مقدمة الناشر
الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى عترته آل الله، واللعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الله إلى يوم لقاء الله.
وبعد، فإن الناظر في كتب السير والموسوعات التاريخية عند المسلمين يجدها حافلة بأخبار الملوك والأمراء وذكر مجالسهم ومحافلهم على اختلاف مستوياتها حتى لو كانت مجالسا فاقدة للضوابط الخلقية والآداب والرسوم الشرعية، وكأن وظيفة المؤرخ والكاتب لم تكن إلا الكتابة عن حياة الخلفاء وسلاطين الجور وما جرى عليهم من حوادث، أما سائر الناس فلا تجد الإشارة إلى عظمائهم وما حفلت به حياتهم من مواقف كريمة أو ما جرى عليهم من جور وظلم وتضييع للحقوق وسفك للدماء المحترمة فضاع الكثير الكثير من الأرقام التاريخية التي يمكن لولا ذلك التضييع أن تؤثر في نتائج الكثير من الدراسات والبحوث في مقاطع التاريخ الإسلامي والذي يؤدي بدوره إلى إظهار كثير من الحقائق المخفية وتزييف الكثير من الدعاوى الباطلة التي صارت سببا في تشتت الأمة وتفرق الكلمة.
وأكثر جماعة بخس حقها في هذا المجال على رغم أصالتها وموقعها المهم في المسيرة الإسلامية هم الشيعة الإمامية لا لذنب إلا التمسك بالثقلين الشريفين كتاب الله وعترة نبيه صلوات الله عليهم أجمعين، فلم يكتب في حقهم إلا النزر اليسير وعلى شكل مبعثر في الكتب لا يناسب شأن هذه الجماعة وموقعها في الأمة
والكتاب - الماثل بين يديك عزيزنا القارئ - يعد واحدا من الجهود المشكورة والمساعي المبرورة في هذا المضمار، فقد أشار فيها المؤلف سماحة آية الله الشيخ علي الأحمدي الميانجي زيد عزه إلى الكثير من مواقف الشيعة ورجالاتها وما جرى بينهم وبين أهل زمانهم من أحداث ووقائع ولطائف وحكايات جديرة بالاعتبار وجمعها في كتاب واحد وسماه ب " مواقف الشيعة " بعد أن كانت موزعة في العشرات من المصادر والكتب، فجزاه الله خير الجزاء.
وقد تصدت مؤسستنا لطبع هذا الكتاب ونشره بعد تصحيحه وتنظيمه خدمة للمكتبة الإسلامية، سائلين المولى عز شأنه للمؤلف ولمن ساهم في تهيئة هذا الكتاب المزيد من التوفيق إنه بالاحسان والتفضل لخليق.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف بريته وخاتم رسله وأنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا وعينا حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.
أحمدك اللهم استتماما لنعمتك واستسلاما لعزتك واستزادة لكرمك واستعصاما من معصيتك، وأستعينك اللهم فاقة إلى كفايتك والتجاء إلى هدايتك إنه لا يضل من هديته ولا يفتقر من كفيته ورحمته.
اللهم نور قلوبنا بمعرفتك ومعرفة نبيك وآل نبيك الطاهرين المعصومين ولاة أمرك المأمونين على سرك، وأدخلنا في حصن ولايتهم واسلك بنامنهجهم، وألزمنا طاعتهم وجنبنا معصيتهم.
وبعد، فقد من الله علي بإتمام طبع كتاب " مواقف الشيعة " المشتمل على المناظرات والاحتجاجات الواقعة بين الشيعة وبين خصومهم، فرأيت أن أذكر أمورا ترتبط بهذا الموضوع ولا يخلو ذكرها عن فائدة.
فنقول:
قال الطبري رحمه الله: المخاصمة والمجادلة والمناظرة والمحاجة نظائر وإن كان بينهما فرق، فإن المجادلة هي المنازعة فيما وقع فيه خلاف بين اثنين، والمخاصمة:
المنازعة بالمخالفة بين اثنين على وجه الغلظة، والمناظرة: فيما يقع بين النظيرين، المحاجة: في محاولة إظهار الحجة، وأصل المجادلة من الجدل وهو شدة الفتل (1).
ظاهر عبارتي الراغب والطبرسي: أن الجدال أعم من أن يكون فيه الشدة أم لا؟ ولكن ظاهر كلام بعض اللغويين أنه ما كان بالشدة ولعله بالنظر إلى أصل اللغة وهو اشتقاقه من جدلت الحبل أي فتلته (2).
2 - وعلى كل حال الجدال على قسمين: محمود ومذموم.
فالمحمود: ما كان لغرض ظهور الحق وإزهاق الباطل ولم يستلزم ارتكاب حرام.
قال الطبرسي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " (3):
ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج وتقديره: بالكلمة التي هي أحسن.
والمعنى: افتل المشركين واصرفهم عما هم عليه من الشرك بالرفق والسكينة ولين الجانب في النصيحة ليكونوا أقرب إلى الإجابة فإن الجدل هو فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، وقيل: هو أن يجادلهم على قدر ما يحتملونه (4).
____________
(1) مجمع البيان: ج 3 \ 106 الطبعة الخامسة في تفسير قوله تعالى " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " الآية \ 108 من سورة النساء.
(2) قال في تاج العروس: " جدله أي الحبل أحكم فتله. قال ابن الكمال: الجدال: مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها. وقال الفيومي هو التخاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ثم استعمل على لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها وهو محمود إن كان للوقوف على الحق، وإلا فمذموم ". (راجع تاج العروس: ج 7 \ 254).
(3) النحل \ 125.
(4) راجع مجمع البيان: ج 6 \ 392 الطبعة الخامسة وراجع أيضا الكشاف وتفسير ابن كثير والقرطبي.
أقول: إذا كان الجدال والحجاج لإظهار الحق وإقامة الدليل والبرهان ولم يكن مستلزما لإنكار الحق ولا وهنه ولا طرد الناس عن قبول الحق وكان في لين وسكينة ورفق وبعبارة أخرى: كان بطريقة أحسن من كل الجهات فهو محمود.
ومن أجلى مصاديق الجدال بالتي هي أحسن ما حكاه الله سبحانه عن أنبيائه العظام صلوات الله على نبينا وآله وعليهم كاحتجاجات إبراهيم ونوح وشعيب وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام واحتجاج مؤمن آل فرعون، ومن ألطفها ما ذكره في ذيل آية المجادلة " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " (4) حيث رخص في المجادلة بالتي هي أحسن ثم أتى بالمثال للمجادلة بالتي هي أحسن من حيث البيان في عدم التصريح بكفرهم وإظهار الإيمان بما جاء به نبيهم ثم التعقيب بقوله: " ونحن له مسلمون ".
والمذموم: ما كان على خلاف ما ذكر:
____________
(1) العنكبوت \ 46.
(2) طه \ 44.
(3) المجمع: ج 8 \ 287.
(4) العنكبوت \ 46.
أو كان الغرض حقا ولكن كان المجادل ضعيفا عن إقامة الدليل فيأتي بالباطل ليثبت الحق، أو ينكر الحق للعجز عن الجواب لو اعترف به (1).
وفي الحديث: ذكر عند الصادق عليه السلام الجدال في الدين وأن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام قد نهوا عنه، فقال الصادق عليه السلام: لم ينه عنه مطلقا لكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله يقول: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " (2) و " قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (3) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين (4) والجدال بغير التي هي أحسن محرم وحرمه الله على شيعتنا. وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول:
" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " (5) قال الله تعالى: " تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (6). فجعل علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن! قيل: يا ابن رسول
____________
(1) ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم المجادلة المذمومة وذكر أيضا الجهة الموجبة للذم، قال الله سبحانه في سورة الحج \ 3: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم " ذمهم بمجادلتهم من غير علم وقال في سورة الحج \ 8: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير " ذمهم بمجادلتهم من غير علم ولا هداية من الله ولا كتاب. وقال في سورة غافر \ 5: " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " ذمهم بمجادلتهم في الباطل وبدليل باطل لإدحاض ألحق.
(2) العنكبوب \ 46.
(3) النحل \ 125.
(4) كذا في البحار: ج 2 \ 125 والاحتجاج: ج 1 \ 14 ونور الثقلين: ج 3 \ 95 والبرهان: ج 2 \ 388، وفي كنز الدقائق ج 5 \ 419 " قد أمر به العلماء بالدين " والمعنى على هذا واضح، وعلى الأول " أن الجدال بالتي هي أحسن جعله العلماء قرينا للدين " يعني واجب ولازم لمن كان له الدين.
(5) و (6) البقرة \ 111.
أقول: قال العلامة المجلسي رحمه الله تعالى ونعم ما قال: ويظهر من الأخبار أن المذموم منه ما كان الغرض فيه الغلبة وإظهار الكمال والفخر أو التعصب وترويج الباطل. وأما ما كان لإظهار الحق ورفع الباطل ودفع الشبه عن الدين وإرشاد المضلين فهو من أعظم أركان الدين لكن التمييز بينهما في غاية الصعوبة والإشكال، وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر في بادي النظر وللنفس تسويلات خفية لا يمكن التخلص منها إلا بفضله تعالى (3).
قال الأحمدي: ولأجل ذلك نهى الإمام عليه السلام ثلة من أصحابه عن الجدال لما يرى فيه من الضعف في إقامة البرهان والحجة ورخص لجمع منهم أو أمرهم على الاحتجاج والمجادلة بالتي هي أحسن. قال عليه السلام للطيار: أما كلام مثلك فلا بأس (أي من إذا طار يحسن أن يقع وإذا وقع يحسن أن يطير). وقال لعبد الرحمن بن الحجاج: يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة، كان أبو الحسن
____________
(1) يس / 79.
(2) راجع المصادر المتقدمة.
(3) البحار: ج 2 / 127.
3 - قام بهذا الركن الديني العظيم الأنبياء العظام عليهم السلام كما حكى الله سبحانه عنهم في القرآن الكريم وأتباعهم كمؤمن آل فرعون، وقام به رسول الله صلى الله عليه وآله في مكة في احتجاجه صلى الله عليه وآله مع المشركين وفي المدينة مع اليهود والنصارى والمشركين، وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآله المعصومين عليهم السلام في الدعوة إلى الله تعالى بالموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن.
وهذه الاحتجاجات مضبوطة في كتب الفريقين، وقد جمعها العلامة المحقق أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي رحمه الله تعالى من علماء القرن السادس في كتابه القيم " الاحتجاج ". ونقل العلامة المجلسي رحمه الله تعالى ما في الاحتجاج وغيره في البحار.
وألف جماعة من علمائنا كتبا في الاحتجاج. وذكر العلامة المحقق المتتبع الآغا بزرگ رحمه الله أسماء هذه الكتب وأسماء مؤلفيها في كتابه: " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " تحت عناوين: " الاحتجاج " و " الاحتجاجات " (2) و " رد " و " ردود " (3) و " الجواب " و " الجوابات " (4) و " المناظرة " و " المناظرات " (5) عدا ما ذكره بأسماء أخرى كالرسالة والرسائل والرجعة والرجوع و...
وقد أوردنا في هذا الكتاب المتواضع طرفا من احتجاجات الشيعة مع خصومهم كي يكون تذكرة لي ولغيري. نعم قد ذكرنا استطراد الجدال بين الشيعيين أيضا.
____________
(1) إلى غير ذلك ممن رخص لهم أو أمرهم بذلك وممن نهاهم، ذكرها العلامة المجلسي رحمه الله تعالى في البحار ج 2 \ 127 ب 17.
(2) راجع الذريعة: ج 1 \ 281 - 284.
(3) المصدر السابق: ج 10 \ 173 - 238.
(4) المصدر السابق: ج 5 \ 170 - 241.
(5) المصدر السابق: ج 22 \ 280 - 350.
قال الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ في ترجمة أبان بن تغلب: فالتشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان، وأن عليا كان مصيبا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وإذا كان ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا فلا ترد روايته بهذا لا سيما إن كان غير داعية. وأما الشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة (1).
وقال الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 وفي ترجمة أبان بن تغلب: فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليا رضي الله عنه وتعرض لسبهم، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضا فهو ضال معثر... ولم يكن أبان يعرض للشيخين أصلا بل قد يعتقد عليا أفضل منهما (2).
وقال ابن حجر المتوفى سنة 852 هـ: والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو (3).
5 - من تدبر في هذه الاحتجاجات يستفيد منها الأمور التالية.
ألف: يعرف ميزان القوة العاقلة والتفكر والدقة عند الشيعة، وأنهم علماء وحكماء وعقلاء بل في القمة من العقليات، وأن لهم النشاط السامي في التفكر
____________
(1) تهذيب التهذيب: ج 1 \ 54.
(2) ميزان الاعتدال: ج 2 \ 6.
(3) مقدمة فتح الباري: ص 459 و 460.
ب: هذه الاحتجاجات تفيد القارئ شدة اهتمام الشيعة بالأمور الدينية أصولا وفروعا.
وقد اشتهرت الشيعة بذلك في القرون السالفة، اشتهروا بالدقة والتحري في أمور دينهم واهتمامهم بذلك بحيث إذا رأى الناس أحدا يدقق في المسائل الدينية حكموا بأنه رافضي. كان أسد بن عمرو على قضاء واسط فقال: رأيت قبلة واسط رديئة جدا وتبين لي ذلك فتحرفت فيها، فقال قوم من أهل واسط: إنه رافضي، فقيل لهم: ويلكم هذا من أصحاب أبي حنيفة (1).
ج - يظهر للقارئ المدقق المنصف فطانة الشيعة ويقظتهم وأنهم لا يخدعون، ويتضح إحاطة الشيعة بكتب مخالفيهم وعقائدهم بعد إحاطتهم بكتبهم وعقائدهم حتى أن الشيعي يطير ولا يقع ويفحم خصمه ولا يفحم ويغلب ولا يغلب.
د - يظهر أيضا إنصافهم في البحث وتحريهم الحق في الجدل، لا يريدون غير إبانة الحق وانكشاف الواقع.
6 - إذا لاحظ المتدبر المنصف هذه الاحتجاجات واستنتج منها ما ذكرنا من عقل الشيعي ودقته وتدبره وغوره في المسائل وتحريه الحقائق وتجنبه عن الباطل والاعتساف وتحليه بالحلم والإنصاف واهتمامه بالمسائل الدينية وإحاطته بعقائد مخالفه وتبحره في عقيدته سأل نفسه: من أين اكتسب هؤلاء هذه الفضائل؟ وفي أي مدرسة؟ وعند أي أستاذ؟ وأجاب أكتسب من بيت الوحي وفي مدرستهم وعند أئمة أهل البيت عليهم السلام، فيتضح له معنى قوله سبحانه: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " (2) وقوله تعالى: " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري
____________
(1) الصحيح من السيرة: ج 1 \ 20 وج 3 \ 275.
(2) الشورى \ 23.
وصح عندئذ ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في أهل بيته صلوات الله عليهم:
" هم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه " (3) و " وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين ألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش " (4) و " فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا " (5).
فمن صدقهم وقبل ولايتهم ونزل بمعناهم وسكن في مدارسهم - مدارس الآيات - صار من حملة علومهم وتحلى بالفضائل وتخلى عن الرذائل وارتوى من منهل عذب صاف نمير تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه، اللهم اجعلنا ممن يواليهم ويحبهم ويتبرأ من أعدائهم، آمين.
7 - فمن راجع كتب المخالفين (أي أهل السنة) وشاهد كلماتهم في الشيعة وعلمائهم رأى عجبا من الاعتساف وترك الإنصاف، وقد جمع العلامة المتتبع المحقق الأميني في الجزء الثالث من كتابه القيم " الغدير " (6) كلماتهم في الشيعة، ولا بأس
____________
(1) سباء \ 47.
(2) الفرقان \ 57.
(3) نهج البلاغة: الخطبة \ 145.
(4) نهج البلاغة: الخطبة \ 85.
(5) نهج البلاغة: الخطبة \ 154.
(6) راجع ص 78 - 329.
فعن ابن عبد ربه في العقد الفريد " الرافضة يهود هذه الأمة يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية ".
وعن الفرق بين الفرق للبغدادي: " لم يكن في الروافض قط إمام في الفقه ولا إمام في رواية الحديث ولا إمام في اللغة والنحو ولا موثوق به في المغازي والسير والتواريخ ولا إمام في التأويل والتفسير وإنما كان أئمة هذه العلوم أهل السنة والجماعة ".
وعن كتاب الفصل " إن الروافض ليسوا من المسلمين... ".
ثم نسبوا إلى الشيعة عقائد سخيفة عجيبة مما لا يرتضيه أي شيعي، اقرأ واقض بما أراك الله تعالى، ثم قس بين المدرستين وبين خريجيها، والحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه محمد وآله الطاهرين.
قم المحمية
يوم الثلاثاء 18 من المحرم الحرام عام 1415
الموافق لـ 7 \ 4 \ 1373 هـ ش
علي الأحمدي الميانجي
(1)
المفيد رحمه الله مع الخياط
قال: وأخبرني الشيخ أيده الله قال: قال أبو القاسم الكعبي: سمعت أبا الحسين الخياط يحتج في إبطال قول المرجئة في الشفاعة بقوله تعالى: " أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار " قال: والشفاعة لا تكون إلا لمن استحق العقاب.
فيقال له: ما كان أغفل أبا الحسين وأعظم رقدته! أترى أن المرجئة إذا قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله يشفع فيشفع فيمن يستحق العقاب قالوا:
إنه هو الذي ينقذ من في النار؟ أم يقولون: إن الله سبحانه هو الذي أنقذه بفضله ورحمته وجعل ذلك إكراما لنبيه صلى الله عليه وآله؟ فأين وجه الحجة فيما تلاه؟ أو ما علم أن من مذهب خصومه القول بالوقف في الأخبار وأنهم لا يقطعون بالظاهر على العموم والاستيعاب؟ فلو كان القول يتضمن نفي خروج أحد من النار لما كان ذلك ظاهرا ولا مقطوعا به عند القوم، فكيف ونفس الكلام يدل على الخصوص دون العموم بقوله تعالى: " أفمن حق عليه كلمة العذاب "، وإنما يعلم من المراد بذلك بدليل دون نفسه، وقد حصل الإجماع على أنه توجه إلى الكفار، وليس أحد من أهل القبلة يدين بجواز الشفاعة الكفار، فيكون ما تعلق به الخياط حجة عليه.
ثم قال أبو القاسم: وكان أبو الحسين - يعني الخياط - يتلو في ذلك أيضا قوله عز وجل: " تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين *
قال الشيخ أدام الله عزة: فيقال له: ما رأيت أعجب منكم يا معشر المعتزلة!
تتكلمون فيما قد شارككم الناس فيه من العدل والتوحيد أحسن كلام حتى إذا صرتم إلى الكلام في الإمامة والإرجاء صرتم فيهما عامة حشوية! تخبطون خبط عشواء، لا تدرون ما تأتون وما تذرون!
ولكن لا أعجب من ذلك، وأنتم إنما جودتم فيما عاونكم عليه غيركم واستفدتموه من سواكم، وقصرتم فيما تفردتم به، لا سيما في نصرة الباطل الذي لا يقدر على نصرته في الحقيقة قادر.
ولكن العجب منكم في ادعائكم الفضيلة والبينونة بها من سائر الناس، ولو والله حكى عنكم هذا الاستدلال مخالف لكم لا رتبنا بحكايته، ولكن لا ريب وشيوخكم يحكونه عن مشائخهم، ثم لا يقنعون حتى يوردوه على سبيل التبجح به والاستحسان له. وأنت أيها الرجل من غلوك فيه جعلته أحد الغرر.
وأنت وإن كنت أعجمي الأصل والمنشأ فأنت عربي اللسان صحيح الحس، وظاهر الآية في الكفار خاصة، لا يخفى ذلك على الأنباط فضلا عن غيرهم، حيث يقول الله عز وجل حاكيا عن الفرقة بعينها وهي تعني معبوداتها من دون الله تعالى وتخاطبها، فيقول: " إذ نسويكم برب العالمين " فيعترفون بالشرك بالله عز وجل، ثم يقولون: " وما أضلنا إلا المجرمون " وقبل ذلك يقسمون فيقولون: " تالله إن كنا لفي ضلال مبين ".
فهل يا أبا القاسم - أصلحك الله - تعرف أحدا من خصومك في الإرجاء والشفاعة يذهب إلى جواز الشفاعة لعباد الأصنام المشركين بالله عز وجل والكفار برسله عليهم السلام حتى استحسنت استدلال شيخك بهذه الآية على
____________
(1) الشعراء: 97 - 101.
وكيف تزعم ذلك؟ وأنت إنما حكيت مجرد القول في الآية ولم تذكر وجه الاستدلال منها.
وإن ما توهمت أن الحجة في ظاهرها غفلة عظيمة حصلت منك!
على أنه إنما يصح القياس على العلل والمعاني دون الصور والألفاظ.
والكفار إنما بطل قول من ادعى الشفاعة لهم أن لو ادعاها مدع بصريح القرآن لا غير، فيجب أن لا تبطل الشفاعة لفساق الملة إلا بنص القرآن أيضا أو قول من الرسول صلى الله عليه وآله يجري مجرى القرآن في الحجة، وإذا عدم ذلك بطل القياس فيه.
مع أنا قد بينا أنك لم تقصد القياس وإنما تعلقت بظاهر القرآن، وكشفنا عن غفلتك في التعلق به، فليتأمل ذلك أصحابك وليستحيوا لك منه.
على أنه قد روي عن الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال: في هذه الآية دليل على وجود الشفاعة، قال:
وذلك أن أهل النار لو لم يروا يوم القيامة الشافعين يشفعون لبعض من استحق العقاب فيشفعون ويخرجون بشفاعتهم من النار أو يعفون عنها بعد الاستحقاق لما تعاظمت حسراتهم ولا صدر عنهم هذا المقال، لكنهم لما رأوا شافعا يشفع فيشفع وصديقا حميما يشفع لصديقة فيشفع عظمت حسرتهم عند ذلك وقالوا:
" فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ".
ولعمري إن مثل هذا الكلام لا يرد إلا عن إمام هدى أو من أخذ عن أئمة الهدى عليهم السلام!
(2)
المفيد مع المخالفين
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه: سئل في مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن القاسم العلوي المحمدي أدام الله عزه فقيل له: ما الدليل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان أفضل الصحابة؟ فقال: الدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " فجاء أمير المؤمنين عليه السلام وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله عز وجل أعظمهم ثوابا عند الله تعالى وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه أشرفهم أعمالا وأكثرهم عبادة لله تعالى، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين عليه السلام على الخلق كلهم سوى الرسول عليه وآله السلام.
فقال له السائل: ما الدليل على صحة هذا الخبر؟ وما أنكرت أن يكون غير معتمد، لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده، وأخبار الآحاد ليست بحجة فيما يقطع على الله عز وجل بصوابه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الخبر وإن كان من أخبار الآحاد على ما ذكرت من أن أنس بن مالك رواه وحده، فإن الأمة بأجمعها قد تلقته بالقبول، ولم يروا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته، فصار الإجماع عليه هو الحجة في صوابه، ولم يخل ببرهانه كونه من أخبار الآحاد بما شرحناه.
مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين عليه السلام احتج به في مناقبه يوم
____________
(1) البحار: ج 10 ص 428 - 431.
فاعترض بعض المجبرة فقال: إن احتجاج الشيعة برواية أنس من أطرف الأشياء، وذلك أنهم يعتقدون تفسيق أنس بل تكفيره فيقولون: إنه كتم الشهادة في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين عليه السلام ببلاء لا يواريه الثياب، فبرص على كبر السن ومات وهو أبرص، فكيف يستشهد برواية الكافرين؟.
فقالت المعتزلة: قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية أنسا، وإنما جعلها الإجماع، فهذا الذي أوردته هذيان، وقد تقدم إبطاله.
فقال السائل: هب إنا سلمنا صحة الخبر، ما أنكرت أن لا يفيد ما ادعيت من فضل أمير المؤمنين عليه السلام على الجماعة، وذلك: أن المعنى فيه " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي " يريد أحب الخلق إلى الله عز وجل في الأكل معه، دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله، إذ قد يجوز أن يكون الله سبحانه يحب أن يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه، ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الذي اعترضت به ساقط، وذلك أن محبة الله تعالى ليست ميل الطباع وإنما هي الثواب، كما أن بغضه وغضبه ليسا
وشئ آخر: وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه، دون ما عارضت به أن لو كانت المحبة على غير معنى الثواب، لأنه صلى الله عليه وآله قال: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " وقوله: " بأحب خلقك إليك " كلام تام، وبعده: " يأكل معي من هذا الطائر " كلام مستأنف ولا يفتقر الأول إليه، ولو كان أراد ما ذكرت لقال: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك في الأكل معي " فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز.
وشئ آخر: وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب عليك تحميلهما اللفظ معا، دون الاقتصار على أحدهما، إلا بدليل، لأنه لا يتنافى الجمع بينهما، فيكون أراد بقوله: " أحب خلقك إليك " في نفسه وللأكل معي، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك.
فقال رجل من الزيدية - كان حاضرا - للسائل: هذا الاعتراض ساقط على أصلك وأصلنا، لأنا نقول جميعا: إن الله تعالى لا يريد المباح، والأكل مع النبي صلى الله عليه وآله مباح وليس بفرض ولا نفل فيكون الله يحبه، فضلا عن أن يكون بعضه أحب إليه من بعض. وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم، فلذلك أسقط الزيدي كلامه على أصله، إذ كان يوافقه في الأصول على مذهب أبي هاشم.
فخلط السائل هنيئة، ثم قال للشيخ أدام الله عزه: فأنا أعترض باعتراض
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا السؤال أوهن مما تقدم، والجواب عنه أيسر، وذلك: أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب أعمالا زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين عليه السلام على الجماعة، من قبل أنهم بين قائلين:
فقائل يقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل من الكل في وقت الرسول صلى الله عليه وآله ولم يساوه أحد بعد ذلك، وهم الشيعة الإمامية والزيدية وجماعة من شيوخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الحديث.
وقائل يقول: إنه لم يبن لأمير المؤمنين عليه السلام في وقت من الأوقات فضل على سائر الصحابة يقطع به على الله تعالى ويجزم الشهادة بصحته، ولا بان لأحد منهم فضل عليه، وهم الواقفة في الأربعة من المعتزلة، منهم: أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما.
وقائل يقول: إن أبا بكر كان أفضل من أمير المؤمنين عليه السلام في وقت الرسول صلى الله عليه وآله وبعده، وهم جماعة من المعتزلة وبعض المرجئة وطوائف من أصحاب الحديث.
وقائل يقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه غيره، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه، وهم الخوارج جماعة من المعتزلة، منهم: الأصم والجاحظ وجماعة من أصحاب
ولم يقل أحد من الأمة: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل عند الله سبحانه من الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية الله عز وجل ولا أحدث معصية الله تعالى ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه، ولا جوز ذلك فيكون معتبرا، فإذا بطل الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط، وكان الإجماع حجة يقوم مقام قول الله تعالى في صحة ما ذهبنا إليه، فلم يأت بشئ.
ذاكراني الشيخ أدام الله عزه هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها زيادة ألحقتها:
وهي أن قال: إن الذي يسقط ما اعترض به السائل من تأويل قول النبي صلى الله عليه وآله: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك " على المحبة للأكل معه دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في إسقاطه: أن الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنه قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يأتيه الله تعالى بأحب الخلق إليه قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون لي الفضل بذلك، فجاء علي عليه السلام فرددته وقلت له: رسول الله على شغل، فمضى، ثم عاد ثانية، فقال لي: استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت له: إنه على شغل، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: قد كنت سألت الله أن يأتيني بك دفعتين، ولو أبطأت علي الثالثة لأقسمت على الله عز وجل أن يأتيني بك.
فلولا أن النبي صلى الله عليه وآله سأل الله عز وجل أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده وكانت هذه من أجل الفضائل لما آثر أنس أن يختص بها قومه، ولولا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول صلى الله عليه وآله لما دافع أمير المؤمنين عليه السلام عن الدخول ليكون ذلك الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.