الصفحة 249

فقال عليه السلام: وهذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلى الله عليه وآله في نبوته قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) (1) فكيف يمكن أن ينتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به.

قال يحيى: روي: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (لو نزل العذاب لما نجى منه إلا عمر).

فقال عليه السلام: وهذا محال أيضا، لأن الله تعالى يقول: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (2) فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وما داموا يستغفرون.

وعن عبد العظيم الحسني رضي الله عنه قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى عليهم السلام:

يا مولاي أني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

____________

<=

الناس فضلا عن رجالها وأعلامها؟ وكيف كان يرى عرفان لفظة في القرآن تكلفا ويقول: هذا لعمر الله هو التكلف، ما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الأب؟

وكيف كان يأخذ عن أولئك الجم الغفير من الصحابة ويستفتيهم في الأحكام؟ وكيف كان يعتذر عن جهله أوضح ما يكون من السنة بقوله: ألهاني عنه الصفق بالأسواق؟

وكيف كان لم يسعه أن يعلم الكلالة ويقيمها ولم يتمكن من تعلم صور ميراث الجد وكان النبي (ص) يقول: ما أراه يعلمها، وما أراه يقيمها. ويقول: أني أظنك تموت قبل أن تعلم ذلك! وكيف كان مثل أبي بن كعب يغلظ له في القول ويراه ملهى عن علم الكتاب بالصفق بالأسواق وبيع الخيط والقرظة؟ وكيف كان أمير المؤمنين جاهلا بتأويل القرآن؟ وكيف وكيف وكيف وكيف!!! نعم راق للقوم أن ينحتوا له فضائل ويغالوا فيها ولم يترووا في لوازمها وحسبوا أن المستقبل الكشاف يمضي كما مضت القرون خاليا عن باحث أو منقب، أو أن بواعث الارهاب يلجم لسانه عن أن ينطق، ويضرب على يده عن أن تكتب، ولا تفسح حرية القلم والمذاهب والأفكار للعلماء أن يبوحوا بما عندهم.

(1) الحج - 75.

(2) الأنفال - 38.

الصفحة 250
فقال عليه السلام: ما منا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأ الأرض قسطا وعدلا هو:

الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول الله وكنيه، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلا من أقاصي الأرض وذلك قول الله: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير) (1) فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو: (عشرة آلاف) رجل خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى عز وجل.

قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيدي فكيف يعلم أن الله قد رضي؟

قال: يلقي في قلبه الرحمة، فإذا دخل المدينة أخرج اللات والعزى فأحرقهما.

احتجاج أبي الحسن علي بن محمد العسكري (ع) في شئ من التوحيد وغير ذلك من العلوم الدينية والدنياوية على المخالف والمؤالف.

سئل أبو الحسن عليه السلام عن التوحيد فقيل له: لم يزل الله وحده لا شئ معه ثم خلق الأشياء بديعا واختار لنفسه الأسماء، ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة؟

فكتب: لم يزل الله موجودا ثم كون ما أراد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، تاهت أوهام المتوهمين، وقصر طرف الطارفين، وتلاشت أوصاف الواصفين واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنه، أو الوقوع بالبلوغ على علو مكانه، فهو بالموضع الذي لا يتناهى، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة ولا عبارة، هيهات هيهات!!

____________

(1) النساء - 77.

الصفحة 251
وحدثنا أحمد بن إسحاق (1) قال كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد العسكري أسأله عن الرؤية وما فيه الخلق فكتب:

لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية، وفي جواب اتصال الضيائين الرائي والمرئي وجوب الاشتباه، والله تعالى منزه عن الاشتباه، فنثبت أنه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالأبصار، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.

وعن العباس بن هلال (2) قال: سألت أبا الحسن علي بن محمد عليه السلام عن قول الله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض) (3). فقال عليه السلام: يعني هادي من في السماوات ومن في الأرض.

ومما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام في رسالته إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال: اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون، ولقول النبي صلى الله عليه وآله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) فأخبر عليه السلام أن ما اجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون (4)، ولا ما قاله المعاندون

____________

(1) ذكره الشيخ في أصحاب الجواد ص 398 من رجاله وقال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 15: أحمد بن إسحاق بن سعد بن عبد الله بن سعد بن مالك الأحوص الأشعري، أبو علي القمي، كان وافد القميين، روى عن أبي جعفر الثاني عليه السلام وأبي الحسن عليه السلام وكان خاصة أبي محمد عليه السلام وهو شيخ القميين رأي صاحب الزمان عليه السلام.

(2) العباس بن هلال الشامي: ذكره الشيخ في رجاله في عداد أصحاب الرضا عليه السلام ص 382 والنجاشي ص 217 وقال: روى عن الرضا عليه السلام.

(3) النور - 35.

(4) أي: ما تأولوه من قولهم بالإجماع في اختيار الإمام الذي لم يجعل لهم الله الخيرة فيه.

الصفحة 252
ومن إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والروايات المزخرفة، اتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، وتحقيق الآيات الواضحات النيرات. ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصواب، ويهدينا إلى الرشاد.

ثم قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بتصديق خبر وتحقيقه فأنكرته طائفة من الأمة، وعارضته بحديث من هذه الأحاديث المزورة، فصارت بإنكارها ودفعها الكتاب كفارا ضلالا، وأصح خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (إني مستخلف فيكم خليفتين: كتاب الله وعترتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (1) واللفظة الأخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله عليه السلام: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا) فلما وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2) ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام:

أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه، (3) ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) (4) وقوله صلى الله عليه وآله: (علي يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم بعدي) وقوله صلى الله عليه وآله حيث استخلفه على المدينة فقال:

يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان؟

فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (5)

____________

(1) راجع حديث الثقلين في هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 216.

(2) المائدة - 58.

(3) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 167.

(4) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 161 و 196.

(5) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 262.

الصفحة 253
فعلمنا إن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، وتحقيق هذه الشواهد، فلزم الأمة الاقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن، ووافق القرآن هذه الأخبار فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، ووجدنا كتاب الله لهذه الأخبار موافقا، وعليها دليلا، كان الاقتداء بهذه الأخبار فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد والفساد.

ثم قال عليه السلام: ومرادنا وقصدنا الكلام في الجبر والتفويض وشرحهما وبيانهما وإنما قدمنا ما قدمنا ليكون اتفاق الكتاب والخبر إذا اتفقا دليلا لما أردناه، وقوة لما نحن مبينوه من ذلك إن شاء الله.

(فقال): الجبر والتفويض يقول الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، عند ما سئل عن ذلك فقال: لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين.

قيل: فماذا يا بن رسول الله؟

فقال: صحة العقل، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت، والزاد قبل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله، فهذه خمسة أشياء فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطرحا بحسبه، وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي: الجبر، والتفويض، والمنزلة بين المنزلتين، مثلا يقرب المعنى للطالب، ويسهل له البحث من شرحه، ويشهد به القرآن بمحكم آياته، ويحقق تصديقه عند ذوي الألباب، وبالله العصمة والتوفيق.

ثم قال عليه السلام: فأما الجبر. فهو: قول من زعم أن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه، ورد عليه قوله: (ولا يظلم ربك أحدا) (1) وقوله جل ذكره: (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) (2) مع آي كثيرة في مثل هذا، فمن زعم أنه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله وظلمه في عقوبته له، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه، ومن كذب كتابه لزمه (الكفر) بإجماع الأمة، فالمثل المضروب في ذلك:

____________

(1) الكهف - 50

(2) الحج - 10.

الصفحة 254
مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه، فأمره - على علم منه بالمصير - إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف به مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور، فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة يعاقبه، فلما صار العبد إلى السوق، وحاول أخذ الحاجة التي بعثه بها، وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجة، فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك، فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذب نفسه، أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة، تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.

ثم قال العالم عليه السلام: - بعد كلام طويل -: فأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام وخطأ من دان به، فهو: قول القائل: (إن الله عز وجل فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم).

وهذا الكلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية عليهم السلام من عترة آل الرسول صلوات الله عليهم فإنهم قالوا: (لو فوض الله أمره إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثواب، ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب إذ كان الاهمال واقعا، وتنصرف هذه المقالة على معنيين: أما أن تكون العباد تظاهروا عليه فالزموه اختيارهم بآرائهم - ضرورة - كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن، أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض أمره ونهيه إليهم، وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان، ومثل ذلك: مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه وادعى مالك العبد: أنه قاهر قادر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه، ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره

الصفحة 255
ونهيه، فأي أمر أمره به أو نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه، وبعثه في بعض حوائجه وفيما الحاجة له فصار العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه وقصد إرادة نفسه واتبع هواه، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه فإذا هو خلاف أمره فقال العبد: اتكلت على تفويضك الأمر إلي فاتبعت هواي وإرادتي لأن المفوض إليه غير محظور عليه لاستحالة اجتماع التفويض والتحظير.

ثم قال عليه السلام: فمن زعم أن الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليه قبول كلما عملوا من خير أو شر، وأبطل أمر الله ونهيه.

ثم قال: إن الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي، وقبل منهم اتباع أمره ونهيه ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي يختار ما يريده ويأمر به، وينهى عما يكره ويثبت ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة، بالغ الحجة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمدا صلوات الله عليه وآله وبعثه بالرسالة إلى خلقه ولو فوض اختيار أموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى الله عليه وآله لما قالوا: (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (1) يعنونهما بذلك فهذا هو: (القول بين القولين) ليس بجبر ولا تفويض، بذلك أخبر أمير المؤمنين عليه السلام حين سأله عتابة بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة.

فقال أمير المؤمنين: تملكها من دون الله أو مع الله؟

فسكت عتابة بن ربعي.

فقال له: قل يا عتابة!

قال: وما أقول؟

قال: إن قلت تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك.

____________

(1) الزخرف - 21.

الصفحة 256
قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟

قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك، والمالك لما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون: (لا حول ولا قوة إلا بالله).

فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟

قال: لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله.

قال: فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه.

ثم قال عليه السلام في قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) (1) وفي قوله: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (2) وفي قوله: (أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (3) وقوله: (ولقد فتنا سليمان (4) وقوله: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) (5) وقول موسى عليه السلام:

(إن هي إلا فتنتك) (6) وقوله: (ليبلوكم فيما آتاكم) (7) وقوله: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) (8) وقوله: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) (9) وقوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (10) وقوله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) (11) وقوله: (ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) (12) أن جميعها جاءت في القرآن بمعنى الاختيار.

____________

(1) محمد - 31.

(2) الأعراف - 181.

(3) العنكبوت - 2.

(4) سورة ص - 34.

(5) طه - 85.

(6) الأعراف - 154.

(7) المائدة - 51.

(8) آل عمران - 152.

(9) القلم - 17.

(10) هود - 7.

(11) البقرة - 142.

(12) محمد - 4.

الصفحة 257
ثم قال عليه السلام: فإن قالوا ما الحجة في قول الله تعالى: (يهدي من يشاء ويضل من يشاء) (1) وما أشبه ذلك؟

قلنا: فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين: أحدهما عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء، ولو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب، على ما شرحناه. والمعنى الآخر: أن الهداية منه (التعريف) كقوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (2) وليس كل آية مشتبهة في القرآن كانت الآية حجة على حكم الآيات اللاتي أمر بالأخذ بها وتقليدها، وهي قوله: (هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. الآية) (3) وقال: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (4) وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، ويقرب لنا ولكم الكرامة والزلفى، وهدانا لما هو لنا ولكم خير وأبقى، إنه الفعال لما يريد، الحكيم المجيد.

عن أبي عبد الله الزيادي (5) قال: لما سم المتوكل، نذر لله إن رزقه الله العافية أن يتصدق بمال كثير، فلما سلم وعوفي سأل الفقهاء، عن حد (المال الكثير) كم يكون؟ فاختلفوا. فقال بعضهم: (ألف درهم) وقال بعضهم: (عشرة آلاف) وقال بعضهم: (مائة ألف) فاشتبه عليه هذا.

فقال له الحسن حاجبه: إن أتيتك يا أمير المؤمنين من هذا خبرك بالحق والصواب فما لي عندك؟

فقال المتوكل: إن أتيت بالحق فلك عشرة آلاف درهم، وإلا أضربك مائة مقرعة.

____________

(1) إبراهيم - 4.

(2) حم - السجدة - 17.

(3) آل عمران - 7.

(4) الزمر - 18.

(5) أبو عبد الله الزيادي: لم أعثر له على ترجمة.

الصفحة 258
فقال: قد رضيت. فأتى أبا الحسن العسكري عليه السلام فسأله عن ذلك.

فقال أبو الحسن عليه السلام: قل له: يتصدق بثمانين درهما. فرجع إلى المتوكل فأخبره. فقال: سله ما العلة في ذلك؟

فسأله فقال: إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله: (ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة) (1) فعددنا مواطن رسول الله صلى الله عليه وآله فبلغت ثمانين موطنا.

فرجع إليه فأخبره ففرح، وأعطاه عشرة آلاف درهم.

وعن جعفر بن رزق الله (2) قال: قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم.

فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا.

فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكري وسؤاله عن ذلك.

فلما قرأ الكتاب كتب عليه السلام: يضرب حتى يموت، فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين سله عن ذلك فإنه شئ لم ينطق به كتاب، ولم يجئ به سنة.

فكتب إليه: إن الفقهاء قد أنكروا هذا، وقالوا: لم يجئ به سنة ولم ينطق به كتاب، فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى يموت؟

فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية) (3) فأمر به المتوكل فضرب حتى مات.

سأل يحيى بن أكثم أبا الحسن العالم عليه السلام عن قوله تعالى: (سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) (4) ما هي؟

____________

(1) التوبة - 26.

(2) روى عنه في التهذيب والكافي ولم أعثر له على ترجمة.

(3) المؤمن - 84 و 85.

(4) لقمان - 27.

الصفحة 259
فقال: هي: (عين الكبريت) و (عين اليمن) و (عين البرهوت) و (عين الطبرية) و (جمة ماسيدان) وجمة (أفريقا) و (عين ما جروان) ونحن الكلمات التي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى.

وروي عن الحسن العسكري عليه السلام: أنه اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام: أن رجلا من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب فافهمه بحجته حتى أبان عن فضيحته، فدخل إلى علي بن محمد عليه السلام وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب وهو قاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست، وأقبل عليه فاشتد ذلك على أولئك الأشراف، فأما العلوية فأجلوه عن العتاب، وأما الهاشميون فقال له شيخهم: يا بن رسول الله هكذا تؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين؟!

فقال عليه السلام إياكم وإن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) (1) أترضون بكتاب الله حكما؟

قالوا: بلى.

قال: أليس الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم إلى قوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (2) فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه قال:

(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)؟ أو قال: (يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات)؟ أو ليس قال الله: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (3) فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله؟! إن كسر هذا (لفلان) الناصب بحجج الله التي علمه إياها، لأفضل له من كل شرف في النسب.

____________

(1) النساء - 6.

(2) المجادلة - 11.

(3) الزمر - 9.

الصفحة 260
فقال العباسي: يا بن رسول الله قد أشرفت علينا هو ذا تقصير بنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه.

فقال عليه السلام: سبحان الله أليس عباس بايع أبا بكر وهو (تيمي) والعباس (هاشمي)؟ أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب وهو (هاشمي) أبو الخلفاء وعمر (عدوي)؟! وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكرا فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فإن كان ذلك جائزا فهذا جائز، فكأنما ألقم الهاشمي حجرا.

وروي عن علي بن محمد الهادي عليه السلام أنه قال: لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل.

احتجاج أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في أنواع شتى من علوم الدين.

وبالإسناد المقدم ذكره: أن أبا محمد العسكري عليه السلام قال - في قوله تعالى -:

(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (1) أي: وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنهم الذين لا يؤمنون وعلى سمعهم كذلك بسمات، وعلى أبصارهم غشاوة، وذلك: أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه، وقصروا فيما أريد منهم، وجهلوا ما لزمهم الإيمان به، فصاروا

____________

(1) البقرة - 7.

الصفحة 261
كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإن الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير إلى ما قد صدهم بالقسر عنه، ثم قال: ولهم عذاب عظيم يعني: في الآخرة العذاب المعد للكافرين، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه لطاعته، أو من عذاب الاصلاح ليصيره إلى عدله وحكمته.

وروى أبو محمد العسكري عليه السلام مثل ما قال هو في تأويل هذه الآية من المراد بالختم على قلوب الكفار عن الصادق عليه السلام بزيادة شرح لم نذكره مخافة التطويل لهذا الكتاب.

وبالإسناد المتكرر من أبي محمد عليه السلام أنه قال - في تفسير قوله تعالى -:

(الذي جعل لكم الأرض فراشا.. الآية) (1) جعلها ملائمة لطبايعكم، موافقة لأجسادكم، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم، ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لحرثكم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.

ثم قال: (والسماء بناء) يعني: سقفا من فوقكم محفوظا، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم.

ثم قال: (وأنزل من السماء ماء) يعني: المطر ينزله من علو ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا، لينشقه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، ليفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم.

ثم قال: (وأخرج به من الثمرات رزقا لكم) يعني: مما يخرجه من الأرض

____________

(1) البقرة - 22.

الصفحة 262
رزقا لكم، (فلا تجعلوا لله أندادا) أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تقدر على شئ، (وأنتم تعلمون) أنها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم.

وبالإسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمد العسكري عليه السلام في قوله تعالى:

(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) (1) إن الأمي منسوب إلى (أمه) أي: هو كما خرج من بطن أمه، لا يقرأ ولا يكتب، (لا يعلمون الكتاب) المنزل من السماء ولا المتكذب به، ولا يميزون بينهما (إلا أماني) أي: إلا أن يقرأ عليهم ويقال لهم: إن هذا كتاب الله وكلامه، لا يعرفون إن قرأ من الكتاب خلاف ما فيه، (وإن هم إلا يظنون) أي ما يقرأ عليهم رؤساؤهم من تكذيب محمد صلى الله عليه وآله في نبوته وإمامة علي سيد عترته، وهم يقلدونهم مع أنه (محرم عليهم) تقليدهم، (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله تعالى.. الخ) (2) هذا: القوم اليهود، كتبوا صفة زعموا أنها صفة محمد صلى الله عليه وآله، وهي خلاف صفته، وقالوا للمستضعفين منهم: هذه صفة النبي المبعوث في آخر الزمان أنه: طويل عظيم البدن والبطن، أهدف، (3) أصهب الشعر، ومحمد صلى الله عليه وآله بخلافه، وهو يجئ بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة، وإنما أرادوا بذلك أن تبقى لهم على ضعفائهم رياستهم، وتدوم لهم إصاباتهم، ويكفوا أنفسهم مؤنة خدمة رسول الله صلى الله عليه وآله وخدمة علي عليه السلام وأهل بيته وخاصته، فقال الله عز وجل: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) من هذه الصفات المحرفات والمخالفات لصفة محمد صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام: الشدة لهم من العذاب في أسوء بقاع جهنم، وويل لهم: الشدة في العذاب ثانية مضافة إلى الأولى، بما يكسبونه من الأموال التي يأخذونها إذا ثبتوا عوامهم على الكفر بمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله، والحجة لوصيه وأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام ولي الله.

____________

(1) البقرة - 78.

(2) البقرة 79.

(3) الهدف: الجسيم.

الصفحة 263
ثم قال عليه السلام: قال رجل للصادق عليه السلام: فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم؟

فقال عليه السلام: بين عوامنا وعلمائنا وعوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة.

أما من حيث استووا: فإن الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذم عوامهم.

وأما من حيث افترقوا فلا.

قال: بين لي يا بن رسول الله!

قال عليه السلام: إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام والرشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوه ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقا، وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون

الصفحة 264
إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنه من ركب من القبايح والفواحش مراكب فسقة العامة فلا تقبلوا منا عنه شيئا، ولا كرامة، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره بجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم، ومنهم قوم (نصاب) لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعاف وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها، فيتقبله المستسلمون من شيعتنا، على أنه من علومنا، فضلوا وأضلوا وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليه السلام وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبهون بأنهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون، ويدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب، لا جرم أن من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم أنه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليه لم يتركه في يد هذا المتلبس الكافر، ولكنه يقيض له مؤمنا يقف به على الصواب، ثم يوفقه الله للقبول منه، فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة، ويجمع على من أضله لعنا في الدنيا وعذاب الآخرة.

ثم قال: قال رسول الله: (أشرار علماء أمتنا: المضلون عنا، القاطعون للطرق إلينا، المسمون أضدادنا بأسمائنا، الملقبون أضدادنا بألقابنا، يصلون عليهم وهم للعن مستحقون، ويلعنونا ونحن بكرامات الله مغمورون، وبصلوات الله وصلوات ملائكته المقربين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون).

ثم قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق الله بعد أئمة الهدى، ومصابيح الدجى؟

قال: العلماء إذا صلحوا.

قيل: فمن شرار خلق الله بعد إبليس، وفرعون، ونمرود، وبعد المتسمين

الصفحة 265
بأسمائكم، والمتلقبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمرين في ممالككم؟

قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقايق، وفيهم قال الله عز وجل: (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا..

الآية) (1).

وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبي الحسن علي بن محمد بن سيار، أنهما قالا: قلنا للحسن أبي القائم عليهما السلام: إن قوما عندنا يزعمون: أن هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم وأنزلهما الله مع ثالث لهما إلى الدنيا، وأنهما افتتنا بالزهرة وأراد الزنا بها، وشربا الخمر، وقتلا النفس المحرمة، وأن الله يعذبهما ببابل، وأن السحرة منهما يتعلمون السحر، وأن الله مسخ هذا الكوكب الذي هو (الزهرة).

فقال الإمام عليه السلام: معاذ الله من ذلك، إن ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر والقبايح، بألطاف الله فقال عز وجل فيهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (2) وقال: (ولله من في السماوات والأرض ومن عنده - يعني: الملائكة - لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون) (3) وقال في الملائكة: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) إلى قوله (مشفقون) (4) كان الله قد جعل هؤلاء الملائكة خلفائه في الأرض، وكانوا كالأنبياء في الدنيا، وكالأئمة، أفيكون من الأنبياء والأئمة قتل النفس والزنا وشرب الخمر؟!!

ثم قال: أو لست تعلم أن الله لم يخل الدنيا من نبي أو إمام من البشر؟

أو ليس يقول: (وما أرسلنا قبلك من رسلنا - يعني إلى الخلق - إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) (5) فأخبر أنه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمة

____________

(1) البقرة - 159.

(2) التحريم - 6.

(3) الأنبياء - 19 و 20

(4) الأنبياء - 27 و 28.

(5) يوسف - 109.