قالا. قلنا له: فعلى هذا لم يكن إبليس ملكا!
فقال: لا. بل كان من الجن! أما تسمعان الله تعالى يقول: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن) (1) فأخبر أنه كان من الجن، وهو الذي قال: (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) (2).
وقال الإمام عليه السلام: حدثني أبي، عن جدي، عن الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أن الله اختارنا معاشر آل محمد، واختار النبيين، واختار الملائكة المقربين، وما اختارهم إلا على علم منه بهم: أنهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته، وينقطعون به من عصمته، وينضمون به إلى المستحقين لعذابه ونقمته.
قالا: فقلنا: فقد روي لنا: أن عليا صلوات الله عليه لما نص عليه رسول الله بالإمامة، عرض الله ولايته على فيام وفيام (3) من الملائكة فأبوها، فمسخهم الله ضفادع.
فقال: معاذ الله! هؤلاء المتكذبون علينا، الملائكة هم: رسل الله كساير أنبياء الله إلى الخلق، أفيكون منهم الكفر بالله؟
قلنا: لا.
قال: فكذلك الملائكة! إن شأن الملائكة عظيم وإن خطبهم لجليل.
وبالإسناد الذي تكرر عن أبي يعقوب وأبي الحسن أيضا أنهما قالا: حضرنا عند الحسن بن علي أبي القائم عليهما السلام فقال له بعض أصحابه: جاءني رجل من إخواننا الشيعة قد امتحن بجهال العامة، يمتحنونه في الإمامة ويحلفونه، فكيف يصنع حتى يتخلص منهم؟
فقلت له: كيف يقولون؟
____________
(1) الكهف - 51.
(2) الحجر - 27.
(3) الفيام: - بفتح الفاء وكسرها - الجماعة من الناس وغيرهم.
قلت: فإذا قالوا: والله فقل ولي أي ولي تريد عن أمر كذا، فإنهم لا يميزون وقد سلمت.
فقال لي: فإن حققوا علي فقالوا قل: (والله) وبين الهاء.
فقلت: قل والله برفع الهاء، فإنه لا يكون يمينا إذا لم يخفض.
فذهب ثم رجع إلي فقال: عرضوا علي وحلفوني، فقلت كما لقنتني.
فقال له الحسن عليه السلام: أنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (الدال على الخير كفاعله) لقد كتب الله لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا وموالينا ومحبينا حسنة، وبعدد من ترك التقية منهم حسنة، أدناها حسنة لو قوبل بها ذنوب مائة سنة لغفرت، ولك بإرشادك إياه مثل ما له.
وبالإسناد المتكرر ذكره عن الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأنا، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام حقا، ولقد ورد على أمير المؤمنين عليه السلام أخوان له مؤمنان أب وابن، فقام إليهما، وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لييس وجاء ليصب على يد الرجل ماءا فوثب أمير المؤمنين عليه السلام فأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل فتمرغ الرجل في التراب وقال:
يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي؟!
قال: اقعد واغسل يدك فإن الله عز وجل وأخوك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها.
فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن الله يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصب محمد ابن الحنفية على الابن.
ثم قال الحسن العسكري عليه السلام: فمن اتبع عليا عليه السلام على ذلك فهو الشيعي حقا.
احتجاج الحجة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
سعد بن عبد الله القمي الأشعري (1) قال: بليت بأشد النواصب منازعة فقال لي يوما - بعد ما ناظرته -: تبا لك ولأصحابك! أنتم معاشر الروافض تقصدون المهاجرين والأنصار بالطعن عليهم، وبالجحود لمحبة النبي لهم، فالصديق هو فوق الصحابة بسبب سبق الإسلام، ألا تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله إنما ذهب به
____________
(1) سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي قال الشيخ في باب أصحاب العسكري عليه السلام ص 438: (عاصره عليه السلام ولم أعلم أنه روى عنه) وقال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 78: (يكنى أبا القاسم، جليل القدر واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجيهها ولقي مولانا أبا محمد العسكري عليه السلام.
قال النجاشي: ورأيت بعض أصحابنا يضعفون لقاءه لأبي محمد ويقولون:
هذه حكاية موضوعة عليه، والله أعلم.
توفي سعد رحمه الله سنة إحدى وثلاثمائة. وقيل: سنة تسع وتسعين ومائتين.
وقيل: مات رحمه الله يوم الأربعاء لسبع وعشرين من شوال سنة ثلاثمائة، في ولاية رستم)
قال سعد: إني قلت على ذلك أجوبة لكنها غير مسكتة.
ثم قال: معاشر الروافض تقولون: أن (الأول والثاني) كانا ينافقان، وتستدلون على ذلك بليلة العقبة.
ثم قال لي: أخبرني عن إسلامهما كان من طوع ورغبة أو كان عن إكراه وإجبار؟
فاحترزت عن جواب ذلك وقلت مع نفسي إن كنت أجبته بأنه كان عن إكراه وإجبار لم يكن في ذلك الوقت للإسلام قوة حتى يكون إسلامهما بإكراه وقهر، فرجعت عن هذا الخصم على حال ينقطع كبدي، فأخذت طومارا وكتبت بضعا وأربعين مسألة من المسائل الغامضة التي لم يكن عندي جوابها، فقلت: أدفعها إلى صاحب مولاي أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام الذي كان في قم أحمد بن إسحاق (1) فلما طلبته كان هو قد ذهب فمشيت على أثره فأدركته وقلت الحال معه.
فقال لي: جئ معي إلى سر من رأى حتى نسأل عن هذه المسائل مولانا الحسن بن علي عليهما السلام.
فذهبت معه إلى سر من رأى ثم جئنا إلى باب دار مولانا عليه السلام فاستأذنا عليه فأذن لنا، فدخلنا الدار وكان مع أحمد بن إسحاق جراب قد ستره بكساء طبري، وكان فيه مائة وستون صرة من الذهب والورق، على كل واحدة منها خاتم
____________
(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 14: (أحمد بن إسحاق الرازي من أصحاب أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي عليهما السلام، أورد الكشي ما يدل على اختصاصه بالجهة المقدسة، وقد ذكرته في الكتاب الكبير).
ثم فتح أحمد بن إسحاق الكساء ووضع الجراب بين يدي العسكري عليه السلام، فنظر العسكري إلى الغلام فقال: فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك!
فقال: يا مولاي أيجوز أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نخسة وأموال رجسة؟!
ثم قال: يا بن إسحاق أخرج ما في الجراب ليميز بين الحلال والحرام!
ثم أخرج (صرة) فقال الغلام: هذا (لفلان بن فلان) من محلة (كذا) بقم، مشتمل على اثنين وسبعين دينارا، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت إرثا عن أبيه خمسة وأربعون دينارا، ومن أثمان سبعة أثواب أربعة عشر دينارا، وفيه من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير.
فقال مولانا عليه السلام صدقت يا بني! دل الرجل على الحرام منها.
فقال الغلام: في هذه العين دينار بسكة الري تاريخه في سنة (كذا) قد ذهب نصف نقشه عنه، وثلاثة اقطاع قراضة بالوزن (دانق ونصف) في هذه الصرة الحرام هذا القدر. فإن صاحب هذه الصرة في سنة كذا في شهر كذا كان له عند نساج - وهو من جملة جيرانه - من وربع، فأتى على ذلك زمان كثير فسرقه سارق من عنده فأخبره النساج بذلك فما صدقه وأخذ الغرامة بغزل أدق منه مبلغ من ونصف، ثم أمر حتى نسج منه ثوب وهذا الدينار والقراضة من ثمنه. ثم حل عقدها فوجد الدينار والقراضة كما أخبر، ثم أخرجت (صرة) أخرى.
فقال الغلام: هذا (لفلان بن فلان) من المحلة (الفلانية) بقم والعين فيها (خمسون دينارا) ولا ينبغي لنا أن ندني أيدينا إليها.
فقال: من أجل أن هذه الدنانير ثمن الحنطة، وكانت هذه الحنطة بينه وبين حراث له، فأخذ نصيبه بكيل كامل وأعطى نصيبه بكيل ناقص.
فقال مولانا الحسن بن علي عليهما السلام: صدقت يا بني!
قال: يا بن إسحاق إحمل هذه الصرور وبلغ أصحابها وأوص بتبليغها إلى أصحابها، فإنه لا حاجة بنا إليها.
ثم قال: جئ إلي بثوب تلك العجوز.
فقال أحمد بن إسحاق: كان ذلك في حقيبة فنسيته، ثم مشى أحمد بن إسحاق ليجئ بذلك فنظر إلي مولانا أبو محمد العسكري عليه السلام وقال:
ما جاء بك يا سعد؟
فقلت: شوقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.
قال: المسائل التي أردت أن تسأل عنها؟
قلت: على حالها يا مولاي.
قال: فاسأل قرة عيني - وأومى إلى الغلام - عما بدا لك!
فقلت: يا مولانا وابن مولانا روي لنا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين، حتى أنه بعث يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال: إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك، وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة، فإن امتنعت وإلا طلقتك. فأخبرنا يا مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام؟
فقال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلى الله عليه وآله فخصهن لشرف الأمهات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا الحسن إن هذا شرف باق مادمن لله على طاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج، وأسقطها من شرف أمية المؤمنين.
ثم قلت: أخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا فعلت المرأة ذلك يجوز لبعلها أن يخرجها من بيته في أيام عدتها؟
ثم قلت: أخبرني يا بن رسول الله عن قول الله تعالى لنبيه موسى: (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) (2) فإن فقهاء الفريقين يزعمون: أنها كانت من إهاب الميتة؟
فقال عليه السلام: من قال ذلك فقد افترى على موسى واستجهله في نبوته، لأنه ما خلا الأمر فيها من خطبين: أما أن كانت صلاة موسى فيها جائزة أو غير جائزة، فإن كانت صلاة موسى جائزة فيها، فجاز لموسى أن يكون لابسها في تلك البقعة وإن كانت مقدسة مطهرة، وإن كانت صلاته غير جائزة فيها فقد أوجب أن موسى لم يعرف الحلال والحرام، ولم يعلم ما جازت الصلاة فيه مما لم يجز وهذا (كفر).
قلت: فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيها؟
قال: إن موسى عليه السلام كان بالوادي المقدس فقال: يا رب إني أخلصت لك المحبة مني وغسلت قلبي عمن سواك، وكان شديد الحب لأهله فقال الله تبارك وتعالى: فاخلع نعليك أي: انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولا.
فقلت: أخبرني عن تأويل كهيعص.
قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريا ثم قصها على محمد صلى الله عليه وآله، وذلك: أن زكريا عليه السلام سأل ربه: أن يعلمه الأسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن
____________
(1) المساحقة عند النساء كاللواط عند الرجال
(2) طه - 12.
فقال - ذات يوم -: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي. فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته فقال: (كهيعص) فالكاف اسم (كربلاء) والهاء (هلاك العترة) والياء (يزيد) وهو ظالم الحسين والعين (عطشه) والصاد (صبره) فلما سمع بذلك زكريا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيهن الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يرثيه:
إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده؟
إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟
إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثوب هذه المصيبة؟
إلهي تحل كربة هذه المصيبة بساحتهما؟
ثم كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده.
فرزقه الله يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين كذلك.
فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم؟
قال: مصلح أو مفسد؟
فقلت: مصلح.
قال: هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد.
قلت: بلى.
قال: فهي (العلة) أيدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك.
قلت: نعم.
قال: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، وأنزل عليهم الكتب، وأيدهم
قلت: لا.
قال: فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله، وكمال علمه، ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم، فوقع خيرته على المنافقين. قال الله عز وجل: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا. الآية) (1) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكن الضمائر، وينصرف عنه السرائر. وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح.
ثم قال مولانا عليه السلام: يا سعد من ادعى: أن النبي صلى الله عليه وآله - وهو خصمك - ذهب بمختار هذه الأمة مع نفسه إلى الغار فإنه خاف عليه كما خاف على نفسه لما علم أنه الخليفة من بعده على أمته، لأنه لم يكن من حكم الاختفاء أن يذهب بغيره معه وإنما أقام عليا على مبيته لأنه علم أنه إن قتل لا يكون من الخلل بقتله ما يكون بقتل أبي بكر، لأنه يكون لعلي من يقوم مقامه في الأمور، لم لا تنقض عليه بقولك:
أو لستم تقولون: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (إن الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) وصيرها موقوفة على أعمار هؤلاء الأربعة: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي) فإنهم كانوا على مذهبكم خلفاء رسول الله؟ فإن خصمك لم يجد بدا من قوله: بلى.
قلت له: فإذا كان الأمر كذلك فكما أبو بكر الخليفة من بعده كان هذه الثلاثة خلفاء أمته من بعده، فلم ذهب بخليفة واحد وهو (أبو بكر) إلى الغار ولم يذهب بهذه الثلاثة؟ فعلى هذا الأساس يكون النبي صلى الله عليه وآله مستخفا بهم دون
____________
(1) الأعراف - 154.
وأما ما قال لك الخصم: بأنهما أسلما طوعا أو كرها، لم لم تقل بل أنهما أسلما طمعا، وذلك أنهما يخالطان مع اليهود ويخبران بخروج محمد صلى الله عليه وآله واستيلائه على العرب من التوراة والكتب المقدسة وملاحم قصة محمد صلى الله عليه وآله، ويقولون لهما:
يكون استيلاؤه على العرب كاستيلاء (بخت نصر) على بني إسرائيل إلا أنه يدعي النبوة ولا يكون من النبوة في شئ، فلما ظهر أمر رسول الله فساعدا معه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله طمعا أن يجدا من جهة ولاية رسول الله ولاية بلد إذا انتظم أمره، وحسن باله، واستقامت ولايته، فلما أيسا من ذلك وافقا مع أمثالهما ليلة العقبة وتلثما مثل من تلثم منهم، فنفروا بدابة رسول الله لتسقطه ويصير هالكا بسقوطه بعد أن صعد العقبة فيمن صعد، فحفظ الله تعالى نبيه من كيدهم ولم يقدروا أن يفعلوا شيئا، وكان حالهما كحال طلحة والزبير إذ جاءا عليا عليه السلام وبايعاه طمعا أن تكون لكل واحد منهما ولاية، فلما لم يكن ذلك وأيسا من الولاية نكثا بيعته وخرجا عليه حتى آل أمر كل واحد منهما إلى ما يؤل أمر من ينكث العهود والمواثيق.
ثم قام مولانا الحسن بن علي عليهما السلام لصلاته وقام القائم معه، فرجعت من عندهما وطلبت أحمد بن إسحاق فاستقبلني باكيا فقلت:
ما أبطأك وما أبكاك؟
قال: قد فقدت الثوب الذي سألني مولاي إحضاره.
قلت: لا بأس عليك فأخبره!
فدخل عليه وانصرف من عنده متبسما وهو يصلي على محمد وأهل بيته.
فقلت: ما الخبر؟
فقال: وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا عليه السلام يصلي عليه.
يا بن رسول الله قد دنت الرحلة، واشتدت المحنة، فنحن نسأل الله أن يصلي على المصطفى جدك، وعلى المرتضى أبيك، وعلى سيدة النساء أمك فاطمة الزهراء وعلى سيدي شباب أهل الجنة عمك وأبيك، وعلى الأئمة من بعدهما آبائك. وأن يصلي عليك وعلى ولدك، ونرغب إليه أن يعلي كعبك، ويكبت عدوك، ولا جعل الله هذا آخر عهدنا من لقائك.
(قال): فلما قال هذه الكلمة استعبر مولانا عليه السلام حتى استهملت دموعه وتقاطرت عبراته ثم قال:
يا بن إسحاق لا تكلف في دعائك شططا، فإنك ملاق الله في صدرك هذا، فخر أحمد مغشيا عليه، فلما أفاق قال:
سألتك بالله وبحرمة جدك إلا ما شرفتني بخرقة أجعلها كفنا، فأدخل مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهما فقال:
خذها ولا تنفق على نفسك غيرها فإنك لن تعدم ما سألت والله لا يضيع أجر المحسنين.
قال سعد: فلما صرنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا عليه السلام من حلوان على ثلاثة فراسخ، حم أحمد بن إسحاق وثارت عليه علة صعبة أيس من حياته بها، فلما وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات، دعا أحمد بن إسحاق رجلا من أهل بلده كان قاطنا بها ثم قال: تفرقوا عني هذه الليلة واتركوني وحدي!
فانصرفنا عنه ورجع كل واحد إلى مرقده.
(قال) سعد: فلما حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة ففتحت عيني، فإذا أنار بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمد وهو يقول:
وعن الشيخ الموثوق أبي عمرو العمري - ره - (1) قال: تشاجر ابن أبي غانم
____________
(1) هو عثمان بن سعيد العمري - بفتح العين وسكون الميم - أول النواب الأربعة يكنى أبا عمرو السمان ويقال له الزيات والعسكري ذكره الشيخ الطوسي في عداد أصحاب الهادي عليه السلام ص 420 وقال: (.. خدمه عليه السلام وله إحدى عشر سنة، وله إليه عهد معروف) وفي أصحاب العسكري ص 434 وقال: (.. جليل القدر ثقة وكيله عليه السلام) وفي كتاب الغيبة ص 214 قال: (فأما السفراء الممدوحون في زمان الغيبة، فأولهم: من نصبه أبو الحسن علي بن محمد العسكري وأبو محمد الحسن بن علي بن محمد ابنه عليهم السلام وهو الشيخ الموثوق به: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، وكان أسديا وإنما سمي العمري لما رواه أبو نصر هبة الله ابن محمد بن أحمد الكاتب أنه ابن بنت أبي جعفر العمري - رحمه الله - قال أبو نصر كان أسديا فنسب إلى جده فقيل العمري. وقد قال قوم من الشيعة: أن أبا محمد الحسن بن علي عليه السلام قال: لا يجتمع على أمره بين عثمان وأبو عمرو فأمر بكسر كنيته فقيل العمري، إلى أن قال: ويقال له: (السمان) لأنه كان يتجر في السمن تغطية على الأمر، وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمد عليه السلام ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى أبي محمد عليه السلام تقية وخوفا) وقال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 6؟ 1: (.. ويقال له:
الزيات الأسدي من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام خدمه وله إحدى عشر سنة وله إليه عهد معروف وهو ثقة جليل القدر وكيل أبي محمد عليه السلام.) وفي ج 2 من سفينة البحار ص 158: (أبو عمرو عثمان بن سعيد السمان العمري أول النواب الأربعة، ما ورد في شأنه من الجلالة والعدالة والأمانة أكثر من أن يذكر وهو أجل وأشهر من أن يصفه مثلي (كش) كان باب الجواد عليه السلام.. وحكي:
=>
فورد جواب كتابهم بخطه صلى الله عليه وعلى آبائه:
عافانا الله وإياكم من الفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا وإياكم من سوء المنقلب، أنه أنهي إلي ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أمرهم، فغمنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا، لأن الله معنا فلا فاقة بنا لي غيره، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنا، ونحن صنايع ربنا والخلق بعد صنايعنا.
يا هؤلاء ما لكم في الريب تترددون، وفي الحيرة تنعسكون، أو ما سمعتم الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (1) أو ما علمتم ما جاءت به الآثار مما يكون ويحدث في أئمتكم، على الماضين والباقين منهم السلام؟ أو ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها، وأعلاما تهتدون بها، من لدن آدم عليه السلام إلى أن ظهر الماضي عليه السلام، كلما غاب علم بدا علم، وإذا أفل نجم طلع نجم، فلما قبضه الله إليه ظننتم: أن الله أبطل دينه، وقطع السبب بينه وبين خلقه، كلا ما كان ذلك ولا يكون، حتى تقوم الساعة ويظهر أمر الله وهم كارهون، وأن الماضي عليه السلام مضى سعيدا فقيدا على منهاج آبائه عليهم السلام، (حذو النعل بالنعل) وفينا وصيته وعلمه، ومنه خلفه ومن يسد مسده، ولا ينازعنا موضعه إلا ظالم آثم، ولا يدعيه دوننا إلا كافر جاحد، ولو لا أن أمر الله لا يغلب، وسره لا يظهر ولا يلعن، لظهر لكم من حقنا ما تبتز منه عقولكم، ويزيل شكوكم
____________
<=
أنه يقال له: العمري لأنه ينتسب من قبل الأم إلى عمر الأطرف بن علي عليه السلام..)
وقبره في الجانب الغربي ببغداد.
(1) النساء - 58.
عصمنا الله وإياكم من المهالك والأسواء، والآفات والعاهات كلها برحمته إنه ولي ذلك والقادر على ما يشاء، وكان لنا ولكم وليا وحافظا، والسلام على جميع الأوصياء والأولياء والمؤمنين ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما.
وعن سعد بن عبد الله الأشعري، عن الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري (ره): أنه جاء بعض أصحابنا يعلمه أن جعفر بن علي كتب إليه كتابا يعرفه نفسه، ويعلمه أنه القيم بعد أخيه، وأن عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه، وغير ذلك من العلوم كلها.
قال أحمد بن إسحاق: فلما قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان عليه السلام وصيرت كتاب جعفر في درجه، فخرج إلي الجواب في ذلك:
أتاني كتابك أبقاك الله والكتاب الذي أنفذت درجه، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمنه على اختلاف ألفاظه، وتكرر الخطأ فيه، ولو تدبرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه، والحمد لله رب العالمين حمدا لا شريك له على إحسانه إلينا وفضله علينا، أبى الله عز وجل للحق إلا إتماما، وللباطل إلا زهوقا، وهو شاهد
وأنه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق جميعا إمامة مفترضة، ولا طاعة ولا ذمة، وسأبين لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله.
يا هذا يرحمك الله! إن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثا، ولا أهملهم سدى، بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعا وأبصارا وقلوبا وألبا، ثم بعث النبيين عليهم السلام مبشرين ومنذرين، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته، ويعرفونه ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم، وأنزل عليهم كتابا وبعث إليهم ملائكة، وباين بينهم وبين من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم، وما آتاهم الله من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة. فمنهم: من جعل النار عليه بردا وسلاما واتخذه خليلا، ومنهم: من كلمه تكليما وجعل عصاه ثعبانا مبينا، ومنهم: من أحيى الموتى بإذن الله وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، ومنهم من علمه منطق الطير وأوتي من كل شئ.
ثم بعث محمدا صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين وتمم به نعمته، وختم به أنبياءه: وأرسله إلى الناس كافة، وأظهر من صدقه ما أظهر، وبين آياته وعلاماته ما بين، ثم قبضه صلى الله عليه وآله حميدا فقيدا سعيدا، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمه ووصيه ووارثه علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم إلى الأوصياء من ولده واحدا بعد واحد، أحيى بهم دينه، وأتم بهم نوره، وجعل بينهم وبين أخوتهم وبني عمهم والأدنين فالأدنين من ذوي أرحامهم فرقا بينا، تعرف به الحجة من المحجوج، والإمام من المأموم بأن: عصمهم من الذنوب، وبرأهم من العيوب، وطهرهم من الدنس، ونزههم من اللبس، وجعلهم خزان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سره، وأيدهم بالدلائل ولو لا ذلك لكان الناس على سواء، ولادعى أمر الله عز وجل كل أحد، ولما عرف الحق من الباطل، ولا العلم من الجهل.
وقد ادعى هذا المبطل المدعي على الله الكذب بما ادعاه، فلا أدري بأية حالة
فليأت بآية، أم بحجة؟! فليقمها، أم بدلالة؟! فليذكرها. قال الله عز وجل في كتابه: (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون * قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات إئتوني بكتاب من قبل هذا أو إثارة من علم إن كنتم صادقين * ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) (1).
فالتمس تولى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك، وامتحنه واسأله عن آية من كتاب الله يفسرها، أو صلاة يبين حدودها وما يجب فيها، لتعلم حاله ومقداره، ويظهر لك عواره ونقصانه، والله حسيبه.
حفظ الله الحق على أهله، وأقره في مستقره، وأبى الله عز وجل أن تكون الإمامة في الأخوين إلا في الحسن والحسين، وإذ أذن الله لنا في القول ظهر الحق واضمحل الباطل، وانحسر عنكم. وإلى الله أرغب في الكفاية، وجميل الصنع والولاية وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآل محمد.
محمد بن يعقوب الكليني (2) عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان
____________
(1) الأحقاف 1 - 6.
(2) قال المحقق الشيخ عباس القمي في ج 3 من الكنى والألقاب ص 98:
(هو الشيخ الأجل قدوة الأنام، وملاذ المحدثين العظام، ومروج المذهب في غيبة الإمام عليه السلام، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي الملقب:
=>
____________
<=
(ثقة الإسلام) ألف الكافي الذي هو أجل الكتب الإسلامية وأعظم المصنفات الإمامية
والذي لم يعمل للإمامية مثله، قال المولى محمد أمين الاسترآبادي في محكي فوائده: سمعنا
مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه وكان خاله علان
الكليني الرازي) وقال النجاشي ص 292: (شيخ أصحابنا بالري ووجههم وكان أوثق
الناس في الحديث وأثبتهم..) وقال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 145:
(.. صنف كتاب الكافي في عشرين سنة ومات ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثماية)
وقال الشيخ الطوسي وقال النجاشي: في سنة تسع وعشرين وثلاثماية، سنة تنائر النجوم
وصلى عليه محمد بن جعفر الحسيني أبو قيراط ودفن بباب الكوفة في مقبرتها..).
(1) محمد بن عثمان العمري رحمه الله هو ثاني الوكلاء الأربعة ذكره
الشيخ في رجاله ص 59 وقال: (.. يكنى أبا جعفر وأبوه يكنى أبا عمرو جميعا
وكيلان من جهة صاحب الزمان عليه السلام ولهما منزلة جليلة عند الطائفة) وقال
في الغيبة ص 218: فلما مضى أبو عمرو عثمان بن سعيد قام ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان
مقامه بنص أبي محمد عليه السلام عليه ونص أبيه عثمان عليه بأمر القائم عليه السلام.)
وفي ج 1 من سفينة البحار ص 228 (.. أبو جعفر باب الهادي وهو وكيل
الناحية في خمسين سنة الذي ظهر على يديه من طرف المأمول المنتظر (ع) معاجز كثيرة.
وكان محمد رحمه الله شيخا متواضعا في بيت صغير ليس له غلمان.. وروي عنه
قال: إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم مع الناس كل سنة يرى الناس فيعرفهم ويرونه
ولا يعرفونه وروي أنه قيل له: رأيت صاحب هذا الأمر؟ قال: نعم وآخر عهدي
به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني. وعنه أيضا قال: رأيته
صلوات الله عليه متعلقا بأستار الكعبة في المستجار وهو يقول: اللهم انتقم بي من
أعدائك. وروى أنه حفر لنفسه قبرا وسواه بالساج ونقش فيه آيات من القرآن وأسماء
الأئمة عليهم السلام على حواشيه قيل سئل عن ذلك فقال: للناس أسباب. وكان في كل
يوم ينزل في قبره ويقرأ جزءا من القرآن ثم يصعد) قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة
ص 149 ثم سئل بعد ذلك فقال: قد أمرت أن أجمع أمري. فمات بعد شهرين من ذلك
في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثمائة وقيل: سنة أربع وثلاثمائة. وقال عند موته:
=>