الصفحة 256
كان قدرا مقدورا (1).

(181)
صعصة ومعاوية

قال معاوية يوما - وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس -: الأرض لله وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزا لي.

فقال صعصعة:

تمنيك نفسك ما لا يكون * جهلا معاوي لا تأثم

فقال معاوية: يا صعصعة تعلمت الكلام! قال: العلم بالتعلم، ومن لا يعلم يجهل.

قال معاوية: ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك! قال: ليس ذلك بيدك، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها.

قال: ومن يحول بيني وبينك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه.

قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير. قال: اتسع بطن من لا يشبع، ودعا عليه من لا يجمع (2).

قال المسعودي: ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان، وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والإيضاح عن المعاني على إيجاز واختصار، ومن ذلك خبره مع عبد الله بن العباس، إلى آخر القصة (3).

____________

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 51 - 52.

(2) مروج الذهب: ج 3 ص 52.

(3) مروج الذهب: ج 3 ص 52 - 55.

الصفحة 257

(182)
صعصعة ورجل

وقف رجل من بني فزارة على صعصعة، فأسمعه كلاما منه: بسطت لسانك يا ابن صوحان على الناس فتهيبوك، أما لئن شئت لأكونن لك لصاقا، فلا تنطق إلا حددت لسانك بأذرب من ظبة السيف بعضب قوي ولسان علي، ثم لا يكون لك في ذلك حل ولا ترحال.

فقال صعصعة: لو أجد غرضا منك لرميت، بل أرى شبحا، ولا أرى مثالا إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، أما لو كنت كفوا لرميت حصائلك بأذرب من ذلك السنان، ولرشقتك بنبال تردعك عن النضال، ولخطمتك بخطام يخرم منك موضع الزمام.

فاتصل الكلام بابن عباس فاستضحك من الفزاري! وقال: أما لو كلف أخو فزارة نفسه نقل الصخور من جبال شمام إلى الهضام، لكان أهون عليه من منازعة أخي عبد القيس، خاب أبوه ما أجهله! يستجهل أخا عبد القيس وقواه المريرة، ثم تمثل:

صبت عليك ولم تنصب من أمم * إن الشقاء على الأشقين مصبوب (1).

أخبرني رجل من الأزد، قال: نظرت إلى أبي أيوب الأنصاري في يوم النهروان، وقد علا عبد الله بن وهب الراسبي فضربه ضربة على كتفه فأبان يده، وقال: بؤبها إلى النار يا مارق! فقال عبد الله: ستعلم أينا أولى بها صليا، قال: وأبيك إني لأعلم.

إذ أقبل صعصعة بن صوحان فوقف وقال: أولى بها والله صليا من ضل في

____________

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 55 - 56.

الصفحة 258
الدنيا عميا وصار إلى الآخرة شقيا، أبعدك الله وأنزحك! أما والله! لقد أنذرتك هذه الصرعة بالأمس فأبيت إلا نكوصا على عقبيك، فذق يا مارق وبال أمرك.

وشرك أبا أيوب في قتله، ضربه ضربة بالسيف أبان بها رجله، وأدركه بأخرى في بطنه، وقال: لقد صرت إلى نار لا تطفأ ولا يبوخ سعيرها. ثم احتزا رأسه وأتيا به عليا، فقالا: هذا رأس الفاسق الناكث المارق عبد الله بن وهب.... (1).

(183)
صعصعة والمغيرة

قال المغيرة - وهو عامل معاوية يومئذ - لصعصعة بن صوحان: قم فالعن عليا. فقام فقال: إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا، فالعنوه لعنه الله! وهو يضمر مغيرة (2).

(184)
أصحاب علي عليه السلام ومعاوية

روى أبو الحسن المدائني: أنه كان لهم - أي الأشتر، ومالك بن كعب الأرجي، والأسود بن يزيد النخعي، وعلقمة بن قيس النخعي، وصعصعة بن صوحان، وغيرهم الذين سيرهم عثمان من الكوفة إلى الشام - مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات والمخاطبات، وأن معاوية قال لهم في جملة ما قاله: إن قريشا قد عرفت أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلا ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وآله فإنه انتجبه وأكرمه، ولو أن أبا سفيان ولد

____________

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 56.

(2) شرح نهج لابن أبي الحديد: ج 15 ص 257.

الصفحة 259
الناس كلهم لكانوا حلماء.

فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان، من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر والكيس والأحمق.

(185)
أصحاب علي عليه السلام ومعاوية

قال: ومن المجالس التي دارت بينهم: أن معاوية قال لهم: أيها القوم! ردوا خيرا أو اسكتوا، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين فاطلبوه، وأطيعوني.

فقال له صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله.

فقال: إن أول كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله، وأن تعتصموا جميعا ولا تفرقوا.

فقالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله.

فقال: إن كنت فعلت، فإني الآن أتوب وآمركم بتقوى الله وطاعته ولزوم الجماعة، وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم.

فقال صعصعة: إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن في المسلمين من هو أحق به منك، ممن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من أبيك، وهو أحسن قدما في الإسلام منك.

فقال معاوية: إن لي في الإسلام لقدما وإن كان غيري أحسن قدما مني، لكنه ليس في زماني أحد أقوى مني على ما أنا فيه مني، ولقد رأى عمر بن الخطاب ذلك، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري، ولم أحدث ما ينبغي له أن اغتزل عملي، فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي [ بخط يده ] فاعتزلت عمله، فمهلا! فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر الشيطان

الصفحة 260
وينتهي، ولعمري! لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأهواء كم ما استقام الأمر لأهل الإسلام يوما ولا ليلة، فعاودوا الخير وقولوه، فإن الله ذو سطوات، وإني خائف عليكم أن تتابعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل.

فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه ولحيته. فقال: مه! إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله! لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي [ وأنات إمامهم ] ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري! إن صنيعتكم يشبه بعضه بعضا (1).

(186)
ابن عباس وصعصعة مع الخوارج

قال البلاذري: ثم قامت خطباء الحرورية - أي الخوارج -.... فقالوا:

دعوتنا إلى كتاب الله والعمل به فأجبناك وبايعناك [ و ] قد قتلت في طاعتك قتلانا يوم الجمل ويوم صفين، ثم شككت في أمر الله وحكمت عدوك، ونحن على أمرك الذي تركت وأنت اليوم على غيره، فلسنا منك إلا أن تتوب منه وتشهد على نفسك بالضلالة.

فلما فرغوا من قولهم قال علي:

أما أن أشهد على نفسي بالضلالة: فمعاذ الله! أن أكون ارتبت منذ أسلمت أو ضللت منذ اهتديت، بل بنا هداكم الله من الضلالة واستنقذكم من الكفر وعصمكم من الجهالة، وإنما حكمت الحكمين بكتاب الله والسنة الجامعة غير المفرقة، فإن حكما بكتاب الله كنت أولى بالأمر من حكمهما، وإن حكما بغير ذلك لم يكن لهما علي وعليكم حكم.

ثم تفرقوا فأعاد إليهم عبد الله بن عباس وصعصعة [ بن صوحان ] فقال لهم

____________

(1) شرح نهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 131 - 133.

الصفحة 261
صعصعة: أذكركم الله! أن تجعلوا فتنة العام مخافة فتنة عام قابل.

فقال ابن الكواء: أكنتم تعلمون أني دعوتكم إلى هذا الأمر؟ فقالوا: بلى.

قال: فإني أول من أطاع هذا الرجل، فإنه واعظ شفيق. فخرج معه منهم نحو من خمسمائة فدخلوا في جملة علي وجماعته (1).

(187)
محمد بن أبي بكر ومعاوية

1 - كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية:

من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر، سلام على أهل طاعة الله ممن هو سلم لأهل ولاية الله.

أما بعد: فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عبث ولا ضعف في قوته لا حاجة به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيدا وجعل منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا، ثم اختار على علمه، فاصطفى وانتخب منهم محمدا صلى الله عليه وآله فاختصه برسالته، واختاره لوحيه، وائتمنه على أمره، وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب، ودليلا على الشرايع، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب وصدق فأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام، فصدقه بالغيب المكتوم، وآثره على كل حميم، ووقاه كل هول، وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع، حتى بارز سابقا لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله. وقد رأيتك تساميه وأنت أنت، وهو هو السابق المبرز في كل خير، أول الناس إسلاما، وأصدق الناس نية، وأطيب الناس ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابن عم.

____________

(1) أنساب الأشراف: ج 1 ص 354.

الصفحة 262
وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل، وتجتهدان على إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتحالفان في ذلك القبائل، على هذا مات أبوك وعلى ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله، والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب يجالدون حوله أسيافه، ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في أتباعه، والشقاق والعصيان في خلافه، فكيف يا لك الويل! تعدل نفسك بعلي؟ وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه، وأبوه ولده، وأول الناس له اتباعا، وآخرهم عهدا، يخبره بسره، ويشركه في أمره، وأنت عدوه وابن عدوه ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكان أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى، وسوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا. واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده وآيست من روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، بالله وبأهل يبت نبيك الغناء (1).

____________

(1) ابن أبي الحديد: ج 3 ص 188 الطبعة الجديدة وفي الطبعة الأولى المصرية: ج 1 ص 283. ومروج الذهب: ج 3 ص 20 - 21. والغدير: ج 10 عنه: ووقعة صفين. ص 132 وفي نسخة مصرية ص 118.

وجمهرة الرسائل: ج 1 ص 542. والاختصاص للمفيد رحمه الله: ص 119. والاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 269 ط نجف، و عبد الله بن سبأ للعسكري: ص 123. وقاموس الرجال: ج 7 ص 195. ولعله مراد الطبري ج 6 ص 3248 حيث قال: ذكر هشام عن أبي مخنف أن محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما ولي، فذكرت مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها، لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة والبحار: ج 8 ص 603 و 604 ط الكمباني عن ج وختص ونصر. وأنساب الأشراف: ج 1 ص 393.

الصفحة 263

جواب معاوية:

بسم الله الرحمن الرحيم. من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر، سلام على أهل طاعة الله.

أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه وما أصفى به نبيه، مع كلام ألفته ووضعته لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت حق ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى الله عليه ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول، واحتجاجك علي بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد آلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك! وقد كنا وأبوك معنا في حياة من نبينا صلى الله عليه نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده وأتم له ما وعده وأظهر دعوته وأفلج حجته، قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتز وخالفه على ذلك اتفقا واتسقا، ثم دعواه إلى أنفسهم، فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وأرادا به العظيم، فبايع وسلم لهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضا وانقضى أمرهما. ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، وبطنتما له وأظهرتما [ وكشفتما ] عداوتكما وغلكما حتى بلغتما منه مناكما، فخذ حذرك يا ابن أبي بكر! فسترى وبال أمرك، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه [ و ] لا تلين على قسر قناته، ولا يدرك ذو مدى أناته، أبوك مهد مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يك جورا فأبوك أسسه ونحن شركاؤه، ويهديه أخذنا وبفعله اقتدينا، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب وأسلمنا له، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك، فاحتذينا بمثاله واقتدينا بفعاله، فعب

الصفحة 264
أباك ما بدا لك أو دع. والسلام على من أناب ورجع عن غوايته وتاب (1).

وفي الاختصاص: أن محمدا كتب في أسفله هذه الأبيات:

معاوي ما أمسى هوى يستقيدني * إليك ولا أخفي الذي لا أعالن
ولا أنا في الأحرى إذا ما شهدتها * بنكس ولا هيابة في المواطن
حللت عقال الحرب جبنا وإنما * يطيب المنايا خائنا وابن خائن
فحسبك من إحدى ثلاث رأيتها * بعينك أو تلك التي لم تعاين
ركوبك بعد الأمن حربا مشارفا * وقد دميت أظلافها والسناسن
وقد حك بالكفين توري ضريمة * من الجهل أدتها إليك الكهائن
ومسحك أقراب الشموس كأنها * تبس بإحدى الداحيات الحواضن
تنازع أسباب المروة أهلها * وفي الصدر داء من جوى الغل كامن (2)

(188)
محمد ومعاوية وعمرو

2 - كتابه إلى عمرو بن العاص ومعاوية:

أخرج الطبري (2) ناقلا عن أبي مخنف، فقال: فخرج عمرو (أي ابن العاص) يسير حتى نزل أداني مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبي بكر:

أما بعد، فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر! فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر. إن الناس بهذا البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك، وندموا على أتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان، فأخرج منها فإني لك من الناصحين، والسلام. وبعث إليه عمرو أيضا بكتاب معاوية إليه:

____________

(1) المصادر المتقدمة.

(2) الطبري: ج 5 ص 101 - 102.

الصفحة 265
أما بعد، فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا ومن التبعة الموبقة في الآخرة، وأنا لا أعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا ولا أسوء له عيبا ولا أشد عليه خلافا منك!

سعيت عليه في الساعين، وسفكت معه في السافكين. ثم إنك أنت تظن أني عنك نائم أو ناس لك حتى تأتي وتأمر على بلاد أنت فيها جاري! وجل أهلها أنصاري، يرون رأيي ويرقبون قولي، ويستصرخون عليك، وقد بعثت إليك قوما حناقا عليك يستسقون دمك، ويتقربون إلى الله بجهادك، وقد أعطوا عهدا ليمثلن بك ولو لم يكن منهم إليك ما عدا، فتلك ما حذرتك ولا أنذرتك، ولأحببت أن يقتلوك بظلمك وقطيعتك وعدوك على عثمان يوم يطعن بمشاقصك بين خششائه وأوداجه، ولكن أكره أن أمثل بقرشي، ولن يسلمك الله من القصاص أبدا أينما كنت، والسلام.

فطوى محمد الكتاب وبعثهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام وكتب في جواب معاوية:

أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عثمان أمرا لا أعتذر إليك منه، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح، وتخوفني المثلة كأنك شفيق، وأنا أرجو أن تكون لي الدائرة عليكم فأجتاحكم في الوقعة، وإن تؤتوا النصر ويكن لكم الأمر في الدنيا، فكم لعمري من ظالم قد نصرتم! وكم من مؤمن قد قتلتم ومثلتم به! وإلى الله مصيركم ومصيرهم، وإلى الله مرد الأمور، وهو أرحم الراحمين، والله المستعان على ما تصفون، والسلام.

وكتب في جواب عمرو بن العاص:

أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت في كتابك يا ابن العاص! زعمت أنك تكره أن يصيبني منك ظفر، وأشهد أنك من المبطلين، وتزعم أنك لي نصيح، وأقسم أنك عندي ظنين، وتزعم أن أهل البلد قد رفضوا رأيي وأمري وندموا على

الصفحة 266
اتباعي، فأولئك لك وللشيطان الرجيم أولياء، فحسبنا الله رب العالمين، وتوكلنا على الله رب العرش العظيم، والسلام (1).

(189)
عمار والأشتر مع عائشة

دخل عمار بن ياسر ومالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل. فقالت عائشة: يا عمار من معك؟ قال: الأشتر. فقالت: يا مالك! أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت؟ قال: نعم، ولولا أنني كنت طاويا ثلاثة لأرحت أمة محمد منه. فقالت: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " لا يحل دم مسلم إلا بإحدى أمور ثلاث: كفر بعد الإيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق " فقال الأشتر: على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين! وأيم الله! ما خانني سيفي قبلها، ولقد أقسمت إلا يصحبني بعدها.

قال أبو مخنف: ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه:

وقالت: على أي الخصال صرعته * بقتل أتى أم ردة لا أبا لكا!
أم المحصن الزاني الذي حل قتله * فقلت لها: لا بد من بعض ذلكا
أوله: أعائش لولا أنني كنت طاويا * ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادى والرجال تحوزه * بأضعف صوت: اقتلوني ومالكا
فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه * خدب عليه في العجاجة باركا
فنجاه مني أكله وشبابه * وأني شيخ لم أكن متماسكا (2)

____________

(1) راجع الغدير: ج 11 ص 64 - 69. وشرح ابن أبي الحديد: ج 6 ص 83 - 85 (2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 11 ص 263.

الصفحة 267

(190)
قنبر مولى علي عليه السلام والحجاج

عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام: إن قنبرا مولى أمير المؤمنين عليه السلام أدخل على الحجاج. فقال: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ قال: كنت أوضئه. فقال له: ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال:

كان يتلو هذه الآية " فلما نسوا ما ذكروا به " إلى قوله: " فأذاهم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " فقال الحجاج: أظنه كان يتأوله علينا؟ قال: نعم [ فقال: ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ قال: إذن أسعد وتشقى، فأمر به ] (1).

عن شهر بن حوشب، قال: قال لي الحجاج: يا شهر! آية في كتاب الله قد أعيتني. فقلت: أيها الأمير! أية آية هي؟ فقال: قوله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " والله! إني لآمر باليهودي والنصراني فتضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يحمل. فقلت: أصلح الله الأمير! ليس على ما تأولت. قال: كيف هو؟ قلت: إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلا آمن به قبل موته ويصلي خلف المهدي. قال: ويحك! أنى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقال: جئت والله بها من عين صافية! (2).

____________

(1) البحار: ح 67 ص 199 وج 42 ص 135 عن العياشي والكشي.

(2) البحار: ج 53 ص 50 - 51.

الصفحة 268

(191)
السيد الحميري وسوار القاضي

ومما حكى الشيخ رحمه الله قال: قال الحارث بن عبد الله الربعي: كنت جالسا في مجلس المنصور وهو بالجسر الأكبر وسوار القاضي عنده والسيد الحميري ينشده:

إن الإله الذي لا شئ يشبهه * أتاكم الملك للدينا وللدين
أتاكم الله ملكا لا زوال له * حتى يقاد إليكم صاحب الصين
وصاحب الهند مأخوذ برمته * وصاحب الترك محبوس على هون

حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور.

فقال سوار: إن هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه! والله إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم، وإنه لينطوي على عداوتكم.

فقال السيد: والله! إنه لكاذب، وإنني في مدحتك لصادق، وإنه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال، وإن انقطاعي إليكم ومودتي لكم أهل البيت لمعرق فيها من أبوي، وإن هذا وقومه لأعداءكم في الجاهلية والإسلام، وقد أنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام في أهل بيت هذا " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " فقال المنصور: صدقت.

فقال سوار: يا أمير المؤمنين! إنه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب والوقيعة فيهما.

فقال السيد: أما قوله: إني بالرجعة، فإني أقول بذلك على ما قال الله تعالى: " ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون " وقد قال في موضع آخر " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " فعلمنا أن هاهنا حشرين:

أحدهما عام، والآخر خاص، وقال سبحانه: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين

الصفحة 269
فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " وقال تعالى: " فأماته الله مائة عام ثم بعثه " وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " فهذا كتاب الله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة " وقال صلى الله عليه وآله: " لم يجر في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في أمتي مثله حتى الخسف والمسخ والقذف " وقال حذيفة: " والله! ما أبعد أن يمسخ الله عز وجل كثيرا من هذه الأمة قردة وخنازير ". فالرجعة التي أذهب إليها ما نطق به القرآن وجاءت به السنة، وإني لأعتقد أن الله عز وجل يرد هذا - يعني سوارا - إلى الدنيا كلبا أو قردا أو خنزيرا أو ذرة، فإنه والله متجبر متكبر كافر! قال:

فضحك المنصور. وأنشأ السيد يقول:

جاثيت سوارا أبا شملة * عند الإمام الحاكم العادل
فقال قولا خطلا كله * عند الورى الحافل والناعل
ما ذب عما قلت من وصمة * في أهله بل لج في الباطل
وبان للمنصور صدقي كما * قد بان كذب الأنوك الجاهل
يبغض ذا العرش ومن يصطفي * من رسله بالنير الفاضل
ويشنأ الحبر الجواد الذي * فضل بالفضل على الفاضل
ويعتدي بالحكم في معشر * أدوا حقوق الرسل للراسل
فبين الله تزاويقه * فصار مثل الهائم الهامل

فقال المنصور: كف عنه. فقال السيد: يا أمير المؤمنين البادي أظلم، يكف عني حتى أكف عنه. فقال المنصور للسوار: قد تكلم بكلام فيه نصفه، كف عنه حتى لا يهجوك (1).

____________

(1) البحار: ج 10 ص 232 - 234، وج 53 ص 130.

الصفحة 270

(192)
شيخ من الشيعة وبعض المعتزلة

قال المفيد - رحمه الله - في الكتاب المذكور - يعني الفصول -: سأل بعض المعتزلة شيخا من أصحابنا الإمامية وأنا حاضر في مجلس فيهم جماعة كثيرة من أهل النظر والمتفقهة. فقال له: إذا كان من قولك: إن الله عز وجل يرد الأموات إلى دار الدنيا قبل الآخرة عند القائم يشفي المؤمنين كما زعمتم من الكافرين وينتقم لهم منهم كما فعل ببني إسرائيل فيما ذكرتموه حيث تتعلق بقوله تعالى: " ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا " فخبرني ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر و عبد الرحمن بن ملجم ويرجعوا عن كفرهم وضلالهم ويصيروا في تلك الحال إلى طاعة الإمام فيجب عليك ولايتهم والقطع بالثواب لهم! وهذا نقض مذاهب الشيعة.

فقال الشيخ المسؤول: القول بالرجعة إنما قلته من طريق التوقيف وليس للنظر فيه مجال، وأنا لا أجيب عن هذا السؤال، لأنه لا نص عندي فيه وليس يجوز لي أن أتكلف من غير جهة النص الجواب. فشنع السائل وجماعة المعتزلة عليه بالعجز والانقطاع.

فقال الشيخ - أيده الله -: فأقول أنا: إن عن هذا السؤال جوابين:

أحدهما:

أن العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممن ذكره السائل، لأنه يكون إذ ذاك قادرا عليه ومتمكنا منه، ولكن السمع الوارد عن أئمة الهدى عليهم السلام بالقطع عليهم بالخلود في النار، والتدين بلعنهم والبراءة منهم إلى آخر الزمان منع من الشك في حالهم، وأوجب القطع على سوء اختيارهم، فجروا في هذا الباب مجرى فرعون وهامان وقارون، ومجرى من قطع الله عز وجل على خلوده في النار، ودل القطع على أنهم لا يختارون أبدا الإيمان ممن قال الله تعالى: " ولو

الصفحة 271
أنا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " يريد إلا أن يلجئهم الله، والذين قال الله فيهم: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ".

ثم قال جل قائلا في تفضيلهم وهو يوجه القول إلى إبليس: " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " وقوله تعالى: " وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " وقوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب " فقطع بالنار عليه وأمن من انتقاله إلى ما يوجب له الثواب. وإذا كان الأمر على ما وصنفناه بطل ما توهمتموه على هذا الجواب.

والجواب الآخر:

أن الله سبحانه إذا رد الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم يقبل لهم توبة، وجروا في ذلك مجرى فرعون لما أدركه الغرق " قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " قال الله سبحانه له:

" الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " فرد الله عليه إيمانه ولم ينفعه في تلك الحال ندمه وإقلاعه، وكأهل الآخرة الذين لا يقبل الله لهم توبة ولا ينفعهم ندم، لأنهم كالملجئين إذ ذاك إلى الفعل، ولأن الحكمة تمنع من قبول التوبة أبدا ويوجب اختصاص بعض الأوقات بقبولها دون بعض.

وهذا هو الجواب الصحيح على مذهب أهل الإمامة، وقد جاءت به آثار متظاهرة عن آل محمد صلى الله وآله، فروي عنهم في قوله تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون " فقالوا: إن هذه الآية هو القائم عليه السلام، فإذا ظهر لم يقبل توبة المخالف. وهذا يسقط ما اعتمده السائل.

سؤال:

فإن قالوا: في هذا الجواب ما أنكرتم أن يكون الله تعالى على ما أصلتموه قد أغرى عباده بالعصيان وأباحهم الهرج والمرج والطغيان، لأنهم

الصفحة 272
إذا كانوا يقدرون على الكفر وأنواع الضلال وقد يئسوا من قبول التوبة لم يدعهم داع إلى الكف عما في طباعهم، ولا انزجروا من فعل قبيح يصلون به إلى النفع العاجل، ومن وصف الله تبارك وتعالى بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب فقد أعظم الفرية عليه!.

جواب:

قيل لهم: ليس الأمر على ما ظننتموه، وذلك أن الدواعي لهم إلى المعاصي ترتفع إذ ذاك، ولا يحصل لهم داع إلى قبيح على وجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب، لأنهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب وقت الرجعة على خلاف أئمتهم عليهم السلام، ويعلمون في الحال أنهم معذبون على ما سبق لهم من العصيان، وأنهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب، ولا يكون لهم عند ذلك طبع يدعوهم إلى ما يتزايد عليهم به العذاب، بل يتوفر لهم دواعي الطباع والخواطر كلها إلى إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان.

وإن لزمنا هذا السؤال لزم أهل جميع أهل الإسلام مثله في أهل الآخرة وحالهم في إبطال توبتهم وكون ندمهم غير مقبول، فمهما أجاب الموحدون لمن ألزمهم ذلك فهو جوابنا بعينه.

سؤال آخر:

وإن سألوا على المذهب الأول والجواب المتقدم فقالوا: كيف يتوهم من القوم الإقامة على العناد والاصرار على الخلاف وقد عاينوا - فيما تزعمون - عقاب القبور وحل بهم عند الرجعة العذاب على ما تزعمون أنهم مقيمون عليه؟ وكيف يصح أن يدعوهم الدواعي إلى ذلك ويحظر لهم في فعله الخواطر؟ ما أنكرتم أن تكونوا في هذه الدواعي مكابرين.

جواب: قيل لهم: يصح ذلك على مذهب من أجاب بما حكيناه من أصحابنا بأن يقول: إن جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في استحسان الخلاف، لأن القوم يظنون أنهم إنما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم وليلوا الدنيا كما كانوا، ويظنون أن ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطا منهم،

الصفحة 273
وإذا جل بهم العقاب ثانية توهموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أن ذلك ليس من طريق الاستحقاق وأنه من الله تعالى، لكنه كما يكون الدول وكما حل بالأنبياء عليهم السلام.

ولأصحاب هذا الجواب أن يقولوا: ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب من كفر قوم موسى عليه السلام وعبادتهم العجل، وقد شاهدوا منه الآيات وعاينوا ما حل بفرعون وملئه على الخلاف! ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرك على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتى به من القرآن، ويشهدون معجزاته وآياته عليه السلام ويجدون مخبرات أخباره على حقائقها من قوله تعالى: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " وقوله عز وجل: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " وقوله عز وجل: " ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون " وما حل بهم من العقاب بسيفه عليه السلام وهلاك كل من توعده بالهلاك. هذا، وفيمن أظهر الإيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلى أهل الشرك والضلال.

على أن هذا السؤال لا يسوغ لأصحاب المعارف من المعتزلة لأنهم يزعمون أن أكثر المخالفين على الأنبياء كانوا من أهل العناد، وأن جمهور المظهرين الجهل بالله تعالى يعرفونه على الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم، ولكنهم في الخلاف على اللجاجة والعناد، فلا يمتنع يكون الحكم في الرجعة وأهلها على هذا الوصف الذي حكيناه، وقد قال الله تعالى: " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ".

فأخبر سبحانه: أن أهل العقاب لو ردهم إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والعناد مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الأهوال وما ذاقوا من أليم

الصفحة 274
العذاب (1).

(193)
المفيد يجيب في مسألة الرجعة

وفي المسائل السروية: أنه سئل الشيخ - قدس الله روحه - عما يروى عن مولانا جعفر بن محمد الصادق عليها السلام في الرجعة وما معنى قوله: " ليس منا من لم يقل بمتعتنا ويؤمن برجعتنا " أهي حشر في الدنيا مخصوص للمؤمن أو لغيره من الظلمة الجبارين قبل يوم القيامة؟

فكتب الشيخ - رحمه الله - بعد الجواب عن المتعة: وأما قوله عليه السلام:

" من لم يقل برجعتنا فليس منا " فإنما أراد بذلك ما يختصه من القول به في أن الله تعالى يحشر قوما من أمة محمد صلى الله عليه وآله بعد موتهم قبل يوم القيامة. وهذا مذهب يختص به آل محمد صلى الله وآله والقرآن شاهد به، قال الله عز وجل في ذكر الحشر الأكبر يوم القيامة: " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " وقال سبحانه في حشر الرجعة قبل يوم القيامة: " ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون " فأخبر أن الحشر حشران: عام، وخاص.

وقال سبحانه مخبرا عمن يحشر من الظالمين: إنه يقول يوم الحشر الأكبر:

" ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ".

وللعامة في هذه الآية تأويل مردود، وهو أن قالوا: إن المعني بقوله: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " أنه خلقهم أمواتا ثم أماتهم بعد الحياة. وهذا باطل لا يستمر على لسان العرب، لأن الفعل لا يدخل إلا على من كان بغير

____________

(1) البحار: ج 53 / 132 - 136 عن الفصول المختارة: ج 1 / 115 - 119.

الصفحة 275
الصفة التي انطوى اللفظ على معناها، ومن خلقه الله أمواتا لا يقال: أماته، وإنما يقال ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة، كذلك لا يقال: أحيا الله ميتا، إلا أن يكون قد كان قبل إحيائه ميتا. وهذا بين لمن تأمله.

وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: " ربنا أمتنا اثنتين " الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمسألة، فتكون الأولى قبل الإقبار والثانية بعده. وهذا أيضا باطل من وجه آخر، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف، فيندم الإنسان على ما فاته في حاله. وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم المرتين يدل على أنه لم يرد حياة المسألة، لكنه أراد حياة الرجعة التي تكون لتكيفهم الندم على تفريطهم، فلا يفعلون ذلك، فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك (1).

(194)
هشام بن الحكم مع ضرار بن عمرو

قال السيد المرتضى - رضي الله عنه - في كتاب الفصول: أخبرني الشيخ - أيده الله - قال: دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن خالد البرمكي، فقال له: يا أبا عمرو! هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة؟ فقال ضرار:

هلم من شئت.

فبعث إلى هشام بن الحكم فأحضره، فقال: يا أبا محمد! هذا ضرار، وهو من قد علمت في الكلام والخلاف لك، فكلمه في الإمامة. فقال: نعم. ثم أقبل على ضرار، فقال: يا أبا عمرو! خبرني على ما تجب الولاية والبراءة، على الظاهر أم على الباطن؟ فقال ضرار: بل على الظاهر، فإن الباطن لا يدرك إلا بالوحي. فقال هشام: صدقت، فخبرني الآن أي الرجلين كان أذب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف، وأقتل لأعداء الله عز وجل بين يديه،

____________

(1) البحار: ج 53 ص 136 - 137.