فقال له: ليس يشبه النص على أمير المؤمنين عليه السلام جميع ما ذكرت، لأن فرض النص عندك فرض عام، وما وقع فيه الاختلاف فيما قدمت فروض خاصة، ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف.
فقال الشيخ أيده الله: فقد انتقض الآن جميع ما اعتمدته وبان فساده، واحتجت في الاعتماد إلى غيره، وذلك أنك جعلت موجب العلم وسبب ارتفاع الخلاف ظهور الشئ في زمان ما واشتهاره بين الملأ، ولم تضم إلى ذلك غيره ولا شرطت فيه موصوفا سواه، فلما نقضناه عليك ووضح عندك دماره عدلت إلى التعلق بعموم الفرض وخصوصه، ولم يك هذا جاريا فيما سلف، والزيادة في الاعتلال انقطاع، والانتقال من اعتماد إلى اعتماد أيضا انقطاع، على أنه ما الذي يؤمنك أن ينص على نبي يحفظ شرعه؟ فيكون فرض العمل به خاصا في العبادة، كما كان الفرض فيما عددناه خاصا، فهل فيها من فصل يعقل؟ فلم يأت بشئ تجب حكايته (1).
(60)
زيد بن علي مع هشام
دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، فلم يجد موضعا يقعد فيه،
____________
(1) البحار: ج 10 ص 408 - 411.
قال له هشام: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة.
قال زيد: أما قولك: إني أحدث بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله. وأما قولك: إني ابن أمة، فهذا إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ابن أمة، من صلبه خير البشر محمد صلى الله عليه وآله، وإسحاق ابن حرة أخرج من صلبه القردة والخنازير وعبدة الطاغوت [ قال له: قم! قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره ] فلما خرج من عنده، قال: ما أحب أحد قط الحياة إلا ذل. قال له حاجبه: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وقال زيد بن علي:
ثم خرج وقتل (1).
(61)
شريك مع المهدي
دخل شريك يوما على المهدي، فقال له المهدي: بلغني أنك ولدت في قوصرة؟ فقال: ولدت يا أمير المؤمنين بخراسان، والقواصرة هناك عزيزة.
قال: وإني لأراك فاطميا خبيثا! قال: والله إني لأحب فاطمة وأبا
____________
(1) العقد الفريد: ج 1 ص 32. ونقل ابن أبي الحديد: ج 3 ص 285 - 286 قصة زيد بنحو آخر أطول مما نقلناه.
قال: والله أحبهما، ولكني رأيتك في منامي مصروفا وجهك عني، وما ذاك إلا لبغضك لنا، وما أراني إلا قاتلك لأنك زنديق. قال: يا أمير المؤمنين، إن الدماء لا تسفك بالأحلام، وليس رؤياك رؤيا يوسف النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قولك: بأني زنديق، فإن للزنادقة علامة يعرفون.
قال: وماهي؟ قال: بشرب الخمر والضرب بالطنبور.
قال: صدقت أبا عبد الله، وأنت خير من الذي حملني عليك (وهو الربيع صاحب شرطة المهدي) (1).
(62)
الحضين بن المنذر مع عبد الله بن مسلم
تزعم الرواة أن قتيبة بن مسلم لما افتتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله وإلى آلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يرى الناس عظيم ما افتتح الله عليه ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلالم.
فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل، والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير، فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: إئذن لي في معاتبته. قال: لا ترده، فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له وكان عبد الله يضعف وكان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين، فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل أسن عم من تسور الحيطان. قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها! قال: أجل ولا عيلان، ولو
____________
(1) العقد الفريد: ج 1 ص 37.
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول:
يريد يا خيبة من يخيب.
قال له أتعرف الذي يقول:
قال نعم: وأعرف الذي يقول:
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم أقرأ منه الأكثر الأطيب " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره!
قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، بل قال على رسله: وما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال: عبد الله بن مسلم.
فأقبل قتيبة على عبد الله فقال: لا يبعد الله غيرك.
والحضين هذا هو الحضين بن المنذر الرقاشي، ورقاش أمه، وهو من بني شيبان بن بكر بن وائل، وهو صاحب لواء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بصفين على ربيعة كلها، وله يقول علي بن أبي طالب:
(63)
عبد الله بن هاشم مع معاوية
لما قتل علي صلوات الله عليه كان في نفس معاوية من يوم صفين على هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص المرقال وولده عبد الله بن هاشم إحن، فلما استعمل معاوية زيادا على العراق كتب إليه:
أما بعد، فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة فشد يده إلى عنقه ثم ابعث به إلي.
فحمله زياد من البصرة مقيدا مغلولا إلى دمشق، وقد كان زياد طرقه بالليل في منزله بالبصرة. فأدخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو بن العاص: هل تعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا الذي يقول أبوه يوم صفين:
فقال عمرو متمثلا:
دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب! فاشخب أوداجه على أسباجه (2) ولا ترده إلى [ أهل ] العراق، فإنه لا يصبر عن النفاق، وهم أهل غدر وشقاق، وحرب
____________
(1) الكامل للمبرد: ج 2 ص 25. والعقد الفريد: ج ص 38 - 39. وابن أبي الحديد: ج 18 ص 152 وج 5 ص 33 عن الكامل للمبرد.
(2) " أثباجه ": (خ ل)، والسبجة: رداء.
فقال عبد الله: يا عمرو، إن أقتل فرجل أسلمه قومه وأدركه يومه، أفلا كان هذا منك، إذ تحيد عن القتال ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بسمال النطاف وعقائق الرصاف، كالأمة السوداء والنعجة القوداء، لا تدفع يد لامس؟!
فقال عمرو: أما والله، لقد وقعت في لهاذم شذقم للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتا من مخاليب أمير المؤمنين. فقال عبد الله: أما والله يا بن العاص!
إنك لبطر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غشوم إذا وليت، هيابة إذا لقيت، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك، لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشدة، أفلا كان هذا منك؟ إذا غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا ولم يمزقوا كبارا، لهم أيد شداد وألسنة حداد، يدعمون العوج ويذهبون الحرج، يكثرون القليل يشفون الغليل ويعزون الذليل.
فقال عمرو: أما والله، لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه وتبق أمعاؤه وتضطرب أطلاؤه، كأنما انطبق عليه صمد.
فقال عبد الله: يا عمرو، إنا قد بلوناك ومقالتك، فوجدنا لسانك كذوبا غادرا، خلوت بأقوام لا يعرفونك وجند لا يسأمونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ إليك عقلك وتلجلج لسانك ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله. فقال معاوية: إيها عنكما! وأمر بإطلاق عبد الله، فقال عمرو لمعاوية:
فقال عبد الله يجيبه:
فقال معاوية:
(64)
عبد الله بن هشام مع معاوية
حضر عبد الله بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية، فقال معاوية: من يخبرني عن الجود والنجدة والمروءة؟ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، أما الجود: فابتذال المال والعطية قبل السؤال، وأما النجدة: فالجرأة على الأقوام (الإقدام خ ل) والصبر عند ازورار الإقدام، وأما المروءة فالصلاح في الدين والاصلاح للمال
____________
(1) مروج الذهب: ج 3 ص 17 - 19. والعقد الفريد: ج 3 ص 18 - 19. وابن أبي الحديد: ج 8 ص 8 - 10 نقله المؤرخ الشهير " سپهر " في الناسخ بنحو يخالف ما نقلناه فراجعه. ج 5 ص 135 - 143 ونقله نصر في وقعة صفين ص 348 - 349 ط مصر. وفتوح ابن أعثم ج 3 ص 204 - 207.
(65)
بعض الشيعة مع خصمه
روى الشيخ المفيد: أنه قال بعض الشيعة لبعض الناصبة في محاورته له في فضل آل محمد صلى الله عليه وآله: أرأيت لو بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله أين ترى كان يحط رحله وثقله؟ قال: فقال له الناصب: كان يحط في أهله وولده. قال: فقال له الشيعي: فإني قد حططت هواي حيث يحط رسول الله صلى الله عليه وآله رحله وثقله (2).
(66)
المفيد مع الكتبي
ومن كلام الشيخ (المفيد) أدام الله كفايته في إبطال إمامة أبي بكر من جهة الإجماع سأل المعروف بالكتبي فقال له: ما الدليل على فساد إمامة أبي بكر؟ فقال له: الدلالة على ذلك كثيرة، فأنا أذكر لك منها دليلا يقرب من فهمك، وهو أن الأمة مجتمعة على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام، وقد أجمعت الأمة على أن أبا بكر قال على المنبر: " وليتكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني " فاعترف بحاجته إلى رعيته وفقره إليهم في تدبيره، ولا خلاف بين ذوي العقول أن من أحتاج إلى رعيته فهو إلى الإمام أحوج، وإذا ثبت حاجة أبي بكر إلى الإمام بطلت إمامته بالإجماع المنعقد على أن الإمام لا يحتاج إلى الإمام. فلم يدر الكتبي بم يعترض.
وكان بالحضرة من المعتزلة رجل يعرف بعرزالة، فقال: ما أنكرت على من قال لك أن الأمة أيضا مجتمعة يعلى أن القاضي لا يحتاج إلى قاض والأمير لا يحتاج
____________
(1) مروج الذهب: ج 3 ص 19 - 20 في نسخة دار الهجرة ص 10 - 11.
(1) البحار: ج 10 ص 411.
فقال له الشيخ: إن سكوت الأول أحسن من كلامك هذا، وما كنت أظن أنه يذهب عليك الخطأ في هذا الفصل، أو تحمل نفسك عليه مع العلم بوهنه، وذلك أنه لا إجماع في ما ذكرت، بل الإجماع في ضده، لأن الأمة متفقة على أن القاضي الذي هو دون الإمام يحتاج إلى قاض هو الإمام، وذلك يسقط ما تعلقت به، اللهم إلا أن تكون أشرت بالأمير والقاضي إلى نفس الإمام، فهو كما وصفت غير محتاج إلى قاض يتقدمه أو أمير عليه، وإنما استغنى عن ذلك لعصمته وكماله، فأين موضوع إلزامك عافاك الله! فلم يأت لشئ (1).
(67)
المفيد مع الشوطي من المعتزلة
ومن كلام الشيخ (المفيد) أدام الله نعماه أيضا: سأله رجل من المعتزلة يعرف بأبي عمرو الشوطي، فقال له: أليس قد اجتمعت الأمة على أن أبا بكر وعمر كان ظاهرهما الإسلام؟ فقال له الشيخ: نعم قد أجمعوا على أنهما كانا على ظاهر الإسلام زمانا، فأما أن يكونوا مجمعين على أنهما كانا في سائر أحوالهما على ظاهر الإسلام فليس في هذا إجماع، لاتفاق أنهما كانا على الشرك، ولوجود طائفة كثيرة العدد تقول: إنهما كانا بعد إظهارهما الإسلام على ظاهر كفر بجحد النص وأنه قد كان يظهر منهما النفاق في حياة النبي صلى الله عليه وآله فقال الشوطي: قد بطل ما أردت أن أورده على هذا السؤال بما أوردت، وكنت أظن أنك تطلق القول على ما سألتك.
فقال له الشيخ: قد سمعت ما عندي، وقد علمت ما الذي أردت فلم أمكنك منه، ولكني أنا أضطرك إلى الوقوع فيما ظننت أنك توقع خصمك فيه:
____________
(1) البحار: ج 10 ص 411 - 412.
فقال له الشيخ: فإن الأمة مجتمعة لا خلاف بينها على أن عمر بن الخطاب قال: ما شككت منذ أسلمت إلا يوم قاضي رسول الله صلى الله عليه وآله أهل مكة، فإني جئت إليه، فقلت له: يا رسول الله، ألست بنبي؟ فقال: بلى، فقلت: ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، فقلت له: فعلام تعطي هذه الدنية من نفسك؟ فقال: إنها ليست بدنية ولكنها خير لك! فقلت له: أفليس وعدتنا أنك تدخل مكة؟ قال: بلى، قلت: فمنا بالنا لا ندخلها؟ قال: وعدتك أن تدخلها العام؟ قلت: لا، قال: فستدخلها إن شاء الله تعالى، فاعترف بشكه في دين الله عز وجل ونبوة رسوله، وذكر مواضع شكوكه وبين عن جهاتها، وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد حصل الإجماع على كفره بعد إظهار الإيمان واعترافه بموجب ذلك على نفسه. ثم ادعى خصوم (خصومنا خ ل) من الناصبة أنه تيقن بعد الشك ورجع إلى الإيمان بعد الكفر، فأطرحنا قولهم لعدم البرهان منهم، واعتمدنا على الإجماع فيما ذكرناه.
فلم يأت بشئ أكثر من أن قال: ما كنت أظن أحدا يدعي الإجماع على كفر عمر بن الخطاب حتى الآن! فقال الشيخ: فالآن قد علمت ذلك وتحققته، ولعمري، إن هذا مما لم يسبقني إلى استخراجه أحد! فإن كان عندك شئ فأورده. فلم يأت بشئ (1).
(68)
المفيد مع الورثاني
ومن كلام الشيخ أدام الله علوه أيضا: حضر في دار الشريف أبي عبد الله
____________
(1) البحار: ج 10 ص 412 - 414.
فقال له الشيخ: بلى كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: فما تصنع في قول الله عز وجل: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله "؟
أليس قد أمره الله تعالى بالاستعانة بهم في الرأي وأفقره إليهم، فكيف يصح لك ما ادعيت مع ظاهر القرآن وما فعله النبي - صلى الله عليه وآله؟!
فقال الشيخ: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يشاور أصحابه لفقر منه إلى رأيهم ولا حاجة دعته إلى مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت، بل لأمر آخر إنا نذكره لك بعد الايضاح عما خبرتك به، وذلك: أنا قد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان معصوما من الكبائر، وإن خالفت أنت في عصمته من الصغائر، وكان أكمل الخلق باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأيا وأوفرهم عقلا وأحكمهم تدبيرا، وكانت المواد (1) بينه وبين الله تعالى متصلة، والملائكة تتواتر عليه بالتوقيف (2) عن الله سبحانه والتهذيب والأنباء له عن المصالح، وإذا كان بهذه الصفات لم يصح أن يدعوه داع إلى اقتباس الرأي من رعيته، لأنه ليس أحد منهم إلا وهو دونه في سائر ما عددناه، وإنما يستشير الحكيم غيره على طريق الاستفادة والاستعانة برأيه إذا تيقن أنه أحسن رأيا منه وأجود تدبيرا وأكمل عقلا، أو ظن ذلك، فأما إذا أحاط علما بأنه دونه فيما وصفناه لم يكن لاستعانته في تدبيره برأيه معنى، لأن الكامل لا يفتقر إلى الناقص فيما يحتاج فيه إلى الكمال، كما لا يفتقر العالم إلى الجاهل فيما يحتاج فيه إلى العلم، والآية ينبه
____________
(1) كذا في النسخ، والظاهر أنها " الموادة ".
(2) " باتوفيق ": (خ ل).
وأما وجه دعائه لهم إلى المشورة عليه صلوات الله عليه فإن الله عز وجل أمره بتألفهم بمشورتهم وتعلمهم ما يصنعونه عند عزماتهم ليتأدبوا بأدب الله عز وجل، فاستشارهم لذلك، لا لحاجة إلى رأيهم.
على أن هاهنا وجها آخر بينا: وهو أن الله سبحانه أعلمه أن في أمته من يبتغي له الغوائل ويتربص له الدوائر ويسر خلافه ويبطن مقته ويسعى في هدم أمره وينافقه (1) في دينه ولم يعرفه أعيانهم ولا دله عليهم بأسمائهم، فقال جل جلاله:
" ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " وقال جل اسمه: " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يريكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون "، وقال تبارك اسمه: " يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " وقال تعالى: " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون " وقال عز وجل: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون " وقال جل جلاله: " ولا يأتون الصلاة إلا كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " وقال تبارك وتعالى: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " وقال سبحانه بعد
____________
(1) " ويناقضه ": (خ ل).
فدل عليهم بمقالهم وجعل الطريق له إلى معرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن قولهم، ثم أمره بمشورتهم ليصل ما يظهر منهم إلى علم باطنهم، فإن الناصح تبدو نصيحته في مشورته، والغاش المنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم صلى الله عليه وآله لذلك، ولأن الله جل جلاله جعل مشورتهم الطريق إلى معرفتهم، ألا ترى أنهم لما أشاروا ببدر عليه صلى الله عليه وآله في الأسرى، فصدرت مشورتهم عن نيات مشوبة في نصيحته، كشف الله ذلك له وذمهم عليه وأبان عن إدغالهم فيه، فقال جل اسمه: " ما كان للنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " فوجه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم وأبان لرسوله صلى الله عليه وآله عن حالهم، فيعلم أن المشورة لهم لم يكن للفقر إلى رأيهم، ولكن كانت لما ذكرناه.
فقال شيخ من القوم يعرف بالجراحي وكان حاضرا يا سبحان الله! أترى أن أبا بكر وعمر كانا من أهل النفاق؟ كلاما نظنك أيدك الله تطلق هذا!
وما رأينا صلى الله عليه وآله استشار ببدر غيرهما، فإن كانا هما من المنافقين فهذا ما لا نصبر عليه ولا نقوى على استماعه، وإن لم يكونا من جملة أهل النفاق، فاعتمد على الوجه الأول، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله أراد أن يتألفهم بالمشورة ويعلمهم كيف يصنعون في أمورهم.
فقال له الشيخ أدام الله نعماءه: ليس هذا من الحجاج أيها الشيخ في شئ، وإنما هو استكبار واستعظام معدول به عن الحجة والبرهان، ولم نذكر إنسانا بعينه وإنما أتينا بمجمل من القول ففصله الشيخ وكان غنيا عن تفصيله.
وصاح الورثاني وأعلى صوته بالصياح يقول: الصحابة أجل قدرا من أن
فقال له الشيخ أيده الله: دع عنك الضجيج وتخلص مما أوردته عليك من البرهان واحتل لنفسك وللقوم، فقد بان الحق وزهق الباطل بأهون سعي، والحمد لله رب العالمين (1).
(69)
المفيد في جواب المعتزلة والحشوية
ومن كلام الشيخ - أدام الله تأييده - أيضا: سأله بعض أصحابه فقال له:
إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله صلى الله عليه وآله في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف، لأنهما كانا مع النبي صلى الله عليه وآله في مستقرة يدبران الأمر معه صلى الله عليه وآله، ولو لا أنهما أفضل الخلق عنده ما اختصهما بالجلوس معه، فبأي شئ تدفع هذا؟.
فقال له الشيخ: سبيل هذا القول أن يعكس، وهذه القضية أن تقلب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لو علم أنهما لو كانا من جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص الكتاب، حيث يقول الله سبحانه: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " فلما رأينا الرسول صلى الله عليه
____________
(1) البحار: ج 10 ص 414 - 417.
فأما ما توهموه: من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما، فقد ثبت أنه كان كاملا وكانا ناقصين عن كماله، وكان صلى الله عليه وآله معصوما وكانا غير معصومين، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا عمي القلوب وضعف الرأي وقلة الدين؟!
والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرته آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش قول الله سبحانه: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والفرقان " فلو يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين، فقد اشترى الله عز وجل أنفسهما منهما بالجنة على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما، ولو كان ذلك كذلك لما حال النبي بينهما وبين الوفاء بشرط الله عليهما من القتال، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليها ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه، والمنة لله تعالى (1).
____________
(1) البحار: ج 10 ص 417 - 418.
(70)
المفيد مع الخياط
وقال الشيخ أدام الله عزه: قال أبو الحسين الخياط جاءني رجل من أصحاب الإمامة عن رئيس لهم زعم أنه أمره أن يسألني عن قول النبي صلى الله عليه وآله لأبي بكر: " لا تحزن " إطاعة خوف أبي بكر أم معصية؟ قال: فإن كان طاعة فقد نهاه عن الطاعة وإن كان معصية فقد عصى أبو بكر.
قال: فقلت له: دع الجواب اليوم ولكن ارجع إليه واسأله عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام " لا تخف " أيخلو خوف موسى عليه السلام من أن يكون طاعة أم معصية؟ فإن يك طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن يك معصية فقد عصى موسى عليه السلام.
قال: فمضى ثم عاد إلي، فقلت: رجعت إليه؟ قال: نعم، فقلت له:
ما قال؟ قال: قال لي: لا تجلس إليه.
قال الشيخ أدام الله عزه: ولست أدري صحة هذه الحكاية، ولا أبعد أن يكون من تخرص الخياط. ولو كان صادقا في قوله: إن رئيسا من الشيعة أنفذ مسألة عن هذا السؤال لما قصر الرئيس عن إسقاط ما أورده من الاعتراض ويقوى في النفس أن الخياط أراد تقبيح أهل الإمامة في تخرص هذه الحكاية، غير أني أقول له ولأصحابه:
الفصل بين الأمرين واضح، وذلك أني لو خليت وظاهر قوله تعالى لموسى عليه السلام: " لا تخف " وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: " لا يحزنك قولهم " وما أشبه هذا مما توجه إلى الأنبياء - عليهم السلام - لقطعت على أنه نهي عن قبيح يستحقون عليه الذم، لأن في ظاهره حقيقة النهي من قوله: " لا تفعل " كما أن في ظاهر خلافه ومقابله في الكلام حقيقة الأمر إذا قال له: " افعل "
ويكشف عن صحة ما ذكرناه ما تقدم به مشايخنا رحمهم الله وهو: أن الله سبحانه لم ينزل السكينة قط على نبيه صلى الله عليه وآله في موطن كان معه فيه أحد من أهل الإيمان إلا عمهم بنزول السكينة وشملهم بها، بذلك جاء القرآن، قال الله سبحانه: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " ولما لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار إلا أبو بكر أفرد الله سبحانه نبيه بالسكينة دونه وخصه بها ولم يشركه معه، فقال عز اسمه: " فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها " فلو كان الرجل مؤمنا لجرى مجرى المؤمنين في عموم السكينة لهم.
ولو لا أنه أحدث بحزنه في الغار منكرا لأجله توجه النهي إليه عن استدامته لما حرمه الله تعالى من السكينة ما تفضل به على غيره من المؤمنين الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في المواطن الأخر على ما جاء في القرآن ونطق به محكم الذكر بالبيان، وهذا بين لمن تأمله.
قال الشيخ أيده الله: وقد حير هذا الكلام جماعة من الناصبة وضيق صدورهم فتشعبوا واختلفوا في الحيلة في التخلص منه، فما أعتمد منهم أحد إلا
إن السكينة إنما نزلت على أبي بكر، واعتلوا في ذلك بأنه كان خائفا رعبا، ورسول الله صلى الله عليه وآله كان آمنا مطمئنا، قالوا: والآمن غني عن السكينة، وإنما يحتاج الخائف الوجل.
قال الشيخ أيده الله: فيقال لهم: قد جنيتم بجهلكم على أنفسكم بطعنكم في كتاب الله بهذا الضعيف الواهي من استدلالكم، وذلك أنه لو كان ما اعتللتم به صحيحا لوجب أن لا تكون السكينة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم بدر ولا في يوم حنين، لأنه لم يك صلى الله عليه وآله في هذين الموضعين خائفا ولا جزعا، بل كان آمنا مطمئنا متيقنا بكون الفتح له، وأن الله تعالى يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وفيما نطق به القرآن من تنزيل السكينة عليه ما يدمر على هذا الاعتلال.
فإن قلتم: إن النبي صلى الله عليه وآله كان في هذين المقامين خائفا وإن لم يبد خوفه فلذلك نزلت السكينة عليه فيهما وحملتم أنفسكم على هذه الدعوى، قلنا لكم: وهذه كانت قصته صلى الله عليه وآله في الغار، فلم تدفعون ذلك؟.
فإن قلتم: إنه - صلى الله عليه وآله - قد كان محتاجا إلى السكينة في كل حال لينتفي عنه الخوف والجزع ولا يتعلقان به في شئ من الأحوال، نقضتم ما سلف لكم من الاعتلال وشهدتم ببطلان مقالكم الذي قدمناه. على أن نص التلاوة يدل على خلاف ما ذكرتموه، وذلك أن الله سبحانه قال: " فأنزل الله سكينته عليه وأيده. بجنود لم تروها " فأنبأ الله عز وجل خلقه أن الذي نزلت عليه السكينة هو المؤيد بالملائكة، وإذا كانت " الهاء " التي في التأييد تدل على ما دلت عليه " الهاء " التي في نزول السكينة، وكانت " هاء " الكناية من مبتدأ قوله: " إلا تنصروه فقد نصره الله " إلى قوله: " وأيده بجنود لم تروها " عن مكنى واحد ولم يجز أن تكون عن اثنين غيرين، كما لا يجوز أن يقول القائل: لقيت
وقال قوم منهم: إن السكينة وإن اختص بها النبي صلى الله عليه وآله فليس يدل ذلك على نقص الرجل، لأن السكينة إنما يحتاج إليها الرئيس المتبوع دون التابع.
فيقال لهم: هذا رد على الله سبحانه، لأنه قد أنزلها على الأتباع المرؤوسين ببدر وحنين وغيرهما من المقامات، فيجب على ما أصلتموه أن يكون الله سبحانه فعل بهم ما لم يكن بهم الحاجة إليه، ولو فعل ذلك لكان عابثا، تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا!.
قال الشيخ أدام الله عزه: وها هنا شبهة يمكن إيرادها هي أقوى مما تقدم، غير أن القوم لم يهتدوا إليها، وأظن أنها خطرت ببال أحد منهم، وهو أن يقول قائل: قد وجدنا الله سبحانه ذكر شيئين، ثم عبر عن أحدهما بالكناية، فكانت الكناية عنهما معا دون أن يختص بأحدهما، وهو مثل قوله سبحانه: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " فأورد لفظ الكناية عن الفضة خاصة وإنما أرادهما جميعا معا، وقد قال الشاعر:
وإنما أراد نحن بما عندنا راضون وأنت راض بما عندك، فذكر أحد الأمرين فاستغنى عن الآخر، كذلك يقول سبحانه: " فأنزل الله سكينته عليه " ويريدهما جميعا دون أحدهما.
والجواب عن هذا وبالله التوفيق أن الاختصار بالكناية على أحد
المذكورين دون عموم الجميع مجاز واستعارة، واستعمله أهل اللسان في مواضع