وأما هفوات الأنبياء عليهم السلام وما بينه الله في كتابه، ووقوع الكناية من أسماء من اجترم أعظم مما اجترمته الأنبياء، ممن شهد الكتاب بظلمهم، فإن ذلك من أدل الدلائل على: حكمة الله عز وجل الباهرة، وقدرته القاهرة، وعزته الظاهرة لأنه علم: أن براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم، وأن منهم من يتخذ بعضهم إلها، كالذي كان من النصارى في ابن مريم، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي تفرد به عز وجل، ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه وفي أمه:
" كانا يأكلان الطعام " يعني: أن من أكل الطعام كان له ثقل: ومن كان له ثقل فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم، ولم يكن عن أسماء الأنبياء تبجرا وتعزرا (1) بل تعريفا لأهل الاستبصار.
إن الكناية عن أسماء أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى، وإنها من فعل المغيرين والمبدلين، الذين جعلوا القرآن عضين واعتاضوا الدنيا من الدين، وقد بين الله تعالى قصص المغيرين بقوله: " الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " وبقوله
____________
(1) البجر: العيب. والتعزير: اللوم والتأديب.
محل العلم وقراره.
وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر، والملل المنحرفة عن قبلتنا، وإبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكان له الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الايتمار لهم، والرضا بهم، ولأن أهل الباطل في القديم والحديث أكثر عدا من أهل الحق، فلأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله: " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " وإيجابه مثل ذلك على أوليائه، وأهل طاعته، بقوله: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " فحسبك من الجواب عن هذا الموضع ما سمعت، فإن شريعة التقية تخطر التصريح بأكثر منه.
وأما قوله: وجاء ربك والملك صفا صفا، وقوله: " ولقد جئتمونا فرادى " وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض
____________
(1) الأود: الاعوجاج.
ومن كتاب الله عز وجل يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويله بكلام البشر، ولا فعل البشر وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إنشاء الله تعالى وهو حكاية الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام حيث قال: " إني ذاهب إلى ربي " فذهابه إلى ربه توجهه إليه في عبادته واجتهاده، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال:
" وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج " وقال: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " فإنزاله ذلك: خلقه إياه.
وكذلك قوله: " إن كان للرحمن ولد فإنا أول العابدين " أي: الجاحدين والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره.
ومعنى قوله: " فهل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " فإنما خاطب نبينا محمدا صلى الله عليه وآله هل ينتظر المنافقون والمشركون إلا أن تأتيهم الملائكة فيعاينونهم، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يعني بذلك: أمر ربك، والآيات هي: العذاب في دار الدنيا، كما عذب الأمم السالفة، والقرون الخالية، وقال: " أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " يعني بذلك: ما يهلك من القرون فسماه إتيانا، وقال: " قاتلهم الله أنى يؤفكون " أي لعنهم الله أنى يؤفكون، فسمى اللعنة قتالا، وكذلك قال: " قتل الإنسان ما أكفره " أي: لعن الإنسان، وقال: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فسمى فعل النبي صلى الله عليه وآله فعلا له، ألا ترى تأويله على غير تنزيله ومثل قوله: " بل هم بلقاء ربهم كافرون " فسمى البعث: لقاء، وكذلك قوله:
" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " أي: يوقنون أنهم مبعوثون، ومثله قوله: " ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم " أي: ليس يوقنون أنهم مبعوثون، واللقاء عند المؤمن: البعث، وعند الكافر: المعاينة والنظر.
وقد يكون بعض ظن الكافر يقينا، وذلك قوله: " ورأى المجرمون النار
فافهم عني ما أقول لك، فإني إنما أزيدك في الشرح لا ثلج في صدرك وصدر من لعله بعد اليوم يشك في مثل ما شككت فيه، فلا يجد مجيبا عما يسأل عنه، لعموم الطغيان، والافتنان، واضطرار أهل العلم بتأويل الكتاب، إلى الاكتتام والاحتجاب، خيفة أهل الظلم والبغي.
أما إنه سيأتي على الناس زمان يكون الحق فيه مستورا، والباطل ظاهرا مشهورا، وذلك إذا كان أولى الناس به أعدائهم له، واقترب الوعد الحق، وعظم الإلحاد، وظهر الفساد، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ونحلهم الكفار أسماء الأشرار، فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس إليه ثم يتيح الله الفرج لأوليائه، ويظهر صاحب الأمر على أعدائه.
وأما قوله: " ويتلوه شاهد منه " فذلك حجة الله أقامها على خلقه، وعرفهم أنه لا يستحق مجلس النبي إلا من يقوم مقامه، ولا يتلوه إلا من يكون في الطهارة مثله، لئلا يتسع لمن ماسه حس الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله، وليضيق العذر على من يعينه على إثمه وظلمه، إذ كان الله قد خطر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه، بقوله لإبراهيم:
" لا ينال عهدي الظالمين " أي: المشركين، لأنه سمى الظلم شركا بقوله: " إن الشرك لظلم عظيم " فلما علم إبراهيم عليه السلام أن عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام، قال: " فاجنبني وبني أن نعبد الأصنام " واعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين، والكفار على الأبرار، فقد افترى
وأما الأمانة التي ذكرتها فهي: الأمانة التي لا تجب ولا تجوز أن تكون إلا في الأنبياء وأوصيائهم، لأن الله تبارك وتعالى ائتمنهم على خلقه، وجعلهم حججا في أرضه والسامري ومن أجمع معه وأعانه من الكفار على عبادة العجل عند غيبة موسى ما تم انتحال محل موسى من الطغام، والاحتمال لتلك الأمانة التي لا ينبغي إلا لطاهر من الرجس، فاحتمل وزرها ووزر من سلك سبيله من الظالمين وأعوانهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله: ومن استن سنة حق كان له: أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله شاهد من كتاب الله، وهو: قول الله عز وجل في قصة قابيل قاتل أخيه: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا " والإحياء في هذا الموضع تأويل في الباطن ليس كظاهره، وهو من هداها، لأن الهداية هي: حياة الأبد، ومن سماه الله حيا لم يمت أبدا، إنما ينقله من دار محنة إلى دار راحة ومنحة.
وأما ما كان من الخطاب بالانفراد مرة، وبالجمع مرة، من صفة الباري جل ذكره، فإن الله تبارك وتعالى اسمه، على ما وصف به نفسه بالانفراد والوحدانية، هو: النور الأزلي القديم الذي ليس كمثله شئ، لا يتغير، ويحكم ما يشاء ويختار، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزه ولا نقص منه ما لم يخلقه، وإنما أراد بالخلق إظهار قدرته، وإبداء سلطانه، وتبيين براهين حكمته، فخلق ما شاء كما شاء، وأجري فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من أمنائه، وكان فعلهم فعله، وأمرهم أمره، كما قال: " ومن يطع الرسول فقد أطاع الله " وجعل السماء والأرض وعاء لمن يشاء من خلقه، ليميز الخبيث من الطيب، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها، وليجعل ذلك مثالا
قال السائل: من هؤلاء الحجج؟
قال: هم رسول الله، ومن حل محله من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه ورسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه، وهم ولاة الأمر الذين قال الله فيهم: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وقال فيهم: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " قال السائل: ما ذاك الأمر؟
قال علي عليه السلام: الذي به تنزل الملائكة في الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، من: خلق، ورزق، وأجل، وعمل، وعمر، وحياة وموت، وعلم غيب السماوات والأرض، والمعجزات التي لا تنبغي إلا لله وأصفيائه والسفرة بينه وبين خلقه، وهم وجه الله الذي قال: فأينما تولوا فثم وجه الله " هم بقية الله يعني المهدي يأتي عند انقضاء هذه النظرة، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، ومن آياته: الغيبة والاكتتام، عند عموم الطغيان، وحلول الانتقام، ولو كان هذا الأمر الذي عرفتك بأنه للنبي دون غيره، لكان الخطاب يدل على فعل ماض، غير دائم ولا مستقبل، ولقال: " نزلت الملائكة " " وفرق كل أمر حكيم " ولم يقل: " تنزل الملائكة " ويفرق كل أمر حكيم " وقد زاد جل ذكره في التبيان، وإثبات الحجة، بقوله - في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام -: " أن تقول نفس
____________
(1) في بعض النسخ: " وهم الذين ".
" فلان إلى جنب فلان " إذا أردت أن تصف قربه منه.
وإنما جعل الله تبارك وتعالى في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره، وغير أنبيائه وحججه في أرضه، لعلمه بما يحدثه في كتابه المبدلون، من: إسقاط أسماء حججه منه، وتلبيسهم ذلك على الأمة ليعينوهم على باطلهم، فأثبت به الرموز، وأعمى قلوبهم وأبصارهم، لما عليهم في تركها وترك غيرها، من الخطاب الدال على ما أحدثوه فيه، وجعل أهل الكتاب المقيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه من:
شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، وجعل أعدائها، أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم، فأبي الله إلا أن يتم نوره، ولو علم المنافقون لعنهم الله: ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بينت لك تأويلها، لأسقطوها مع ما أسقطوا منه، ولكن الله تبارك اسمه ماض حكمه بإيجاب الحجة على خلقه، كما قال الله تعالى، " فلله الحجة البالغة " أغشى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة عن تأمل ذلك، فتركوه بحاله، وحجبوا عن تأكيد الملتبس بإبطاله، فالسعداء ينهون عليه، والأشقياء يعمون عنه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
ثم إن الله جل ذكره لسعة رحمته، ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه، قسم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه: يعرفه العالم والجاهل وقسما: لا يعرفه إلا من صفى ذهنه، ولطف حسه، وصح تميزه، ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسما: لا يعرفه إلا الله، وأمناؤه، والراسخون في العلم، وإنما فعل الله ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه أمرهم فاستكبروا عن طاعته، تعزرا (1) وافتراء على الله عز وجل، واغترارا بكثرة من ظاهرهم، وعاونهم، وعاند الله عز وجل ورسوله.
____________
(1) أي: تمنعا وتمردا.
" سلام على آل يس " لأن الله سمى به النبي صلى الله عليه وآله حيث قال: " يس والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين " لعلمه بأنهم يسقطون قول الله: سلام على آل محمد كما أسقطوا غيره، وما زال رسول الله صلى الله عليه وآله يتألفهم، ويقربهم، ويجلسهم عن يمينه وشماله، حتى أذن الله عز وجل في إبعادهم بقوله: " واهجرهم هجرا جميلا " وبقوله، " فما للذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرء منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون " وكذلك قول الله عز وجل: " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " ولم يسم بأسمائهم. وأسماء آبائهم وأمهاتهم.
وأما قوله: " كل شئ هالك إلا وجهه " فإنما أنزلت كل شئ هالك إلا دينه، لأنه من المحال أن يهلك منه كل شئ ويبقى الوجه، هو أجل وأكرم وأعظم من ذلك، إنما يهلك من ليس منه، ألا ترى أنه قال: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ففصل بين خلقه ووجهه.
وأما ظهورك على تناكر قوله: " فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء " وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء. ولا كل النساء أيتام، فهو: مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن وهذا وما أشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل، ووجد المعطلون وأهل الملل المخالفة للإسلام مساغا إلى القدح في القرآن، ولو شرحت لك كلما أسقط
____________
(1) في ج 1 ص 15 من تفسير مجمع البيان للطبرسي قال:
ومن ذلك: الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنه لا يليق بالتفسير، فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة: أن في القرآن تغييرا ونقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه وهو الذي نصره المرتضى " قدس الله روحه " واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء، في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع: أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم:
بالبلدان، والحوادث الكبار، ولوقايع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته. وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية.. إلى أن قال: وذكر أيضا رضي الله عنه: إن القرآن كان على عهد رسول الله " ص " مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك: بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه: كان يعرض على النبي " ص " ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي " ص " عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا، مرتبا، غير مبتور، ولا مبثوث، وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته.
وقال الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتاب " أصل الشيعة وأصولها " وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للاعجاز والتحدي، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه، ولا تحريف، ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين: إلى وجود نقص فيه، أو تحريف، فهو مخطئ، يرده نص الكتاب العظيم " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم، الظاهرة
=>
وأما قوله: " إنما أعظكم بواحدة " فإن الله جل ذكره نزل عزائم الشرائع وآيات الفرائض، في أوقات مختلفة، كما خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقها في أقل من لمح البصر، ولكنه جعل الأناة والمداراة أمثالا لأمنائه وإيجابا للحجة على خلقه، فكان أول ما قيدهم به: الإقرار بالوحدانية والربوبية والشهادة بأن لا إله إلا الله، فلما أقروا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه صلى الله عليه وآله بالنبوة والشهادة له بالرسالة، فلما انقادوا ذلك فرض عليهم الصلاة، ثم الصوم، ثم الحج ثم الجهاد، ثم الزكاة، ثم الصدقات، وما يجري مجراها من مال الفيئ، فقال المنافقون: هل بقي لربك علينا بعد الذي فرضه شئ آخر يفترضه. فتذكره لتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره، فأنزل الله في ذلك: " قل إنما أعظكم بواحدة " يعني: الولاية، وأنزل، " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وليس بين الأمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ أحد وهو راكع غير رجل، ولو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط من معناها المحرفون فيبلغ إليك وإلى أمثالك، وعند ذلك قال الله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ".
وأما قوله للنبي: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " وأنك ترى أهل الملل المخالفة للإيمان ومن يجري مجراهم من الكفار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية
____________
<=
في نقصه أو تحريفه، ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علما ولا عملا، فإما أن
تأول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها عرض الجدار.
خسف، أو قذف، أو رجف، أو زلزلة، أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الأمم الخالية.
وأن الله علم من نبينا صلى الله عليه وآله ومن الحجج في الأرض: الصبر على ما لم يطق من تقدمهم من الأنبياء الصبر على مثله، فبعثه، فبعثه الله بالتعريض لا بالتصريح، وأثبت حجة الله تعريضا لا تصريحا بقوله - في وصيه -: " من كنت مولاه فهذا مولاه ".
و " هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وليس من خليقة النبي ولا من النبوة أن يقول قولا لا معنى له، فلزم الأمة أن تعلم: أنه لما كانت النبوة والأخوة موجودتين في خلقة هارون، ومعدومتين فيمن جعله النبي صلى الله عليه وآله بمنزلته أنه قد استخلفه على أمته كما استخلف موسى هارون، حيث قال له:
" أخلفني في قومي " ولو قال لهم: لا تقلدوا الإمامة إلا فلانا بعينه وإلا نزل بكم العذاب، لأتاهم العذاب وزال باب الإنظار والإمهال.
وبما أمر بسد باب الجميع وترك بابه، ثم قال: ما سددت ولا تركت ولكني أمرت فأطعت، فقالوا سددت بابنا وتركت لأحدثنا سنا.
فأما ما ذكروه من حداثة سنه، فإن الله لم يستصغر يوشع بن نون حيث أمر موسى أن يعهد بالوصية إليه، وهو في سن ابن سبع سنين، ولا استصغر يحيى وعيسى لما استودعهما عزائمه وبراهين حكمته، وإنما جعل ذلك جل ذكره لعلمه بعاقبة الأمور، وأن وصيه لا يرجع بعده ضالا ولا كافرا.
وبأن عمد النبي صلى الله عليه وآله إلى سورة براءة، فدفعها إلى من علم أن الأمة تؤثره على وصيه، وأمره بقرائتها على أهل مكة، فلما ولى من بين يديه أتبعه بوصيه
ثم شفع ذلك بضم الرجل الذي ارتجع سورة براءة منه، ومن يوازره في تقدم المحل عند الأمة، إلى علم النفاق " عمرو بن العاص " في غزاة ذات السلاسل، ولاهما عمرو: حرس عسكره.
وختم أمرهما بأن: ضمهما عند وفاته إلى مولاه أسامة بن زيد، وأمرهما بطاعته، والتصريف بين أمره ونهيه، وكان آخر ما عهد به في أمر أمته قوله:
" أنفذوا جيش أسامة " يكرر ذلك على أسماعهم، إيجابا للحجة عليهم في إيثار المنافقين على الصادقين.
ولو عددت كلما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في إظهار معائب المستولين على تراثه لطال، وأن السابق منهم إلى تقلد ما ليس له بأهل قام هاتفا على المنبر لعجزه عن القيام بأمر الأمة، ومستقيلا (1) مما قلدوه لقصور معرفته على تأويل ما كان يسأل عنه، وجهله بما يأتي ويذر.
ثم أقام على ظلمه، ولم يرض باحتقاب عظيم الوزر في ذلك حتى عقد الأمر من بعده لغيره، فأتى التالي بتسفيه رأيه، والقدح والطعن على أحكامه، ورفع السيف عمن كان صاحبه وضعه عليه، ورد النساء اللاتي كان سباهن إلى أزواجهن وبعضهن حوامل، (2) وقوله: " قد نهيته عن قتال أهل القبلة فقال لي: إنك لحدب على أهل الكفر وكان هو في ظلمه لهم أولى باسم الكفر منهم ".
ولم يزل يخطئه، ويظهر الأرزاء عليه، ويقول على المنبر: " كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله شرها، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه " وكان يقول: قبل
____________
(1) إشارة إلى قول أبي بكر " أقيلوني فلست بخيركم ".
(2) راجع قصة مالك بن نويرة في ترجمة خالد بن الوليد في هامش ص 124 من هذا الكتاب.
وأتى من أمر الشورى وتأكيده بها: عقد الظلم والإلحاد، والغي والفساد، حتى تقرر على إرادته ما لم يخف - على ذي لب موضع ضرره -.
ولم تطق الأمة الصبر على ما أظهره الثالث من سوء الفعل، فعاجلته بالقتل فاتسع بما جنوه من ذلك لمن وافقهم على ظلمهم وكفرهم ونفاقهم: محاولة مثل ما أتوه من الاستيلاء على أمر الأمة.
كل ذلك لتتم النظرة التي أوحاها الله تعالى لعدوه إبليس، إلى أن يبلغ الكتاب أجله، ويحق القول على الكافرين، ويقترب الوعد الحق، الذي بينه في كتابه بقوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لنستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " (1) وذلك: إذا لم يبق من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، وغاب صاحب الأمر بإيضاح الغدر له في ذلك، لاشتمال الفتنة على القلوب حتى يكون أقرب الناس إليه أشدهم عدواة له.
وعند ذلك يؤيده الله بجنود لم تروها، ويظهر دين نبيه صلى الله عليه وآله - على يديه - على الدين كله ولو كره المشركون.
وأما ما ذكرته من الخطاب الدال على تهجين النبي صلى الله عليه وآله، والأرزاء به، والتأنيب له، مع ما أظهره الله تعالى في كتابه من تفضيله إياه على سائر أنبيائه فإن الله عز وجل جعل لكل نبي عدوا من المشركين، كما قال في كتابه، وبحسب جلالة منزلة نبينا صلى الله عليه وآله عند ربه، كذلك عظم محنته لعدوه الذي عاد منه في شقاقه ونفاقه كل أذى ومشقة لدفع نبوته، وتكذيبه إياه، وسعيه في مكارهه، وقصده لنقض كل ما أبرمه، واجتهاده ومن مالأه على كفره، وعناده، ونفاقه، وإلحاده في إبطال دعواه، وتغيير ملته، ومخالفته سنته، ولم ير شيئا أبلغ في تمام كيده من تنفيرهم من موالاة وصيه، وإيحاشهم منه، وصدهم عنه، وإغرائهم بعداوته،
____________
النور: 55.
والمحكم، والمتشابه، والناسخ، والمنسوخ، لم يسقط منه: حرف ألف ولا لام، فلما وقفوا على ما بينه الله من: أسماء أهل الحق والباطل، وأن ذلك إن أظهر نقص ما عهدوه قالوا: لا حاجة لنا فيه، نحن مستغنون عنه بما عندنا، وكذلك قال: " فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ".
دفعهم الاضطرار بورود المسائل عليهم عما لا يعلمون تأويله، إلى جمعه، وتأليفه، وتضمينه من تلقائهم ما يقيمون به دعائم كفرهم، فصرخ مناديهم: من كان عنده شئ من القرآن فليأتنا به، ووكلوا تأليفه ونظمه إلى بعض من وافقهم على معادات أولياء الله، فألفه على اختيارهم، وما يدل للمتأمل له على اختلال تمييزهم، وافترائهم، وتركوا منه ما قدروا أنه لهم، وهو عليهم، وزادوا فيه ما ظهر تناكره وتنافره، وعلم الله أن ذلك يظهر ويبين، فقال، " ذلك مبلغهم من العلم " وانكشف لأهل الاستبصار عوارهم، وافترائهم.
والذي بدا في الكتاب من الازراء على النبي صلى الله عليه وآله من فرقة الملحدين ولذلك قال: " ويقولون منكرا من القول وزورا " ويذكر جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وآله ما يحدثه عدوه في كتابه من بعده بقوله: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته " يعني: أنه ما من نبي تمنى مفارقة ما يعاينه من نفاق قومه، وعقوقهم، والانتقال عنهم إلى دار الإقامة، إلا ألقى الشيطان المعرض لعداوته عند فقده في الكتاب الذي أنزل عليه، ذمه، والقدح فيه، والطعن عليه، فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله، ولا تصغي إليه غير قلوب المنافقين، والجاهلين، ويحكم الله آياته بأن:
يحمي أوليائه من الضلال والعدوان، ومشايعة أهل الكفر والطغيان، الذين لم يرض
فافهم هذا واعلمه، واعمل به، واعلم أنك ما قد تركت مما يجب عليك السؤال عنه أكثر مما سألت عنه، وأني قد اقتصرت على تفسير يسير من كثير لعدم حملة العلم، وقلة الراغبين في التماسه، وفي دون ما بينت لك بلاغ لذوي الألباب.
قال السائل: حسبي ما سمعت يا أمير المؤمنين، شكرا لله لك على استنقاذي من عماية الشرك، وطخية الإفك، وأجزل على ذلك مثوبتك، إنه على كل شئ قدير، وصلى الله أولا وآخرا على أنوار الهدايات، وأعلام البريات، محمد وآله أصحاب الدلالات الواضحات، وسلم تسليما كثيرا.
عن الأصبغ بن نباتة قال: لما بويع أمير المؤمنين عليه السلام، خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله، لابسا بردته، منتعلا بنعل رسول الله، ومتقلدا بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله، فصعد المنبر، فجلس متمكنا، ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه، ثم قال:
يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني: وهذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا ما زقني رسول الله زقا زقا، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين.
أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم، حتى ينطق كل كتاب من كتب الله فيقول: " صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل الله في " وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم: ما أنزل الله فيه، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم: بما كان، وما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " (1).
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرئ النسمة، لو سألتموني عن: آية آية في ليل نزلت أم في نهار نزلت، مكيها ومدنيها، سفريها
____________
(1) الرعد - 93.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟
فأجابه بما تقدم ذكرنا إياه (1).
قال: فسلوني قبل أن تفقدوني.
فقام إليه رجل من أقصي المجلس فقال: يا أمير المؤمنين دلني على عمل ينجيني الله به من النار، ويدخلني الجنة!
قال: اسمع، ثم افهم، ثم استيقن، قامت الدنيا بثلاث: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، وبغني لا يبخل بماله على أهل دين الله، وبفقير صابر.
فإذا كتم العالم علمه، وبخل الغني بماله، ولم يصبر الفقير على فقره، فعندها الويل والثبور، وكادت الأرض أن ترجع إلى الكفر بعد الإيمان.
أيها السائل لا تغترن بكثرة المساجد، وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم متفرقة، فإنما الناس ثلاث: زاهد، وراغب، وصابر.
أما الزاهد فلا يفرح بالدنيا إذا أتته، ولا يحزن عليها إذا فاتته.
وأما الصابر فيتمناها بقلبه، فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لعلمه بسوء العاقبة.
وأما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم من حرام.
ثم قال: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟
قال ينظر إلى ولي الله فيتولاه، وإلي عدو الله فيتبرأ منه وإن كان حميما قريبا.
قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين ثم غاب فلم ير.
فقال: هذا أخي الخضر عليه السلام تمام الخبر.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة فحمد الله وأثني عليه، ثم قال:
____________
(1) مر جوابه عليه السلام لسائل سأله السؤال نفسه فقال: " لم
أك بالذي أعبد من لم أره.. الخ " فراجعه.