الصفحة 39

قال علي عليه السلام: على من قتل أبي لعنة الله، أفتراني لعنت الله عز وجل؟

قال يزيد: يا علي إصعد المنبر فأعلم الناس حال الفتنة، وما رزق الله أمير المؤمنين من الظفر!

فقال علي بن الحسين: ما أعرفني بما تريد. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال:

أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن المروة والصفا، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن من لا يخفى، أنا ابن من علا فاستعلا فجاز سدرة المنتهى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.

فضج أهل الشام بالبكاء حتى خشى يزيد أن يرحل من مقعده، فقال - للمؤذن -: أذن فلما قال المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر) جلس علي ابن الحسين على المنبر فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. بكى علي بن الحسين عليه السلام ثم التفت إلى يزيد فقال:

يا يزيد هذا أبي أم أبوك؟

قال: بل أبوك. فانزل. فنزل عليه السلام فأخذ بناحية باب المسجد، فلقيه مكحول صاحب رسول الله عليه السلام فقال:

كيف أمسيت يا بن رسول الله؟

قال أمسينا بينكم مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبنائهم، ويستحيون نسائهم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم.

فلما انصرف يزيد إلى منزله، دعى بعلي بن الحسين عليه السلام فقال:

يا علي أتصارع ابني خالد؟

قال عليه السلام: وما تصنع بمصارعتي إياه، أعطني سكينا واعطه سكينا فليقتل أقوانا أضعفنا، فضمه يزيد إلى صدره، ثم قال:

لا تلد الحية إلا الحية، أشهد أنك ابن علي بن أبي طالب عليه السلام.

ثم قال له علي بن الحسين عليه السلام: يا يزيد بلغني أنك تريد قتلي، فإن كنت

الصفحة 40
لا بد قاتلي، فوجه مع هؤلاء النسوة من يؤديهن إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقال له يزيد لعنه الله: لا يؤديهن غيرك، لعن الله ابن مرجانة، فوالله ما أمرته بقتل أبيك، ولو كنت متوليا لقتاله ما قتلته، ثم أحسن جائزته وحمله والنساء إلى المدينة.

إحتجاجه (ع) في أشياء شتى من علوم الدين وذكر طرف من مواعظه البليغة.

جاء رجل من أهل البصرة إلى علي بن الحسين عليه السلام فقال:

يا علي بن الحسين إن جدك علي بن أبي طالب قتل المؤمنين، فهملت عينا علي بن الحسين دموعا حتى امتلأت كفه منها، ثم ضرب بها على الحصى، ثم قال:

يا أخا أهل البصرة لا والله ما قتل علي مؤمنا، ولا قتل مسلما، وما أسلم القوم ولكن استسلموا وكتموا الكفر وأظهروا الإسلام، فلما وجدوا على الكفر أعوانا أظهروه، وقد علمت صاحبة الجدب والمستحفظون من آل محمد صلى الله عليه وآله أن أصحاب الجمل وأصحاب صفين وأصحاب النهروان لعنوا على لسان النبي الأمي وقد خاب من افترى.

فقال شيخ من أهل الكوفة: يا علي بن الحسين إن جدك كان يقول:

(إخواننا بغوا علينا).

فقال علي بن الحسين عليه السلام: أما تقرأ كتاب الله (وإلى عاد أخاهم هودا) فهم مثلهم أنجى الله عز وجل هودا والذين معه وأهلك عادا بالريح العقيم.

وبالإسناد المقدم ذكره: أن علي بن الحسين عليه السلام كان يذكر حال من مسخهم الله قردة من بني إسرائيل ويحكي قصتهم، فلما بلغ آخرها قال: إن الله تعالى مسخ أولئك القوم لإصطيادهم السمك، فكيف ترى عند الله عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله، وهتك حريمه؟! إن الله تعالى وإن لم يمسخهم في الدنيا فإن المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ.


الصفحة 41
فقيل له: يا بن رسول الله فإنا قد سمعنا منك هذا الحديث، فقال لنا بعض النصاب: فإن كان قتل الحسين باطلا فهو أعظم عند الله من صيد السمك في السبت، أفما كان الله غضب على قاتليه كما غضب على صيادي السمك؟

قال علي بن الحسين عليه السلام: قل لهؤلاء النصاب فإن كان إبليس معاصيه أعظم من معاصي من كفر بإغوائه فأهلك الله من شاء منهم، كقوم: نوح، وفرعون، ولم يهلك إبليس، وهو أولى بالهلاك، فما باله أهلك هؤلاء الذين قصروا عن إبليس في عمل الموبقات، وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المحرمات، أما كان ربنا عز وجل حكيما تدبيره حكمة فيمن أهلك وفيمن استبقى؟ فكذلك هؤلاء الصائدون في السبت، وهؤلاء القاتلون للحسين، يفعل في الفريقين ما يعلم أنه أولى بالصواب والحكمة، لا يسأل عما يفعل وعباده يسألون.

وقال الباقر عليه السلام: فلما حدث علي بن الحسين عليه السلام بهذا الحديث قال له بعض من في مجلسه: يا بن رسول الله كيف يعاتب الله ويوبخ هؤلاء الأخلاف على قبائح أتاها أسلافهم - وهو يقول: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى)؟

فقال زين العابدين عليه السلام: إن القرآن نزل بلغة العرب فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي - قد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه -:

أغرتم على بلد كذا، وفعلتم كذا، ويقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خربنا بلد كذا. لا يريد أنهم باشروا ذلك، ولكن يريد هؤلاء بالعذل وأولئك بالإفتخار: أن قومهم فعلوا كذا، وقول الله عز وجل في هذه الآيات إنما هو توبيخ لأسلافهم، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين، لأن ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، والآن هؤلاء الأخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم، مصوبون لهم، فجاز أن يقال: أنتم فعلتم أي: إذ رضيتم قبيح فعلهم وعن أبي حمزة الثمالي (1) قال: دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على

____________

(1) قال الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب ج 2 ص 118:

(الثمالي أبو حمزة ثابت بن دينار، الثقة الجليل، صاحب الدعاء المعروف في

=>


الصفحة 42
علي بن الحسين عليه السلام فقال له:

جعلني الله فداك! أخبرني عن قول الله عزو جل: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) قال له: ما يقول الناس فيها قبلكم؟

قال: يقولون: أنها مكة.

فقال: وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكة.

قال: فما هو؟

قال: إنما عنى الرجال.

قال: وأين ذلك في كتاب الله؟

فقال: أو ما تسمع إلى قوله عز وجل: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله) وقال: (وتلك القرى أهلكناهم) وقال: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟

قال: وتلا عليه آيات في هذا المعنى.

قال: جعلت فداك! فمن هم؟

____________

<=

- أسحار شهر رمضان، كان من زهاد أهل الكوفة ومشايخها وكان عربيا أزديا، روى عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا عليه السلام يقول -: أبو حمزة الثمالي في زمانه، كسلمان الفارسي في زمانه، وذلك أنه خدم أربعة منا: علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وبرهة من عصر موسى بن جعفر).

وعده الشيخ في أصحاب علي بن الحسين ص 84 من رجاله فقال: (ثابت بن أبي صفية دينار الثمالي الأزدي، يكنى أبا حمزة الكوفي، مات سنة خمسين وماية، وذكره في أصحاب الباقر عليه السلام ص 110 و ص 160 في أصحاب الصادق (ع) وقال النجاشي ص 89 لقى علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسن عليهم السلام وروى عنهم وكان من خيار أصحابنا، وثقاتهم، ومعتمديهم في الرواية والحديث و (قال): وروى عنه العامة ومات سنة خمسين ومائة له كتاب تفسير القرآن.

الصفحة 43
قال: نحن هم.

فقال: أو ما تسمع إلى قوله: (سيروا فيها ليالي وأياما آمنين)؟

قال: آمنين من الزيغ.

وروي أن زين العابدين عليه السلام مر بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى فوقف عليه السلام عليه ثم قال:

امسك أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم، أترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله إذا نزل بك غدا؟

قال: لا.

قال: أفتحدث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلى الحال التي ترضاها؟ (قال): فأطرق مليا ثم قال: إني أقول ذلك بلا حقيقة.

قال: أفترجو نبيا بعد محمد صلى الله عليه وآله يكون لك معه سابقة؟

قال: لا.

قال: أفترجو دارا غير الدار التي أنت فيها ترد إليها فتعمل فيها؟

قال: لا.

قال: أفرأيت أحدا به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا؟ إنك على حال لا ترضاها ولا تحدث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة، ولا ترجو نبيا بعد محمد، ولا دار غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فيها، وأنت تعظ الناس، قال: فلما ولى عليه السلام قال الحسن البصري: من هذا؟

قالوا: علي بن الحسين.

قال: أهل بيت علم فما رأي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس.

وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يحدث رجلا من قريش قال:

لما تاب الله على آدم واقع حواء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلا في الأرض، وذلك بعد ما تاب الله عليه، قال: وكان آدم يعظم البيت وما حوله من

الصفحة 44
حرمة البيت، فكان إذا أراد أن يغشى حواء خرج من الحرم وأخرجها معه، فإذا جاز الحرم غشيها في الحل، ثم يغتسلان إعظاما منه للحرم، ثم يرجع إلى فناء البيت.

قال: فولد لآدم من حواء عشرون ذكرا وعشرون أنثى، فولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فأول بطن ولدت حواء: (هابيل) ومعه جارية يقال لها:

(أقليما) قال: وولدت في البطن الثاني: (قابيل) ومعه جارية يقال لها (لوزا) وكانت لوزا أجمل بنات آدم. (قال): فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة فدعاهم إليه فقال:

أريد أن أنكحك يا هابيل لوزا، وأنكحك يا قابيل أقليما.

قال قابيل: ما أرضى بهذا أتنكحني أخت هابيل القبيحة، وتنكح هابيل أختي الجميلة.

قال: فأنا أقرع بينكما، فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا، وخرج سهمك يا هابيل على أقليما، زوجت كل واحد منكما التي خرج سهمه عليها.

(قال): فرضيا بذلك، فاقترعا، (قال): فخرج سهم هابيل على لوزا أخت قابيل، وخرج سهم قابيل على أقليما أخت هابيل. قال: فزوجهما على ما خرج لهما من عند الله. (قال) ثم حرم الله نكاح الأخوات بعد ذلك.

قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟

قال: نعم.

قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم!

قال: فقال علي بن الحسين: إن المجوس إنما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله.

ثم قال له علي بن الحسين عليه السلام: لا تنكر هذا، إنما هي الشرايع جرت أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له، فكان ذلك شريعة من شرايعهم، ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك.

لقي عباد البصري علي بن الحسين عليه السلام في طريق مكة فقال له:

يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينه، وأن

الصفحة 45
الله عز وجل يقول: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون - إلى قوله - وبشر المؤمنين).

فقال علي بن الحسين: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.

وسأل عليه السلام عن النبيذ فقال:

شربه قوم وحرمه قوم صالحون، فكان شهادة الذين دفعوا بشهادتهم شهواتهم أولى أن تقبل من الذين جروا بشهادتهم شهواتهم.

وعن عبد الله بن سنان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام: إن فلانا ينسبك إلى أنك ضال مبتدع!

فقال له علي بن الحسين عليه السلام: ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حيث أبلغني عن أخي ما لست أعلمه، إن الموت يعمنا، والبعث محشرنا، والقيامة موعدنا، والله يحكم بيننا، إياك والغيبة! فإنها أدام كلاب النار، واعلم أن من أكثر عيوب الناس شهد عليه الاكثار إنه إنما يطلبها بقدر ما فيه.

وسأل عليه السلام عن الكلام والسكوت أيهما أفضل فقال عليه السلام.

لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات، فالكلام أفضل من السكوت قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟

قال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما يبعثهم

____________

(1) عبد الله بن سنان: قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 104:

(عبد الله بن سنان - بالسين المهملة والنون قبل الألف وبعدها - ابن طريف مولى بني هاشم، ويقال مولى بني أبي طالب، ويقال: مولى بني العباس كان خازنا للمنصور والمهدي والهادي والرشيد، وكان كوفيا ثقة من أصحابنا، جليلا لا يطعن عليه في شئ، روى عن الصادق (ع) وقيل روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام ولم يثبت قال فيه الصادق (ع): أما أنه يزيد على السن خيرا، رواه الكشي في حديث المرسل)

الصفحة 46
بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا نجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت.

روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: لما قتل الحسين بن علي عليه السلام أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين عليه السلام فخلا به ثم قال:

يا بن أخي قد علمت أن رسول الله كان جعل الوصية والإمامة من بعده لعلي ابن أبي طالب عليه السلام، ثم إلى الحسن، ثم الحسين، وقد قتل أبوك رضي الله عنه وصلى عليه ولم يوص، وأنا عمك وصنو أبيك، وأنا في سني وقدمتي أحق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني الوصية والإمامة، ولا تخالفني.

فقال له علي بن الحسين عليه السلام: إتق الله ولا تدع ما ليس لك بحق، إني أعظك أن تكون من الجاهلين، يا عم! إن أبي صلوات الله عليه أوصى إلي قبل أن يتوجه إلى العراق، وعهد إلي في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله عندي، فلا تعرض لهذا فإني أخاف عليك بنقص العمر، وتشتت الحال وأن الله تبارك وتعالى أبى إلا أن يجعل الوصية والإمامة إلا في عقب الحسين، فإن أردت أن تعلم فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحكم إليه ونسأله عن ذلك.

قال الباقر عليه السلام: وكان الكلام بينهما وهما يومئذ بمكة، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود فقال علي بن الحسين عليه السلام لمحمد:

ابتدء فابتهل إلى الله واسأله أن ينطق لك الحجر ثم سله. فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر فلم يجبه، فقال علي بن الحسين عليه السلام:

أما أنك يا عم لو كنت وصيا وإماما لأجابك!

فقال له محمد: فادع أنت يا بن أخي! فدعا الله علي بن الحسين عليه السلام بما أراد ثم قال: (أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين، لما أخبرتنا بلسان عربي مبين من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي!


الصفحة 47
فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله بلسان عربي مبين فقال:

اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي بن أبي طالب إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فانصرف محمد وهو يتولى علي بن الحسين عليه السلام.

وعن ثابت البناني (1) قال: كنت حاجا وجماعة عباد البصرة مثل: أيوب السجستاني، وصالح المروي، وعتبة الغلام، وحبيب الفارسي، ومالك بن دينار فلما أن دخلنا مكة رأينا الماء ضيقا، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم، فأتينا الكعبة وطفنا بها ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها فمنعنا الإجابة. فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه، وأقلقته أشجانه، فطاف بالكعبة أشواطا ثم أقبل علينا فقال:

يا مالك بن دينار! ويا ثابت البناني! ويا أيوب السجستاني! ويا صالح المروي ويا عتبة الغلام! ويا حبيب الفارسي! ويا سعد! ويا عمر! ويا صالح الأعمى! ويا رابعة ويا سعدانة! ويا جعفر بن سليمان!

فقلنا: لبيك وسعديك يا فتى!

فقال: أما فيكم أحد يحبه الرحمن؟

فقلنا: يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة.

فقال: ابعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه، ثم أتى الكعبة فخر ساجدا فسمعته يقول - في سجوده -: (سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث).

____________

(1) ثابت البناني: قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 29 (ثابت البناني يكنى أبا فضالة، من أهل بدر من أصحاب أمير المؤمنين (ع) قتل بصفين).

وفي أصحاب علي من رجال الشيخ ص 36: ثابت الأنصاري البناني يكنى أبا فضالة من أهل بدر قتل معه عليه السلام بصفين.

الصفحة 48
قال: فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كافواه القرب.

فقلت: يا فتى من أين علمت أنه يحبك؟ قال: لو لم يحبني لم يستزرني، فلما استزارني علمت أنه يحبني، فسألته بحبه لي فأجباني، ثم ولى عنا وأنشأ يقول:

من عرف الرب فلم تغنه * معرفة الرب فذاك الشقي
ما ضر في الطاعة ما ناله * في طاعة الله وماذا لقي
ما يصنع العبد بغير التقى * والعز كل العز للمتقي

فقلت يا أهل مكة من هذا الفتى؟

قالوا: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عليه السلام قال:

نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وينشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض منا لساخت الأرض بأهلها.

ثم قال: ولم تخلوا الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله، ولو لا ذلك لم يعبد الله.

وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي (1) قال:

____________

(1) في الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي ج 1 ص 60 قال: (قال الفضل بن شاذان ولم يكن في زمن علي بن الحسين (ع) في أول أمره إلا خمسة أنفس: سعيد بن جبير، سعيد بن المسيب، محمد بن جبير بن مطعم، يحيى بن أم الطويل، أبو خالد الكابلي واسمه وردان ولقبه كنكر) ثم قال: وفي خبر الحواريين أنه من حواري علي بن الحسين عليه السلام وقد شاهد كثيرا من دلائل الأئمة عليهم السلام ويأتي في الطاقي رواية تنعلق به، ويظهر من رسالة أبي غالب الزراري أن آل أعين وهم أكبر بيت في الكوفة

=>


الصفحة 49
دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام فقلت له:

يا بن رسول الله أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودتهم، وأوجب على خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟

فقال لي: يا أبا كنكر! إن أولي الأمر الذين جعلهم الله أئمة الناس وأوجب عليهم طاعتهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم انتهى الأمر إلينا، ثم سكت.

فقلت له: يا سيدي روي لنا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (لا تخلو الأرض من حجة الله على عباده) فمن الحجة والإمام بعدك؟

قال: ابني (محمد) واسمه في التوراة (باقر) يبقر العلم بقرا، هو الحجة والإمام بعدي، ومن بعد محمد ابنه (جعفر) اسمه عند أهل السماء (الصادق).

فقلت له: يا سيدي فكيف صار اسمه: الصادق، وكلكم صادقون؟

فقال حدثني أبي عن أبيه: أن رسول الله قال: (إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسموه: الصادق، فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراء على الله، وكذبا عليه، فهو عند الله (جعفر الكذاب) المفتري على الله، المدعي لما ليس له بأهل، المخالف على أبيه، والحاسد لأخيه، ذلك الذي يكشف سر الله عند غيبة ولي الله).

ثم بكى علي بن الحسين بكاءا شديدا، ثم قال:

كأني بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي الله، والمغيب في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته، وحرصا على قتله إن ظفر به، طمعا في ميراث أبيه حتى يأخذه بغير حقه.

قال أبو خالد: فقلت له: يا بن رسول الله وأن ذلك لكائن؟

فقال: إي وربي إنه المكتوب عندنا في الصحيفة: التي فيها ذكر المحن التي تجري علينا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

____________

<=

من الشيعة أن أول من عرف منهم عبد الملك عرفه من صالح بن ميثم ثم عرفه حمران من أبي خالد الكابلي.

الصفحة 50
قال أبو خالد: فقلت: يا بن رسول الله ثم يكون ماذا؟

قال: ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده يا أبا خالد! إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان، لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف، أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا، والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا. وقال عليه السلام: انتظار الفرج من أعظم الفرج.

وبالإسناد المتقدم ذكره عن علي بن الحسين عليه السلام في تفسير قوله تعالى: (لكم في القصاص حياة) الآية ولكم يا أمة محمد في القصاص حياة لأن من هم بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل، كان حياة للذي هم بقتله، وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس، إذا علموا أن القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص، يا أولي الألباب: أولي العقول لعلكم تتقون.

ثم قال عليه السلام: عباد الله هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا، وتفنون روحه، أفلا أنبئكم بأعظم من هذا القتل، وما يوحيه الله على قاتله مما هو أعظم من هذا القصاص؟

قالوا: بلى يا بن رسول الله.

قال: أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلا لا يجبر ولا يحيى بعده أبدا.

قالوا: ما هو؟

قال: أن يضله عن نبوة محمد، وعن ولاية علي بن أبي طالب، ويسلك به غير سبيل الله، ويغير به باتباع طريق أعداء علي والقول بإمامتهم، ودفع علي عن حقه، وجحد فضله، وألا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه، فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم خالدا مخلدا أبدا، فجزاء هذا القتل مثل ذلك الخلود في نار جهنم.

وقال أبو محمد الحسن العسكري صلوات الله عليه: أن رجلا جاء إلى علي بن

الصفحة 51
الحسين برجل يزعم أنه قاتل أبيه، فاعترف فأوجب عليه القصاص، وسأله أن يعفو عنه ليعظم الله ثوابه، فكأن نفسه لم تطب بذلك فقال علي بن الحسين - للمدعي الدم الذي هو الولي المستحق للقصاص -: إن كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلا فهب له هذه الجناية، واغفر له هذا الذنب.

قال: يا بن رسول الله له علي حق، ولكن لم يبلغ به أن أعفو له عن قتل والدي.

قال: فتريد ماذا؟

قال: أريد القود، فإن أراد لحقه علي أن أصالحه على الدية صالحة وعفوت عنه قال: علي بن الحسين عليه السلام فماذا حقه عليك؟

قال: يا بن رسول الله لقنني توحيد الله، ونبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإمامة علي والأئمة عليهم السلام.

فقال علي بن الحسين: فهذا لا يفي بدم أبيك؟ بلى والله هذا يفي بدماء أهل الأرض كلهم من الأولين والآخرين سوى الأنبياء والأئمة، إن قتلوا فإنه لا يفي بدمائهم شئ. تمام الخبر.

وبالإسناد المقدم ذكره أن محمد بن علي الباقر عليه السلام قال:

دخل محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (1) على علي بن الحسين عليه السلام، وهو كئيب حزين فقال له زين العابدين عليه السلام.

ما بالك مغموما؟

قال: يا بن رسول الله غموم وهموم تتوالى علي لما امتحنت به من جهة حساد

____________

(1) قال الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب ج 2 ص 270 (الزهري بضم الزاي وسكون الهاء أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الحرث بن شهاب ابن زهرة بن كلاب الفقيه المدني التابعي المعروف وقد ذكره علماء الجمهور وأثنوا عليه ثناء بليغا، قيل: أنه قد حفظ علم العلماء السبعة، ولقى عشرة من الصحابة، وروى عنه جماعة من أئمة علم الحديث، وأما علمائنا فقد اختلفت كلماتهم في مدحه وقدحه وقد ذكرنا ما يتعلق به في سفينة البحار).

الصفحة 52
نعمي، والطامعين في، وممن أرجو، وممن أحسنت إليه، فيخلف ظني.

فقال له علي بن الحسين عليه السلام: إحفظ عليك لسانك تملك به إخوانك.

قال الزهري: يا بن رسول الله إني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي.

قال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات! إياك أن تعجب من نفسك بذلك وإياك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره. وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل من تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا.

ثم قال: يا زهري من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه. ثم قال: يا زهري أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك، فأي هؤلاء أن تظلم، وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه، وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره، وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأن لك فضلا على أحد من أهل القبلة، فانظر إن كان أكبر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإن كان أصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وإن كان تربك فقل: أنا على يقين من ذنبي في شك من أمره فما لي أدع يقيني لشكي، وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل: هذا أفضل أخذوا به، وإن رأيت منهم جفا وانقباضا فقل: هذا الذنب أحدثته، فإنك إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر أصدقائك، وفرحت بما يكون من برهم، ولم تأسف على ما يكون من جفائهم.

واعلم أن أكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فايضا، وكان عنهم مستغنيا متعففا، وأكرم الناس بعده عليهم من كان مستعففا، وإن كان إليهم محتاجا، فإنما أهل الدنيا يتعقبون الأموال، فمن لم يزدحمهم فيما يتبقونه كرم عليهم، ومن لم يزاحمهم فيما ومكنهم من بعضها كان أعز وأكرم.

وبالإسناد المقدم ذكره عن الرضا عليه السلام أنه قال: قال علي بن الحسين: إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته

الصفحة 53
فرويدا لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخا لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام، فرويدا لا يغرنكم! فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبوا عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوها قبيحة، فيأتي منها محرما، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم، حتى تنظروا ما عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم! تنظروا أمع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف محبة للرياسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رياسة التي قد شقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا، ولكن الرجل كل الرجل. نعم الرجل هو: الذي جعل هواه تبعا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ، وأن كثيرا ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا يخيب له طلبة.


الصفحة 54

احتجاج أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام في شئ مما يتعلق بالأصول والفروع.

عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليهما السلام في قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) قال: من لم يدله خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك بالشمس والقمر، والآيات العجيبات، على أن وراء ذلك أمر هو أعظم منه فهو في الآخرة أعمى، قال: فهو عالم يعاين أعمى وأضل سبيلا.

سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر عليه السلام قال: اخبرني عن الله عز وجل متى كان؟

قال: متى لم يكن حتى أخبرك متى كان؟! سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.

عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر عليه السلام وقد دخل عليه رجل من الخوارج فقال له:

يا أبا جعفر أي شئ تعبد؟

قال: الله.

قال: رأيته؟

قال: بلى. لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، موصوف بالآيات معروف بالدلالات، لا يجور في حكمه ذلك الله لا إله إلا الله قال فخرج الرجل وهو يقول الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام.

قال: في صفة القديم -: أنه واحد صمد، أحدي المعنى، ليس بمعان كثيرة مختلفة.

قال: قلت: جعلت فداك أنه يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي

الصفحة 55
يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع.

قال: فقال: كذبوا وألحدوا، وشبهوا الله تعالى أنه سميع بصير، يسمع بما به يبصر، ويبصر بما به يسمع.

قال: فقلت: يزعمون أنه بصير على ما يعقله.

قال: فقال: تعالى الله إنما يعقل من كان بصفة المخلوق، وليس الله كذلك.

وروى بعض أصحابنا أن عمرو بن عبيد دخل على الباقر عليه السلام فقال له:

جعلت فداك! قول الله (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما ذلك الغضب.

قال: العذاب يا عمرو! وإنما يغضب المخلوق الذي يأتيه الشئ فيستفزه، ويغره عن الحال التي هو بها إلى غيرها، فمن زعم أن الله يغيره الغضب والرضا، ويزول عن هذا، فقد وصفه بصفة المخلوق.

وعن أبي الجارود (1) قال: قال: أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ

____________

(1) أبو الجارود: في ج 1 ص 31 من الكنى والألقاب للشيخ القمي (زياد بن المنذر قال شيخنا صاحب المستدرك في ترجمته في الخاتمة: وأما أبو الجارود فالكلام فيه طويل، والذي يقتضيه النظر بعد التأمل فيما ورد فيما قالوا فيه: أنه كان ثقة في النقل مقبول الرواية، معتمدا في الحديث، إماميا في أوله وزيديا في آخره، ثم أطال الكلام في حاله إلى أن قال: وفي تقريب ابن حجر: (زياد بن المنذر أبو الجارود الأعمى الكوفي رافضي، كذبه يحيى بن معين من السابعة، مات بعد الخمسين أي: بعد المائة و (قال) وعن دعوات الراوندي عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (ع): أني أمرء ضرير البصر، كبير السن، والشقة فيما بيني وبينكم بعيدة، وأنا أريد أمرا أدين الله به، واحتج به، وأتمسك به، وأبلغه من خلفت، قال: (عجب بقولي فاستوى جالسا فقال:

كيف قلت يا أبا الجارود رد علي قال فرددت عليه، فقال: نعم يا أبا الجارود، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأقام الصلاة، وإيتاء لزكاة وصوم شهر رمضان، وحج البيت، وولاية ولينا، وعداوة عدونا، والتسليم لأمرنا، وانتظار قائمنا، والورع، والاجتهاد.

الصفحة 56
فسألوني من كتاب الله ثم قال - في بعض حديثه -: أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال.

فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله عز وجل؟

قال: قوله: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وقال:

(لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم).

وروى حمران بن أعين (1) قال: سألت أبا جعفر عليه السلام قول الله عز وجل (وروح منه).

قال: هي مخلوقة خلقها الله بحكمته في آدم وفي عيسى عليهما السلام.

محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل (ونفخت فيه من روحي) كيف هذا النفخ؟

____________

(1) قال السيد بحر العلوم في رجاله ج 1 ص 222: (آل أعين أكبر بيت في الكوفة من شيعة أهل البيت عليهم السلام، وأعظمهم شأنا، وأكثرهم رجالا وأعيانا وأطولهم مدة وزمانا، أدرك أوائلهم السجاد والباقر والصادق عليهم السلام، وبقي أواخرهم إلى أوائل الغيبة الكبرى وكان فيهم العلماء والفقهاء، والقراء والأدباء، ورواة الحديث، ثم ذكران من مشاهيرهم حمران إلى أن قال قال أبو غالب رحمه الله: (إنا أهل بيت أكرمنا الله عز وجل بدينه، واختصنا بصحبة أوليائه وحججه، من أول ما نشأنا إلى وقت الفتنة التي امتحنت بها الشيعة، فلقى عمنا (حمران) سيدنا وسيد العابدين علي بن الحسين (ع).

و (قال): وكان حمران من أكابر مشايخ الشيعة المفضلين الذين لا يشك فيهم.

وكان أحد حملة القرآن، ومن يعد ويذكر اسمه في كتب القراء.

وروى أنه قرأ على أبي جعفر محمد بن علي (ع) وكان - مع ذلك - عالما بالنحو واللغة، ولقى (حمران - وجدانا: زرارة وبكير) أبا جعفر محمد بن علي وأبا عبد الله جعفر بن محمد عليهم السلام الخ.. وقال السيد أيضا ص 255 وقد جاء، في مدح حمران ابن أعين وجلالته وعظم محله، أخبار كادت تبلغ التواتر.