الصفحة 141
مخصوصة، وجاء به القرآن في أماكن محصورة، وقد ثبت أن الاستعارة ليست بأصل يجري في الكلام، ولا يصح عليها القياس، وليس يجوز لنا أن نعدل عن ظواهر القرآن وحقيقة الكلام إلا بدليل يلجئ إلى ذلك، ولا دليل في قوله تعالى: " فأنزل الله سكينته عليه " فنتعدى من أجله المكنى عنه إلى غيره.

وشئ آخر: وهو أن العرب إنما تستعمل ذلك إذا كان المعنى فيه معروفا والالتباس عنه مرتفعا، فتكتفي بلفظ الواحد عن الاثنين للاختصار ولأمانها من وقوع الشبهة والارتياب، فأما إذا لم يكن الشئ معروفا وكان الالتباس عند أفراده متوهما لم يستعمل ذلك، ومن استعمله كان عندهم ملغزا معميا، ألا ترى أن الله سبحانه لما قال: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها " علم كل سامع للخطاب أنه أرادهما معا مع ما قدمه من كراهة كنزهما المانع من إنفاقهما؟ فلما عم الشيئين بذكر ينتظمهما في ظاهر المقال بما يدل على معنى ما أخره من ذكر الإنفاق اكتفى بذكر أحدهما للاختصار.

وكذلك قوله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " وإنما اكتفى بالكناية عن أحدهما في ذكرهما معا لما قدمه في ذكرهما من دليل ما تضمنه الدلالة، فقال تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ". فأوقع الرؤية على الشيئين جميعا، وجعلهما سببا للاشتغال بما وقعت عليه منهما عن ذكر الله سبحانه والصلاة، وليس يجوز أن يقع الالتباس في أنه أراد أحدهما مع ما قدم من الذكر، إذ لو أراد ذلك لخلا الكلام عن الفائدة المعقولة، وكان العلم بذلك يجزي في الإشارة إليه.

وكذلك قوله سبحانه: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " لما تقدم ذكر الله تعالى على التفصيل وذكر رسوله صلى الله عليه وآله على البيان، دل على أن الحق في الرضا لهما جميعا، وإلا لم يكن ذكرهما جميعا معا يفيد شيئا على الحد الذي قدمناه.


الصفحة 142
وكذلك قول الشاعر: " وأنت بما عندك راض والأمر مختلف " لو لم يتقدمه قبله " نحن بما عندنا " لم يجز الاقتصار على الثاني، لأنه لو حمل الأول على إسقاط المضمر من قوله: " راضون " لخلا من الفائدة، فلما كان سائر ما ذكرناه معلوما عند من عقل الخطاب جاز الاقتصار فيه على أحد المذكورين للايجاز والاختصار.

وليس كذلك قوله تعالى: " فأنزل الله سكينته عليه " لأن الكلام يتم فيها وينتظم في وقوع الكناية عن النبي صلى الله عليه وآله خاصة دون الكائن معه في الغار، ولا يفتقر إلى رد " الهاء " عليهما معا مع كونهما في الحقيقة كناية عن واحد في الذكر وظاهر اللسان، ولو أرادها للجميع لحصل الالتباس والتعمية والألغاز، لأنه كما يكون اللبس واقعا عند دليل الكلام على انتظامهما للجميع متى أريد بها الواحد مع عدم الفائدة لو لم يرجع على الجميع كذلك يكون التلبيس حاصلا إذا أريد بها الجميع عند عدم الدليل الموجب لذلك، وكمال الفائدة مع الاقتصار على الواحد في المراد، ألا ترى أن قائلا لو قال: " لقيت زيدا ومعه عمرو فخاطبت زيدا وناظرته " وأراد بذلك مناظرة الجميع لكان ملغزا معميا؟ لأنه لم يكن في كلامه ما يفتقر إلى عموم الكناية عنهما.

ولو جعل هذا نظير الآيات التي تقدمت لكان جاهلا بفرق ما بينها وبينه مما شرحناه، فتعلم أنه لا نسبة بين الأمرين.

وشئ آخر: وهو أنه سبحانه كنى بالهاء التالية للهاء التي في السكينة عن النبي صلى الله عليه وآله خاصة، فلم يجز أن يكون أراد بالاولة غير النبي صلى الله عليه وآله لأنه لا يعقل في لسان القوم كناية عن مذكورين بلفظ واحد، وكناية ترد فيها على النسق عن واحد من الاثنين، وليس لذلك نظير في القرآن ولا في الأشعار ولا في شئ من الكلام فلما كانت " الهاء " في قوله تعالى:

" وأيده بجنود لم تروها " كناية عن النبي صلى الله عليه وآله بالاتفاق، ثبت

الصفحة 143
أن التي قبلها من قوله: " فأنزل الله سكينته عليه " كناية عنه صلى الله عليه وآله خاصة، وبان مفارقة ذلك لجميع ما تقدم ذكره من الآي والشعر الذي استشهد. والله الموفق للصواب (1).

(71)
المفيد مع من يذهب مذهب الكرابيسي

ومن كلام الشيخ أدام الله عزه قال: قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي: ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال، وذلك أنهم زعموا أن قول الله عز وجل: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام مع ما في ظاهر الآية أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وذلك أنك إذا تأملت الآية من أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة، ولن تجد لمن ادعوها له ذكرا.

قال الشيخ أدام الله عزه: أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج ودفع ما عليه الإجماع والاتفاق، وذلك: أنه لا خلاف بين الأمة أن الآية من القرآن قد تأتي وأولها في شئ وآخرها في غيره ووسطها في معنى وأولها في سواه، وليس طريق الاتفاق في المعنى إحاطة وصف الكلام في الآتي، فقد نقل الموافق والمخالف أن هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة - رضي الله عنها - ورسول الله صلى الله عليه وآله في البيت ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقد جللهم بعباء خيبرية، وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي " فأنزل الله عز وجل عليه " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فتلاها

____________

(1) البحار: ج 10 ص 418 - 424.

الصفحة 144
رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله ألست من أهل بيتك؟ فقال لها: " إنك إلى خير " ولم يقل لها: " إنك من أهل بيتي " حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الآية، قال: سلوا عنها عائشة، فقالت عائشة: إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة، فسلوها عنها، فإنها أعلم بها مني، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة وأصحاب الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه.

وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم، مع أن الله سبحانه قد دل على صحة ذلك بمتضمن هذه الآية حيث يقول: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " وإذهاب الرجس لا يكون إلا بالعصمة من الذنوب، لأن الذنوب من أرجس الرجس، والخبر عن الإرادة ها هنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون الإرادة التي يكون بها لفظ الأمر أمرا، لا سيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة وافترق بين الخبر عن الإرادة هاهنا والخبر عن الإرادة في قوله سبحانه:

" يريد الله ليبين لكم " وقوله: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى، إذ الإرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها، فلما خص الله تبارك وتعالى أهل البيت عليهم السلام بإرادة ذهاب الرجس عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم، وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه.

وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن.

مع أن من عرف شيئا من اللسان وأصله لم يرتكب هذا القول ولا توهم صحته، وذلك: أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع

الصفحة 145
المؤنث بالنون، وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ولا وضع علامة المذكر على المؤنث، ولا استعملوا ذلك في الحقيقة والمجاز، ولما وجدنا الله سبحانه قد بدأ في هذه الآية بخطاب النساء وأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن، فقال: " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " إلى قوله:

" وأطعن الله ورسوله " ثم عدل الكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر، فقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذه القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها، ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج، فقال:

" واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ".

فدل بذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد عليهم السلام بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة وجليل الفضيلة.

وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل غير النساء أو ذكر ليس برجل، فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذ كان في الجمع ذكر، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج، فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه (1).

(72)
المفيد يستدل على الإمامة

ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا في الدلالة على أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وتسليمه لم يبايع أبا بكر قال الشيخ: قد اجتمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن بيعة أبي بكر، فالمقلل يقول: كان تأخره

____________

(1) البحار: ج 10 ص 424 - 427.

الصفحة 146
ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: تأخر حتى ماتت فاطمة عليها السلام ثم بايع بعد موتها، ومنهم من يقول: تأخر أربعين يوما، ومنهم من يقول: تأخر ستة أشهر، والمحققون من أهل الإمامة يقولون: لم يبايع ساعة قط، فقد حصل الإجماع على تأخره عن البيعة، ثم اختلفوا في بيعته بعد ذلك على ما قدمنا به الشرح.

فما يدل على أنه لم يبايع البتة: أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالا، أو يكون ضلالا وتركه هدى وصوابا، أو يكون صوابا وتركه صوابا، أو يكون خطأ وتركه خطأ.

فلو كان التأخر ضلالا وباطلا لكان أمير المؤمنين عليه السلام قد ضل بعد النبي صلى الله عليه وآله بترك الهدى الذي كان يجب عليه المصير إليه، وقد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقع منه ضلال بد النبي صلى الله عليه وآله في طول زمان أبي بكر وأيام عمرو عثمان وصدرا من أيامه حتى خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة، فبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالا.

وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا، فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال، ولا سيما والإجماع واقع على أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدموا عليه.

ومحال أو يكون التأخر خطأ وتركه خطأ، للإجماع على بطلان ذلك أيضا، ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.

وليس يصح أن يكون صوابا وتركه صوابا، لأن الحق لا يكون في جهتين ولا على وصفين متضادين، ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسألة مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جوار الاختيار وصحة إمامة أبي بكر، وإنما الناس بين قائلين: قائل من الشيعة يقول: إن إمامة أبي بكر كانت فاسدة فلا يصح القول

الصفحة 147
بها أبدا، وقائل من الناصبة يقول: إنها كانت صحيحة ولم يكن على أحد ريب في صوابها، إذ جهة استحقاق الإمامة هو ظاهر العدالة والنسب والعلم والقدرة على القيام بالأمور، ولم تكن هذه الأمور ملتبسة على أحد في أبي بكر عندهم، وعلى ما يذهبون إليه فلا يصح مع ذلك أن يكون المتأخر عن بيعته مصيبا أبدا، لا أنه لا يكون متأخرا لفقد الدليل، بل لا يكون متأخرا لشبهة، وإنما يتأخر إذا ثبت أنه تأخر للعناد.

فثبت بما بيناه أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع أبا بكر على شئ من الوجوه، كما ذكرناه وقدمناه.

وقد كانت الناصبة غافلة عن هذا الاستخراج مع موافقتها على أن أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن البيعة وقتا ما، ولو فطنت له لسبقت بالخلاف فيه عن الإجماع، وما أبعد أنهم سيرتكبون ذلك إذا وقفوا على هذا الكلام، غير أن الإجماع السابق لمرتكب ذلك يحجه ويسقط قوله، فيهون قصته، ولا يحتاج معه إلى الإكثار. (1)

(73)
ابن عباس مع عمر بن الخطاب

قال (عمر) لعبد الله بن عباس يوما: يا عبد الله، ما تقول في منع قومكم منكم؟ قال: لا أعلم يا أمير المؤمنين، قال: اللهم غفرا! إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتذهبون في السماء بذخا وشمخا. لعلكم تقولون:

إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم وهضمكم، كلا! لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل، و لولا رأي أبي بكر في بعد موته لأعاد أمركم إليكم، ولو فعل

____________

(1) البحار: ج 10، ص 427، والفصول المختارة: ص 39 ط المؤتمر.

الصفحة 148
ما هنأكم مع قومكم! إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره. (1)

(74)
ابن عباس مع عمر

عن ابن عباس، قال: مر عمر بعلي وعنده ابن عباس بفناء داره، فسلم، فسألاه أين تريد؟ فقال: مالي بينبع، قال علي: أفلا نصل جناحك ونقوم معك؟ فقال: بلى، فقال لابن عباس: قم معه، قال: فشبك أصابعه في أصابعي ومضى حتى إذا خلفنا البقيع، قال: يا ابن عباس، أما والله، أن صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله، إلا أنا خفناه على اثنتين، قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بدأ معه من مسألته عنه، فقلت:

يا أمير المؤمنين، ماهما؟ قال: خشيناه على حداثة سنه وحبه بني عبد المطلب (2).

(75)
ابن عباس وعمر

عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال: تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر، فسار كل واحد مع إلفه، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته، فشكا إلي تخلف علي عنه، فقلت: ألم يعتذر إليك؟ قال: بلى، فقلت: هو ما اعتذر به؟ قال: يا ابن عباس، إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة، قلت: لم ذاك يا أمير المؤمنين؟ ألم ننلهم خيرا؟ قال: بلى، ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا (3).

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 189. والبحار: ج 8 ص 292 ط الكمباني.

(2) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 57.

(3) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 58.

الصفحة 149

(76)
ابن عباس وعمر

كان عبد الله بن عباس عند عمر، فتنفس عمر نفسا عاليا، قال ابن عباس:

حتى ظننت أن أضلاعه قد انفرجت! فقلت له: ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد، قال: إي والله يا ابن عباس! إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي. ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها أهلا! قلت:

وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة، قلت: فأين أنت من طلحة؟ قال: هو ذو البأو بإصبعه المقطوعة، قلت: فعبد الرحمن؟ قال: رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه بيد امرأته، قلت: فالزبير؟ قال شكس لقس يلاطم في البقيع في صاع من بر، قلت: فسعد ابن أبي وقاص؟ قال: صاحب مقنب وسلاح، قلت:

فعثمان؟ قال: أوه! أوه! مرارا، ثم قال: والله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ثم لتنهضن إليه العرب فتقتله.

ثم قال: يا ابن عباس، إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا حصيف العقدة قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم، يكون شديدا من غير عنف، لينا من غير ضعف، جوادا من غير سرف، ممسكا من غير وكف. قال ابن عباس: وكانت هذه صفات عمر، ثم أقبل علي فقال: إن أحراهم أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك! والله لئن وليها ليحملنهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم (1).

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 326، وج 12 ص 51 - 52 / 142.

الصفحة 150

(77)
ابن عباس وعمر

روى ابن عباس - رض - قال: دخلت على عمر في أول خلافته... قال من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت ابن عمك؟

فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلفته يلعب مع أترابه، قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.

قال: يا عبد الله! عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟... قلت: نعم، وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق.

فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام! لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله أني علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم (1).

(78)
ابن عباس وعمر

روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس، قال: إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة، إذ قال لي: يا ابن عباس،

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 21 - 22 عن تاريخ بغداد والبحار: ج 8 ص 266 ط الكمباني عنه وص 292 عنه وعن تاريخ بغداد.

الصفحة 151
ما أرى صاحبك إلا مظلوما! فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها، فقلت:

يا أمير المؤمنين، فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة، ثم وقف، فلحقته، فقال: يا ابن عباس، ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه، فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، فقلت: والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك، فأعرض عني وأسرع، فرجعت عنه (1).

(79)
ابن عباس وعمر

عن عبد الله بن عباس قال: خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا حمارا وقد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان.... قال: يا ابن عباس، إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به، فليتني أراكم بعدي!

قلت: يا أمير المؤمنين، إن صاحبنا ما قد علمت أنه ما غير ولا بدل ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وآله أيام صحبته له.

قال: فقطع علي الكلام، فقال: ولا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها على فاطمة عليها السلام؟ قلت: قال الله تعالى: " ولم نجد له عزما " وصاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه، وربما كان من الفقيه في دين الله العالم العامل بأمر الله.

فقال: يا ابن عباس، من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 46، وفي الهامش: عن الرياض النضرة: ج 2 ص 173. وفي ج 6 ص 45. والبحار: ج 40 ص 125

الصفحة 152
قعرها فقد ظن عجزا! أستغفر الله لي ولك، خذ في غيرها (1).

(80)
عبد الله بن عباس وعمر

روى عبد الله بن عمر قال: كنت عند أبي يوما وعنده نفر من الناس، فجرى ذكر الشعر، فقال: من أشعر العرب؟ فقالوا: فلان وفلان، فطلع عبد الله بن عباس فسلم وجلس. فقال عمر: قد جاءكم الخبير، من أشعر الناس يا عبد الله؟ قال: زهير بن أبي سلمى. قال: فأنشدني مما تستجيده له، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان، فقال:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا * مرزؤون بهاليل إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعم * لا ينزع الله منهم ما له حسدوا

فقال عمر: والله لقد أحسن، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم، لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله فقال ابن عباس:

وفقك الله يا أمير المؤمنين، فلم تزل موفقا.

فقال: يا ابن عباس! أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: لكني أدري، قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فيجخفوا جخفا، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.

فقال ابن عباس: أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟ قال: قل ما تشاء.

قال: أما قول أمير المؤمنين: " إن قريشا كرهت " فإن الله تعالى قال لقوم:

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 50 - 51. وج 6 ص 50.

الصفحة 153
" ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ".

وأما قولك: " إنا كنا نجخف " فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال الله تعالى:

" وإنك لعلى خلق عظيم " وقال له: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ".

وأما قولك: " فإن قريشا اختارت " فإن الله تعالى يقول: " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " وقد علمت يا أمير المؤمنين! إن الله اختار من خلقه لذلك من اختار فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها وفقت وأصابت قريش.

فقال عمر: على رسلك يا ابن عباس، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول وحقدا عليها لا يحول.

فقال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين! لا تنسب هاشما إلى الغش، فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ".

وأما قولك: " حقدا " فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره؟.

فقال عمر: أما أنت يا بن عباس! فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي. قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به، فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به.

قال: بلغني أنك لا تزال تقول: أخذ هذا الأمر منك حسدا وظلما.

قال: أما قولك يا أمير المؤمنين: " حسدا " فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسود. وأما قولك: " ظلما " فأمير المؤمنين يعلم صاحب

الصفحة 154
الحق من هو.

ثم قال: يا أمير المؤمنين، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله؟

واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلى الله عليه وآله؟

فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.

فقال له عمر: قم الآن فارجع إلى منزلك. فقام، فلما ولى هتف به عمر أيها المنصرف، إني على ما كان منك لراع حقك، فالتفت ابن عباس، فقال:

إن لي عليك - يا أمير المؤمنين - وعلى كل المسلمين حقا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن حفظه فحق نفسه حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع، ثم مضى.

فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس! ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه (1).

(81)
ابن عباس وعمر

روي عن ابن عباس أيضا قال: " دخلت على عمر يوما، فقال: يا ابن العباس، لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء! قلت: ومن هو؟ فقال:

هذا ابن عمك، يعني عليا، قلت: وما يقصد بالرياء يا أمير المؤمنين؟ قال: يرشح نفسه بين الناس للخلافة. قلت: وما يصنع بالترشيح؟ فقد رشحه لها رسول الله صلى الله عليه وآله فصرفت عنه. قال: إنه كان شابا حدثا فاستصغرت العرب سنه وقد كمل الآن، ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين؟. قلت: يا أمير المؤمنين، أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 52 - 54. والإيضاح: ص 169 - 170. والبحار ج 8 ط الكمباني ص 292 عن ابن الأثير وابن أبي الحديد.

الصفحة 155
كاملا منذ رفع الله منار الإسلام، ولكنهم يعدونه محروما مجدودا. فقال: أما إنه سيليها بعد هياط ومياط، ثم تزل فيها قدمه ولا يقضي منها إربه، ولتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله، ثم يتبين الصبح لذي عينين، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء، فليتني أراكم بعدي يا عبد الله، إن الحرص محرمة وإن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا (1).

(82)
ابن عباس وعمر

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس، فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: أم والله يا بني عبد المطلب، لقد كان صاحبكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلتك، فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين، وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتما (وانتزعتم خ ل) منا الأمر دون الناس! فقال: إليكم يا بني عبد المطلب! أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب، فتأخرت وتقدم هنيئة، فقال: سر لا سرت، فقال: أعد علي كلامك فقلت: إنما شيئا فرددت جوابه، ولو سكت سكتنا.

فقال: والله إنا ما فعلنا ما فعلنا عداوة، ولكن استصغرناه وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها، فأردت أن أقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله بيعته في الكتيبة فينطح كبشها فلم يستصغره، فتستصغره أنت وصاحبك! فقام لا جرم، فكيف ترى؟ والله ما نقطع أمرا دونه ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه (2).

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 80 - 81.

(2) البحار: ج 8 ص 209 ط الكمباني عن شف.

الصفحة 156

(83)
ابن عباس وعثمان

نزل عثمان من المنبر - بعد أن خطب في جواب المعترضين عليه في بناء داره بالمدينة وكلامه مع أمير المؤمنين - فأتى منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس، فلما أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس، فقال: ما لي ولكم يا ابن عباس؟

ما غراكم بي وأولعكم بتعقب أمري! أتنقمون علي أمر العامة؟ أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم؟ فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم. لا والله، لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن، والله لقد ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلي ذلك، وأخبرني به عن أهله واحدا واحدا، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب.

فقال ابن عباس: على رسلك يا أمير المؤمنين، فوالله ما عهدتك جهرا بسرك ولا مظهرا ما في نفسك، فما الذي هيجك وثورك؟ إنا لم يولعنا بك أمر ولم نتعقب أمرك بشئ أتيت بالكذب وتسوق عليك بالباطل، والله ما نقمنا عليك لنا ولا للعامة قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم وقضيت ما يلزمك لنا ولهم. فأما الحسد والبغي وتثوير الفتن وإحياء الشر فمتى رضيت به عترة النبي وأهل بيته؟ وكيف وهم منه وإليه؟ على دين الله يتثورون الشر، أم على الله يحبون الفتن؟ كلا، ليس البغي ولا الحسد من طباعهم، فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك وأمسك عليك، فإن حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى، لعمري إن كنت لأثيرا عند رسول الله وإن كان ليفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك، ولا كذبت ولا أنت بمكذوب، اخس الشيطان عنك لا يركبك، وأغلب غضبك ولا يغلبك، فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك؟

قال: دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب! فقال ابن عباس: وعسى أن يكذب مبلغك، قال عثمان: إنه ثقة، قال ابن عباس: إنه ليس بثقة من

الصفحة 157
بلغ وأغرى، قال عثمان: يا ابن عباس، آلله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه؟ قال: اللهم لا، إلا أن يقول كما يقول الناس وينقم كما ينقمون، فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟ فقال عثمان: إنما آفتي من أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الأمر، وهو علي ابن عمك وهذا والله كله من نكده وشؤمه! قال ابن عباس: مهلا، استثن يا أمير المؤمنين، قل: إن شاء الله، فقال:

إن شاء الله.

ثم قال: إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام والرحم، فقد غلبت وابتليت بكم، والله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني وكنت أحد أعوانكم عليه، إذا والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي، ولقد علمت أن الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فوالله ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه؟.

قال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدوا وتشمت بنا وبك حسودا، إن أمرك إليك ما كان قولا، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك، وإنا والله لنخالفن إن خولفنا ولننازعن إن نوزعنا وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا. فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله علمته، فالله بيننا وبين قومنا. وأما قولك: إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا، وإنا لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل إلا بفضلنا، ولا سبق سابق إلا بسبقنا، ولولا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى ولا قصدوا من جور.

فقال عثمان: حتى متى يا ابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني؟ هبوني كنت بعيدا، أما كان لي من الحق عليكم أن أراقب وأن أناظر؟ بلى ورب الكعبة!


الصفحة 158
ولكن الفرقة سهلت لكم القول في وتقدمت بكم إلى الإسراع إلي. والله المستعان.

قال ابن عباس: مهلا حتى ألقى عليا ثم أحمل إليك على قدر ما رأى.

قال عثمان: أفعل فقد فعلت، وطالما طلبت فلا أطلب، ولا أجاب ولا أعتب... (1).

(84)
ابن عباس وعثمان

روى الزبير بن بكار أيضا في الموفقيات عن ابن عباس - رحمه الله - قال:

خرجت من منزلي سحرا أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة، فسمعت خلفي حسا وكلاما فتسمعته، فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أن أحدا يسمعه، ويقول: اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم وتعلم الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي، فأصلحني لهم وأصلحهم لي.

قال: فقصرت من خطوتي وأسرع في مشيته، فالتقينا، فسلم فرددت عليه ، فقال: إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد، فقلت:

إنه أخرجني ما أخرجك. فقال: والله لئن سابقت إلى الخير إنك لمن سابقين مباركين، وإني لأحبكم وأتقرب إلى الله بحبكم. فقلت: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، إنا لنحبك ونعرف سابقتك وسنك وقرابتك وصهرك. قال:

يا ابن عباس، فما لي ولابن عمك وابن خالي؟ قلت: أي بني عمومتي وبني أخوالك؟ قال: اللهم اغفر، أتسأل مسألة الجاهل؟ قلت: إن بني عمومتي من بني خؤلتك كثير، فأيهم تعني؟ قال: أعني عليا لا غيره. فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم منه إلا خيرا، ولا أعرف له إلا حسنا. قال: والله

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 8 - 10 عن الموفقيات للزبير بن بكار.

الصفحة 159
بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك ويقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك.

قال: ورمينا بعمار بن ياسر، فسلم، فرددت عليه سلامه. ثم قال: من معك؟ قلت: أمير المؤمنين عثمان. قال: نعم، وسلم بكنيته ولم يسلم عليه بالخلافة، فرد عليه. ثم قال عمار: ما الذي كنتم فيه؟ فقد سمعت ذروا منه، قلت: هو ما سمعت، فقال عمار: رب مظلوم غافل وظالم متجاهل! قال عثمان: أما إنك من شنائنا وأتباعهم، وأيم الله إن اليد عليك لمنبسطة وإن السبيل إليك لسهلة، ولولا إيثار العافية ولم الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى وتمنع ما بقي.

فقال عمار: والله! ما أعتذر من حبي عليا، وما اليد بمنبسطة ولا السبيل بسهلة، إني لازم حجة ومقيم على سنة، وأما إيثارك العافية ولم الشعث فلازم ذلك، وأما زجري فأمسك عنه، فقد كفاك معلمي تعليمي.

فقال عثمان: أما والله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه، الخذلة عند الخير والمثبطين عنه.

فقال عمار: مهلا يا عثمان! فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يصفني بغير ذلك.

قال عثمان: ومتى؟ قال: دخلت يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة وليس عنده غيرك، وقد ألقى ثيابه وقعد في فضله، فقبلت صدره ونحره وجبهته فقال: " يا عمار، إنك لتحبنا وإنا لنحبك، وإنك لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر " فقال عثمان: أجل، ولكنك غيرت وبدلت. قال: فرفع عمار يده يدعو، وقال أمن يا بن عباس! اللهم من غير فغير به، ثلاث مرات... (1).

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 10 - 11.

الصفحة 160

(85)
ابن عباس وعثمان

روى الزبير أيضا في الموفقيات عن ابن عباس - رحمه الله - قال صليت العصر يوما ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده! فأتيته إجلالا وتوقيرا لمكانه. فقال لي: هل رأيت عليا؟ قلت:

خلقته في المسجد، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله. قال: أما منزله فليس فيه فابغه لنا في المسجد.

فتوجهنا إلى المسجد وإذا علي عليه السلام يخرج منه. قال ابن عباس: وقد كنت أمس ذلك اليوم عند علي، فذكر عثمان وتجرمه عليه، وقال: أما والله يا ابن عباس، إن من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه، فقلت له: يرحمك الله، كيف لك بهذا؟ فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال: أعتل وأعتل فمن يقسرني؟ قال: لا أحد.

قال ابن عباس: فلما تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من التفلت والطلب للانصراف ما استبان لعثمان، فنظر إلي عثمان وقال: يا بن عباس، أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟ فقلت: ولم؟ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم. فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فرد عليه. فقال عثمان: إن تدخل فإياك أردنا وإن تمض فإياك طلبنا. فقال علي: أي ذلك أحببت. قال:

تدخل، فدخلا، وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها، فجلس عثمان إلى جانبه، فنكصت عنهما، فدعواني جميعا فأتيتهما، فحمد عثمان الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال:

أما بعد، يا بني خالي وابني عمي، فإذ جمعتكما في النداء فسأجمعكما في الشكاية عن رضاي على أحدكما ووجدي على الآخر، إني أستعذركما من