فقالوا: جسر وجبنا. وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (أقضاكم علي) وكذلك عمر بن الخطاب قال: (علي أقضانا) وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي صلى الله عليه وآله أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء.
قال: زدني يا موسى!
قلت: المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك.
فقال: لا بأس به.
فقلت: إن النبي لم يورث من لم يهاجر، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.
فقال: ما حجتك فيه.
قلت: قول الله تبارك وتعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) (1) وأن عمي العباس لم يهاجر.
فقال لي: إني أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا، أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟
فقلت: اللهم لا. وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين.
ثم قال لي: جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقولوا لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي جدكم من قبل أمكم.
____________
(1) الأنفال - 72
قال: سبحان الله! ولم لا أجبه، بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك؟
فقلت له: لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه.
فقال: ولم؟
فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك.
فقال: أحسنت يا موسى! ثم قال: كيف قلتم أنا ذرية النبي والنبي لم يعقب، وإنما العقب الذكر لا الأنثى، وأنتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقبا له.
فقلت: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه، إلا أعفيتني عن هذه المسألة.
فقال: لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم، وإمام زمانهم، كذا أنهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ ألف ولا واو إلا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (1) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: تأذن لي في الجواب؟
قال: هات.
فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) (2) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟
فقال: ليس لعيسى أب.
فقلت: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك ألحقنا بذراري النبي صلى الله عليه وآله من قبل آمنا فاطمة، أزيدك يا أمير المؤمنين؟
قال: هات
____________
(1) الأنعام - 38.
(2) الأنعام - 84 و 85
فقال جبرئيل: (وأنا منكما يا رسول الله) (2) ثم قال: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، فكان كما مدح الله عز وجل به خليله عليه السلام إذ يقول:
(قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) (3) إنا نفتخر بقول جبرئيل أنه منا فقال: أحسنت يا موسى! إرفع إلينا حوائجك.
فقلت له: إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده وإلى عياله.
فقال: ننظر إن شاء الله.
وروي أن المأمون قال لقومه: أتدرون من علمني التشيع؟
فقال القوم: لا والله ما نعلم ذلك.
قال: علمنيه الرشيد! قيل له:
وكيف ذلك، والرشيد يقتل أهل البيت؟!
قال: كان الرشيد يقتلهم على الملك، لأن الملك عقيم، ثم قال: إنه دخل موسى بن جعفر عليهما السلام على الرشيد يوما فقام إليه، واستقبله وأجلسه في الصدر وقعد بين يديه، وجرى بينهما أشياء، ثم قال موسى بن جعفر عليه السلام لأبي:
____________
(1) آل عمران - 61.
(2) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 167.
(3) الأنبياء - 60.
فقال: أفعل يا أبا الحسن. ثم قام فقام الرشيد لقيامه، وقبل بين عينيه ووجهه، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن فقال:
يا عبد الله! ويا محمد! ويا إبراهيم! امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم، خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه، وشيعوه إلى منزله، فأقبل إلي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة. وقال لي: (إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).
ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت:
يا أمير المؤمنين ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟
قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده.
فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني أنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعا، ووالله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، لأن الملك عقيم.
فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار، ثم أقبل على الفضل فقال له:
إذهب إلى موسى بن جعفر وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت.
فقمت في وجهه فقلت: يا أمير المؤمنين! تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه: خمسة آلاف دينار إلى
فقال: اسكت لا أم لك! فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم.
وقيل: ولما دخل هارون الرشيد المدينة، توجه لزيارة النبي صلى الله عليه وآله ومعه الناس، فقدم إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله فقال!
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن العم، مفتخرا بذلك على غيره.
فتقدم أبو الحسن موسى بن جعفر إلى القبر فقال:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة.
فتغير وجه الرشيد وتبين الغيظ فيه.
وروي: عن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أنه قال: لما سمعت هذا البيت - وهو لمروان بن أبي حفصة -:
دار في ذلك ليلتي، فنمت تلك الليلة فسمعت هاتفا في منامي يقول:
____________
(1) يريد بالطليق: العباس بن عبد المطلب عم الرسول، حيث أسر يوم بدر
أسره أبو يسر كعب بن عمرو الأنصاري، وكان رجلا صغير الجثة، وكان العباس رجلا
عظيما قويا، فقال النبي صلى الله عليه وآله لأبي اليسر كيف أسرته؟ قال: أعانني رجل ما رأيته
قبل ذلك ولا بعده فقال صلى الله عليه وآله: لقد أعانك عليه ملك كريم
ولما أمسى القوم والأسارى محبوسون في الوثاق، وفيهم العباس، بات رسول
الله (ص) تلك الليلة ساهرا. فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا رسول الله (ص)؟
=>
وسأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى عليه السلام - بمحضر من الرشيد وهم بمكة - فقال له: أيجوز للمحرم إن يظلل عليه محمله؟
فقال له موسى عليه السلام: لا يجوز له ذلك مع الاختيار.
فقال له محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا.
فقال له: نعم.
فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك.
فقال له أبو الحسن موسى عليه السلام: أتعجب من سنة النبي وتستهزئ بها؟
إن رسول الله صلى الله عليه وآله كشف ظلاله في إحرامه، ومشى تحت الظلال وهو محرم. إن أحكام الله تعالى يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضل عن السبيل.
فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا.
وقد جرى لأبي يوسف مع أبي الحسن موسى صلوات الله عليه بمحضر المهدي ما يقرب من ذلك. وهو: أن موسى عليه السلام سأل أبا يوسف عن مسألة ليس فيها عنده شئ. فقال لأبي الحسن موسى عليه السلام: إني أريد أن أسألك عن شئ.
قال: هات.
فقال: ما تقول في التظليل للمحرم؟
قال: لا يصلح.
قال: فيضرب الخباء في الأرض فيدخل فيه؟
قال: نعم.
____________
<=
قال: سمعت أنين العباس فقام رجل من القوم فأرخى من وثاقه شيئا. فقال رسول
الله (ص) ما بالي لا أسمع أنين العباس؟ فقال رجل من القوم: أرخيت من وثاقه
شيئا قال: افعل ذلك بالأسارى كلهم راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 288 والدرجات
الرفيعة للسيد علي خان المدني ص 80
قال أبو الحسن موسى عليه السلام: ما تقول في (الطامث) تقضي الصلاة؟
قال: لا.
قال: تقضي الصوم؟
قال: نعم.
قال: ولم؟
قال: إن هذا كذا جاء.
قال أبو الحسن عليه السلام: وكذلك هذا.
قال: المهدي لأبي يوسف: ما أراك صنعت شيئا!
قال: يا أمير المؤمنين رماني بحجة وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر عليه السلام - وهو يرتعد بعد ما خلا به -:
يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره اعتقاد وصيتك وإمامتك.
فقال موسى عليه السلام: وكيف ذاك؟
قال: لأني حضرت معه اليوم في مجلس فلان وكان معه رجل من كبار أهل بغداد، فقال له صاحب المجلس:
أنت تزعم: أن صاحبك موسى بن جعفر إمام دون هذا الخليفة القاعد على سريره؟
قال له صاحبك هذا: ما أقول هذا، بل أزعم: أن موسى بن جعفر غير إمام، وإن لم أكن أعتقد أنه غير إمام فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فقال له صاحب المجلس: جزاك الله خيرا، ولعن من وشى بك إلي فقال له موسى بن جعفر عليه السلام: ليس كما ظننت، ولكن صاحبك أفقه
يا بن رسول الله ما لي مال فأرضيه به، ولكن قد وهبت له شطر عملي كله، من تعبدي وصلاتي عليكم أهل البيت، ومن لعنتي لأعدائكم.
قال موسى عليه السلام: الآن خرجت من النار.
وروي أيضا عنه عليه السلام: أنه قال:
فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه، لينقذهم من يد إبليس ومردته، ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد، وألف ألف عابد.
وروي أنه عليه السلام كان حسن الصوت، وحسن القرائة، وقال يوما من الأيام:
أن علي بن الحسين عليه السلام كان يقرء القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن صوته، وأن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس، قيل له:
ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يحمل من خلفه ما يطيقون.
احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) في التوحيد والعدل وغيرهما على المخالف والمؤالف والأجانب والأقارب.
دخل عليه رجل فقال له:
يا بن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟
____________
(1) توضيح ذلك: أنه أراد: أنا أزعم: أن إمامك هذا القاعد على سريره هو إمام ضلال، وموسى بن جعفر عليه السلام هو إمام من غير هذا النوع.
وعن محمد بن عبد الله الخراساني (1) خادم الرضا عليه السلام قال: دخل رجل من الزنادقة على الرضا عليه السلام وعنده جماعة.
فقال له أبو الحسن: أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإياكم شرعا سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟
فسكت. فقال أبو الحسن: وإن لم يكن القول قولنا، وهو كما نقول، ألستم قد هلكتم ونجونا.
قال الزنديق: رحمك الله فأوجدني كيف هو، وأين هو؟
قال: ويلك! إن الذي ذهبت إليه غلط، وهو أين الأين، وكان ولا أين، وهو كيف الكيف، وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية، ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة، ولا يقاس بشئ.
قال الرجل: فإذن إنه لا شئ، إذ لم يدرك بحاسة من الحواس.
فقال أبو الحسن: ويلك! لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا، وأنه شئ بخلاف الأشياء.
قال الرجل: فأخبرني متى كان؟
قال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان؟!
قال الرجل: فما الدليل عليه؟
قال أبو الحسن: أني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول، ودفع المكاره عنه، وجر المنفعة إليه، علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته. وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات
____________
(1) محمد بن عبد الله الخراساني خادم لرضا عليه السلام: مجهول الحال لم يذكر في كتب الرجال.
قال الرجل: فلم لا تدركه حاسة البصر؟
قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار، منهم ومن غيرهم، ثم هو أجل من أن يدركه بصر، أو يحيط به وهم، أو يضبطه عقل.
قال: فحده لي!
قال: لا حد له.
قال: ولم؟
قال: لأن كل محدود متناه، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متناقص، ولا متجزي، ولا متوهم.
قال الرجل: فأخبرني عن قولكم: أنه لطيف، وسميع، وبصير، وعليم وحكيم، أيكون السميع إلا بالأذن، والبصير إلا بالعين، واللطيف إلا بعمل اليدين والحكيم إلا بالصنعة؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إن اللطيف منا على حد إيجاد الصنعة، أو ما رأيت أن الرجل اتخذ شيئا فيلطف في اتخاذه؟ فيقال: ما ألطف فلانا. فكيف لا يقال للخالق الجليل: (لطيف) إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا، وركب في الحيوان منه أرواحها، وخلق كل جنس مباينا من جنسه في الصورة، ولا يشبه بعضه بعضا، فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته.
ثم نظر إلى الأشجار وحملها أطايبها، المأكولة منها وغير المأكولة، فقلنا عند ذلك أن خالقنا (لطيف) لا كلطف خلقه في صنعتهم، وقلنا أنه (سميع) لأنه لا يخفى عليه أصوات خلقه، ما بين العرش إلى الثرى، من الذرة إلى ما أكبر منها، في برها وبحرها، ولا يشتبه عليه لغاتها، فقلنا عند ذلك أنه سميع لا بأذن، وقلنا:
أنه (بصير) لا ببصر، لأنه يرى أثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية، ويرى مضارها ومنافعها، أثر و
وروي عنه عليه السلام في خبر آخر: أنه قال:
إنما يسمى الله تعالى (بالعالم) لغير علم حادث، علم به الأشياء، واستعان به على حفظ ما يستقبل من أمره، والرؤية فيما يخلق، وإنما سمي العالم من الخلق: (عالما) لعلم حادث، إذ كان قبله جاهلا، وربما فارقهم العلم بالأشياء فصار إلى الجهل وإنما سمي الله: (عالما) لأنه لا يجهل شيئا، فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم، واختلف المعنى، وهو الله تعالى (قائم).
وأما القائم فليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد، كما قامت الأشياء، ولكنه أخبر أنه قائم يخبر أنه (حافظ) كقولك: (فلان القائم بأمرنا) وهو عز وجل القائم على كل نفس بما كسبت، والقائم أيضا في كلام الناس:
(الباقي) والقائم أيضا: (الكافي) كقولك للرجل: (قم بأمر كذا) أي: اكفه.
والقائم منا قائم على ساق، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.
وأما (الخبير) فالذي لا يعزب عنه شئ ولا يفوته، وليس بالتجربة والاعتبار بالأشياء فتفيده التجربة والاعتبار علما لولاهما لما علم، لأن من كان كذلك كان جاهلا، والله تعالى لم يزل خبيرا بما يخلق، والخبير من الناس المستخبر، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.
وأما (الظاهر) فليس من أنه علا الأشياء بركوب فوقها، وقعود عليها، وتسنم لذراها، ولكن ذلك لقهره وغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل:
ظهرت على أعدائي، وأظهرني الله على خصمي، إذا أخبر على الفلج والظفر، فهكذا ظهور الله على الأشياء.
ووجه آخر: أنه الظاهر لمن أراده لا يخفى عليه، لمكان الدليل والبرهان على وجوده في كل ما دبره وصنعه مما يرى، فأي ظاهر أظهر وأوضح أمرا من الله تبارك وتعالى، فإنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت، وفيك من آثاره
وأما (الباطن): فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها، ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا، كقول القائل: بطنته بمعنى:
(خبرته) وعلمت مكنون سره، والباطن منا الغاير في الشئ المستتر فيه، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.
قال: وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نسمها كلها.
وكان المأمون لما أراد أن يستخلف الرضا، جمع بني هاشم فقال: إني أريد أن استعمل الرضا عليه السلام على هذا الأمر من بعدي.
فحسده بنو هاشم وقالوا: أتولي رجلا جاهلا، ليس له بصر بتدبير الخلافة؟
فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به!
فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن إصعد المنبر وانصب لنا علما نعبد الله عليه، فصعد المنبر فقعد مليا لا يتكلم مطرقا ثم انتفض انتفاضة فاستوى قائما وحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلى على نبيه وأهل بيته، ثم قال:
أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه، (1) بشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث، (2) فليس الله عرف من عرف ذاته بالتشبيه، ولا إياه وحد من
____________
(1) (أول عبادة الله) أي: أشرفها وأقدمها رتبة (معرفته) تعالى لأن الطاعة والعبادة تأتي بعد المعرفة فهي متأخرة رتبة عنها ولا تقبل عبادة بدون المعرفة فهي دونها في الشرف أيضا (وأصل معرفة الله توحيده) أي تنزيهه عن التركيب والشركة (ونظام التوحيد) أي تمامه وكماله (نفي الصفات الزائدة عنه) فلا يتم التوحيد إلا بالقول بأن صفاته تعالى عين ذاته
(2) ثم إنه عليه السلام شرع بإقامة الدليل على نفي الصفات الزائدة على الذات
=>
____________
: = فقال: (لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق) وذلك أن الصفة لا قوام لها إلا بالموصوف فهي محتاجة إليه لا تنفك عنه. وبها كمال الموصوف فهو محتاج إليها.
والحاجة دليل الإمكان (وشهادة كل مخلوق أن له خالقا) غنيا بذاته (ليس بصفة) حتى يفتقر إلى الموصوف ليقوم به ذاته (ولا موصوف) حتى يحتاج إلى الصفة لكي يكمل بها ذاته (وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران) لما عرفت من حاجة بعضها إلى الآخر وشهادة الاقتران بالحدث.. الخ توضيح ذلك: هو أن الصفة والموصوف أما أن يكونا قديمين. أو يكون أحدهما قديما والآخر حادثا أو يكونا حادثين.
ولا رابع لهذا الحصر الثلاثي.
والأول باطل لما يلزم منه القول بتعدد القدماء وقد ثبت بطلانه.
والثاني يبطله الاقتران والحاجة والافتقار لما ألمحنا إليه آنفا وحينئذ يثبت القول الثالث وهو المطلوب.
(1) (فليس الله) الواجب الوجود الواحد الأحد (عرف من عرف بالتشبيه ذاته) بل عرف ممكنا من مخلوقاته (ولا إياه وحد من اكتنهه) أي جعل له كنها (ولا حقيقته أصاب من مثله) أي جعل لا: لا وصورة سواء كانت ذهنية أو خارجية (ولا به صدق من نهاه) أي جعل له حدا ونهاية (ولا صمد صمده) أي قصد نحوه (من أشار إليه) سواء بالإشارة الحسية أو الذهنية (ولا إياه عنى من شبهه) وإنما عنى ممكنا من الممكنات، ومخلوقا من جملة المخلوقات (ولا له تذلل) أي تعبد (من بعضه) أي جعل له أبعاضا وجزأه فهو إنما عبد جسما مخلوقا مركبا له أجزاء وأبعاض (ولا إياه أراد من توهمه) أي: تصور له صورة ذهنية.
(2) (كل معروف بنفسه) أي: بكنه حقيقته (مصنوع) لما يلزمه من التركيب (وكل قائم في سواه) لا يكون علة لاحتياجه إلى الغير فهو (معلول).
(3) (بصنع الله) وحكيم تدبيره (يستدل عليه) (وبالعقول تعتقد معرفته)
=>
(حتى م) فقد غياه ومن غياه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزاه، ومن جزاه فقد وصفه، ومن وصفه فقد الحد فيه، ولا يتغير الله بتغير المخلوق، كما لا يتحدد بتحديد المحدود، أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلي لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة، مباين لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بجول فكرة، مدبر لا بحركة مريد لا بهمامة، شاء لا بهمة، مدرك لا بمجسة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة
____________
<=
(وبالفطرة) التي هي بمعنى الابتداع أفي الله شك فاطر السماوات والأرض (تثبت حجته) -
ولعل في قوله عليه السلام بالفطرة إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وآله: (كل
مولود يولد على الفطرة إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فالعقول لو تركت
على فطرتها وأصل خلقتها لآمنت به
(1) (خلقة الله الخلق حجاب) حاجز (بينه) في كمله وغناه ووجوبه الذاتي
(وبينهم) في حاجتهم إليه ونقصهم وإمكانهم الذاتي (ومفارقته إياهم) في الصفات دليل
على (مباينة بينه وبينهم) في الذات. وفي بعض النسخ (ومباينته إياهم مفارقته أينيتهم)
أي: أن مفارقته الأينية التي هي من لوازم الأجسام دلت على مباينته إياهم في الذات.
أو أن مباينته إياهم في الذات دلت على مفارقته لهم فيما اختصوا به من الأينية فلا يقال
له: (أين هو) لأن ذاته تباين ذواتهم فلا يلازمها ما يلزم المكنات.
(2) مر مثل هذه الفقرات للإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الجزء الأول من
هذا الكتاب ص 294 فليراجع.
(قد) ولا يحجبه: (لعل) ولا يوقته: (متى) ولا يشتمله: (حين) ولا يقارنه:
(مع) إنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، وفي الأشياء توجد فعالها، منعتها (منذ) القدمة، وحمتها (قد) الأزلية، وجنبتها لولا (التكملة) افترقت فدلت على مفرقها، وتباينت فأعزت على مباينها، بها تجلى صانعها للعقول وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام، وفيها أثبت غيره، ومنها أنبط الدليل، وبها عرف الاقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به، لا ديانة إلا بعد معرفته، ولا معرفة إلا بالإخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع إثبات الصفة للتثنية، وكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه وكل ما يمكن فيه يمتنع في صانعه ولا يجري عليه الحركة ولا السكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، أو يعود فيه ما هو ابتداه، إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزى كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولما كان للباري معنى غير المبروء، ولو وجد له
وروي عن الحسن بن محمد النوفلي (1): أنه كان يقول: قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله، ثم قال له: إن ابن عمي علي بن موسى الرضا قدم علي من الحجاز - يحب الكلام - وأصحابه، فعليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.
فقال سليمان: يا أمير المؤمنين أني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه.
قال المأمون: إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.
فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين! إجمع بيني وبينه، وخلني وإياه.
فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام، فقال له: إنه قدم علينا رجل من أهل المرو، وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام، فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت.
فنهض عليه السلام للوضوء ثم حضر مجلس المأمون، وجرى بينه وبين سليمان المروزي كلام في البداء بمعنى الظهور، لتغير المصلحة، واستشهد عليه السلام بآي كثيرة
____________
(1) قال العلامة الحلي رحمه الله في القسم الثاني من الخلاصة ص 213: (الحسن ابن محمد بن سهل النوفلي ضعيف).
فقال سليمان: يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء، ولا أكذب به إن شاء الله (6).
فقال المأمون: يا سليمان اسأل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن
____________
(1) الروم - 11.
(2) فاطر - 1.
(3) الرعد - 41.
(4) فاطر - 11.
(5) التوبة - 107.
(6) عقيدتنا نحن الإمامية في البداء تتلخص فيما يلي:
لقد ثبت من الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم أن الله سبحانه وتعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات:
الأول - اللوح المحفوظ:
وهو اللوح المطابق لعلمه تعالى لا يحدث فيه أي تبدل أو تغيير.
للثاني - لوح المحو والإثبات:
وهو الذي يتغير ويتبدل ما فيه حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية قبل وقوعه وتحققه في الخارج.
وهذا اللوح - أعني - لوح المحو والإثبات تتطلع عليه الرسل والأنبياء والأوصياء والملائكة، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: أن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه.
ومعنى البداء: ظهور الشئ بعد خفائه. وهو في عقيدة الإمامية: ظهور الشئ
من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم فقولنا: (بدا لله) معناه بدا لله شأن أو
حكم وليس معناه ظهر له ما خفى عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ورد عن الإمام
الصادق عليه السلام أنه قال: أن الله لم يبد له من جهل، وقال عليه السلام: ما بدا لله
في شئ إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.