فلم يدع قيس شيئا من مناقبه إلا ذكره واحتج به.
وقال: منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين، اختصه الله بذلك من بين الناس، ومنهم حمزة سيد الشهداء، ومنهم فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، فإذا وضعت من قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته وعترته الطيبين فنحن والله خير منكم يا معشر قريش، وأحب إلى الله ورسوله وإلى أهل بيته منكم. لقد قبض رسول الله فاجتمعت الأنصار إلى أبي، ثم قالوا: نبايع سعدا، فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته وخاصمونا بحقه وقرابته. فما يعدوا قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار وظلموا آل محمد. ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي بن أبي طالب وولده من بعده!
فغضب معاوية وقال: يا بن سعد، عمن أخذت هذا وعمن رويته وعمن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟ فقال قيس: سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي وأعظم علي حقا من أبي! قال: من؟ قال: علي بن أبي طالب، عالم هذه الأمة، وصديقها الذي أنزل الله فيه: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " فلم يدع آية نزلت في علي إلا ذكرها.
قال معاوية: فإن صديقها أبو بكر، وفاروقها عمر، والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام. قال قيس: أحق هذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه: " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " والذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم، فقال: " من كنت مولاه أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه " وقال في غزوة تبوك: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1).
____________
(1) وأشار إليه اليعقوبي: ج 2 ص 212 ونقله في البحار: ج 8 ط الكمباني ص 518 - 519 عن سليم.
(52)
قيس مع الخوارج
خرج قيس في النهروان إلى الخوارج، فقال لهم: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر! تشهدون علينا بالشرك والشرك ظلم عظيم، تسفكون دماء المسلمين وتعدونهم مشركين!
فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر.
فقال قيس: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم (1).
(53)
بنو هاشم وبنو أمية
عن عبد الملك بن مروان، قال: كنا عند معاوية ذات يوم وقد اجتمع عنده جماعة من قريش، وفيهم عدة من بني هاشم.
فقال معاوية: يا بني هاشم، بم تفتخرون علينا؟ أليس الأب والأم واحدا والدار والمولد واحدا؟ فقال ابن عباس: نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به على سائر قريش، وتفخر به قريش على [ سائر ] الأنصار، وتفخر به الأنصار على سائر العرب، وتفخر به العرب على سائر العجم برسول الله صلى
____________
(1) الغدير: ج 2 ص 83 عن الطبري: ج 6 ص 47 وفي طبقة ليدن ج 6 ص 3377. والكامل لابن الأثير: ج 3 ص 137.
فقال معاوية: يا ابن عباس، لقد أعطيت لسانا ذلقا تكاد تغلب بباطلك حق سواك. فقال ابن عباس: مه! فإن الباطل لا يغلب الحق، ودع عنك الحسد، فلبئس الشعار الحسد.
فقال معاوية: صدقت، أما والله إني لأحبك لخصال أربع، مع مغفرتي لك خصالا أربع. فأما ما أحبك: فلقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وأما الثانية فإنك رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص عبد مناف، وأما الثالثة فإن أبي كان خلا لأبيك، وأما الرابعة فإنك لسان قريش وزعيمها وفقيهها. وأما الأربع التي غفرت لك: فعدوك علي بصفين فيمن عدا، وإساءتك في خذلان عثمان فيمن أساء، وسعيك على عائشة أم المؤمنين فيمن سعى، ونفيك عني زيادا فيمن نفى. فضربت أنف هذا الأمر وعينه حتى استخرجت عذرك من كتاب الله عز وجل وقول الشعراء. أما ما وافق كتاب الله عز وجل، فقوله: " خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " وأما ما قالت الشعراء فقول أخي بني دينار:
فاعلم أني قد قبلت فيك الأربع الأولى، وغفرت لك الأربع الأخرى، وكنت في ذلك كما قال الأول:
ثم أنصت. فتكلم ابن عباس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
وأما ما ذكرت أنك تحبني لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله فذلك الواجب عليك وعلى كل مسلم آمن بالله وبرسوله، لأنه الأجر الذي سألكم رسول الله صلى الله عليه وآله على ما آتاكم به من الضياء والبرهان المبين، فقال عز وجل: " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " فمن لم يجب
وأما ما ذكرت أني رجل من أسرتك وأهل بيتك فذلك كذلك، وإنما أردت به صلة الرحم، ولعمري إنك اليوم وصول مما قد كان منك مما لا تثريب عليك فيه اليوم!
وأما قولك: إن أبي كان خلا لأبيك فقد كان ذلك وقد سبق فيه قول الأول:
وأما ما ذكرت أني لسان قريش وزعيمها وفقيهها، فإني لم أعط من ذلك شيئا إلا وقد أوتيته، غير أنك قد أبيت بشرفك وكرمك إلا أن تفضلني وقد سبق في ذلك قول الأول:
وأما ما ذكرت من عدوي عليك بصفين، فوالله لو لم أفعل ذلك لكنت من ألأم العالمين! أكانت نفسك تحدثك يا معاوية أني أخذل ابن عمي أمير المؤمنين وسيد المسلمين، قد حشد له المهاجرون والأنصار والمصطفون الأخيار؟ لم يا معاوية؟ أشك في ديني؟ أم حيرة في سجيتي؟ أم ضن بنفسي؟.
وأما ما ذكرت من خذلان عثمان، فقد خذله من كان أمس رحما به مني، ولي في الأقربين والأبعدين أسوة، وإني لم أعد عليه فيمن عدا، بل كففت عنه كما كف أهل المروات والحجى.
وأما ما ذكرت من سعي على عائشة، فإن الله تعالى أمرها أن تقر في بيتها وتحتجب بسترها، فلما كشفت جلباب الحياء وخالفت نبيها صلى الله عليه وآله وسعنا ما كان منا إليها.
وأما ما ذكرت من نفي زياد فإني لم أنفه، بل نفاه رسول الله صلى الله
فتكلم عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين، و الله ما أحبك ساعة قط، غير أنه قد أعطي لسانا ذربا فقلبه كيف شاء، وإن مثلك ومثله كما قال الأول ، وذكر بيت شعر، فقال ابن عباس: إن عمروا داخل بين العظم واللحم والعصاء واللحاء، وقد تكلم، فليستمع فقد وافق قرنا، أما والله يا عمرو، إني لأبغضك في الله وما اعتذر منه، إنك قمت خطيبا فقلت: أنا شانئ محمد، فأنزل الله عز وجل: " إن شانئك هو الأبتر " فأنت أبتر الدين و الدنيا، وأنت شانئ محمد في الجاهلية والإسلام، وقد قال الله تبارك وتعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " وقد حاددت الله ورسوله قديما وحديثا، ولقد جهدت على رسول الله جهدك وأجلبت عليه بخيلك ورجلك حتى إذا غلبك الله على أمرك ورد كيدك في نحرك وأوهن قوتك وأكذب أحدوثتك نزعت وأنت حسير. ثم كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيه من بعده، ليس بك في [ ذلك ] حب معاوية ولا آل معاوية إلا العداوة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف، و مثلك في ذلك كما قال الأول:
فتكلم عمرو بن العاص. فقطع عليه معاوية وقال: أما والله يا عمرو، ما أنت من رجاله، فإن شئت فقل وإن شئت فدع. فاغتنمها عمرو وسكت.
فقال ابن عباس: دعه يا معاوية، فوالله لأسمنه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة، تتحدث به الإماء والعبيد، ويتغنى به في المجالس، ويتحدث به في المحافل.
(54)
ابن عباس ومعاوية
سأل معاوية ابن عباس، قال: فما تقول في علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: علي أبو الحسن عليه السلام علي كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجى، ومحتد الندا، وطود النهى، وعلم الورى، ونورا في ظلمة الدجى، وداعيا إلى الحجة العظمى، ومستمسكا بالعروة الوثقى، وساميا إلى المجد والعلى، وقائد الدين والتقى، وسيد من تقمص وارتدى، بعل بنت المصطفى، وأفضل من صام وصلى، وأفخر من ضحك وبكى، صاحب القبلتين، فهل يساويه مخلوق كان أو يكون؟ (2).
(55)
ابن عباس مع رجل
عن سعيد بن مسيب، قال سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له ابن عباس: إن علي بن أبي طالب عليه السلام صلى القبلتين، وبايع البيعتين، ولم يعبد صنما ولا وثنا، ولم يضرب على رأسه بزكم ولا بقدح، ولد على الفطرة ولم يشرك بالله طرفة عين.
فقال الرجل: إني لم أسألك عن هذا، إنما أسألك عن حمله سيفه على
____________
(1) الخصال: ج 1 ص 211 - 215. والبحار: ج 44 ص 113 - 116.
(2) البحار: ج 44 ص 112 عن كتابي الفضائل والروضة.
فقال له ابن عباس: أعلي أعلم عندك أم أنا؟ فقال: لو كان علي عندي أعلم منك لما سألتك. قال: فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه، ثم قال:
ثكلتك أمك! علي علمني، وكان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله ورسول الله علمه الله من فوق عرشه، فعلم النبي صلى الله عليه وآله من الله، وعلم علي من النبي، وعلمي من علم علي، وعلم أصحاب محمد كلهم في علم علي كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر (1).
(56)
ابن عباس وعمرو بن العاص
قال نصر: إن معاوية لما يئس من جهة الأشعث قال لعمرو بن العاص:
إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن عباس، فلو ألقيت إليك كتابا لعلك ترققه به، فإنه إن قال شيئا لم يخرج علي منه، وقد أكلتنا الحرب، ولا أرانا نصل [ إلى ] العراق إلا بهلاك أهل الشام. قال له عمرو: إن ابن عباس لا يخدع، ولو طمعت فيه [ ل ] طمعت في علي. فقال معاوية: علي ذلك.
فكتب إليه عمرو: أما بعد، فإن الذي نحن وأنتم فيه، ليس بأول أمر قاده البلاء [ وساقته العافية خ ل ] وأنت رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما بقي ودع ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولكم حياة ولا صبرا، واعلموا أن الشام لا تملك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا يملك إلا بهلاك الشام، وما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم؟ وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا؟
____________
(1) أمالي الشيخ - رحمه الله - ج 1 ص 11 ط نجف.
وكتب في أسفل الكتاب:
قال: فلما فرغ من شعره عرضه على معاوية، فقال معاوية: لا أرى كتابك على رقة شعرك.
فلما قرأ ابن عباس الكتاب أتى به عليا فأقرأه شعره، فضحك وقال: قاتل الله ابن العاص، ما أغراه بك يا ابن عباس! أجبه، وليرد عليه شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر، فكتب ابن عباس إلى عمرو:
أما بعد، فإني لا أعلم رجلا من العرب أقل حياء منك! إنه مال بك معاوية إلى الهوى، وبعته دينك بالثمن اليسير، ثم خبطت بالناس في عشوة
وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي، ابتدأها علي بالحق وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف. وليس أهل العراق فيها كأهل الشام، بايع أهل العراق عليا وهو خير منهم، وبايع معاوية أهل الشام وهم خير منه. ولست أنا وأنت فيها بسواء، أردت الله، وأردت أنت مصر. وقد عرفت الشئ الذي باعدك مني، ولا أرى الشئ الذي قربك من معاوية، فإن ترد شرا لا نسبقك به، وإن ترد خيرا لا تسبقنا إليه [ والسلام ].
ثم دعا [ أخاه ] الفضل بن العباس، فقال: يا ابن أم، أجب عمرا. فقال الفضل:
ثم عرض الشعر والكتاب على علي، فقال: لا أراه يجيبك بشئ بعدها إن كان يعقل، ولعله يعود فتعود له.
فلما انتهى الكتاب إلى عمرو أتى به معاوية، فقال: أنت دعوتني إلى هذا، ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب فقال: إن قلب ابن عباس وقلب علي
وإن معاوية كان يكاتب ابن عباس، وكان يجيبه بقول لين، وذلك قبل أن يعظم الحرب. فلما قتل أهل الشام قال معاوية: إن ابن عباس رجل من قريش، وأنا كاتب إليه في عداوة بني هاشم لنا، وأخوفه عواقب هذه الحرب، لعله يكف عنا، فكتب إليه:
أما بعد، فإنكم - يا معشر بني هاشم - لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار عثمان بن عفان، حتى أنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه واستعظامهما ما ينل منه، فإن يكن ذلك لسلطان بني أمية فقد وليهما عدي وتيم [ فلم تنافسوهم ] وأظهرتم لهم الطاعة، وقد وقع من الأمر ما قد ترى، وأكلت هذه الحرب بعضها من بعض حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا أطمعنا فيكم، وما آيسكم منا آيسنا منكم وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا دون ما وقع، ولستم بملاقينا اليوم بأحد من حد أمس ولا غدا بأحد من حد اليوم. وقد قنعنا بما كان في أيدينا من ملك الشام، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق، وأبقوا على قريش، فإنما بقي من رجالها ستة: رجلان بالشام، ورجلان بالعراق، ورجلان بالحجاز، فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو، وأما اللذان بالعراق فأنت وعلي، وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر، واثنان من ستة ناصبان لك واثنان واقفان [ فيك ]. وأنت رأس هذا الجمع اليوم، ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع منا إلى علي. في كلام كثير كتب إليه.
فلما انتهى الكتاب إلى ابن عباس أسخطه، ثم قال: حتى متى يخطب [ ابن هند ] إلي عقلي؟ وحتى متى أجمجم على ما في نفسي؟ فكتب إليه:
أما بعد [ فقد أتاني كتابك وقرأته ] فأما ما ذكرت من سرعتنا [ إليك ]
وأما طلحة والزبير [ فإنهما أجلبا عليه وضيقا خناقه ثم خرجا ] ينقضان البيعة ويطلبان الملك، فقاتلناهما على النكث، وقاتلناك على البغي.
وأما قولك: إنه لم يبق من قريش غير ستة، فما أكثر رجالها! وأحسن بقيتها!
[ و ] قد قاتلك من خيارها من قاتلك لم يخذلنا إلا من خذلك.
وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم: فأبو بكر وعمر خير من عثمان، كما أن عثمان خير منك، وقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله ويخاف ما بعده.
وأما قولك: إنه لو بايع الناس لي لاستقامت لي، فقد بايع الناس عليا وهو خير مني فلم يستقيموا له، وإنما الخلافة لمن كانت له في المشورة.
وما أنت يا معاوية والخلافة؟ وأنت طليق وابن طليق [ والخلافة للمهاجرين الأولين وليس الطلقاء منها في شئ. والسلام ].
فلما انتهى الكتاب إلى معاوية، قال: هذا عملي بنفسي، لا والله! لا أكتب إليه كتابا سنة [ كاملة ] وقال معاوية في ذلك:
فلما قرأ ابن عباس الشعر قال: " لن أشتمك بعدها ".
وقال الفضل بن عباس:
فعرض شعره على علي، فقال: أنت أشعر قريش، فضرب بها الناس إلى معاوية (1).
(57)
ابن عباس وابن الزبير
تزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية، فلما دخل بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك؟ قالت: نعم عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى.
____________
(1) وقعة صفين: ص 410 - 417. والإمامة والسياسة: ج 1 ص 104. والغدير: ج 10 ص 325 عنه وعن ابن أبي الحديد: ج 2 ص 289 القديمة المصرية و ج 8 ص 63 - 67 الجديدة وفي العقد الفريد: ج 4 ص 13 نقل نبذا من كتاب عمرو إليه، ولكنه لم يشر إلى كونه كتابا وصرح بأنه كان بعد قتل علي - عليه السلام - وفي أنساب الأشراف ج 1 ص 307 - 309 نقل كتاب عمرو إليه وجوابه. وكذا في فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 249 - 259.
فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش، منهم: عبد الله بن العباس، و عبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال لهم ابن الزبير: أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلي، فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته. فقال ابن الزبير: يا هذه! اطرحي عليك سترك. فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة، فتغدى القوم، فلما فرغوا قال لهم: إنما جمعتكم لحديث ردته علي صاحبة الستر، وزعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقر لي بما قلت، وقد حضرتم جميعا. و أنت يا ابن عباس، ما تقول؟ إني أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد بل بمنزلة العينين من الرأس، فردت علي مقالتي.
فقال ابن عباس: أراك قصدت قصدي، فإن شئت أن أقول قلت، وإن شئت أن أكف كففت. قال: بل قل، وما عسى أن تقول؟.
ألست تعلم إني ابن الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وإن عمتي خديجة سيدة نساء العالمين، وإن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله جدتي، وإن عائشة أم المؤمنين خالتي، فهل تستطيع لهذا إنكارا؟.
قال ابن عباس: لقد ذكرت شرفا شريفا وفخرا فاخرا غير أنك تفاخر من لفخره فخرت وبفضله سموت. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك لم تذكر فخرا
قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة.
قال ابن عباس:
قد أنصف القارة من راماها
نشدتكم الله أيها الحاضرون! أ عبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش؟
قالوا: عبد المطلب قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم.
قال: أفعبد مناف أشرف أم عبد العزى؟ قالوا: عبد مناف.
فقال ابن عباس:
قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالفضل في قوله: " ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما " فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب، أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ إن قلت: نعم خصمت، وإن قلت: لا كفرت!
فضحك بعض القوم.
فقال ابن الزبير: أما والله، لولا تحرمك بطعامنا يا بن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك!
قال ابن عباس: ولم؟ أبباطل؟ فالباطل لا يغلب الحق أم بحق؟ فالحق لا يخشى من الباطل!
فقالت المرأة من وراء الستر: إني والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلا ما ترون!
فقال ابن عباس: مه أيتها المرأة! اقنعي ببعلك، فما أعظم الخطر! وما أكرم الخبر! فأخذ القوم بيد ابن عباس - وكان قد عمي - فقالوا: انهض يا أيها الرجل!
فقد أفحمته غير مرة، فنهض وقال:
فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا، أقبل علي، فما كنت لتدعني حتى أقول: وأيم الله، لقد عرف الأقوام: أني سابق غير مسبوق، وابن حواري وصديق متبجج في الشرف الأنيق خير من طليق!
فقال ابن عباس: دسعت بجرتك فلم تبق شيئا! هذا الكلام مردود من امرئ حسود، فإن كنت سابقا فإلى من سبقت؟ وإن كنت فاخرا فبمن فخرت؟
فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك، دون أسرتنا فالفخر لك علينا، وإن كنت إنما أدركت بأسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث في فمك ويديك. وأما ما ذكرت من الطليق، فوالله لقد ابتلي فصبر وأنعم عليه فشكر، وإن كان والله لوفيا كريما غير ناقض بيعة بد توكيدها ولا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها.
فقال ابن الزبير: أتعير الزبير بالجبن؟ والله إنك لتعلم منه خلاف ذلك.
قال ابن عباس: والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر، وحارب فما صبر، وبايع فما تمم، وقطع الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل.
فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة والمضاربة!.
فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث: أقمناه عنك يا ابن الزبير وتأبى إلا منازعته، والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلا كالسغب الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح، فلا يشبع من سغب ولا يروي من عطش، فقل إن شئت أو فدع. وانصرف القوم (1).
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 324 - 327.
(58)
الشريف المرتضى مع أبي العلاء
دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى - قدس الله روحه - فقال: أيها السيد، ما قولك في الكل؟ فقال السيد: ما قولك في الجزء؟ فقال: ما قولك في الشعرى؟ فقال: ما قولك في التدوير؟ قال: ما قولك في عدم الانتهاء؟ فقال:
ما قولك في التحيز والناعورة؟ فقال: ما قولك في السبع؟ فقال: ما قولك في الزائد البري من السبع؟ فقال: ما قولك في الأربع؟ فقال: ما قولك في الواحد والاثنين؟. فقال: ما قولك في المؤثر؟ فقال: ما قولك في المؤثرات؟ فقال:
ما قولك في النحسين؟ فقال: ما قولك في السعدين؟ فبهت أبو العلاء.
فقال السيد المرتضى رضي الله عنه عند ذلك: ألا كل ملحد ملهد. وقال أبو العلاء: من أين أخذته؟ قال: من كتاب الله " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " وقام وخرج. فقال السيد - رضي الله عنه: وقد غاب عنا الرجل وبعد هذا لا يرانا.
فسئل السيد - رضي الله عنه - عن شرح هذه الرموز والاشارات، فقال:
سألني عن الكل وعنده الكل قديم، ويشير بذلك إلى عالم سماه " العالم الكبير " فقال لي: ما قولك فيه؟ أراد أنه قديم، وأجبته عن ذلك وقلت له: ما قولك في الجزء؟ لأن عندهم الجزء محدث وهو متولد عن العالم الكبير، وهذا الجزء عندهم هو العالم الصغير، وكان مرادي بذلك: أنه إذا صح أن هذا العالم محدث فذلك الذي أشار إليه إن صح فهو محدث أيضا، لأن هذا من جنسه على زعمه والشي الواحد والجنس الواحد لا يكون بعضه قديما وبعضه محدثا، فسكت لما سمع ما قلته.
وأما الشعرى: أراد أنها ليست من الكواكب السيارة، فقلت له: ما قولك
وأما عدم الانتهاء: أراد بذلك أن العالم لا ينتهي لأنه قديم، فقلت له: قد صح عندي التحيز والتدوير، وكلاهما يدلان على الانتهاء.
وأما السبع: أراد بذلك النجوم السيارة التي هي عندهم ذوات الأحكام، فقلت له: هذا باطل بالزائد البري الذي يحكم فيه بحكم لا يكون ذلك الحكم منوطا بهذه النجوم السيارة التي هي: الزهرة والمشتري، والمريخ، وعطارد، والشمس، والقمر، وزحل.
وأما الأربع: أراد بها الطبايع، فقلت له: ما قولك في الطبيعة الواحدة النارية يتولد منها دابة بجلدها تمس الأيدي ثم يطرح ذلك الجلد على النار فيحترق الزهومات ويبقى الجلد صحيحا؟ لأن الدابة خلقها الله على طبيعة النار والنار لا تحرق النار، والثلج أيضا يتولد فيه الديدان، وهو على طبيعة واحدة، والماء في البحر على طبيعتين تتولد منه السموك والضفادع والحيات والسلاحف وغيرها. وعنده لا يحصل الحيوان إلا بالأربع، فهذا مناقض لهذا.
وأما المؤثر: أراد به الزحل، فقلت له: ما قولك في المؤثرات؟ أردت بذلك أن المؤثرات كلهن عنده مؤثرات، فالمؤثر القديم كيف يكون مؤثرا؟
وأما النحسين: أراد بهما أنهما من النجوم السيارة إذا اجتمعا يخرج من بينهما سعد، فقلت له: ما قولك في السعدين إذا اجتمعا خرج من بينهما النحس؟
هذا حكم أبطله الله تعالى ليعلم الناظر أن الأحكام لا تتعلق بالمسخرات، لأن الشاهد يشهد على أن العسل والسكر إذا اجتمعا لا يحصل منهما الحنظل والعلقم، والحنظل والعلقم إذا اجتمعا لا يحصل منهما الدبس والسكر، هذا دليل على بطلان قولهم.
وأما قولي: ألا كل ملحد ملهد: أردت أن كل مشرك ظالم، لأن في اللغة:
ألحد الرجل: إذا عدل عن الدين وألهد إذا ظلم، فعلم أبو العلاء ذلك، وأخبرني
(59)
أحمد بن السيار مع المفيد
قال السيد المرتضى - رضي الله عنه - في كتاب الفصول: اتفق للشيخ أبي عبد الله المفيد - رحمة الله عليه - اتفاق مع القاضي أبي بكر أحمد بن سيار في (دار السلام ب خ) دار الشريف أبي عبد الله محمد بن محمد بن طاهر الموسوي - رضي الله عنه، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على مائة إنسان، وفيهم أشراف من بني علي وبني العباس ومن وجوه الناس والتجار، حضروا في قضاء حق الشريف - رحمه الله، فجرى من جماعة من القوم خوض في ذكر النص على أمير المؤمنين عليه السلام، وتكلم الشيخ أبو عبد الله - في ذلك بكلام يسير على ما اقتضته الحال.
فقال له القاضي أبو بكر ابن سيار: خبرني ما النص في الحقيقة؟ وما معنى هذه اللفظة؟.
فقال الشيخ - أيده الله -: النص هو الإظهار والابانة، من ذلك قولهم: " فلان قد نص قلوصه " إذا أبانها بالسير وأبرزها من جملة الإبل، ولذلك سمي المفرش العالي منصة، لأن الجالس عليه يبين بالظهور من الجماعة، فلما أظهره المفرش سمي منصة - على ما ذكرناه - ومن ذلك أيضا قولهم: " قد نص فلان مذهبه " إذا أظهره وأبانه، ومنه قول الشاعر:
يريد: إذا أظهرته، وقد قيل: نصبته، والمعنى في هذا يرجع إلى الإظهار.
فأما هذه اللفظة: فإنها قد جعلت مستعملة في الشريعة على المعنى الذي قدمت.
____________
(1) البحار: ج 10 ص 406 - 408 والاحتجاج: ج 2 ص 329 - 336.
فقال القاضي: ما أحسن ما قلت! ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت فخبرني الآن إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام فقد أظهر فرض طاعته، وإذا أظهره استحال أن يكون مخفيا.
فما بالنا لا نعلمه إن كان الأمر على ما ذكرت في حد النص وحقيقته؟.
فقال الشيخ أيده الله: أما الإظهار من النبي صلى الله عليه وآله فقد وقع ولم يكن خافيا في حال ظهوره، وكل من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه ولا اشتبه عليه.
وأما سؤالك عن علة فقدك العلم به الآن وفي هذا الزمان: فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول الشبهة عليك في طريقه لعدولك عن وجه النظر في الدليل المفضي بك إلى حقيقته، ولو تأملت الحجة فيه بعين الإنصاف لعلمته، ولو كنت حاضرا في وقت إظهار النبي له صلى الله عليه وآله لما أخللت بعلمه، ولكن العلة في ذهابك عن اليقين فيه ما وصفناه.
فقال: وهل يجوز أن يظهر النبي صلى الله عليه وآله شيئا في زمانه فيخفي عمن ينشأ بعد وفاته حتى لا يعلمه إلا بنظر ثاقب واستدلال عليه؟ فقال الشيخ أيده الله تعالى: نعم يجوز ذلك، بل لا بد منه لمن غاب عن المقام في علم ما كان منه إلى النظر والاستدلال، وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار، لأنه من جملة الغائبات، غير أن الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض والظهور والصعوبة والسهولة على حسب الأسباب المعترضات في طرقه، وربما عرى طريق ذلك من سبب، فيعلم بيسير من الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار،
فقال: فإذا كان الأمر على ما وصفت، فما أنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قد نص على نبي آخر معه في زمانه أو نبي يقوم من بعده وأظهر ذلك وشهره على حد ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين عليه السلام فذهب عنا علم ذلك كما ذهب عنا علم النص وأسبابه؟.
فقال له الشيخ أيده الله تعالى: أنكرت ذلك من قبل أن العلم حاصل لي ولكل مقر بالشرع ومنكر له بكذب من ادعى ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله ولو كان ذلك حقا لما عم الجميع على بطلانه وكذب مدعيه ومضيفه إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولو تعرى بعض العقلاء من سامعي الأخبار عن علم ذلك لاحتجت في إفساده إلى تكلف دليل غير ما وصفت. لكن الذي ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره، فإن كان النص على الإمامة نظيره فيجب أن يعم العلم ببطلانه جميع سامعي الأخبار حتى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان وفي تنازع الأمة فيه واعتقاد جماعة صحته والعلم به واعتقاد جماعة بطلانه دليل على فرق ما بينه وبين ما عارضت به.
ثم قال له الشيخ أدام الله حراسته: ألا أنصف القاضي من نفسه والتزم
ما ألزمه خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به، ففصل بينه وبين خصومه في
قوله: إن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على رجم الزاني وفعله، وموضع قطع
السارق وفعله، وعلى صفة الطهارة والصلاة وحدود الصوم والحج والزكاة وفعل
ذلك، وبينه وكرره وشهره، ثم التنازع موجود في ذلك، وإنما يعلم الحق فيه
وما عليه العمل من غيره بضرب من الاستدلال، بل في قوله: إن انشقاق القمر
لرسول الله صلى الله عليه وآله كان ظاهرا في حياته ومشهورا في عصره وزمانه،
وقد أنكر ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من أهل الملل والملحدة، وزعموا أن