما فعل الله تعالى بعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه فإن هذه المنزلة بموسى أولى، وأن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب عليه حجته، إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم، لأنكم قلتم إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه " يا بني " و " هذا

____________

(1) الزيادة في بعض النسخ.

الصفحة 18
ابني " لا على طريق الولادة، فقد تجدون أيضا هذا العظيم لأجنبي آخر " هذا أخي " ولآخر " هذا شيخي " و " أبي " ولآخر " هذا سيدي " و " يا سيدي " على سبيل الإكرام، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، فإذا يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الإكرام مما لعزير، كما أن من زاد رجلا في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام، وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عما أو رئيسا أو سيدا أو أميرا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي أو يا رئيسي أو يا أميري؟

قال: فبهت القوم وتحيروا وقالوا: يا محمد أجلنا نتفكر فيما قد قلته لنا. فقال:

انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله.

ثم أقبل على النصارى فقال لهم: وأنتم قلتم إن القديم عز وجل اتحد بالمسيح ابنه، فما الذي أردتموه بهذا القول، أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى، أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما كوجود القديم الذي هو الله أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه، فإن أردتم أن القديم صار محدثا فقد أبطلتم، لأن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا، وإن أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم لأن المحدث أيضا محال أن يصير قديما، وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله، لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان الله اتحد به - بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده - فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه.

فقالت النصارى: يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدا على جهة الكرامة.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي

الصفحة 19
ذكرتموه، ثم أعاد صلى الله عليه وآله ذلك كله، فسكتوا إلا رجلا واحدا منهم فقال له: يا محمد أو لستم تقولون إن إبراهيم خليل الله؟ قال: قلنا ذلك. قال: فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنهما لن يشتبها، لأن قولنا إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة والخلة إنما معناها الفقر والفاقة، فقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا، وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له:

أدرك عبدي، فجاء فلقيه في الهواء فقال له: كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك.

فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه، فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه، وإذا جعل معنى ذلك من الخلة وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليل معناه العالم به وبأموره، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه. ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله، وأن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده، لأن معنى الولادة قائم به.

ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه، فإن الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى، فقولوا إن موسى أيضا ابنه، وإن يجوز أن تقولوا على هذا المعنى إنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود.

فقال بعضهم لبعض وفي الكتب المنزلة إن عيسى قال " أذهب إلى أبي وأبيكم " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه " أذهب إلى أبي وأبيكم " فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه، ثم إن ما في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من وجهة الاختصاص كان ابنا له، لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه بما لم يختص به غيره، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى " أذهب إلى أبي وأبيكم "، فبطل أن يكون الاختصاص

الصفحة 20
لعيسى، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها، لأنه إذا قال " أذهب إلى أبي وأبيكم " فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه، وما يدريكم لعله عنى أذهب إلى آدم أو إلى نوح وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح، بل ما أراد غير هذا.

قال: فسكت النصارى وقالوا: ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما مثلك وسننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟ فقالوا: لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنها لا تزال.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاءا أبد الآبد.

فإن قلتم أنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم.

قالوا: بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها، وانقضاؤها أولى من تارك التميز لها مثلكم، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم يشاهد لها قدما ولا بقاءا أبد الآبد، أو لستم تشاهدون الليل والنهار واحدهما بعد الآخر؟ فقالوا: نعم. فقال: أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا: نعم.

فقال: أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ فقالوا: لا. فقال صلى الله عليه وآله فإذا منقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده. قالوا: كذلك هو. فقال: قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنكروا لله قدرته.


الصفحة 21
ثم قال صلى الله عليه وآله: أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه، فإن قلتم إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شئ منهما. قالوا نعم. قال لهم: أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به، كما نرى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم وكذلك سائر ما نرى.

وقال أيضا: فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وماذا كانت تكون صفته؟ قال:

فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم، فوجموا وقالوا: سننظر في أمرنا.

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبران فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟ فقالوا: لأنا وجدنا العالم صنفين خيرا وشرا، ووجدنا الخير ضدا للشر، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشئ وضده بل لكل واحد منهما فاعل، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمة ونورا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة، وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منها في محل واحد كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟ قالوا: نعم قال فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير فاعل الضد الآخر؟ قال: فسكتوا.

ثم قال: فكيف اختلط النور والظلمة، وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول، أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أكان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما؟ قالوا: لا. قال: فوجب

الصفحة 22
أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر، فكيف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج بل هما مدبران جميعا مخلوقان. فقالوا: سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على مشركي العرب فقال: وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله؟ فقالوا: نتقرب بذلك إلى الله تعالى. فقال لهم: أو هي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا: لا. قال:

فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا: نعم. قال: فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم.

قال: فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا القول اختلفوا فقال بعضهم: إن الله قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا، وقال آخرون منهم: إن هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله، وقال آخرون منهم:

إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له [ فسجدوه تقربا بالله ] كنا نحن أحق بالسجود لآدم [ إلى الله ] من الملائكة، ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا لها تقربا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى، وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب (1) سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم وقصدتم بالكعبة إلى الله عز وجل لا إليها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أخطأتم الطريق وضللتم، أما أنتم - وهو صلى الله عليه وآله

____________

(1) محاريب جمع محراب، ومحراب المسجد قيل سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل بل المحراب أصله في المسجد، وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد. وكان هذا أصح قال تعالى: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ".

الصفحة 23
يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة التي صورناها فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا - فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات، أو يحل ربكم في شئ حتى يحيط به ذاك الشئ، فأي فرق بينه إذا وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته، ولم صار هذا المحلول فيه محدثا قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما، وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجل كان لم يزل، وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء، لأن ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه، وجميع ذلك متغير الذات، فإن كان لم يتغير ذات الباري تعالى بحلوله في شئ جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر ويصفر وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شئ فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم. قال: فسكت القوم وقالوا: سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الفريق الثاني فقال: أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين، أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي به عبده، أرأيتم ملكا أو عظيما إذا سويتموه بعبده في التعظيم والخضوع والخشوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا: نعم. قال: أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون (1) على رب العالمين. قال: فسكت القوم بعد أن قالوا: سننظر في أمرنا.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلا وشبهتمونا

____________

(1) تزرون: تعيبون وتعاتبون.

الصفحة 24
بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك إنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيها أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا، لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول فهو يكره الثاني، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعناه، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه، ولم نخرج في شئ من ذلك من اتباع أمره، والله حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره، أو لكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره، أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابة من دوابه ألكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله؟

قالوا: لا لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول. قال صلى الله عليه وآله: فأخبروني الله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا: بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه، قال: فلم فعلتم ومتى أمركم بالسجود أن تسجدوا لهذه الصور؟ قال فقال القوم: سننظر في أمورنا وسكتوا.

وقال الصادق عليه السلام: فوالذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلموا، وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل فرقة خمسة وقالوا: ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.

احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جماعة من المشركين

وقال الصادق عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنزل الله " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم

الصفحة 25
يعدلون " (1) الآية. وكان في هذه الآية رد على ثلاثة أصناف منهم لما قال " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض " فكان ردا على الدهرية الذين قالوا:

إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة. ثم قال " وجعل الظلمات والنور " فكان ردا على الثنوية الذين قالوا: إن النور والظلمة هما مدبران. ثم قال: " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا: إن أوثاننا آلهة.

ثم نزل الله " قل هو الله أحد " إلى آخرها، فكان ردا على من ادعى من دون الله ضدا أو ندا.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: قولوا " إياك نعبد " أي نعبد واحدا لا نقول كما قالت الدهرية إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة، ولا كما قالت الثنوية إن النور والظلمة هما المدبران، ولا كما قال مشركو العرب إن أوثاننا آلهة فلا نشرك بك شيئا ولا ندعو من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى إن لك ولدا تعاليت عن ذلك.

قال: فذلك قوله: " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء الكفار ما قالوا، قال الله تعالى يا محمد " تلك أمانيهم " التي يمنونها بلا حجة " قل هاتوا برهانكم " وحجتكم على دعواكم " إن كنتم صادقين " كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها. ثم قال " بلى من أسلم وجهه لله " تعالى يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله لما سمعوا براهينه وحجته " وهو محسن " في علمه " فله أجره " وثوابه " عند ربه " يوم فصل القضاء " ولا ولا خوف عليهم " حين يخاف الكافرون مما يشاهدون من العقاب " ولا هم يحزنون " (2) عند الموت لأن البشارة بالجنات تأتيهم.

____________

(1) الأنعام: 1.

(2) البقرة: 111 - 112.

الصفحة 26

احتجاج النبي صلى الله عليه وآله على جماعة من المشركين

عن أبي محمد الحسن العسكري عليهما السلام أنه قال: قلت لأبي علي بن محمد عليه السلام هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال: بلى مرارا كثيرة، منها ما حكى الله من قولهم: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك " إلى قوله " رجلا مسحورا " (1) وقالوا:

" لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " (2) وقوله عز وجل:

" وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " إلى قوله " كتابا نقرؤه " (3) ثم قيل له في آخر ذلك: لو كنت نبيا كموسى أنزلت علينا كسفا من السماء ونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسى لموسى عليه السلام.

قال: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وأبو البختري ابن هشام وأبو جهل والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن أبي أمية المخزومي، وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ورسول الله صلى الله عليه وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه.

فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه، فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه، فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر.

قال أبو جهل: فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته؟ قال عبد الله بن أبي أمية

____________

(1) الفرقان: 7 - 8

(2) الزخرف: 31.

(3) الإسراء: 90 - 93

الصفحة 27
المخزومي: أنا إلى ذلك، أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا؟ قال أبو جهل بلى، فأتوه بأجمعهم فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا، زعمت أنك رسول الله رب العالمين، وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده، ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمد إلا رجل مسحورا ولست بنبي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هل بقي من كلامك شئ؟ قال: بلى، لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا أكثره مالا وأحسنه حالا، فهلا أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم أما الوليد بن المغيرة بمكة وأما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هل بقي من كلامك شئ يا عبد الله؟ فقال: بلى لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه، فإنها ذات أحجار وعروة وجبال، تكسح أرضها (1) وتحفرها وتجرى فيها العيون، فإننا إلى ذلك محتاجون أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنا فتفجر الأنهار خلالها خلال تلك النخيل والأعناب تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا (2) فإنك قلت لنا " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم " (3) فلعلنا نقول ذلك.

ثم قال: أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، تأتي به وبهم وهم لنا مقابلون، أو

____________

(1) نكسح أرضها: تقشرها من التراب.

(2) كسفا: قطعا قد ركب بعضها على بعض.

(3) الطور: 44. والمركوم: المتراكم الذي يجعل بعضه على بعض.