قال ابن عباس: فأطرق علي عليه السلام وأطرقت معه طويلا. أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله، وأما هو فأراد أن أجيب عني وعنه. ثم قلت له أتتكلم أم أتكلم أنا عنه؟ قال: بل تكلم عني وعنك.
فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسوله، ثم قلت:
أما بعد، يا بن عمنا وعمتنا، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك - زعمت - عن أحدنا ووجدك على الآخر، وسنفعل في ذلك فنذمك ونحمدك اقتداء منك بفعلك فينا، فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظنا، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك، ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا، ونستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا، فإنا معا أيما حمدت وذممت منا كمثلك في أمر نفسك، ليس بيننا فرق ولا اختلاف، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله، فوالله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا وبينك، ولا تعرفنا غير قانتين عليك، ولا تجدنا غير راجعين إليك، فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.
وأما قولك: لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما، فأين بنا وبك عن ذلك؟ ونحن وأنت كما قال أخو كنانة:
وأما قولك في هيج العدو وإياك علينا وإغرائه لك بنا، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئا إلا وقد أتانا بأعظم منه فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم. وما أبقيت أنت ونحن إلا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا. ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.
وأما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننظوي عليه لك، فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك ولا يقبل منه غيره، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به وقد برأت أحدنا وزكيته وأنطقت الآخر وأسكته، وليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البرئ فيما ذكرت، ولا البرئ منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت، فإما جمعتنا في الرضا، وإما جمعتنا في السخط، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع. فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا وصدقناك، والصدق كما ذكرت أنجى وأسلم فأجب إلى ما دعوت إليه، وأجلل عن النقض والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وموضع قبره، وأصدق تنج وتسلم.
ونستغفر الله لنا ولك... (1).
(86)
ابن عباس ومعاوية
روى المدائني أيضا قال: وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة، فقال معاوية لابنه يزيد ولزياد بن سمية وعتبة ابن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص و عبد الرحمن ابن أم
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 18 - 20.
ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس، فلما دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان، فقال: يا ابن عباس، ما منع عليا أن يوجه بك حكما؟ فقال: أما والله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل يوجع كفه مراسها، ولأذهلت عقله، وأجرضته بريقه، وقدحت في سويداء قلبه، فلم يبرم أمرا ولم ينفض ترابا إلا كنت منه بمرأى ومسمع، فإن أنكأه أدميت قواه، وإن أدمه فصمت عراه بغرب مقول لا يفل حده، وأصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه، أصدع به أديمه، وأفل به شباحده، وأشحذ به عزائم المتقين، وأزيح به شبه الشاكين.
فقال عمرو بن العاص: هذا والله - يا أمير المؤمنين - نجوم أول الشر وأفول آخر الخير، وفي حسمه قطع مادته، فبادره بالحملة، وانتهز منه الفرصة، واردع بالتنكيل به غيره، وشرد به من خلفه.
فقال ابن عباس: يا ابن النابغة، ضل والله عقلك، وسفه حلمك، ونطق الشيطان على لسانك، هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين، حين دعيت نزال وتكافح الأبطال وكثرت الجراح وتقصفت الرماح، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا، فلما رأيت الكواشر من الموت أعددت حيلة السلامة قبل لقائه والانكفاء عنه بعد إجابة لقائه فمنحته - رجاء النجاة - عورتك! وكشفت له خوف بأسه سوأتك! حذرا أن يصطلمك بسطوته ويلتهمك بحملته، ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته وحسنت له التعرض لمكافحته، رجاء أن تكتفي مؤنته وتعدم صورته، فعلم غل صدرك وما انحنت
فاكفف غرب لسانك، واقمع عوراء لفظك، فإنك لمن أسد خادر وبحر زاخر، إن تبرزت للأسد افترسك، وإن عمت في البحر قمسك.
فقال مروان بن الحكم: يا ابن عباس، إنك لتصرف أنيابك وتوري نارك كأنك ترجو الغلبة وتؤمل العافية، ولولا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله، فأوردكم منهلا بعيدا صدره، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقه منكم، ولئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب إلى ذلك.
فقال ابن عباس: وإنك لتقول ذلك يا عدو الله، وطريد رسول الله، والمباح دمه، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه! أما والله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أولة وآخره.
وأما قولك لي: إنك لتصرف أنيابك وتوري نارك، فسل معاوية وعمرا يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلاث، واستخفافنا بالمعضلات، وصدق جلادنا عند المصاولة، وصبرنا على اللاواء والمطاولة، ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة، ومباشرتنا بنحورنا حد الأسنة! هل خمنا عن كرائم تلك المواقف؟ أم لم نبذل مهجنا للمتالف؟ وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود، ولا يوم مشهود، ولا أثر معدود، وإنهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك، فأربع على ضلعك، ولا تتعرض لما ليس لك، فإنك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل ولا يرقى بيد.
فقال زياد: يا ابن عباس، إني لأعلم ما منع حسنا وحسينا من الوفود معك على أمير المؤمنين، إلا ما سولت لهما أنفسهما، وغرهما به من هو عند البأس سلمهما، وأيم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ولقل بمكانهما لبثهما.
فقال عبد الرحمن ابن أم الحكم: لله در ابن ملجم! فقد بلغ الأمل، وأمن الوجل، وأحد الشفرة وألان المهرة، وأدرك الثأر، ونفى العار، وفاز بالمنزلة العليا، ورقى الدرجة القصوى.
فقال ابن عباس: أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده، وعجل الله إلى النار بروحه، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه الفحل القطم والسيف الخذم ولألعقه صابا، وسقاه سما، وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة، فكلهم كان أشد منه شكيمة، وأمضى عزيمة، ففرى السيف هامهم ورملهم بدمائهم، وقرى الذئاب أشلاءهم، وفرق بينهم وبين أحبائهم " أولئك حصب جهنم هم لها واردون " فهل " تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " ولا غرو إن ختل، ولا وصمة إن قتل، فأنا لكما قال دريد بن الصمة:
فقال المغيرة بن شعبة: أما والله لقد أشرت على علي بالنصيحة فآثر رأيه ومضى على غلوائه، فكانت العاقبة عليه، لا له، وإني لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه.
فقال ابن عباس: كان والله أمير المؤمنين عليه السلام أعلم بوجوه الرأي
فقال يزيد بن معاوية: يا ابن عباس، إنك لتنطلق بلسان طلق تنبئ عن مكنون قلب حرق، فاطو ما أنت عليه كشحا، فقد محي ضوء حقنا ظلمة باطلكم.
فقال ابن عباس: مهلا يزيد! فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنك، ولا رضيت اليوم منكم ما سخطت الأمس من أفعالكم، وإن تدل الأيام نستقض ما سد عنا ونسترجع ما ابتز منا كيلا بكيل ووزنا بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليا لنا ووكيلا على المعتدين علينا.
فقال معاوية: إن في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم! وإني لخليق أن أدرك فيكم الثار وأنفي العار، فإن دماءنا قبلكم وظلا متنا فيكم.
فقال ابن عباس: والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسدا مخدرة وأفاعي مطرقة، لا يفثؤها كثرة السلاح، ولا يعضها نكاية الجراح، يضعون أسيافهم على عواتقهم، يضربون قدما قدما من ناوأهم، يهون عليهم نباح الكلاب وعواء الذئاب، لا يفاتون بوتر، ولا يسبقون إلى كريم ذكر، قد وطنوا على الموت أنفسهم وسمت بهم إلى العلياء هممهم كما قالت الأزدية:
فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم وبذلوا دونك مهجهم حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار رفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها، لكنت شلوا مطروحا بالعراء تسفي عليك رياحها ويعتورك ذبابها.
وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك، ولا إزالتك عن معقود نيتك، لكن الرحم التي تعطف عليك والأوامر التي توجب صرف النصيحة إليك.
فقال: معاوية لله درك يا ابن عباس! ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف صقيل ورأي أصيل، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم، ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم.
ثم نهض، فقام ابن عباس وانصرف (1).
(87)
ابن عباس وعتبة بن أبي سفيان
قال عمرو بن العاص لعتبة ابن أبي سفيان يوم الحكمين: أما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه؟ ولو قدر أن يتكلم بهما فعل! وإن غفلة أصحابه لمجبورة بفطنته، وهي ساعتنا الطولى فاكفنيه. قال عتبة: بجهدي.
قال: فقمت فقعدت إلى جانبه، فلما أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه بالحديث فقرع يدي وقال: ليست ساعة حديث، قال: فأظهرت غضبا وقلت:
يا ابن عباس، إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا، وقد والله تقدم.
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 298 - 303. والبحار: ج 42 ص 166 عنه.
قال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر [ قال كعب لابن عباس: ما تقول في الطيرة؟ قال: وما عسيت أن أقول فيها: لا طير إلا طير الله، ولا خير إلا خير الله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال كعب: إن هذه الكلمات في كتاب الله المنزل، يعني التوارة ] (2).
(88)
ابن عباس وعائشة
بعث علي عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة.
قال: فأتيتها فدخلت عليها، فلم يوضع لي شئ أجلس عليه، فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها، فقالت: با ابن عباس، أخطأت السنة قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا! فقلت: ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك.
ثم قلت: إن أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى المدينة، فقالت:
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 303 - 304. ونقل ج 2 ص 261 هذه القصة بينه وبين عبد الرحمان بن خالد، وسيأتي.
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 1 ص 146.
قال: فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب. ثم قالت: إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله تعالى والله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم فيه! قلت: ولم ذلك؟ فوالله لقد جعلناك للمؤمنين أما وجعلنا أباك صديقا.
قالت: يا ابن عباس، أتمن علي برسول لله؟ قلت: ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به علي!.
ثم أتيت عليا عليه السلام فأخبرته بقولها وقولي فسر بذلك وقال لي: " ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " وفي رواية: أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك (1).
(89)
ابن عباس ومعاوية
قال المدائني: قال معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم! فقال عبد الله: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم! وقال له معاوية: ما أبين الشبق في رجالكم! فقال: هو في نسائكم أبين! (2).
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 229. وسيأتي عن الكشي رحمه الله (2) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 2 ص 210.
(90)
ابن عباس ورجل
خطب رجل إلى ابن عباس يتيمة له، فقال ابن عباس: لا أرضاها لك، قال: ولم وفي حجرك نشأت؟ قال لأنها تتشرف وتنظر، قال: وما هذا، فقال ابن عباس: الآن لا أرضاك لها (1).
(91)
بنو هاشم ومعاوية
روى الهيثم عن ابن عياش عن الشعبي: قال: أقبل معاوية ذات يوم على بني هاشم، فقال: يا بني هاشم، ألا تحدثوني عن ادعائكم الخلافة دون قريش. بم تكون لكم؟ أبالرضا بكم، أم بالاجتماع عليكم دون القرابة، أم بالقرابة دون الجماعة، أم بهما جميعا؟ فإن كان هذا الأمر بالرضا والجماعة دون القرابة فلا أرى القرابة أثبتت حقا ولا أسست ملكا. وإن كان بالقرابة دون الجماعة والرضا فما منع العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وارثه وساقي الحجيج وضامن الأيتام أن يطلبها وقد ضمن له أبو سفيان بني عبد مناف؟ وإن كانت الخلافة بالرضا والجماعة والقرابة جميعا فإن القرابة خصلة من خصال الإمامة لا تكون الإمامة بها وحدها وأنتم تدعونها بها وحدها.
ولكنا نقول: أحق قريش بها من بسط الناس أيديهم إليه بالبيعة عليها ونقلوا أقدامهم إليه للرغبة وطارت إليه أهواؤهم للثقة وقاتل عنها بحقها فأدركها من وجهها. إن أمركم لأمر تضيق به الصدور إذا سألتم عمن اجتمع عليه من غيركم قلتم حق، فإن كانوا اجتمعوا على حق فقد أخرجكم الحق من دعواكم.
____________
(1) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 4 ص 16.
فقال ابن عباس: ندعي هذا الأمر بحق من لولا حقه لم تقعد مقعدك هذا.
ونقول: كان ترك الناس أن يرضوا بنا ويجتمعوا علينا حقا ضيعوه وحظا حرموه، وقد اجتمعوا على ذي فضل لم يخطئ الورد والصدر، ولا ينقص فضل ذي فضل فضل غيره عليه، قال الله عز وجل " ويؤت كل ذي فضل فضله ".
فأما الذي منعنا من طلب هذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعهد منه إلينا قبلنا فيه قوله ودنا بتأويله، ولو أمرنا أن نأخذه على الوجه الذي نهانا عنه لأخذناه أو أعذرنا فيه، ولا يعاب أحد على ترك حقه، إنما المعيب من يطلب ما ليس له، وكل صواب نافع وليس كل خطأ ضارا. انتهت القضية إلى داود وسليمان فلم يفهمها داود وفهمها سليمان، ولم يضر داود.
فأما القرابة: فقد نفعت المشرك وهي للمؤمن أنفع، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت عمي وصنو أبي، ومن أبغض العباس فقد أبغضني، وهجرتك آخر الهجرة، كما أن نبوتي آخر النبوة " وقال لأبي طالب عند موته:
" يا عم، قل لا إله إلا الله أشفع لك بها غدا " وليس ذلك لأحد من الناس، قال الله تعالى: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما " (1).
(92)
ابن عباس ومعاوية
حدثني أحد الهاشميين أن ملك الروم وجه إلى معاوية بقارورة، فقال:
____________
(1) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 1 ص 5.
(93)
ابن عباس والخوارج
ذكر أهل العلم من غير وجه: أن عليا رضي الله تعالى عنه لما وجه إليهم عبد الله بن عباس رحمة الله عليه ليناظرهم، قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين " قالوا: قد كان للمؤمنين أميرا، فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد إقراره بالكفر نعدله، فقال ابن عباس: لا ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه شك أن يقر على نفسه بالكفر. قالوا: إنه قد حكم، قال: إن الله عز وجل: قد أمرنا بالتحكيم في قتل صيد، فقال عز وجل: " يحكم به ذوا عدل منكم " فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا: إنه قد حكم عليه فلم يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض: لا تجعلوا احتجاج قريش حجة عليكم، فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل فيهم:
" بل هم قوم خصمون " وقال عز وجل: " وتنذر به قوما لدا " (2).
(94)
ابن عباس والخوارج
وجه (أمير المؤمنين عليه السلام) إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها قرحة لطول السجود وأيديا كثفنات الإبل
____________
(1) الكامل للمبرد: ج 1 ص 308.
(2) الكامل للمبرد: ج 2 ص 106 وابن أبي الحديد: ج 2 ص 273.
فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس؟ فقال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربه وسنة نبيه ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيما حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا.
فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتكم أنفسكم، أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم.
فقال: أنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا: نعم، ولكن عليا محا نفسه من إمارة المسلمين. قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه، وقد محا رسول الله صلى الله عليه وآله اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين أن لا يجورا وأن يحورا، فعلي أولى من معاوية وغيره.
قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي. قال: فأيهم رأيتموه أولى فولوه.
قالوا: صدقت. قال ابن عباس: متى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فأتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف (1).
(95)
ابن عباس والخوارج
أقول: قصة مجادلة ابن عباس مع الخوارج بأمر من أمير المؤمنين عليه السلام توجد في الطبري: ج 6 ص 3351. وأنساب الأشراف: ج 1 ص 348 - 354 - 360. وابن أبي الحديد: ج 2 ص 273 - - 278 - 310. واليعقوبي:
____________
(1) الكامل للمبرد: ج 2 ص 134.
قال البلاذري: حدثني عبد الله بن صالح، عن يحيى بن آدم، عن رجل، عن مجالد عن الشعبي، قال: بعث علي عبد الله بن عباس إلى الحرورية، فقال:
يا قوم، ماذا نقمتم على أمير المؤمنين؟ قالوا: ثلاثا: حكم الرجال في دين الله، وقاتل فلم يسب ولم يغنم، ومحا من اسمه حين كتبوا القضية أمير المؤمنين واقتصر على اسمه. فقال عبد الله بن عباس:
أما قولكم: حكم الرجال فإن الله قد صير حكمه إلى الرجال في أرنب ثمنه ربع درهم وما أشبه ذلك يصيبه المحرم، وفي المرأة وزوجها، فنشدتكم الله أحكم الرجال في بضع المرأة وأرنب بربع درهم أفضل أم حكمه في صلاح المسلمين وحقن دمائهم؟ قالوا: بل هذا.
قال: وأما قولكم: [ قاتل ] ولم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة بنت أبي بكر الصديق؟ قالوا: لا.
قال: وأما قولكم: محا من اسمه إمرة المؤمنين، فإن المشركين يوم الحديبية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: لو علمنا أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: امح يا علي واكتب محمد بن عبد الله، ورسول الله خير من علي.
فرجع منهم ألفان (1).
(96)
ابن عباس والخوارج
وقال: وبعث عبد الله بن عباس إلى الخوارج وهم معتزلون بحروراء وبها
____________
(1) أنساب الأشراف: ج 2 ص 360.
قالوا: ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وأما ما حكم به وأمضاه في الشرائع والسنن والعزائم فليس للعباد أن ينظروا فيه، ألا ترى أن الحكم (3) في الزاني والسارق والمرتد وأهل البغي مما لا ينظر العباد فيه ولا يتعقبونه. وقالوا: إن الله يقول: " يحكم به ذوا عدل منك " فعمرو بن العاص عدل؟ وحكم الله في معاوية وأتباعه أن يقاتلوا ببغيهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. فلم يجبه أحد منهم. ويقال: أجابه ألفا رجل، ويقال: أربعة آلاف.
أقول: في هذا النقل سقط كما لا يخفى. وقد نقل الطبري (3) هذه المجادلة كما يأتي:
قال أبو مخنف في حديثه عن أبي جناب، عن عمارة بن ربيعة، قال: ولما قدم علي الكوفة وفارقته الخوارج وثبت إليه الشيعة، فقالوا: في أعناقنا بيعة ثانية نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، فقالت الخوارج: استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم عليا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى. فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط إليا على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل.
____________
(1) النساء: 35.
(2) المائدة: 95.
(3) " أن حكمه ": (خ ل).
(4) ج 4: ص 64.
قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: " يحكم به ذوا عدل منكم " فقالوا له: أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عز وجل، فأبوه. ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابا وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية (1).
ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم والعمل (2) هذه المناظرة بوجه آخر قال: لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك. قال: دعوهم حتى يخرجوا.
فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم. قال: فدخل عليهم وهم قائلون، فإذا هم مسهمة ووجوههم من السهر وقد
____________
(1) راجع أنساب الأشراف: ج 2 ص 348.
(2) ص 126.
ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ قال: قلت: ما تعيبون مني؟
فلقد رأيت رسول الله أحسن ما يكون من ثياب اليمنية. قال: ثم قرأت هذه الآية " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " فقالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لا بلغكم عنهم وأبلغهم عنكم. قال بعضهم:
لا تخاصموا قريشا، فإن الله يقول: " بل هم قوم خصمون " فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه. قال: كلمني منهم رجلان أو ثلاثة.
قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثا قلت: ما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله وقال الله: " إن الحكم إلا لله " قال: فقلت: هذه واحدة، وماذا أيضا؟ قال: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم. قال: قلت: وماذا أيضا؟
قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت: أرايتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟.
قال: قلت: أما حكم الرجال في أمر الله: فإن الله قال في كتابه: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم " وقال في المرأة وزوجها: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " فصير الله ذلك إلى حكم الرجال. فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل، أو في حكم أرنب ثمن ربع درهم، وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى هذا أفضل. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حيت صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم [ إنك ] تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو.
قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم، فخرجوا فقتلوا أجمعين.
(97)
ابن عباس وعروة بن الزبير
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تمتع النبي صلى الله عليه وآله فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون! أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله ويقولون: نهى أبو بكر وعمر! (1).
(98)
ابن عباس والخوارج
عن ابن عباس: قال: اجتمعت الخوارج في دارها وهم ستة آلاف أو
____________
(1) جامع بيان العلم وفضله: ج 2 ص 240. وراجع البحار: ج 79 ص 306 عن مكارم الأخلاق وج 65 ص 125. وفتوح ابن أعثم: ج 4 ص 91
قال: فأتيت القوم، قال: فلما نظروا إلي قالوا: مرحبا بابن عباس، فما هذه الحالة؟ قال: قلت: وما تنكرون من ذلك؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من أحسن الحلل، قال: ثم تلوت عليهم " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده " قالوا: فما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أمير المؤمنين ومن عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن عند المهاجرين والأنصار لا بلغكم ما قالوا ولا بلغهم ما تقولون. فما تنقمون من علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وصهره؟ قال: فأقبل بعضهم على بعض، فقال بعضهم: لا تكلموه فإن الله تعالى يقول: " بل هم قوم خصمون " وقال بعضهم: ما يمنعهم من كلام ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يدعونا إلى كتاب الله؟.
قالوا: ننقم عليه خلالا ثلاثا. قال: وما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله عز وجل، وما للرجال ولحكم الله؟ وقاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كان الذي قاتل قد حل قتالهم فقد حل سبيهم، وإن لم يكن حل سبيهم فما حل قتالهم.
ومحا اسمه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير المشركين. قال:
فقلت لهم: غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قال: قلت: أرايتم إن خرجت من هذا بكتاب الله وسنة رسوله أراجعون أنتم؟ قالوا: وما يمنعنا؟.
قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإني سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: " يحكم به ذوا عدل منكم " في ثمن صيد أرنب أو نحوه يكون قيمته ربع درهم، فرد الله الحكم فيه إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحكم.