الصفحة 218

فقال ابن عباس: كذبت والله أنت! وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور ولنعمائه شكور وعن الخنا زجور، جواد كريم سيد حليم ماجد لهميم، إن ابتدأ أصاب وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب ولا فحاش عياب حل من قريش في كريم النصاب، كالهزبر الضرغام الجرئ المقدام في الحسب القمقام، ليس يدعى لدعي ولا يدني لدني. [ لا ] كمن اختصم فيه من قريش شرارها فغلب عليها جزارها، فأصبح ألأمها حسبا وأدناها منصبا، ينوء منها بالذليل ويأوي منها إلى القليل، يتذبذب بين الحيين كالساقط بين الفراشين، لا المضطر إليهم عرفوه ولا الظاعن عنهم فقدوه. وليت شعري! بأي قد تتعرض للرجال وبأي حسب تبارز عند النضال؟ أبنفسك فأنت الوغد الزنيم، أم بمن تنتمي إليه؟

فأهل السفه والطيش والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهروا ولا بقديم في الإسلام ذكروا، غير أنك تتكلم بغير لسانك وتنطق بالزور في غير أقرانك.

والله لكان أبين للفضل وأظهر للعدل أن ينزلك معاوية منزلة العبيد السحيق، فإنه طالما ما سلس داؤك وطمح به رجاؤك إلى الغاية القصوى التي لم يخضر بها رعيك ولم يورق بها غصنك.

فقال عبد الله بن جعفر: أقسمت عليك لما أمسكت! فإنك عني ناضلت ولي فاوضت.

قال ابن عباس: دعني والعبد! فإنه قد كان يهدر خاليا إذ لا يجد مراميا، وقد أتيح له ضيغم شرس للاقران منقرس وللأرواح مختلس!

فقال عمرو بن العاص: دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه، فوالله ما ترك شيئا!

قال ابن عباس: دعه فلا يبقي المبقي إلا على نفسه، فوالله إن قلبي لشديد وإن جوابي لعتيد، وبالله الثقة، فإني كما قال نابغة بني ذبيان:

وقبلك ما قذعت وقاذعوني * فما نزر الكلام ولا شجاني


الصفحة 219

يصد الشاعر العراف عني * صدود البكر عن قرم هجان (1)

(134)
عبد الله بن عباس وابن الزبير

عن الخليل: أنه قال كلم ابن عباس عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية، وقال: ما تريد من رجل كف لسانه ويده عنك؟ اتق الله! فإنك قادم على ربك.

فقال له ابن الزبير: تكلمني في رجل سخيف الرأي ضعيف العقل ليس له بذم ولا دين! فقال ابن عباس: رماه الله بداء لا شفاء له إن كان شرا منك في الدين والدنيا، فغضب ابن الزبير، وقال: أنت أيضا تتكلم عندي! فقام ابن عباس، وذم ابن الزبير على ما قال، وخرج من عند ابن الزبير من وجهه إلى الطائف، وقال: العجب من حنيكل! يتعجب من كلامي عنده وقد تكلمت غلاما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وعند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يرونني أحق من نطق يستمع قولي وتقبل مشورتي، ليحك حنكل جربه! ولا ينقاص علي انقياص الكثيب. أظن ابن الزبير أني كساعده على بني عبد المطلب؟ والله لأنملة من أنامل ابن الحنفية أحب إلي من ابن الزبير، والله! لأنه لأوفر منه عقلا، وأوفى منه عهدا، وأكمل منه رأيا، وأفضل دينا، وأصدق ورعا (2).

(135)
ابن عباس وعمر

قال عمر بن الخطاب ليلة مسيره إلى الجابية أين ابن عباس؟ قال: فأتيته

____________

(1) المحاسن للبيهقي: ج 1 ص 143 - 144.

(2) نور القبس المختصر من المقتبس لأبي عبد الله المرزباني: ص 68.

الصفحة 220
فشكا تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت له: أولم يعتذر إليك؟

قال: بلى. قلت: فهو ما اعتذر به.

ثم قال: أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة (1).

(136)
ابن عباس وعمر

عن ابن عطية، قال: لما خرج عمر بن الخطاب إلى الشام كان العباس ابن عبد المطلب معه يسايره، وكان من يستقبله ينزل فيبدأ بالعباس فيسلم عليه، يقدر الناس أنه الخليفة لجماله وبهائه وهيبته.

فقال عمر: لعلك تقدر أنك أحق بهذا الأمر مني؟ فقال له العباس بن عبد المطلب: أحق به مني ومنك من خلفناه بالمدينة! فقال عمر: من ذلك؟

قال: من ضربنا بسيفه حتى قادنا إلى الإسلام! يعني أمير المؤمنين عليه السلام (2).

(137)
ابن عباس وعمر

قال عمر: يا بن عباس، ما منع عليا من الخروج معنا؟ قلت: لا أدري.

قال: يا ابن عباس، أبوك عم رسول الله عليه وآله وأنت ابن عمه فما منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري. قال: لكني أدري، يكرهون ولايتكم لهم.

____________

(1) هامش فضائل الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق: ج 1 ص 14 تحقيق المحمودي عن الأغاني.

(2) هامش فضائل أمير المؤمنين عليه السلام: تحقيق المحمودي انظر ج 1 ص 14 خصائص أمير المؤمنين عليه السلام للرضي رحمه الله والبحار: ج 8 ط الكمباني ص 209 عن شف تاريخ الطبري وج 1 ص 2768 وخ ط المعارف ج 4 ص 222.

الصفحة 221
قلت: ولم ونحن لهم كالخير؟ قال: اللهم غفرا! يكرهون أن تجتمع فيكم الخلافة والنبوة فيكون لكم بجصا وبجحا (أي تفاخرا وتعاظما). لعلكم تقولون: إن أبا بكر فعل ذلك، لا والله! ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضر، ولو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم (1)

(138)
ابن عباس وعمر

عن إبراهيم التيمي، قال: قال لي ابن عباس يوما ونحن بالجابية: ما رأيت كمقال قاله لي أمير المؤمنين عمر اليوم، قلت: فما ذاك؟ قال: شكا إلي عليا عليه السلام فقال لي: ألم تر إلى ابن عمك لم يخرج معنا في هذا الوجه؟ قال:

قلت: لا إله إلا الله! أليس قد اعتذر إليك فقبلت عذره؟ وما خالفك إلى يومنا هذا. فقال: وما كفى ما قال لي أبوك؟.

قال: فقلت لابن عباس: وما قال له أبوك؟ قال: لقاه رجل من أهل الشام فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فقال العباس: لست للمؤمنين بأمير هو ذاك وأنا والله أحق بها منه، فسمعه عمر فقال: أحق والله بها مني ومنك رجل خلفناه بالمدينة أمس يعني عليا عليه السلام (2)

(139)
ابن عباس ونجدة الحروري

عن علي بن أسباط عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن نجدة اسم الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟

فكتب إليه: أما اليتيم فانقطاع يتمه أشده، وهو الاحتلام، إلا أن لا يؤنس منه

____________

(1) هامش فضائل أمير المؤمنين لابن عساكر تحقيق المحمودي انظر ج 1 ص 6، تاريخ الطبري.

(2) الايضاح: ص 172 - 173.

الصفحة 222
رشد بعد ذلك فيكون سفيها أو ضعيفا، فليسند عليه (1).

(140)
الأحنف بن قيس ومعاوية

روي أن معاوية ابن أبي سفيان لما نصب يزيد لولاية العهد أقعده في جبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد حتى جاء رجل ففعل ذلك،، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها. والأحنف جالس فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ فقال: أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الطاعة خيرا وأمر له بألوف.

فلما خرج الأحنف لقاه الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال فلسنا نطعمه في استخراجها إلا بما سمعت فقال له الأحنف: يا هذا أمسك، فإن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها (2)!

(141)
الأحنف ومعاوية

عدد معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبا. فقال: يا أمير المؤمنين، لا ترد الأمور على أعقابها. أما والله! إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا! ولئن مددت فترا من عذر لنمدن باعا من ختر، ولئن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك. قال: فإني أفعل (3).

____________

(1) البحار: ج 75 ص 6 عن تفسير العياشي.

(2) الكامل للمبرد: ج 1 ص 30. والعقد الفريد: ج 4 ص 37 وج 1 ص 59 نبذا منه، وسيأتي عن الفتوح ما يقرب منه في ج ص 187.

(3) العقد الفريد: ج 4 ص 28.

الصفحة 223

(142)
الأحنف ومعاوية

روي أن معاوية ابن أبي سفيان بينما هو جالس وعنده وجوه الناس، إذ دخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليا.

فأطرق الناس وتكلم الأحنف، فقال:

يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم، فاتق الله، ودع عنك عليا، فقد لقى ربه وأفرد في قبره وخلا بعمله، وكان والله! [ ما علمنا ] المبرز بسبقه (بسبعة خ ل) الطاهر خلقه، الميمون نقيبته، والعظيم مصيبته.

فقال له معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى وقلت بغير ما ترى، وأيم الله لتصعدن المنبر فلتلعننه طوعا أو كرها. فقال له الأحنف:

يا أمير المؤمنين، إن تعفني فهو خير لك وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي أبدا!

قال: فاصعد المنبر. قال الأحنف: أما والله، مع ذلك لأنصفنك في القول والفعل.

قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني؟ قال: أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله وأصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقول: أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا! وإن عليا ومعاوية اختلفا واقتتلا وادعى كل واحد منهما أنه بغى على فئته، فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله! ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبيائك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، والعن فئة الباغية، اللهم العنهم لعنا كثيرا، أمنوا رحمكم الله!

يا معاوية، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه حرفا ولو كان فيه ذهاب نفسي.


الصفحة 224
فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر. (1)

(143)
الأحنف ومعاوية

وفي سنة تسع وخمسين وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها، فكان ممن وفد من أهل العراق الأحنف بن قيس في آخرين من وجوه الناس.

فقال معاوية للضحاك بن قيس: إني جالس من غد للناس فأتكلم بما شاء الله، فإذا فرغت من كلامي فقل في يزيد الذي يحق عليك وادع إلى بيعته، فإني قد أمرت عبد الرحمن بن عثمان الثقفي و عبد الله بن عضاة - عمارة خ - الأشعري وثور بن معن السلمي أن يصدقوك في كلامك وأن يجيبوك إلى الذي دعوتهم إليه.

فلما كان من الغد قعد معاوية، فأعلم الناس بما رأى من حسن رعية يزيد ابنه هديه، وأن ذلك دعاه إلى أن يوليه عهده.

ثم قام الضحاك بن قيس فأجابه إلى ذلك وحض الناس على البيعة ليزيد. وقال لمعاوية: اعزم على ما أردت. ثم قام عبد الرحمن بن عضاة الأشعري وثور بن معن فصدقوا قوله ثم قال معاوية: أين الأحنف بن قيس؟ فقال الأحنف، فقال:

إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ومعروف زمان يؤتلف، ويزيد حبيب قريب، فإن توله عهدك فعن غير كبر مفن أو مرض مضن وقد حلبت الدهور وجربت الأمور. فاعرف من تسند إليه عهدك ومن توليه الأمر من بعدك واعص رأي من يأمرك ولا يقدر لك ويشير عليك ولا ينظر لك.

فقام الضحاك بن قيس مغضبا! فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق،

____________

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 28 - 29.

الصفحة 225
وقال: اردد رأيهم في نحورهم... (1).

يقال: إن معاوية استشار الأحنف بن قيس في عقد البيعة لابنه يزيد، فقال له: أنت أعلم بليله ونهاره (2).

(144)
الأحنف وعائشة

عن الحسن البصري - رحمه الله - أن الأحنف بن قيس قال لعائشة رحمها الله يوم الجمل: يا أم المؤمنين، هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المسير؟ قالت: اللهم لا. قال: فهل وجدته في شئ من كتاب الله جل ذكره؟

قالت: ما نقرأ إلا ما تقرؤون. قال: فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله استعان بأحد من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت: اللهم لا.

قال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا؟ (3).

(145)
الأحنف ومعاوية

روي أن الأحنف بن قيس وفد إلى معاوية وحارثة بن قدامة والجباب بن يزيد. قال معاوية للأحنف: أنت الساعي على أمير المؤمنين عثمان وخاذل أم المؤمنين عائشة والوارد الماء على علي بصفين؟ فقال: يا أمير المؤمنين من ذلك ما أعرف ومنه ما أنكر.

أما أمير المؤمنين عثمان: فأنتم معشر قريش حضرتموه بالمدينة والدار منا عنه نازحة، وقد حضره المهاجرون والأنصار بمعزل وكنتم بين خاذل وقاتل. وأما

____________

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 37.

(2) أمالي السيد - رحمه الله -: ج 1 ص 275.

(3) المحاسن للبيهقي: ج 1 ص 77.

الصفحة 226
عائشة: فإني خذلتها في طول باع ورحب سرب، وذلك أني لم أجد في كتاب الله إلا تقر في بيتها.

وأما ورودي الماء بصفين فإني وردت حين أردت أن تقطع رقابنا عطشا.

فقام معاوية وتفرق الناس، الحديث (1).

(146)
عقيل ومعاوية

لما قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية أكرمه وقربه وقضى حوائجه وقضى عنه دينه. ثم قال له في بعض الأيام: والله إن عليا [ غير ] حافظ لك قطع قرابتك، وما وصلك، ولا اصطنعك.

قال له عقيل: والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنه بالله إذا ساء به ظنك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته، إذا خنتم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أبا لك! فإنه عما تقول بمعزل.

وقال له معاوية: أبا يزيد، أنا لك خير من أخيك علي. قال: صدقت إن أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على دينك، فأنت خير لي من أخي وأخي خير لنفسه منك.

وقال له ليلة الهرير: أبا يزيد، أنت الليلة معناه. قال: نعم ويوم بدر كنت معكم (2).

(147)
عقيل ورجل

قال رجل لعقيل: إنك لخائن حيث تركت أخاك وترغب إلى معاوية.

____________

(1) البحار: ج 8 ط الكمباني ص 531 عن الكشي.

(2) العقد الفريد: ج 4 ص 5 وأنساب الأشراف: ج 1 ص 72 - 73 آخره. وذيله في الإستيعاب: ج 3 ص 158 على هامش الإصابة. والبحار: ج 42 ص 114 قسما منه.

الصفحة 227
قال: أخون مني والله من سفك دمه بين أخي وابن عمي أن يكون أحدهما أميرا!

ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره، فأجلسه معاوية على سريره ثم قال له: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم! قال: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم!

ودخل عتبة بن أبي سفيان، فوسع له معاوية بينه وبين عقيل، فجلس بينهما.

فقال عقيل: من هذا الذي أجلس أمير المؤمنين بيني وبينه؟ قال: أخوك وابن عمك عتبة. قال: أما إنه إن كان أقرب إليك مني، إني لأقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منك ومنه، وأنتما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ونحن سماء!

قال عتبة: أبا يزيد، أنت كما وصفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمير المؤمنين عارف بحقك. ولك عندنا مما تحب أثر مما لنا عندك مما نكره (1).

(148)
عقيل ومعاوية

ودخل عقيل على معاوية يوما، فقال لأصحابه: هذا عقيل عمه أبو لهب.

قال له عقيل: وهذا معاوية عمته حمالة الحطب! ثم قال: يا معاوية، إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب، فانظر أيهما خير الفاعل أو المفعول به؟

وقال له معاوية يوما: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه

____________

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 5. أنساب الأشراف: ج 1 ص 73 أوله.

الصفحة 228
في نسائكم أبين (1) يا بني أمية!

وقال له معاوية يوما: والله إن فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم، قال:

وما هي؟ قال: لين فيكم. قال: لين ماذا؟ قال: هو ذاك. قال: إيانا تعير يا معاوية، أجل والله، إن فينا للينا من غير ضعف وعزا من غير جبروت، وأما أنتم يا بني أمية، فإن لينكم غدر، وعزكم - سلمكم خ ل - كفر.

قال معاوية: ما كل هذا أردنا يا أبا يزيد! قال عقيل:

لذي اللب قبل اليوم ما يقرع العصا * وما علم الإنسان إلا ليعلما (2)

قال معاوية:

وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده * وإن الفتى بعد السفاهة يحلم

وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: لم جفوتمونا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:

إني امرؤ مني التكرم شيمة * إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا

ثم قال: وأيم الله يا معاوية، لئن كانت الدنيا مهدتك مهادها وأظلتك بحذافيرها ومدت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة ولا تخشعا لرهبة.

قال معاوية: لقد نعتها أبا يزيد نعتا هش له قلبي، وإني لأرجو أن يكون الله تبارك وتعالى ما رداني برداء ملكها وحباني بفضيلة عيشها إلا لكرامة ادخرها لي،، وقد كان داود خليفة وسلمان ملكا، وإنما هو لمثال يحتذى عليه، والأمور أشباه، وأيم الله يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريما وإلينا حبيبا،

____________

(1) من قوله: " إن فيكم يا بني هاشم " إلى هنا نقله في الغارات: ج 2 ص 551 وزاد:

إن السفاهة طيش من خلائقكم * لا قدس الله أخلا الملاعين (1)

فأراد معاوية أن يقطع كلامه فقال: ما معنى هذه الكلمة " طه "؟ فقال عقيل: نحن أهله وعلينا نزل، لا على أبيك ولا على أهل بيتك، طه بالعبرانية يا رجل.

(2) أنساب الأشراف: ج 1 ص 72.

الصفحة 229
وما أصبحت لك إساءة (1).

(149)
عقيل وامرأته

ويقال: إن امرأة عقيل - وهي بنت عتبة بن ربيعة خالة معاوية - قالت لعقيل: يا بني هاشم، لا يحبكم قلبي أبدا، أين أبي؟ أين أخي؟ أين عمي؟

كأن أعناقهم أباريق فضة. قال عقيل: إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك (1).

(150)
عقيل ومعاوية

قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر. قال: أفعل، فأصعد، فصعد، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب، فالعنوه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ثم نزل.

فقال له معاوية: إنك لم تبين أبا يزيد من لعنت بيني وبينه؟ قال: والله لا زدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام إلى نية المتكلم (2).

(151)
رجل من ولد ابن الحنفية مع المتوكل

محمد ابن أبي العلاء السراج قال: أخبرني البختري قال: كنت بمنبج

____________

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 6 - 7. ونبذا منه ابن أبي الحديد: ج 4 ص 93 وج 11 ص 252. وأنساب الأشراف: ج 1 ص 76 آخره. والبحار: ج 42 ص 117.

(2) العقد الفريد: ج 4 ص 29.

الصفحة 230
بحضرة المتوكل، إذ دخل عليه رجل من أولاد محمد بن الحنفية حلو العينين حسن الثياب قد قرف عنده بشئ، فوقف بين يديه، والمتوكل مقبل على الفتح يحدثه.

فلما طال وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه، قال له: يا أمير المؤمنين، إن كنت أحضرتني لتأديبي فقد أسأت الأدب، وإن كنت قد أحضرتني ليعرف من بحضرتك من أوباش الناس استهانتك بأهلي فقد عرفوا.

فقال له المتوكل: والله يا حنفي، لولا ما يثنيني عليك من أوصال الرحم ويعطفني عليك من مواقع الحلم لانتزعت لسانك بيدي ولفرقت بين رأسك وجسدك، ولو كان بمكانك محمد أبوك! قال: ثم التفت إلى الفتح، فقال:

أما ترى ما نلقاه من آل أبي طالب؟ إما حسني يجذب إلى نفسه تاج عز نقله الله إلينا قبله، أو حسيني يسعى في نقض ما أنزل الله إلينا قبله، أو حنفي يدل بجهله أسيافنا على سفك دمه.

فقال له الفتى: وأي حلم تركته لك الخمور وإدمانها؟ أم العيدان وفتيانها؟

ومتى عطفك الرحم على أهلي وقد ابتززتهم فدكا إرثهم من رسول الله صلى الله عليه وآله فورثها أبو حرملة؟ وأما ذكرك محمدا أبي فقد طفقك تضع عن عز رفعه الله وروسوله، وتطاول شرفا تقصر عنه ولا تطوله، فأنت كما قال الشاعر:

فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا

ثم ها أنت تشكو لي علجك هذا ما تلقاه من الحسني والحسيني والحنفي، فلبئس المولى ولبئس العشير!

ثم مد رجليه ثم قال: هاتان رجلاي لقيدك! وهذه عنقي لسيفك! فبؤ بإثمي وتحمل ظلمي، فليس هذا أول مكروه أوقعته أنت وسلفك بهم، يقول الله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " فوالله ما أجبت رسول الله صلى الله عليه وآله عن مسألته، ولقد عطفت بالمودة على غير قرابته،

الصفحة 231
فعما قليل ترد الحوض فيذودك أبي ويمنعك جدي صلوات الله عليهما.

قال: فبكى المتوكل! ثم قام فدخل إلى قصر جواريه. فلما كان من الغد أحضره وأحسن جائزته وخلى سبيله (1).

(152)
ضرار بن الخطاب ومعاوية

دخل على معاوية ضرار بن الخطاب، فقال له: كيف حزنك على أبي الحسن؟ قال: حزن من ذبح ولدها على صدرها، فما ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها (2)!

(153)
عقيل ومعاوية

وفد عليه - أي معاوية - عقيل بن أبي طالب منتجعا زائرا. فرحب به معاوية وسر بوروده، لاختياره إياه على أخيه، وأوسعه حلما واحتمالا.

فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت عليا؟ فقال: تركته على ما يحب الله ورسوله وألفيتك على ما يكره الله ورسوله.

فقال له معاوية: لولا أنك زائر منتجع [ جنابنا ] لرددت عليك أبا يزيد جوابا تألم منه.

ثم أحب معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشئ يخفضه، فوثب عن مجلسه وأمر له بنزل وحمل إليه مالا عظيما. فلما كان من غد جلس وأرسل إليه فأتاه، فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت عليا أخاك؟ قال تركته خيرا لنفسه منك، وأنت خير لي منه.

____________

(1) البحار: ج 50 ص 213 - 214.

(2) مروج الذهب: ج 3 ص 25.

الصفحة 232
فقال له معاوية: أنت والله كما قال الشاعر:

وإذا عدوت فخار آل محرق * فالمجد منهم في بني عتاب

فمحل المجد من بني هاشم منوط فيك يا أبا يزيد ما تغيرك الأيام والليالي.

فقال عقيل:

اصبر لحرب أنت جانيها * لابد أن تصلى بحاميها

وأنت والله يا ابن أبي سفيان كما قال الآخر:

وإذا هوازن أقبلت بفخارها * يوما فخرتهم بآل مجاشع
بالحاملين على الموالي عزمهم * والضاربين الهام يوم الفازع

ولكن أنت يا معاوية، إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفتخر؟ فقال معاوية:

عزمت عليك أبا يزيد لما أمسكت، فإني لم أجلس لهذا، وإنما أردت أن أسألك عن أصحاب علي فإنك ذو معرفة بهم. فقال عقيل سل عما بدا لك.

فقال: ميز لي أصحاب علي، وابدأ بآل صوحان، فإنهم مخاريق الكلام.

قال: أما صعصعة: فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل أقران، يرتق ما فتق ويفتق ما رتق، قليل النظير.

وأما زيد و عبد الله: فإنهما نهران جاريان يصب فيهما الخلجان ويغاث بهما البلدان، رجلا جد لا لعب معه، وبنو صوحان كما قال الشاعر:

إذا نزل العدو فإن عندي * أسودا تخلس الأسد النفوسا

فاتصل كلام عقيل بصعصعة، فكتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم، ذكر الله أكبر وبه يستفتح المستفتحون، وأنتم مفاتيح الدنيا والآخرة.

أما بعد، فقد بلغ مولاك كلامك لعدو الله وعدو رسوله فحمدت الله على

الصفحة 233
ذلك وسألته أن يضئ بك إلى الدرجة العليا والقضيب الأحمر (1) والعمود الأسود، فإنه عمود من فارقه فارق الدين الأزهر. ولئن نزعت بك نفسك إلى معاوية طلبا لماله إنك لذو علم بجميع خصاله، فاحذر أن تعلق بك ناره فيضلك عن الحجة! فإن الله قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه في غيركم، فما كان من فضل أو إحسان فبكم وصل إلينا، فأجل الله أقداركم وحمى أخطاركم وكتب آثاركم، فإن أقداركم مرضية وأخطاركم محمية وآثاركم بدرية، وأنتم سلم الله إلى خلقه ووسيلته إلى طرقه، أيد علية ووجوه جلية، وأنتم كما قال الشاعر:

فما كان من خير أتوه وإنما * توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه * وتغرس إلا في منابتها النخل (2)

(154)
عقيل والوليد بن عقبة

قال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية: غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة؟ قال: نعم وسبقني وإياك إلى الجنة.

قال: أما والله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان. فقال: وما أنت وقريش؟ والله ما أنت فينا إلا كنطيح التيس!

فغضب الوليد (من قوله خ ل) وقال: والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعودا، وإن أخاك لأشد هذه الأمة عذابا. فقال (عقيل خ):

____________

(1) القضيب الأحمر يظهر معناه مما نقله ينابيع المودة (ص 103 - 104) إنه شجرة غرسها الله في جنة عدن بيمينه، فمن أراد أن يستمسك به فليتمسك بحب علي بن أبي طالب. أوردناه ملخصا لعله مراده تحرير عقيل على ولاته أمير المؤمنين عليه السلام حيث إنه جاء إلى معاوية للدنيا. وأخرجه سبط بن الجوزي في التذكرة.

(2) مروج الذهب: ج 3 ص 46 - 47.

الصفحة 234
صه! والله إنا لنرغب بعبد من عبيده من صحبة أبيك عقبة ابن أبي معيط! (2).

(155)
عقيل ومعاوية

قال معاوية يوما وعقيل عنده: هذا أبو يزيد لولا علمه أني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وقد آثرت دنياي، اسأل الله خاتمة خير (1).

(156)
عقيل ومعاوية

روى المدائني، قال: قال معاوية يوما لعقيل بن أبي طالب: هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال: نعم جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفا.

فأحب معاوية أن يمازحه، فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهما؟ قال: أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما إذا أغضبته يضرب عنقك! فضحك معاوية وقال: مازحناك يا أبا يزيد، وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلما... (1).

(157)
عقيل ومعاوية

سأل معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة، فبكى وقال: أنا

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 4 ص 93. والغارات: ج 1 ص 552. والبحار: ج 42 ص 114 عن ابن أبي الحديد.

(2) ابن أبي الحديد: ج 11 ص 251. والحلبي في السيرة: ج 1 ص 304. والبحار: ج 42 ص 116.

(3) ابن أبي الحديد: ج 1 ص 251. والبحار: ج 42 ص 116. أقول: في هذه القصة ما لا يخفى، لعلها من صنع المدائني الجعال.

الصفحة 235
أحدثك يا معاوية عنه ثم أحدثك عما سألت، نزل بالحسين ابنه ضيف، فاستسلف درهما اشترى به خبزا، واحتاج إلى الإدام، فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن، فأخذ منه رطلا. فلما طلبها عليه السلام ليقسمها قال: يا قنبر، أظن أنه حدث بهذا الزق حدث؟ فأخبره، فغضب عليه السلام وقال: علي بحسين! فرفع عليه الدرة، فقال: بحق عمي جعفر! وكان إذا سئل بحق جعفر سكن، فقال له: ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة؟ قال: إن لنا فيه حقا فإذا أعطيناه رددناه. قال: فداك أبوك! وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم.

أما لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا!

ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه وقال: اشتر به خير عسل تقدر عليه.

قال عقيل: والله لكأني أنظر إلى يدي علي وهي على فم الزق وقنبر يقلب العسل فيه ثم شده وجعل يبكي ويقول: اللهم اغفر لحسين، فإنه لم يعلم.

فقال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله، رحم الله أبا حسن، فلقد سبق من كان قبله وأعجز من يأتي بعده، هلم حديث الحديدة.

قال: نعم، أقويت وأصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم تند صفاته، فجمعت صبياني وجئته بهم، والبؤس والضر ظاهران عليهم. فقال: ائتني عشية لأدفع إليك شيئا.

فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي، ثم قال: ألا فدونك! فأهويت حريضا قد غلبني الجشع أظنها صرة، فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا!

فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال لي: ثكلتك أمك! هذا من حديدة أوقدت له نار الدنيا، فكيف بي وبك غدا إن سلكنا في

الصفحة 236
سلاسل جهنم؟ ثم قرأ: " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون " ثم قال: ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى، فانصرف إلى أهلك.

فجعل معاوية يتعجب ويقول هيهات! هيهات! عقمت النساء أن يلدن.

(158)
عقيل ومعاوية

أتى عقيل معاوية.... بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام وصلح الحسن عليه السلام وجلساءه حوله، فقال: يا أبا يزيد، أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك، فقد وردت عليهما، قال: أخبرك، مررت والله بعسكر أخي فإذا ليل كليل رسول الله صلى الله عليه وآله ونهار كنهار رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس في القوم، ما رأيت إلا مصليا ولا سمعت إلا قارئا. ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة.

ثم قال: من هذا عن يمينك يا معاوية؟ قال: هذا عمرو بن العاص. قال:

هذا الذي اختصم فيه ستة نفر، فغلب عليه جزار قريش. فمن الآخر؟ قال:

الضحاك بن قيس الفهري. قال: أما والله! لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيوس. فمن هذا الآخر؟ قال: أبو موسى الأشعري. قال: هذا ابن السراقة (2).

فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه، علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءا، فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء، فيذهب بذلك

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 11 ص 253. والبحار: ج 42 ص 117.

(2) في الغارات: المراقة.