الصفحة 353

إن وصي محمد رسول الله يأمر أجزائك: أن تتفرق وتتباعد.

فذهب فقال لها: ذلك، فتفاصلت، وتهافتت، وتنثرت، وتصاغرت أجزائها حتى لم ير لها عين ولا أثر، حتى كأن لم تكن هناك نخلة قط.

فارتعدت فرائص اليوناني وقال: يا وصي محمد رسول الله قد أعطيتني اقتراحي الأول، فاعطني الآخر، فأمرها أن تجتمع وتعود كما كانت، فقال: أنت رسولي إليها فعد فقل لها: يا أجزاء النخلة إن وصي محمد رسول الله يأمرك أن تجتمعي كما كنت وأن تعودي.

فنادى اليوناني فقال ذلك، فارتفعت في الهواء كهيئة الهباء المنثور، ثم جعلت تجتمع جزو جزو منها، حتى تصور لها القضبان، والأوراق، وأصول السعف وشماريخ الأعذاق، ثم تألفت، وتجمعت، وتركبت، واستطالت، وعرضت، واستقر أصلها في مقرها، وتمكن عليها ساقها، وتركب على الساق قضبانها، وعلى القضبان أوراقها، وفي أمكنتها أعذاقها، وكانت في الابتداء شماريخها متجردة لبعدها من أوان الرطب، والبسر، والخلال.

فقال اليوناني: وأخرى أحب أن تخرج شماريخها أخلالها، وتقلبها من خضرة إلى صفرة وحمرة، وترطيب وبلوغ، لتأكل وتطعمني ومن حضرك منها.

فقال علي عليه السلام أنت رسولي إليها بذلك، فمرها به.

فقال لها اليوناني: ما أمره أمير المؤمنين عليه السلام فأخلت، وأبسرت، واصفرت واحمرت، وترطبت، وثقلت أعذاقها برطبها.

فقال اليوناني: وآخرها أحبها أن تقرب من بين يديي أعذاقها، أو تطول يدي لتنالها، وأحب شئ إلي: أن تنزل إلي إحديهما، وتطول يدي إلى الأخرى التي هي أختها.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مد اليد التي تريد أن تنالها وقل: يا مقرب البعيد قرب يدي منها، واقبض الأخرى التي تريد أن ينزل العذق إليها وقل: يا مسهل العسير سهل لي تناول ما يبعد عني منها ففعل ذلك فقاله، فطالت يمناه فوصلت إلى

الصفحة 354
العذق، وانحطت الأعذاق الأخر فسقطت على الأرض وقد طالت عراجينها.

ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنك إن أكلت منها ولم تؤمن بمن أظهر لك من عجائبها، عجل الله عز وجل إليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه وجهالها.

فقال اليوناني: إني إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد، وتناهيت في التعرض للهلاك، أشهد أنك من خاصة الله، صادق في جميع أقاويلك عن الله فأمرني بما تشاء أطعك.

قال علي عليه السلام: آمرك أن: تقر لله بالوحدانية، وتشهد له بالجود والحكمة وتنزهه عن العبث والفساد، وعن ظلم الإماء والعباد، وتشهد أن محمدا الذي أنا وصيه سيد الأنام، وأفضل رتبة في دار السلام، وتشهد أن عليا الذي أراك ما أراك، وأولاك من النعم ما أولاك، خير خلق الله بعد محمد رسول الله، وأحق خلق الله بمقام محمد صلى الله عليه وآله بعده، وبالقيام بشرايعه وأحكامه، وتشهد أن أوليائه أولياء الله، وأعدائه أعداء الله، وأن المؤمنين المشاركين لك فيما كلفتك، المساعدين لك على ما أمرتك به خيرة أمة محمد صلى الله عليه وآله، وصفوة شيعة علي.

وآمرك: أن تواسي إخوانك المطابقين لك على تصديق محمد صلى الله عليه وآله وتصديقي والانقياد له ولي، مما رزقك الله وفضلك على من فضلك به منهم، تسد فاقتهم، وتجبر كسرهم وخلتهم، ومن كان منهم في درجتك في الإيمان ساويته من مالك بنفسك، ومن كان منهم فاضلا عليك في دينك آثرته بما لك على نفسك، حتى يعلم الله منك أن دينه آثر عنك من مالك، وأن أوليائه أكرم عليك من أهلك وعيالك وآمرك: أن تصون دينك، وعلمنا الذي أودعناك وأسرارنا التي حملناك ولا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد، ويقابلك من أهلها بالشتم، واللعن، والتناول من العرض والبدن، ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا، وعند الجاهلين بأحوالنا ولا تعرض أوليائنا لبوادر الجهال.

وآمرك: أن تستعمل التقية في دينك، فإن الله عز وجل يقول: " لا يتخذ

الصفحة 355
المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة " (1) وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن لجأك الخوف إليه وفي إظهار البرائة منا إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات إن خشيت على حشاشتك (2) الآفات والعاهات، فإن تفضيلك أعدائنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا، وأن إظهارك برائتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا، ولأن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها، وما لها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تماسكها، وتصون من عرف بذلك وعرفت به من أوليائنا وإخواننا من بعد ذلك بشهور وسنين إلى أن يفرج الله تلك الكربة، وتزول به تلك الغمة فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل الدين وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودم إخوانك، معرض لنعمتك ونعمهم على الزوال مذل لك ولهم في أيدي أعداء دين الله، وقد آمرك الله بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشد من ضرر المناصب لنا، الكافر بنا وعن سعيد بن جبير (3) قال: استقبل أمير المؤمنين عليه السلام دهقان من دهاقين الفرس فقال له - بعد التهنية -:

____________

(1) آل عمران - 28.

(2) الحشاشة: بقية الروح في المريض.

(3) سعيد بن جبير - بالجيم المضمومة - بن هشام الأسدي الوالبي مولى بني والبة أصله الكوفة نزل مكة تابعي.

عده الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام زين العابدين " ع " والعلامة في القسم الأول من خلاصته، روى عن أبي عبد الله " ع " أنه قال: إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين " ع " وكان علي " ع " يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر وكان مستقيما، وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال له: أنت شقي بن كسير قال: أمي كانت أعرف باسمي سمتني: " سعيد بن جبير "، قال: ما تقول في أبي بكر وعمر هما في الجنة أو في النار؟ قال: لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها، ولو

=>


الصفحة 356
يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات، وتناحست السعود بالنحوس، وإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء، ويومك هذا يوم صعب، قد اتصلت فيه كوكبان، وانقدح من برجك النيران، وليس لك الحرب بمكان، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ويحك يا دهقان المنبئ بآثار، والمحذر من الأقدار، ما قصة صاحب الميزان، وقصة صاحب السرطان، وكم المطالع من الأسد والساعات في المحركات، وكم بين السراري والذراري؟

قال: سأنظر وأومئ بيده إلى كمه، وأخرج منه أصطرلابا ينظر فيه.

فتبسم علي عليه السلام وقال: أتدري ما حدث البارحة؟ وقع بيت بالصين، وانفرج برج ماجين، وسقط سور سرنديب، وانهزم بطرق الروم بأرمينية، وفقد ديان اليهود بابلة، وهاج النمل بوادي النمل، وهلك ملك إفريقية، أكنت عالما بهذا؟

قال: لا يا أمير المؤمنين.

فقال: البارحة سعد سبعون ألف عالم، وولد في كل عالم سبعون ألفا،

____________

<=

دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها، قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال: أيهم أحب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: أبيت أن تصدقني قال: بل لم أحب أن أكذبك.

وكان ثقة مشهورا بالفقه والزهد والعبادة وعلم التفسير وكان أخذ العلم عن ابن عباس، وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول. أليس فيكم ابن أم الدهماء؟

يعني: سعيد بن جبير، وكان يسمى جهبذ العلماء " بالكسر - أي: النقاد الخبير " وكان يقرأ القرآن في ركعتين، قيل: وما من أحد على الأرض إلا وهو محتاج إلى علمه. قتله الحجاج سنة " 95 " وهو ابن " 49 " سنة ولم يبق بعده الحجاج إلا " 15 " ليلة، ولم يقتل أحدا بعده لدعائه عليه حين قتله: " اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي ".

رجال الطوسي ص 90 العلامة ص 79 الكشي ص 110 تهذيب التهذيب ج 4 ص 11 سفينة البحار ج 1 ص 621.

الصفحة 357
والليلة يموت مثلهم، وهذا منهم - وأومى بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثي لعنه الله وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين عليه السلام - فظن الملعون: أنه يقول: خذوه، فأخذ بنفسه فمات، فخر الدهقان ساجدا.

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ألم أروك من عين التوفيق؟

قال: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا وأصحابي لا شرقيون ولا غربيون، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك، أما قولك انقدح من برجلك النيران، فكان الواجب عليك أن تحكم لي به إلا علي، أما نوره وضياؤه فعندي، وأما حريقه ولهبه فذاهب عني، وهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا.

وروي أنه عليه السلام لما أراد المسير إلى الخوارج قال له بعض أصحابه: إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.

فقال عليه السلام: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، وتخوف الساعة التي من سار فيها حاق به الضر، فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه، وينبغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر.

أيها الناس إياكم وتعلم النجوم، إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنه يدعو إلى الكهانة، المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله وهونه، ومضى فظفر بمراده صلوات الله عليه.

* * *


الصفحة 358

إحتجاجه (ع) على زنديق جاء مستدلا عليه بأي من القرآن متشابهة، تحتاج إلى التأويل، على أنها تقتضي التناقض والاختلاف فيه، وعلى أمثاله في أشياء أخرى.

جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام وقال له: لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم.

فقال له عليه السلام: وما هو؟

قال: قوله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " (1) وقوله: " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " (2) وقوله: " وما كان ربك نسيا " (3) وقوله: " يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " (4) وقوله: " والله ربنا ما كنا مشركين " (5) وقوله تعالى: " يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " (6) وقوله: " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " (7) وقوله: " لا تختصموا لدي " (8) وقوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " (9) وقوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " (10) وقوله: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " (11) وقوله: " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى " (12) وقوله:

" لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا الآيتين " (13) وقوله:

____________

(1) التوبة - 97.

(2) الأعراف - 51.

(3) مريم - 64.

(4) النبأ - 38.

(5) الأنعام - 23.

(6) العنكبوت - 25.

(7) ص - 64.

(8) ق - 28.

(9) يس - 65.

(10) القيامة - 22.

(11) الأنعام - 103.

(12) النجم - 14.

(13) النبأ - 38.

الصفحة 359
" ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " (1) وقوله: " كلا إنهم يومئذ لمحجوبون " (2) وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك " (3) وقوله: " بل هم بلقاء ربهم كافرون " (4) وقوله: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه " (5) وقوله: " فمن كان يرجو لقاء ربه " (6) وقوله: " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " (7) وقوله: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " (8) وقوله: " فمن ثقلت موازينه، ومن خفت موازينه " (9).

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: فأما قوله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة أي: لم يجعل لهم من ثوابه شيئا، فصاروا منسيين من الخير، وكذلك تفسير قوله عز وجل:

" فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " يعني بالنسيان: أنه لم يثيبهم كما يثيب أوليائه، والذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله وخافوه بالغيب.

وأما قوله: " وما كان ربك نسيا " فإن ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى، ولا يغفل، بل هو الحفيظ العليم، وقد تقول العرب: نسينا فلان فلا يذكرنا: أي إنه لا يأمر لهم بخير، ولا يذكرهم به.

قال علي عليه السلام وأما قوله عز وجل: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " وقوله: " والله ربنا ما كنا مشركين " وقوله عز وجل " يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " وقوله عز وجل يوم القيامة " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " وقوله: " لا تختصموا

____________

(1) الشورى - 51.

(2) المطففين - 15.

(3) الأنعام - 158.

(4) السجدة - 10.

(5) التوبة - 77.

(6) الكهف - 110.

(7) الكهف - 53.

(8) الأنبياء -.

(9) المؤمنون - 102 و 103.

الصفحة 360
لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد " وقوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، المراد: يكفر أهل المعاصي بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، والكفر في هذه الآية: " البرائة " يقول: فيبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: " إني كفرت بما أشركتمون من قبل " وقول إبراهيم خليل الرحمن: " كفرنا بكم " يعني تبرأنا منكم.

ثم يجتمعون في مواطن أخر يبكون فيها، فلو أن تلك الأصوات فيها بدت لأهل الدنيا لا زالت جميع الخلق عن معايشهم، وانصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله ولا يزالون يبكون حتى يستنفدوا الدموع، ويفضوا إلى الدماء.

ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه، فيقولون: " والله ربنا ما كنا مشركين " وهؤلاء خاصة هم: المقرون في دار الدنيا بالتوحيد، فلا ينفعهم إيمانهم بالله لمخالفتهم رسله، وشكهم فيما أتوا به عن ربهم، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم واستبدا لهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكذبهم الله فيما انتحلوه من الإيمان بقوله: " انظر كيف كذبوا على أنفسهم " فيختم الله على أفواههم، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود، فتشهد بكل معصية كانت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ.

ثم يجتمعون في موطن آخر فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه من صعوبة الأمر، وعظم البلاء فذلك قوله عز وجل: " يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه الآية ".

ثم يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء الله وأصفياؤه، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالة التي حملوها إلى أممهم، وتسأل الأمم فتجحد كما قال الله تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " فيقولون: " ما جائنا من بشير ولا نذير " فتشهد

الصفحة 361
الرسل رسول الله صلى الله عليه وآله فيشهد بصدق الرسل، وتكذيب من جحدها من الأمم، فيقول - لكل أمة منهم -: " بلى قد جائكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير " أي: مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم، كذلك قال الله - لنبيه -: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فلا يستطيعون رد شهادته، خوفا من أن يختم الله على أفواههم، وأن تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون، ويشهد على منافقي قومه، وأمته، وكفارهم بإلحادهم، وعنادهم، ونقضهم عهده، وتغييرهم سنته، واعتدائهم على أهل بيته، وانقلابهم على أعقابهم، وارتدادهم على أدبارهم، واحتذائهم في ذلك سنة من تقدمهم من الأمم الظالمة، الخائنة لأنبيائها، فيقولون بأجمعهم: " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ظالمين ".

ثم يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمد صلى الله عليه وآله وهو: " المقام المحمود " فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله، ثم يثني على الملائكة كلهم، فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد، ثم يثني على الأنبياء بما لم يثن عليه أحد قبله، ثم يثني على كل مؤمن ومؤمنة، يبدأ بالصديقين والشهداء، ثم الصالحين، فيحمده أهل السماوات وأهل الأرضين، فذلك قوله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظ ونصيب، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ ولا نصيب.

ثم يجتمعون في موطن آخر ويزال بعضهم عن بعض، وهذا كله قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه، نسأل الله بركة ذلك اليوم.

قال علي عليه السلام وأما قوله: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل، بعدما يفرغ من الحساب، إلى نهر يسمى:

" نهر الحيوان " فيغتسلون منه، ويشربون من آخر فتبيض وجوههم، فيذهب عنهم كل أذى وقذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم، ومنهم يدخلون الجنة فذلك قول الله عز وجل - في تسليم

الصفحة 362
الملائكة عليهم -: " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " فعند ذلك قوله تعالى:

أثيبوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم الله عز وجل، فلذلك قوله تعالى:

" إلى ربها ناظرة " والناظرة في بعض اللغة هي: المنتظرة ألم تسمع إلى قوله تعالى:

" فناظرة بم يرجع المرسلون " أي: منتظرة بم يرجع المرسلون؟ وأما قوله:

" ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى " يعني: محمدا كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز وجل، وقوله - في آخر الآية -: " ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى " وأي جبرئيل في صورته مرتين: هذه مرة، ومرة أخرى، وذلك إن خلق جبرئيل خلق عظيم، فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم، ولا صفتهم إلا الله رب العالمين قال علي عليه السلام وأما قوله: " ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " كذلك قال الله تعالى قد كان الرسول يوحي إليه رسل من السماء فتبلغ رسل السماء إلى الأرض وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " يا جبرئيل هل رأيت ربك؟ " فقال جبرئيل: " إن ربي لا يرى ".

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من أين تأخذ الوحي؟ " قال: " آخذه من إسرافيل " قال: " ومن أين يأخذه إسرافيل؟ " قال: " يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين " قال: " ومن أين يأخذه ذلك الملك؟ " قال: " يقذف في قلبه قذفا ".

فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل، وكلام ليس بنحو واحد، منه:

ما كلم الله به الرسل، ومنه ما قذف في قلوبهم، ومنه رؤيا يراها الرسل، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ فهو كلام الله عز وجل.

قال علي عليه السلام وأما قوله: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " فإنما يعني به يوم القيامة عن ثواب ربهم لمحجوبون. وقوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " يخبر محمدا عن المشركين

الصفحة 363
المنافقين، الذين لم يستجيبوا لله ولرسوله، فقال: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة " وحيث لم يستجيبوا لله ولرسوله، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يعني بذلك: العذاب، يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا خبر يخبر به النبي صلى الله عليه وآله عنهم، ثم قال: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية " يعني: لم تكن آمنت من قبل أن تأتي هذه الآية، وهذه الآية هي: طلوع الشمس من مغربها، وقال - في آية أخرى -:

" فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " يعني: أرسل عليهم عذابا، وكذلك إتيانه بنيانهم حيث قال: " فأتى بنيانهم من القواعد " يعني: أرسل عليهم العذاب.

قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: " بل هم بلقاء ربهم كافرون " وقوله " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " وقوله: " إلى يوم يلقونه " وقوله: " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " يعني: البعث، فسماه الله لقاء، كذلك قوله " من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت " يعني: من كان يؤمن أنه مبعوث فإن وعد الله لآت: من الثواب، والعقاب، فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية، واللقاء هو: البعث، وكذلك: " تحيتهم يوم يلقونه سلام " يعني: أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون.

قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " يعني: تيقنوا أنهم يدخلونها، وكذلك قوله: " إني ظننت أني ملاق حسابيه " وأما قوله عز وجل - للمنافقين -: " ويظنون بالله الظنونا " فهو: ظن شك وليس ظن يقين، والظن ظنان: ظن شك، وظن يقين، فما كان من أمر المعاد من الظن فهو ظن يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك.

قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " فهو: ميزان العدل، يؤخذ به الخلايق يوم القيامة، بدين الله تبارك وتعالى، الخلايق بعضهم من بعض، ويجزيهم بأعمالهم، ويقتص للمظلوم من الظالم، ومعنى قوله: " فمن ثقلت موازينه، ومن خفت موازينه " فهو: قلة

الصفحة 364
الحساب وكثرته، والناس يومئذ على طبقات ومنازل، فمنهم: من يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، لأنهم لم يتلبسوا من أمر الدنيا، وإنما الحساب هناك على من تلبس بها هاهنا، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ويصير إلى عذاب السعير، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلالة، فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، ولا يعبؤ بهم بأمره ونهيه يوم القيامة وهم في جهنم خالدون، وتلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون.

ومن سؤال هذا الزنديق أن قال أجد الله يقول: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم (1) ".

ومن موضع آخر يقول: " والله يتوفى الأنفس حين موتها " (2) " والذين تتوفاهم الملائكة طيبين " (3) " وما أشبه ذلك فمرة يجعل الفعل لنفسه، ومرة لملك الموت، ومرة للملائكة.

وأجده يقول: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه " (4) ويقول، " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " (5) أعلم في الآية الأولى: أن الأعمال الصالحة لا تكفر، وأعلم في الثانية، أن الإيمان والأعمال الصالحات لا تنفع إلا بعد الاهتداء.

واجده يقول: " واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا " (6) فكيف يسأل الحي من الأموات قبل البعث والنشور.

واجده يقول: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " (7) فما هذه الأمانة ومن هذا الإنسان؟ وليس من صفته العزيز العليم التلبيس على عباده.

واجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله: " وعصى آدم ربه فغوى " (8)

____________

(1) السجدة - 11.

(2) الزمر - 42.

(3) النحل - 32.

(4) الأنبياء - 94.

(5) طه - 82.

(6) الزخرف - 45.

(7) الأحزاب - 72.

(8) طه 121.

الصفحة 365
وبتكذيبه نوحا لما قال: " إن ابني من أهلي " (1) بقوله: " إنه ليس من أهلك " (2) وبوصفه إبراهيم بأنه: عبد كوكبا مرة، ومرة قمرا، ومرة شمسا، وبقوله في يوسف:

" ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " (3) وبتهجينه موسى حيث قال: " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني الآية " (4) وببعثه على داود جبرئيل وميكائيل حيث تسور المحراب، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضبا وأظهر خطأ الأنبياء وزللهم، ووارى اسم من اغتر وفتن خلقا وضل وأضل، وكنى عن أسمائهم في قوله: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جائني " (5) فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟

واجده يقول: " وجاء ربك والملك صفا صفا " (6) " وهل ينظرون إلا أن يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " (7) " ولقد جئتمونا فرادى " (8) فمرة يجيئهم، ومرة يجيئونه واجده: يخبر أنه يتلو نبيه شاهد منه، وكان الذي تلاه عبد الأصنام برهة من دهره.

واجده يقول: " ولتسألن يومئذ عن النعيم " (9) فما هذا النعيم الذي يسأل العباد عنه؟

وأجده يقول: " بقية الله خير لكم " (10) ما هذه البقية؟

وأجده يقول: " يا حسرتي على فرطت في جنب الله " وأينما تولوا فثم وجه الله " (11) " وكل شئ هالك إلا وجهه " (12) " وأصحاب اليمين ما أصحاب

____________

(1) هود - 45.

(2) هود - 46.

(3) يوسف - 24.

(4) الأعراف - 143.

(5) الفرقان - 27.

(6) الفجر - 22.

(7) الأنعام - 158.

(8) الأنعام - 94.

(9) التكاثر - 8.

(10) هود - 86.

(11) البقرة - 115.

(12) القصص - 28.

الصفحة 366
اليمين " (1) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال " (2) ما معنى: الجنب، والوجه واليمين، والشمال، فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا؟

واجده يقول: " الرحمن على العرش استوى " (3) ويقول: " أأمنتم من في السماء " (4) " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " (5) " وهو معكم أينما كنتم " (6) " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " (7) " وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية " (8) واجده يقول: " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء " (9) وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتام فما معنى ذلك؟

واجده يقول: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " (10) فكيف يظلم الله ومن هؤلاء الظلمة؟

وأجده يقول: " إنما أعظكم بواحدة " (11) فما هذه الواحدة؟

وأجده يقول: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (12) وقد أرى مخالفي الإسلام معتكفين على باطلهم، غير مقلعين عنه، وأرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين في مذاهبهم، يلعن بعضهم بعضا، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم؟

واجده قد بين فضل نبيه على سائر الأنبياء، ثم خاطبه في أضعاف ما أثنى عليه في الكتاب من الازراء عليه، وانتقاص محله، وغير ذلك من تهجينه وتأنيبه، ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء، مثل قوله: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين " (13) وقوله: " لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم

____________

(1) الواقعة - 27.

(2) الواقعة - 41.

(3) طه - 5

(4) الملك - 16.

(5) الزخرف - 84.

(6) الحديد - 4.

(7) ق - 16.

(8) المجادلة - 7.

(9) النساء - 3.

(10) الأعراف - 160.

(11) سبأ - 46.

(12) الأنبياء - 107.

(13) الأنعام - 35.

الصفحة 367
شيئا قليلا " (1) " إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا " (2) وقوله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " (3) وقوله: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " (4) وقال: " ما فرطنا في الكتاب من شئ " " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " (5) فإذا كانت الأشياء تحصى في الإمام وهو وصي النبي فالنبي أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهذه كلها صفات مختلفة، وأحوال متناقضة، وأمور مشكلة، فإن يكن الرسول والكتاب حقا فقد قلت لشكي في ذلك، وإن كانا باطلين فما علي من بأس.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، تبارك وتعالى، هو الحي الدائم، القائم على كل نفس بما كسبت، هات أيضا ما شككت فيه قال: حسبي ما ذكرت يا أمير المؤمنين.

قال: سأنبئك بتأويل ما سألت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وعليه فليتوكل المتوكلون.

فأما قوله: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وقوله يتوفاكم ملك الموت، وتوفته رسلنا، والذين تتوفاهم الملائكة طيبين، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فهو تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يتولى ذلك بنفسه، وفعل رسله وملائكته فعله، لأنهم بأمره يعملون، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه، وهم الذين قال الله فيهم: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة، ومن كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة، يصدرون عن أمره، وفعلهم فعله، وكل ما يأتون منسوب إليه، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت، وفعل ملك الموت فعل الله، لأنه يتوفى الأنفس على يد من

____________

(1) الإسراء - 74.

(2) الإسراء - 75.

(3) الأحزاب - 37.

(4) الأحقاف - 9.

(5) يس - 12.

الصفحة 368
يشاء، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب على يد من يشاء، وإن فعل أمنائه فعله، كما قال: وما تشاؤن إلا أن يشاء الله.

وأما قوله: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه، وقوله وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، فإن ذلك كله لا يغني إلا مع الاهتداء، وليس كل من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنجاة مما هلك به الغواة، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها، بالتوحيد، وإقرارها بالله ونجى ساير المقرين بالوحدانية، من إبليس فمن دونه في الكفر، وقد بين الله ذلك بقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وبقوله: الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها، ومن ذلك: أن الإيمان قد يكون على وجهين: إيمان بالقلب، وإيمان باللسان، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله، لما قهرهم بالسيف وشملهم الخوف فإنهم آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فالإيمان بالقلب هو التسليم للرب، ومن سلم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل، فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام، ولم يرد بها غير زخرف الدنيا، والتمكين من النظرة، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلا مع الاهتداء إلى سبيل النجاة، وطرق الحق، وقد قطع الله عذر عباده بتبيين آياته، وإرسال رسله، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولم يخل أرضه من عالم بما يحتاج إليه الخليقة، ومتعلم على سبيل النجاة، أولئك هم الأقلون عددا، وقد بين الله ذلك في أمم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخر، مثل قوله - في قوم نوح -: وما آمن معه إلا قليل، وقوله - فيمن آمن من أمة موسى -: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وقوله - في حواري عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل -: من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون، يعني: بأنهم مسلمون لأهل الفضل فضلهم