الصفحة 111
والنعمان أبو حنيفة (1) على جعفر بن محمد، فرحب بنا فقال.

____________

<=

فضلا عن النصب... وبالجملة فمن تتبع الأخبار وجد أن ابن أبي ليلى كان يقضي بما يبلغه عن الصادقين عليهما السلام ويحكم بذلك بعد التوقف بل ينقض ما كان قد حكم به إذا بلغه عنهم (ع) خلافه فكيف يكون من حاله ذلك من النواصب).

(1) أبو حنيفة: واسمه النعمان بن ثابت بن زوطي. وكان زوطي مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة. وأصله من كابل، وقيل مولى لبني قفل كما في الفهرست لابن النديم ص 284 وقال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج 13 ص 324: (ولد أبو حنيفة وأبوه نصراني).. إلى أن قال: (وكان زوطي مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة فأعتق، فولاؤه لبني عبد الله بن ثعلبة ثم لبني قفل).

وروى مسندا عن الزيادي يقول: سمعت أبا جعفر يقول: كان أبو حنيفة اسمه عتيك بن زوطرة فسمى نفسه النعمان وأباه ثابتا. وقيل كان والد أبي حنيفة من (نسا) وقيل أصله من (ترمذ) وقيل ثابت والد أبي حنيفة من أهل (الأنبار).

وأورد الخطيب البغدادي في تاريخه عدة روايات بأسانيد مختلفة تقول: أن أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين وفي بعضها ثلاثا وفي رواية سفيان الثوري استتيب من الكفر مرارا. وفي رواية أبي عيينة استتيب من الدهر ثلاث مرات راجع تاريخ بغداد ج 13 ص 380 - 383 رفيه ص 372 مسندا أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلا عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسا. وكان شريك يقول: كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله قال الله تعالى: (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) وقال تعالى: (يزدادوا إيمانا مع إيمانهم) وزعم أبو حنيفة أن الإيمان لا يزداد ولا ينقص وأن الصلاة ليست من دين الله.

وفي ص 386 منه عن الجوهري روى مسندا قال: سمعت أبا مطيع يقول: قال أبو حنيفة: إن كانت الجنة والنار مخلوقتين فإنهما يفنيان وفيه عن ابن أسباط قال أبو حنيفة لو أدركني رسول الله وأدركته لأخذ بكثير من قولي وقال سمعت أبا إسحاق يقول كان أبو حنيفة يجيئه الشئ عن النبي فيخالفه إلى غيره وفي ص 370 من نفس المصدر سئل أبو حنيفة عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق. ولكن لا أدري هي هذه التي بمكة أم لا فقال

=>


الصفحة 112

____________

<=

مؤمن حقا. وسئل عن رجل قال: أشهد أن محمد بن عبد الله نبي ولكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا فقال: مؤمن حقا.

وهو أحد المذاهب الأربعة السنية، صاحب الرأي والقياس والفتاوى المعروفة في الفقه.

ذكر ابن خلكان في ج 2 ص 86 من الوفيات في ترجمة محمد بن سبكتكين عن إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني في كتابه الذي سماه: (مغيث الخلق في اختيار الأحق) قال: إن السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفة وكان مولعا بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع وكان يستفسر الأحاديث فوجدها أكثرها موافقا لمذهب الشافعي فوقع في خلده حكمه. فجمع العلماء من الفريقين في مرو والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وعلى مذهب أبي حنيفة.. فصلى القفال المروزي... إلى أن قال: ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة فلبس جلد كلب مدبوغا ثم لطخ ربعه بالنجاسة وتوضأ بنبيذ التمر وكان في صميم الصيف في المفازة واجتمع عليه الذباب والبعوض وكان وضوءه منكسا منعكسا، ثم استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ آية بالفارسية (دو بركك سبن) ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع وتشهد، وضرط في آخره من غير نية السلام وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة فقال السلطان:

لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلتك فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة! وأمر السلطان نصرانيا كاتبا يقرأ المذهبين فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة، وفي ج 13 من تاريخ بغداد ص 370 قال الحارث بن عمير:

وسمعته يقول: لو أن شاهدين شهدا عند قاض: أن فلان بن فلان طلق امرأته، وعلما جميعا أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها.

=>


الصفحة 113

____________

<=

وفي ص 362 منه قال: قال مساور الوراق:

كنا من الدين قبل اليوم في سعة * حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس
قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم * فاستعملوا الرأي عند الفقر والبؤس
أما العريب فأمسوا لا عطاء لهم * وفي المولى علامات المفاليس

فلقيه أبو حنيفة فقال هجوتنا نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم فقال:

إذا ما أهل مصر بادهونا * بداهية من الفتيا لطيفة
أتيناهم بمقياس صحيح * صليب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه به حواه * وأثبته بحبر في صحيفة

فأجابه بعضهم يقول:

إذا ذو الرأي خاصم عن قياس * وجاء ببدعة هنة سخيفة
أتيناه بقول الله فيها * وآيات محبرة شريفة
فكم من فرج محصنة * عفيف أحل حرامها بأبي حنيفة

وروي أيضا أنه اجتمع الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى فبعثوا إلى أبي حنيفة فأتاهم فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه، ونكح أمه، وشرب الخمر في رأس أبيه؟ فقال: مؤمن. فقال له ابن أبي ليلى: لا قبلت لك شهادة أبدا وقال الثوري لا كلمتك أبدا. وقال شريك: لو كان لي من الأمر شئ لضربت عنقك وقال له الحسن وجهي من وجهك حرام أن أنظر إلى وجهك أبدا وروي أيضا عن الإمام مالك قال: ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة وقال: كانت فتنة أبي حنيفة أضر على هذه الأمة من فتنة إبليس وأخرج عن الأوزاعي قال: عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام فنقضه عروة عروة وعن عبد الرحمن ابن مهدي قال: ما علم في الإسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي أبي حنيفة وأخرج عن أبي صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة حديث أو أكثر وأنه سئل عن مسألة فأجاب فيها ثم قيل له: يروى عن النبي (ص) فيها كذا وكذا قال: دعنا من هذا وفي رواية قال:

حك هذا بدنب خنزيرة.

=>


الصفحة 114
يا بن أبي ليلى من هذا الرجل؟

فقلت: جعلت فداك من أهل الكوفة له رأي وبصيرة ونفاذ.

قال: فلعله الذي يقيس الأشياء برأيه؟

ثم قال: يا نعمان! هل تحسن أن تقيس رأسك؟

قال: لا.

قال: ما أراك تحسن أن تقيس شيئا فهل عرفت الملوحة في العينين، والمرارة في الأذنين والبرودة في المنخرين، والعذوبة في الفم؟ قال: لا.

قال: فهل عرفت كلمة أولها كفر وآخرها إيمان؟.

قال: لا. قال ابن أبي ليلى: قلت: جعلت فداك لا تدعنا في عمياء مما وصفت.

قال: نعم حدثني أبي عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله قال: إن الله خلق عيني ابن آدم شحمتين، فجعل فيها الملوحة، فلولا ذلك لذابتا، ولم يقع فيهما شئ من القذى إلا أذابه، والملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى، وجعل المرارة في الأذنين حجابا للدماغ، وليس من دابة تقع في الأذن إلا التمست الخروج، ولو لا ذلك لوصلت إلى الدماغ فأفسدته وجعل الله البرودة في المنخرين حجابا للدماغ، ولولا ذلك لسال الدماغ وجعل العذوبة في الفم منا من الله تعالى على ابن آدم ليجد لذة الطعام والشراب، وأما كلمة أولها كفر وآخرها إيمان فقول لا إله إلا الله ثم قال: يا نعمان إياك والقياس: فإن أبي حدثني عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله قال: من قاس شيئا من الدين برأيه قرنه الله تبارك وتعالى مع إبليس، فإنه أول

____________

<=

قال ابن خلكان ص 165 ج 2 من الوفيات ولم يكن يعاب بشئ سوى قلة العربية فمن ذلك ما روى: أن أبا عمرو بن العلاء المقري النحوي سأله عن القتل بالمثقل هل يوجب القود أم لا؟ فقال لا فقال له أبو عمرو ولو قتله بحجر المنجنيق فقال ولو قتله (بابا قبيس).

وتوفي سنة ماءة وخمسين وقبره ببغداد في مقبرة خيزران.

الصفحة 115
من قاس حيث قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فدعوا الرأي والقياس فإن دين الله لم يوضع على القياس.

وفي رواية أخرى أن الصادق عليه السلام قال لأبي حنيفة لما دخل عليه:

من أنت؟

قال أبو حنيفة:

قال عليه السلام: مفتي أهل العراق؟

قال: نعم.

قال: بما تفتيهم؟

قال: بكتاب الله.

قال: عليه السلام: وأنك لعالم بكتاب الله، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه و متشابهه؟

قال: نعم.

قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين أي (1) موضع هو؟

قال أبو حنيفة: هو ما بين مكة والمدينة، فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه. وقال:

نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل، وعلى أموالكم من السرق؟

فقالوا: اللهم نعم.

فقال أبو عبد الله: ويحك يا أبا حنيفة! إن الله لا يقول إلا حقا أخبرني عن قول الله عز وجل: (ومن دخله كان آمنا) أي (2) موضع هو؟ قال: ذلك

____________

(1) سبأ - 17

(2) آل عمران - 97

الصفحة 116
بيت الله الحرام، فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه وقال: نشدتكم بالله هل تعلمون:

إن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟

قالوا: اللهم نعم.

فقال أبو عبد الله عليه السلام: ويحك يا أبا حنيفة! إن الله لا يقول إلا حقا.

فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب الله، إنما أنا صاحب قياس.

قال أبو عبد الله: فانظر في قياسك إن كنت مقيسا أيما أعظم عند الله القتل أو الزنا؟

قال: بل القتل.

قال: فكيف رضى في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟ ثم قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال: بل الصلاة أفضل.

قال عليه السلام: فيجب على قياس قولك على الحايض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة.

قال له: البول أقذر أم المني؟

قال البول أقذر.

قال عليه السلام: يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد وجب الله تعالى الغسل من المني دون البول.

قال: إنما أنا صاحب رأي.

قال عليه السلام: فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم، فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟

قال: إنما أنا صاحب حدود.

قال: فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح وأقطع قطع يد رجل، كيف يقام عليهما الحد.


الصفحة 117
قال: إنما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.

قال: فأخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: (لعله يتذكر أو يخشى) (1) ولعل منك شك؟

قال: نعم.

قال: وكذلك من الله شك إذ قال: (لعله)؟

قال أبو حنيفة: لا علم لي.

قال عليه السلام: تزعم أنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس لعنه الله ولم يبن دين الإسلام على القياس، وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وآله صوابا، ومن دونه خطأ، لأن الله تعالى قال:

(فاحكم بينهم بما أراك الله) (2) ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود، ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء، ولخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك، لولا أن يقال: دخل على ابن رسول الله فلم يسأله عن شئ ما سألتك عن شئ، فقس إن كنت مقيسا.

قال أبو حنيفة: لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.

قال: كلا إن حب الرياسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك تمام الخبر.

وعن عيسى بن عبد الله القرشي (3) قال. دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام فقال: يا أبا حنيفة قد بلغني أنك تقيس!

فقال: نعم.

فقال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس لعنه الله حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار وعرف

____________

(1) طه - 44

(2) المائدة - 57

(3) عيسى بن عبد الله القرشي لم أعثر له على ترجمة فيما بين يدي من كتب الرجال

الصفحة 118
ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر.

وعن الحسن بن محبوب (1) عن سماعة قال: قال أبو حنيفة لأبي عبد الله (ع): كم بين المشرق والمغرب؟

قال: مسيرة يوم للشمس بل أقل من ذلك، قال: فاستعظمه.

قال: يا عاجز لم تنكر هذا أن الشمس تطلع من المشرق، وتغرب في المغرب في أقل من يوم. تمام الخبر.

عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (2) قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بمكة، إذ دخل عليه أناس من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد، وواصل بن عطا وحفص بن سالم، وأناس من رؤسائهم، وذلك أنه حين قتل الوليد، واختلف أهل الشام بينهم، فتكلموا فأكثروا وخطبوا فأطالوا.

فقال لهم أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام: إنكم قد أكثرتم علي فأطلتم، فاسندوا أمركم إلى رجل منكم، فليتكلم بحجتكم وليوجز.

فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد، فأبلغ وأطال، فكان فيما قال أن قال:

قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروة، ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه وكان منا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغية ونرده إلى الحق وأهله، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك، فإنه لا غنا بنا

____________

(1) الحسن بن محبوب قال العلامة في القسم الأول من خلاصته الحسن بن محبوب السراد ويقال الزراد، يكنى أبا على مولى بجيلة كوفي ثقة عين روى عن الرضا (ع) وكان جليل القدر يعد في الأركان الأربعة في عصره

(2) عبد الكريم بن عتبة قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة - بضم العين المهملة والتاء المنقطة فوقها نقطتين، والباء المنقطة تحتها نقطة - الهاشمي من أصحاب أبي الحسن الكاظم (ع) ثقة.


الصفحة 119
عن مثلك، لفضلك ولكثرة شيعتك، فلما فرغ قال أبو عبد الله عليه السلام: أكلكم على مثل ما قال عمرو؟

قالوا: نعم. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ثم قال:

إنما نسخط إذا عصي الله فإذا أطيع الله رضينا أخبرني يا عمرو لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة، فقيل لك: (ولها من شئت) من كنت تولي؟

قال: كنت أجعلها شورى بين المسلمين.

قال: بين كلهم؟

قال: نعم.

فقال: بين فقهائهم وخيارهم؟

قال: نعم.

قال: قريش وغيرهم؟

قال: العرب والعجم.

قال: فأخبرني يا عمرو أتتولى أبا بكر وعمر أو تتبرأ منهما؟

قال: أتولاهما.

قال: يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف عليهما، وإن كنت تتولاهما فقد خالفتها، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا، ثم جعلها عمر شورى بين ستة، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش، ثم أوصى الناس فيهم بشئ ما أراك ترضى أنت ولا أصحابك.

قال: وما صنع؟

قال: أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر ويشاورونه وليس له من الأمر شئ، وأوصى من كان بحضرة من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيام ولم يفرغوا ويبايعوه أن يضرب أعناق الستة جميعا

الصفحة 120
وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين، افترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟

قالوا: لا.

قال: يا عمرو دع ذا أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه، ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف عليكم منها رجلان، فأفضيتم إلى المشركين الذين لم يسلموا ولم يؤدوا الجزية، كان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله في المشركين في الجزية؟

قالوا: نعم.

قال: فتصنعون ماذا؟

قالوا: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.

قال: فإن كانوا مجوسا، وأهل كتاب، وعبدة النيران والبهائم وليسوا بأهل كتاب؟

قالوا: سواء.

قال: فأخبرني عن القرآن أتقرأونه؟

قال: نعم.

قال: اقرأ (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) قال: فاستثنى الله عز وجل واشترط من الذين أوتوا الكتاب فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء.

قال: نعم.

قال عليه السلام: عمن أخذت هذا؟

قال سمعت الناس يقولونه.

قال: فدع ذا فإنهم إن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟

قال: اخرج الخمس واقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليها.


الصفحة 121
قال: تقسمه بين جميع من قاتل عليها؟

قال: نعم.

قال: فقد خالفت رسول الله في فعله وفي سيرته، وبيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم، فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أن رسول الله إنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم، وأن لا يهاجروا، على أنه إن دهمه من عدوه دهم فيستفزهم فيقاتل بهم، وليس لهم من الغنيمة نصيب، وأنت تقول بين جميعهم، فقد خالفت رسول الله صلى الله عليه وآله في سيرته في المشركين، دع ذا ما تقول في الصدقة؟

قال: فقرأ عليه هذه الآية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) إلى آخرها.

قال: نعم فكيف تقسم بينهم؟

قال: اقسمها على ثمانية أجزاء، فاعطي كل جزء من الثمانية جزء.

فقال عليه السلام إن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف.

قال: نعم.

قال: وما تصنع بين صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟

قال: نعم.

قال: فخالفت رسول الله في كل ما أتى به، كان رسول الله يقسم صدقة البوادي في أهل البوادي، وصدقة الحضر في أهل الحضر، ولا يقسم بينهم بالسوية إنما يقسمه قدر ما يحضره منهم، وعلى قدر ما يحضره فإن كان في نفسك شئ مما قلت لك فإن فقهاء أهل المدينة، ومشيختهم كلهم لا يختلفون في أن رسول الله كذا كان يصنع، ثم أقبل على عمرو وقال:

اتق الله يا عمرو وأنتم أيها الرهط! فاتقوا الله، فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من

الصفحة 122
ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف).

وروي عن يونس بن يعقوب (1) قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: أني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك.

فقال له أبو عبد الله: كلامك هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله أو من عندك؟

فقال: من كلام رسول الله بعضه، ومن عندي بعضه.

فقال أبو عبد الله: فأنت إذا شريك رسول الله! صلى الله عليه وآله قال: لا.

قال: فسمعت الوحي من الله تعالى؟

قال: لا.

قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله؟

قال: لا.

قال: فالتفت إلي أبو عبد الله فقال: يا يونس هذا خصم نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته. قال يونس: فيا لها

____________

(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 185.

يونس بن يعقوب بن قيس أبو علي الجلاب البجلي الدهني اختلف علماءنا فيه.

فقال الشيخ الطوسي رحمه الله: أنه ثقة مولى شهد له وعد له في عدة مواضع.

وقال النجاشي: أنه اختص بأبي عبد الله عليه السلام وأبي الحسن عليه السلام وكان يتوكل لأبي الحسن عليه السلام ومات في المدينة قريبا من الرضا عليه السلام فتولى أمره وكان حظيا عندهم موثقا وكان قد قال بعبد الله ثم رجع. وقال أبو جعفر ابن بابويه أنه فطحي هو وأخوه يوسف.

قال الكشي: حدثني حمدويه عن بعض أصحابنا أن يونس بن يعقوب فطحي كوفي مات بالمدينة وكفنه الرضا عليه السلام.

وروى الكشي أحاديث حسنة تدل على صحة عقيدة هذا الرجل والذي أعتمد عليه قبول روايته.

الصفحة 123
من حسرة. فقلت: جعلت فداك سمعتك تنهى عن الكلام، وتقول: ويل لأصحاب الكلام، يقولون: هذا ينقاد، وهذا ينساق، وهذا لا ينساق، وهذا نعقله، وهذا لا نعقله!

فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنما قلت: ويل لقوم تركوا قولي بالكلام، وذهبوا إلى ما يريدون ثم قال: اخرج إلى الباب فمن ترى من المتكلمين فادخله!

قال: فخرجت فوجدت حمران بن أعين، وكان يحسن الكلام، ومحمد بن نعمان الأحول، وكان متكلما، وهشام بن سالم، وقيس الماصر، وكانا متكلمين وكان قيس عندي أحسنهم كلاما، وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين، فأدخلتهم، فلما استقربنا المجلس وكنا في خيمة لأبي عبد الله عليه السلام، في طرف جبل في طريق الحرم، وذلك قبل الحج بأيام، فأخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب قال: هشام ورب الكعبة. قال: وكنا ظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل، وكان شديد المحبة لأبي عبد الله، فإذا هشام بن الحكم، وهو أول ما اختطت لحيته، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا، فوسع له أبو عبد الله عليه السلام وقال: (ناصرنا بقلبه ولسانه ويده) ثم قال لحمران:

كلم الرجل يعني: الشامي. فكلمه حمران وظهر عليه ثم قال: يا طاقي كلمه! فكلمه فظهر عليه محمد بن نعمان. ثم قال لهشام بن سالم: كلمه! فتعارفا ثم قال لقيس الماصر: كلمه! وأقبل أبو عبد الله عليه السلام يتبسم من كلامهما وقد استخذل الشامي في يده، ثم قال للشامي: كلم هذا الغلام! يعني: هشام بن الحكم فقال: نعم ثم قال الشامي لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا يعني: أبا عبد الله عليه السلام؟

فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال له: أخبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه، أم خلقه لأنفسهم؟

فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه!

قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟

قال: كلفهم، وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به، وأزاح في ذلك عللهم.


الصفحة 124
فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟

قال الشامي: هو رسول الله صلى الله عليه وآله.

قال هشام: فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله من؟ قال: الكتاب والسنة.

فقال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه، حتى رفع عنا الاختلاف، ومكننا من الاتفاق؟

فقال الشامي: نعم.

قال هشام: فلم اختلفنا نحن وأنت، جئتنا من الشام تخالفنا، وتزعم أن الرأي طريق الدين، وأنت مقر بأن الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟

فسكت الشامي كالمفكر. فقال أبو عبد الله عليه السلام!

ما لك لا تتكلم؟

قال: إن قلت: أنا ما اختلفنا كابرت، وإن قلت أن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف، أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه، ولكن لي عليه مثل ذلك.

فقال له أبو عبد الله: سله تجده مليا!

فقال الشامي لهشام: من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم؟

فقال: بل ربهم أنظر لهم.

فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم، ويرفع اختلافهم، ويبين لهم حقهم من باطلهم؟

فقال هشام: نعم.

قال الشامي: من هو؟

قال هشام: أما في ابتداء الشريعة فرسول الله صلى الله عليه وآله، وأما بعد النبي فعترته.

قال الشامي: من هو عترة النبي القائم مقامه في حجته؟

قال هشام: في وقتنا هذا أم قبله؟

قال الشامي: بل في وقتنا هذا.

قال هشام: هذا الجالس يعني: أبا عبد الله عليه السلام، الذي تشد إليه الرحال

الصفحة 125
ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده.

قال الشامي: وكيف لي بعلم ذلك؟

فقال هشام: سله عما بدا لك.

قال الشامي: قطعت عذري، فعلي السؤال.

فقال أبو عبد الله عليه السلام: أنا أكفيك المسألة يا شامي: أخبرك عن مسيرك وسفرك، خرجت يوم كذا، وكان طريقك كذا، ومررت على كذا، ومر بك كذا، فأقبل الشامي كلما وصف له شيئا من أمره يقول: (صدقت والله) فقال الشامي: أسلمت لله الساعة!

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: بل آمنت بالله الساعة، أن الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون، ويتناكحون، والإيمان عليه يثابون.

قال: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنك وصي الأنبياء.

قال: فأقبل أبو عبد الله عليه السلام على حمران فقال: يا حمران تجري الكلام على الأثر فتصيب فالتفت إلى هشام بن سالم فقال: تريد الأثر ولا تعرف! ثم التفت إلى الأحول فقال: قياس رواع، تكسر باطلا بباطل. ألا إن باطلك أظهر ثم التفت إلى قيس الماصر فقال: تكلم وأقرب ما يكون من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وآله أبعد ما تكون منه، تمزج الحق بالباطل، وقليل الحق يكفي من كثير الباطل أنت والأحول قفازان حاذقان.

قال يونس بن يعقوب: فظننت والله أنه يقول لهشام، قريبا مما قال لهما.

فقال: يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذ هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلم الناس إتق الزلة، والشفاعة من ورائك.

وعن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة من أصحابه، فيهم هشام بن الحكم، وهو شاب فقال أبو عبد الله:


الصفحة 126
يا هشام!

قال: لبيك يا بن رسول الله!

قال: ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟ قال هشام: جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أجلك وأستحييك، ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أمرتكم بشئ فافعلوه!

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد، وجلوسه في مسجد البصرة، وعظم ذلك علي، فخرجت إليه، ودخلت البصرة يوم الجمعة، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت:

أيها العالم أنا رجل غريب، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟

قال: اسأل!

قلت له: ألك عين؟

قال: يا بني أي شئ هذا من السؤال، إذا كيف تسأل عنه؟

فقلت: هذا مسئلتي.

فقال: يا بني! سل وإن كانت مسألتك، حمقى.

قلت: أجبني فيها.

قال: فقال لي: سل!

فقلت: ألك عين؟

قال: نعم.

قال: قلت: فما تصنع بها؟

قال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: قلت: ألك أنف؟

قال: نعم.


الصفحة 127
قال: قلت: فما تصنع به؟

قال: أشم به الرائحة.

قال: قلت: ألك لسان؟

قال: نعم.

قال: قلت: فما تصنع به؟

قال: أتكلم به.

قال: قلت: ألك أذن؟

قال: نعم.

قلت: تصنع بها؟

قال: أسمع بها الأصوات قال: قلت: ألك يدان؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع بهما؟

قال: أبطش بهما، وأعرف بهما اللين من الخشن.

قال: قلت: ألك رجلان؟

قال: نعم.

قال: قلت: فما تصنع بهما؟

قال انتقل بهما من مكان إلى مكان.

قال: قلت: ألك فم.

قال: نعم.

قال: قلت: فما تصنع به؟

قال: أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.

قال: قلت: ألك قلب؟

قال: نعم.


الصفحة 128
قال: قلت: فما تصنع به؟

قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح.

قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟

قال: لا.

قلت: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟

قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته، ردته إلى القلب، فتيقن بها اليقين، وأبطل الشك.

قال: فقلت: فإنما أقام الله عز وجل القلب لشك الجوارح؟

قال: نعم. قلت: لا بد من القلب وإلا لم يستيقن الجوارح.

قال: نعم. قلت: يا أبا مروان! إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماما، يصحح لها الصحيح، وينفي ما شكت فيه، ويترك هذه الخلق كله في حيرتهم، وشكهم، واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم، وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك، ترد إليه حيرتك وشكك.

قال: فسكت ولم يقل لي شيئا.

قال: ثم التفت إلي فقال لي:

أنت هشام؟

قال: قلت: لا.

فقال لي: أجالسته؟

فقلت: لا.

قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة.

قال: فأنت إذا هو. ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه، وما نطق حتى قمت، فضحك أبو عبد الله، ثم قال:

يا هشام من علمك هذا؟ قلت: يا بن رسول الله جرى على لساني.

قال: يا هشام هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.