وقال تعالى: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإنه قاتل أمكم، وقال الله تعالى:
" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " وإن زعمتم أنها أمكم فما حل سباها، فأنتم بين ضلالين. أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: محا اسمه من أمير المؤمنين، فإني أنبئكم بذلك عمن ترضون، أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية وقد جرى الكتاب بينه وبين سهيل بن عمر وقال: يا علي اكتب: هذا ما اصطلح محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فقالوا: لم نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال: اللهم إنك تعلم أني رسولك، ثم أخذ الصحيفة فمحاها بيده، ثم قال: يا علي كتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، فوالله ما أخرجه الله بذلك من النبوة، أخرجت من هذا؟ قالوا: نعم.
قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقتل سائرهم على الضلالة كما في الطبري وكان ذلك سنة 37 هـ.
(99)
ابن عباس ومعاوية
اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية، وفيهم عبد الله بن عباس، وكان جريئا على معاوية حقارا له، فبلغه عنه بعض ما غمه.
فقال معاوية: رحم الله أبا سفيان والعباس كانا صفيين دون الناس،
____________
(1) ملحقات إحقاق الحق: ج 8 ص 521 عن الخصائص للنسائي، والرياض النضرة. وقريب منه ما في المناقب.
قال: فتكلم ابن عباس، فقال:
رحم الله أبانا وأباك كانا صفيين متفاوضين، لم يكن لأبي من مال إلا ما فضل لأبيك، وكان أبوك كذلك لأبي. ولكن من هنأ أباك بأخاء أبي أكثر ممن هنأ أبي بأخاء أبيك، نصر أبي أباك في الجاهلية وحقن دمه في الإسلام.
وأما استعمال علي إيانا: فلنفسه دون هواه، وقد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل، وابن بشر بن أرطاة على اليمن فخان، وحبيب بن مرة على الحجاز فرد، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصب، ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا. وليس الذي يبلغك عنا.
بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسنها.
وأما خذلنا عثمان: فلو لزمنا نصره لنصرناه. وأما قتلنا أنصاره يوم الجمل:
فعلى خروجهم مما دخلوا فيه. وأما حربنا إياك بصفين: فعلى تركك الحق وادعائك الباطل. وأما إغراؤك إيانا بتيم وعدي: فلو أردناها ما غلبونا عليها.
فقال في ذلك ابن أبي لهب:
(100)
ابن عباس ومعاوية
ابن الكلبي، قال: أقبل معاوية يوما على ابن عباس، فقال: لو وليتمونا ما آتيتم إلينا ما آتينا إليكم من الترحيب والتقريب، وإعطائكم الجزيل وإكرامكم على القليل، وصبري على ما صبرت عليه منكم، إني لا أريد أمرا إلا أظمأتم صدره، ولا آتي معروفا إلا صغرتم خطره، وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذوها متكارهين عليها، تقولون: قد نقص الحق دون الأمل، فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسر بإعطائها منه بأخذها؟ والله لئن انخدعت لكم في مالي وذللت لكم في عرضي أرى انخداعي كرما وذلي حلما. ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف ولا نسألكم أموالكم، لعلمنا بحالنا وحالكم ويكون أبغضها إلينا وأحبها إليكم أن نعفيكم.
فقال ابن عباس: لو ولينا أحسنا المواساة وما ابتلينا بالأثرة ثم لم نغشم الحي ولم نشتم الميت، ولستم بأجود منا أكفا ولا أكرم أنفسا ولا أصون لأعراض المروءة. ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا، وأعطى في الحق منكم في الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى، والقسم بالسوية والعدل في
____________
(1) العقد الفريد: ج 4 ص 9 العقد الفريد: ج 2 ص 110 ط منشورات مكتبة الهلال.
(101)
ابن عباس ومعاوية
أبو عثمان الحزامي، قال: اجتمعت بنو هاشم عند معاوية، فأقبل عليهم، فقال: يا بني هاشم، والله إن خيري لكم لممنوح وإن بابي لكم لمفتوح، فلا يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بابي دونكم مسألة، ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرا مختلفا، إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم قلتم أعطانا دون حقنا وقصر بنا عن قدرنا، فصرت كالمسلوب والمسلوب لأحمد له، وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم.
قال: فأقبل على ابن عباس، فقال: والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه، ولئن قطعت عنا خيرك لله أوسع منك، ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفن أنفسنا عنك. وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة، وحق في الفيئ، فالغنيمة ما غلبنا عليها والفئ ما اجتبيناه. ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خف ولا حافر، أكفاك أم أزيدك؟ قال: كفاني فإنك لا تهر ولا تنبح (2).
____________
(1) العقد الفريد: ج 4 ص 10. العقد الفريد: ج 2 ص 111 ط مكتبة الهلال.
(2) العقد الفريد: ج 4 ص 11 ج 2 ص 111 ط مكتبة الهلال.
(102)
ابن عباس ومعاوية
قال يوما معاوية وعنده ابن عباس: إذا جاءت هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها، وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابها ولوائها، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها، وبنو تيم بصديقها وجوادها، وبنو عدي بفاروقها ومتفكرها، وبنو سهم بآرائها، ودهائها، وبنو جمح بشرفها وأنوفها، وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها، فمن ذا يجلي في مضمارها ويجري إلى غايتها؟ ما تقول يا بن عباس؟ قال:
أقول: ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم إلا قريشا، فإنهم يفخرون بالنبوة التي لا يشاركون فيها ولا يساوون بها ولا يدفعون عنها، وأشهد أن الله لم يجعل محمدا من قريش إلا وقريش خير البرية ولم يجعله في بني عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم، ما نريد أن نفخر عليكم إلا بما تفخرون به، إن بنا فتح الأمر وبنا يختم، ولك ملك معجل ولنا ملك مؤجل، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين (1).
(103)
ابن عباس وعمرو بن العاص
أبو مخنف، قال:، حج عمرو بن العاص، فمر بعبد الله بن عباس فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم. فقال له: يا بن عباس، ما لك إذا رأيتني وليتني القصرة وكأن بين عينيك دبرة، وإذا كنت في ملأ من
____________
(1) العقد الفريد: ج 4 ص 12. العقد: ج 2 ص 112.
فقال ابن عباس: لأنك من اللئام الفجرة وقريش الكرام البررة، لا ينطقون بباطل جهلوه ولا يكتمون حقا علموه، وهم أعظم الناس أحلاما وأرفع الناس أعلاما، دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في بني هاشم رحلك ولا في بني عبد شمس راحلتك! فأنت الأثيم الزنيم الضال المضل، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحمله (1) وتسمو بكرمه.
فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟ قال ابن عباس: حيث مال الحق ملنا وحيث سلك قصدنا (1)
(104)
ابن عباس ومعاوية
المدائني قال: [ قام ] عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى معاوية ابن أبي سفيان وبني أمية [ وتناول بني هاشم ] وذكر مشاهده بصفين، واجتمعت قريش، فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو.
فقال: يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية وأعطيته ما بيدك ومناك ما بيد غيرك، وكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، حتى لو كانت نفسك في يدك ألقيتها، وكل راض بما أخذ وأعطى. فلما صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعذل والتنقص.
[ وذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر ولا منيت إلا بالفجور والغش. ش ] وذكرت مشاهدك بصفين، فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك [ ولا نكأت فينا جرأتك. ش ] ولقد كشفت فيها عورتك وإن كنت فيها لطويل اللسان قصير السنان، آخر الخيل إذا أقبلت وأولها إذا
____________
(1) " بحلمه خ ".
(2) العقد: ج 4 ص 12. العقد: ج 2 ص 112.
فأجابه عمرو بن العاص: والله! ما في قريش أثقل علي مسألة ولا أمر جوابا منك، ولو استطعت ألا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية ولكن بعت الله نفسي ولم أنس نصيبي من الدنيا. وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته: فإنه لا تعلم العوان الخمرة. وأما ما أتى إلي معاوية في مصر: فإن ذلك لم يغيرني له. وأما خفة وطأتي عليكم بصفين: فلم استثقلتم حياتي واستبطأتم وفاتي؟ وأما الجبن: فقد علمت قريش أني أول من يبارز وأمر من ينازل. وأما طول لساني: فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
وأما وجهاي ولساناي: فإني ألقى كل ذي قدر بقدره وأرمي كل نابح بحجره، فمن عرف قدره كفاني نفسه، ومن جهل قدره كفيته نفسه، ولعمري ما لأحد من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية، فما ينفعني ذلك عندك. وأنشأ عمرو يقول:
____________
(1) العقد ج 4 ص 13. وابن أبي الحديد: ج 2 ص 247 أوله مع اختلاف، وذكرنا بعضه بين المعقفتين.
(105)
ابن عباس وابن الزبير
الشعبي قال: قال ابن الزبير لعبد الله بن عباس: قاتلت أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتيت بجواز المتعة؟!.
فقال: أما أم المؤمنين: فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سميت أم المؤمنين وكنا لها خير بنين فتجاوز الله عنها. وقاتلت أنت وأبوك عليا، فإن كان علي مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان علي كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزحف. وأما المتعة: فإن عليا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها، فأفتيت بها، ثم سمعته ينهى فنهيت عنها. وأول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير (1).
(106)
عبد الله بن عباس ومعاوية
دخل عبد الله بن عباس على معاوية وعنده وجوه قريش، فلما سلم وجلس، قال له معاوية: إني أريد أن أسألك عن مسائل. قال: سل عما بدا لك.
قال: ما تقول في أبي بكر؟.
قال: رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تاليا، وعن المنكر [ ات ] ناهيا، وبذنبه عارفا، ومن الله خائفا، وعن الشبهات زاجرا، وبالمعروف آمرا وبالليل قائما وبالنهار صائما، فاق أصحابه ورعا وكفافا، وسادهم زهدا وعفافا، فغضب الله على من أبغضه وطعن عليه.
قال: إيها يا ابن عباس، فما تقول في عمر بن الخطاب؟.
____________
(1) العقد: ج 4 ص 13 - 14. ومروج الذهب: ج 3 ص 89 - 90 بلفظ آخر يأتي.
قال: فما تقول في عثمان؟.
قال: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة، وأفضل البررة جهادا بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضا عند كل مكرمة، سباقا إلى كل منحة، حييا أبيا وفيا، صاحب جيش العسرة، ختن رسول الله صلى الله عليه وآله فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدين.
قال: فما تقول في علي.
قال: رضي الله عن أبي الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجى، وبحر الندى، وطود النهى، وكهف العلى للورى، داعيا إلى المحجة العظمى، متمسكا بالعروة الوثقى، خير من آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأبر من انتعل وسعى، وأفصح من تنفس وقرى، وأكثر من شهد النجوى سوى الأنبياء والنبي المصطفى، صاحب القبلتين فهل يوازيه أحد؟
وهو أبو السبطين فهل يقارنه بشر؟ وزوج خير النساء فهل يفوقه قاطن بلد؟
للأسود قتال، وفي الحروب ختال، لم ترعيني مثله ولن ترى، فعلى من انتقصه لعنة الله والعباد إلى يوم التناد.
قال: إيها يا ابن عباس! لقد أكثرت في ابن عمك، فما تقول في أبيك العباس؟.
قال: رحم الله [ العباس ] أبا الفضل، كان صنو نبي الله صلى الله عليه وسلم وقرة عين صفي الله، سيد الأعمام، له أخلاق آبائه الأجواد وأحلام أجداده الأمجاد، تباعدت الأسباب في فضيلته، صاحب البيت والسقاية والمشاعر
فقال معاوية: يا ابن عباس! أنا أعلم أنك كلماني في أهل بيتك.
قال: ولم لا أكون كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "؟
ثم قال ابن عباس بعد هذا الكلام:
يا معاوية، إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: " رحماء بينهم " الآية، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء الله واستقر دينه ووضحت أعلامه، وأذل الله بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا دعائمه وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله وبركاته على تلك النفوس الزاكية والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء وكانوا بعد الموت أحياء وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها.
فقطع عليه معاوية الكلام، وقال إيها يا ابن عباس! حديثا في غير هذا [ خذ بنا إلى غير هذا خ ل ] (1).
(107)
ابن عباس ومعاوية
دس معاوية - بعد صلحه مع الحسن عليه السلام - رجلا من حمير إلى الكوفة ورجلا من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار، فدل على الحميري وعلى القيني، فأخذا وقتلا. فكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية....
____________
(1) مروج الذهب: ج 3 ص 5.
أما بعد، فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك، لكما قال أمية بن أبي الأسكر:
فأجابه معاوية:
أما بعد، فإن الحسن بن علي قد كتب إلي بنحو ما كتبت به وأنبأني بما لم يحقق سوء ظن ورأي في وإنك لم تصب مثلي ومثلكم، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر:
(108)
ابن عباس ومعاوية
كتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن عليه السلام له كتابا يدعوه فيه إلى بيعته ويقول له فيه:
ولعمري! لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا وأن يكون رأيا صوابا، فإنك من الساعين عليه والخاذلين له والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني، ولا بيدك أمان.
فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا يقول فيه: وأما قولك: إني من الساعين على عثمان والخاذلين له والسافكين دمه وما جرى بيني وبينك صلح
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 16 ص 31 - 32.
(109)
ابن عباس وابن الزبير
روى سعيد بن جبير: أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس:
ما حديث أسمعه عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تأنيبي وذمي!
فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره " فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغضكم أهل البيت منذ أربعين سنة.
كان عبد الله بن الزبير يبغض عليا عليه السلام وينتقصه وينال من عرضه.
وروى عمر بن شبة وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي صلى الله عليه وآله وقال: " لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها! " وفي رواية محمد بن حبيب وأبي عبيدة معمر بن المثنى: " أن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره " (2).
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 16 ص 154 - 155.
(2) ابن أبي الحديد: ج 4 ص 61 و 62.
(110)
ابن عباس وابن الزبير
خطب ابن الزبير، فقال: ما بال أقوام يفتون في المتعة وينتقصون حواري رسول الله وأم المؤمنين عائشة! ما بالهم أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم.
يعرض بابن عباس.
فقال [ ابن عباس ]: يا غلام، أصمدني صمدة، فقال: يا بن الزبير!
أما قولك في المتعة: فسل أمك تخبرك! فإن أول متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك. يريد متعة الحج. [ وأما قولك: أم المؤمنين، فبنا سميت أم المؤمنين، وبنا ضرب عليها الحجاب ] وأما قولك: حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى، فإن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهر به عنا.
فانقطع ابن الزبير ودخل على أمه أسماء، فأخبرها، فقالت: صدق (1)
(111)
ابن عباس وابن الزبير
لما أخرج ابن الزبير عبد الله بن عباس من مكة إلى الطائف، كان يجلس إليه أهل الطائف بعد الفجر وبعد العصر، فيتكلم بينهم. كان يحمد الله ويذكر النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء بعده ويقول: ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم ولا أشباههم ولا من يدانيهم! ولكن بقي أقوام يطلبون الدنيا بعمل الآخرة
____________
(1) مروج الذهب: ج 3 ص 81، ومر عن العقد الفريد.
فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إليه:
أما بعد، فقد بلغني أنك تجلس بالطائف العصرين فتفتيهم بالجهل! تعيب أهل العقل والعلم. وإن حلمي عليك واستدامتي فيئك جرأك علي، فاكفف - لا أبا لغيرك - من غربك، وأربع على ظلعك، واعقل إن كان لك معقول، وأكرم نفسك، فإنك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هوانا، ألم نسمع قول الشاعر:
وإني أقسم بالله لئن لم تنته عما بلغني عنك لتجدن جانبي خشنا، ولتجدنني إلى ما يردعك عني عجلا، فر رأيك، فإن أشفى بك شقاؤك على الردى، فلا تلم إلا نفسك.
فكتب إليه ابن عباس:
أما بعد، فقد بلغني كتابك، قلت: إني أفتي الناس بالجهل. وإنما يفتي بالجهل من لم يعرف من العلم شيئا، وقد آتاني الله من العلم ما لم يؤتك.
وذكرت أن حلمك عني واستدامتك فيئي جرأني عليك، ثم قلت:
اكفف من غربك وأربع على ظلعك، وضربت لي الأمثال أحاديث الضبع.
متى رأيتني لعرامك هائبا ومن حدك ناكلا؟
وقلت: لئن لم تكفف لتجدن جانبي خشنا. فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى عليك إن أرعيت. فوالله لا أنتهي عن قول الحق وصفة أهل العدل والفضل وذم الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم
(112)
ابن عباس وابن الزبير
لما كشف عبد الله بن الزبير بني هاشم وأظهر بغضهم وعابهم وهم بما هم به في أمرهم ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبته لا يوم الجمعة ولا غيرها، عاتبه على ذلك قوم من خاصته وتشأموا بذلك منه وخافوا عاقبته.
فقال: والله ما تركت ذلك علانية إلا وأنا أقوله سرا وأكثر منه! لكني رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبوا واحمرت ألوانهم وطالت رقابهم، والله ما كنت لآتي لهم سرورا وأنا أقدر عليه، والله لقد هممت أن أحظر لهم حظيرة ثم أضرم عليهم نارا، فإني لا أقتل منهم إلا آثما كفارا سحارا، لا أنماهم الله ولا بارك عليهم! بيت سوء لا أول لهم ولا آخر، والله ما ترك نبي الله فيهم خيرا، استفرع نبي الله صدقهم فهم أكذب الناس.
فقام إليه محمد بن سعد ابن أبي وقاص، فقال: وفقك الله يا أمير المؤمنين، أنا أول من أعانك في أمرهم.
فقام عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي، فقال: والله ما قلت صوابا ولا هممت برشد، أرهط رسول الله صلى الله عليه وآله تعيب؟ وإياهم تقتل والعرب حولك؟ والله لو قتلت عدتهم أهل بيت من الترك مسلمين ما سوغه الله لك، والله لو لم ينصرهم الناس منك لنصرهم الله بنصره. فقال: إجلس أبا صفوان، فلست بناموس.
فبلغ الخبر عبد الله بن العباس، فخرج مغضبا ومعه ابنه حتى أتى المسجد فقصد المنبر، فحمد الله وأنثى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 125.
أيها الناس، إن ابن الزبير يزعم أن لا أول لرسول الله ولا آخر، فيا عجبا كل العجب لافترائه ولكذبه!! والله إن أول من أخذ الايلاف وحمى عيرات قريش لهاشم، وإن أول من سقى بمكة عذبا وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب، والله لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش وإن كنا لقالتهم إذا قالوا وخطباءهم إذا خطبوا، وما عد مجد كمجد أولنا، ولا كان في قريش مجد لغيرنا، لأنها في كفر ما حق ودين فاسق وضلة وضلالة في عشواء عمياء، حتى اختار الله تعالى لها نورا وبعث لها سراجا، فانتجبه طيبا من طيبين لا يسبه بمسبة، ولا يبغي عليه غائلة، فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا. ثم إن أسبق السابقين إليه منا وابن عمنا، ثم تلاه في السبق أهلنا ولحمتنا واحدا بعد واحد.
ثم إنا لخير الناس بعده وأكرمهم أدبا وأشرفهم حسبا وأقربهم منه رحما، واعجبا كل العجب لابن الزبير يعيب بني هاشم!! وإنما شرف هو وأبوه وجده بمصاهرتهم. أما والله إنه لمسلوب قريش، ومتى كان العوام بن خويلد يطمع في صفية بنت عبد المطلب! قيل للبغل: من أبوك يا بغل؟ فقال: خالي الفرس. ثم نزل (1).
(113)
ابن عباس وابن الزبير
خطب ابن الزبير بمكة على المنبر وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر، فقال: إن هاهنا رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة النساء حلال من الله ورسوله ويفتي في القملة والنملة، وقد أحتمل بيت مال البصرة
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 128 - 129.
فقال ابن عباس لقائده سعد بن جبير بن هشام مولى بني أسد بن خزيمة:
استقبل بي وجه ابن الزبير وارفع من صدري - وكان ابن عباس قد كشف بصره - فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ثم قال:
يا ابن الزبير، أما العمى: فإن الله تعالى يقول: " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " وأما فتياي في القملة والنملة: فإن فيها حكمين لا تعلمها أنت ولا أصحابك. وأما حملي المال: فإنه كان مالا جبيناه فأعطينا كل ذي حق حقه وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله، فأخذناها بحقنا. وأما المتعة: فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بردى عوسجة.
وأما قتالنا أم المؤمنين: فبنا سميت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مده الله عليها فهتكاه عنها، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها وصانا حلائلهما في بيوتهما! فما أنصفا الله ولا محمدا من أنفسهما أن أبرزا زوجة نبيه وصانا حلائلهما. وأما قتالنا إياكم فإنا لقيناكم زحفا فإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم منا، وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا، وأيم الله لولا مكان صفية فيكم ومكان خديجة فينا لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظما إلا كسرته.
فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن " بردى عوسجة " فقالت: ألم أنهك عن ابن عباس وعن بني هاشم؟ فإنهم كعم الجواب إذا بدهوا. فقال: بلى وعصيتك. فقالت: يا بني، أحذر هذا الأعمى الذي ما طاقته الإنس والجن، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها، فإياك وإياه آخر الدهر! (1).
____________
(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 129 - 131 ومستدرك الوسائل: ج 3 ص 587 شطرا منه.
(114)
عبد الله بن عباس وابن الزبير
روى عثمان بن طلحة العبدري، قال: شهدت من ابن عباس - رحمه الله - مشهدا ما سمعته من رجل من قريش، كان يوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم - وهو يومئذ أمير المدينة - سرير آخر أصغر من سريره، فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل، وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك، فأذن مروان يوما للناس، وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سرير مروان، فأقبل ابن عباس فجلس على سريره وجاء عبد الله بن الزبير وجلس على السرير المحدث، وسكت مروان والقوم. فإذا يد ابن الزبير تتحرك فعلم أنه يريد أن ينطق، ثم نطق فقال:
إن أناسا يزعمون أن بيعة أبي بكر كانت غلطا وفلتة ومغالبة، ألا إن شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا. ويزعمون أنه لولا ما وقع لكان الأمر لهم وفيهم، والله ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أحد أثبت إيمانا ولا أعظم سابقة من أبي بكر، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله! فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر؟ فلم يكن إلا ما قال. ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ وجدهم في جدود، فقسمت تلك الحظوظ فأخر الله سهمهم وأدحض جدهم وولى الأمر عليهم من كان أحق به منهم، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجا من القرية فأصابوا منه غرة فقتلوه. ثم قتلهم الله به كل قتلة، وصاروا مطرودين تحت بطون الكواكب.
فقال ابن عباس:
على رسلك أيها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة، أما والله ما نالا ولا نال أحد منهما شيئا إلا وصاحبنا خير ممن نالا، وما أنكرنا تقدم من تقدم لعيب عبناه عليه، ولو تقدم صاحبنا لكان أهلا وفوق الأهل، ولولا أنك إنما تذكر
اقتصر على حظك. ودع تيما لتيم وعديا لعدي وأمية لأمية، ولو كلمني تيمي أو عدوي أو أموي لكلمته وأخبرته خبر حاضر عن حاضر لا خبر غائب عن غائب، ولكن ما أنت وما ليس عليك؟ فإن يكن في أسد بن عبد العزى شيئ فهو لك.
أما والله لنحن أقرب بك عهدا وأبيض عندك يدا وأوفر عندك نعمة ممن أمسيت تظن أنك تصول به علينا، وما أخلق ثوب صفية بعد! والله المستعان على ما تصفون (1).
(115)
ابن عباس وابن الزبير
لما خرج الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق ضرب عبد الله بن عباس بيده على منكب ابن الزبير وقال:
خلا الجو والله لك يا ابن الزبير! وسار الحسين إلى العراق.
فقال ابن الزبير: يا ابن عباس، والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم، ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس.
فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في شك، ونحن من ذلك على يقين، ولكن أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر؟ قال: بشرفي. قال: وبماذا شرفت إن كان لك شرف؟ فإنما هو بنا، فنحن أشرف منك، لأن شرفك منا.
وعلت أصواتهما.
____________