الصفحة 276
وأكثر آثارا في الجهاد، علي بن أبي بن أبي طالب أو أبو بكر؟ فقال: علي بن أبي طالب، ولكن أبا بكر كان أشد يقينا. فقال هشام: هذا هو الباطن الذي قد تركنا الكلام فيه، وقد اعترفت لعلي عليه السلام بظاهر عمله من الولاية ما لم يجب لأبي بكر. فقال ضرار: هذا الظاهر نعم.

ثم قال هشام: أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي لا يدفع؟ فقال ضرار: بلى. فقال هشام: ألست تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام " إنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " فقال ضرار: نعم. فقال له هشام: أيجوز أن يقول هذا القول إلا وهو عنده في الباطن مؤمن؟ قال: لا. فقال هشام: فقد صح لعلي عليه السلام ظاهره وباطنه، ولم يصح لصاحبك ظاهر ولا باطن! والحمد لله (1).

(195)
هشام مع يحيى بن خالد

قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله تأييده - قال: سأل يحيى بن خالد البرمكي هشام بن الحكم - رحمة الله عليه - بحضرة الرشيد، فقال له: أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟ فقال هشام: لا. قال: فخبرني عن نفسين اختصما في حكم في الدين وتنازعا واختلفا، هل يخلو من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما مبطلا والآخر محقا؟ فقال هشام: لا يخلوان من ذلك، وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب.

فقال له يحيى بن خالد: فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل إذ كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين؟ فقال هشام: فنظرت إذا إنني إن قلت: إن عليا عليه السلام كان

____________

(1) البحار: ج 10 ص 292 عن الفصول المختارة: ج 1 / 9 - 10.

الصفحة 277
مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي، وإن قلت: إن العباس كان مبطلا ضرب عنقي! ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت ولا أعددت لها جوابا، فذكرت قول أبي عبد الله عليه السلام وهو يقول لي: " يا هشام! لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك " فعلمت أني لا أخذل، وعن لي الجواب في الحال فقلت له:

لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعا محقين، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود عليه السلام حيث يقول الله جل اسمه: " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب " إلى قوله تعالى: " خصمان بغي بعضهما على بعض " فأي الملكين كان مخطئا؟ وأيهما كان مصيبا؟ أم تقول: إنهما كانا مخطئين؟ فجوابك في ذلك جوابي بعينه.

فقال يحيى: لست أقول: إن الملكين أخطأ، بل أقول: إنهما أصابا، وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم، وإنما أظهرا ذلك لينبها داود عليه السلام على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.

قال: فقلت له: كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولم يختصما في الحقيقة وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث، ولم يكونا في ريب من أمرهما، وإنما كان ذلك منهما على حد ما كان من الملكين. فلم يحر جوابا، واستحسن ذلك الرشيد (1).

(196)
هشام و عبد الله بن يزيد

وأخبرني الشيخ أيضا قال: أحب الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم

____________

(1) البحار: ج 10 ص 293 وج 8 ص 85 ط الكمباني

الصفحة 278
مع الخوارج، فأمر بإحضار هشام بن الحكم وإحضار عبد الله بن يزيد الإباضي. وجلس حيث يسمع كلامهما ولا يرى القوم شخصه، وكان بالحضرة يحيى بن خالد.

فقال يحيى لعبد الله بن يزيد: سل أبا محمد - يعني هشاما - عن شئ. فقال هشام: لا مسألة للخوارج علينا. فقال عبد الله بن يزيد: وكيف ذلك؟ فقال هشام: لأنكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بأمته وفضله، ثم فارقتمونا في عداوته والبراءة منه، فنحن على إجماعنا وشهادتكم لنا، وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا ودعواكم غير مقبولة علينا، إذ الاختلاف لا يقابل الاتفاق، وشهادة الخصم لخصمه مقبولة، وشهادته عليه مردودة.

قال يحيى بن خالد: لقد قربت قطعه يا أبا محمد! ولكن جاره شيئا، فإن أمير المؤمنين - أطال الله بقاه - يحب ذلك. قال: فقال هشام: أنا أفعل ذلك، غير أن الكلام ربما انتهى إلى حد يغمض ويدق على الأفهام فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه عليه، فإن أحب الأنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا، إن خرجت عن الطريق ردني إليه، وإن جار في حكمه شهد عليه. فقال عبد الله بن يزيد: لقد دعا أبو محمد إلى الإنصاف.

فقال هشام: فمن يكون هذه الواسطة؟ وما يكون مذهبه؟ أيكون من أصحابي أو من أصحابك أو مخالفا للملة لنا جميعا؟ قال عبد الله بن يزيد: اختر من شئت فقد رضيت به. قال هشام: أما أنا فأرى أنه إن كان من أصحابي لم يؤمن عليه العصبية لي، وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم علي، وإن كان مخالفا لنا جميعا لم يكن مأمونا علي ولا عليك، ولكن يكون رجلا من أصحابي ورجلا من أصحابك فينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحق ومحض الحكم بالعدل. فقال عبد الله بن يزيد: فقد أنصفت يا أبا محمد! وكنت أنتظر هذا منك.


الصفحة 279
فأقبل هشام على يحيى بن خالد: فقال له قد قطعته أيها الوزير ودمرت على مذاهبه كلها بأهون سعي، ولم يبق معه شئ واستغنيت عن مناظرته!

قال: فحرك الستر الرشيد، وأصغى يحيى بن خالد، فقال: هذا متكلم الشيعة واقف الرجل مواقفة لم يتضمن مناظرة ثم ادعى عليه أنه قد قطعه وأفسد مذهبه! فمره أن يبين عن صحة ما ادعاه على الرجل. فقال يحيى بن خالد لهشام: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحة ما ادعيت على هذا الرجل.

قال: فقال هشام رحمه الله: إن هؤلاء القوم لم يزالوا معناه على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حتى كان من أمر الحكمين ما كان فأكفروه بالتحكيم وضللوه بذلك، وهم الذين اضطروه إليه، والآن فقد حكم هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختارا غير مضطر رجلين مختلفين في مذهبهما:

أحدهما يكفره والآخر يعدله، فإن كان مصيبا في ذلك فأمير المؤمنين أولى بالصواب، وإن كان مخطئا كافرا فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها، والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليا عليه السلام.

قال: فاستحسن ذلك الرشيد، وأمر بصلته وجائزته (1).

(197)
هشام ورجل

وقال الشيخ - أدام الله عزه -: سئل هشام بن الحكم - رحمة الله عليه - عما يرويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السلام لما قبض عمرو قد دخل عليه وهو مسجى: " لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى "، وفي حديث آخر:

" إني لأرجو أن ألقى الله تعالى بصحيفة هذا المسجى " فقال هشام: هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد، وإنما حصل من جهة القصاص

____________

(1) البحار: ج 10 ص 294. وج 8 ص 570 ط الكمباني.

الصفحة 280
وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفا، وذلك: أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالما مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولم يولوهم مقامه بعده، وكانت الصحيفة لعمر، إذ كان عماد القوم فالصحيفة التي ود أمير المؤمنين عليه السلام ورجا أن يلقى الله عز وجل بها هي هذه الصحيفة ليخاصمه بها ويحتج عليه بمضمونها.

والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبي بن كعب: أنه كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أفضي الأمر إلى أبي بكر لصوت يسمعه أهل المسجد: ألا هلك أهل العقدة! والله ما آسى عليهم! إنها آسى على من يضلون من الناس! فقيل له: يا صاحب رسول الله! من هؤلاء أهل العقدة؟

وما عقدتهم؟ فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولم يولوهم مقامه، أما والله! لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاما أبين للناس أمرهم. قال: فما أتت عليه الجمعة (1).

(198)
هشام والمتكلمون

الاختصاص للمفيد - رحمه الله -: أحمد بن الحسن، عن عبد العظيم بن عبد الله، قال: قال هارون الرشيد لجعفر بن يحيى البرمكي: إني أحب أن أسمع كلام المتكلمين من حيث لا يعلمون بمكاني، فيحتجون عن بعض ما يريدون.

فأمر جعفر المتكلمين فاحضروا داره، وصار هارون في مجلس يسمع كلامهم، وأرخى بينه وبين المتكلمين سترا. فاجتمع المتكلمون وغص المجلس

____________

(1) البحار: ج 10 ص 297 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 57.

الصفحة 281
بأهله ينتظرون هشام بن الحكم، فدخل عليهم وعليه قميص إلى الركبة وسراويل إلى نصف الساق، فسلم على الجميع ولم يخص جعفرا بشئ!

فقال له رجل من القوم: لم فضلت عليا على أبي بكر، والله يقول: " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا "؟

قال هشام: فأخبرني عن حزنه في ذلك الوقت، أكان لله رضى أم غير رضى؟ فسكت. فقال هشام: إن زعمت أنه كان لله رضى، فلم نهاه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: " لا تحزن "؟ أنهاه عن طاعة الله ورضاه؟ وإن زعمت أنه كان لله غير رضى، فلم تفتخر بشئ كان لله غير رضى؟ وقد علمت ما قال الله تبارك وتعالى حين قال: " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ".

ولأنكم قلتم وقلنا وقالت العامة: " الجنة تشتاق إلى أربعة نفر: علي بن أبي طالب عليه السلام، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن الذابين عن الإسلام أربعة نفر: علي بن أبي طالب عليه السلام والزبير بن العوام، وأبو دجانة الأنصاري، وسلمان الفارسي " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن القراء أربعة نفر: علي بن أبي طالب عليه السلام و عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن المطهرين من السماء أربعة نفر: علي بن أبي

الصفحة 282
طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن الأبرار أربعة: علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن الشهداء أربعة نفر: علي بن أبي طالب، وجعفر، وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

قال: فحرك هارون الستر، وأمر جعفر الناس بالخروج، فخرجوا مرعوبين وخرج هارون إلى المجلس فقال: من هذا ابن الفاعلة؟ فوالله لقد هممت بقتله وإحراقه بالنار! (1).

(199)
هشام وعمرو بن عبيد

عن يونس بن يعقوب، قال: كان عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام جماعة من أصحابه، فيهم حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة من أصحابه، فيهم هشام بن الحكم وهو شاب. فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام! قال: لبيك يا ابن رسول الله! قال: ألا تحدثني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟ قال هشام: جعلت فداك يا ابن

____________

(1) البحار: ج 10 ص 297 - 298. عن الاختصاص: ص 96 - 98.

الصفحة 283
رسول الله! إني أجلك وأستحيك ولا يعمل لساني بين يديك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أمرتكم بشئ فافعلوا.

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، وعظم ذلك علي، فخرجت إليه ودخلت البصرة في يوم الجمعة، فأتيت مسجد البصرة، فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء متزر بها من صوف وشملة مرتد بها، فاستفرجت الناس فأفرجوا، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي.

ثم قلت: أيها العالم! أنا رجل غريب تأذن لي فأسألك عن مسألة؟ قال:

فقال: نعم.

قال: قلت له: ألك عين؟ قال: يا بني! أي شئ هذا من السؤال؟!

فقلت: هكذا مسألتي. فقال: يا بني! سل وإن كانت مسألتك حمقاء! قلت:

أجبني فيها. قال: فقال لي: سل. قلت: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: فما ترى به؟ قال: الألوان والأشخاص. قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أتشمم بها الرائحة. قال: قلت: ألك فم؟ قال: نعم، قال:

قلت: وما تصنع به؟ قال: أتكلم به. قال: قلت: ألك أذن؟ قال: نعم، قلت:

وما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الأصوات. قال: قلت ألك يد؟ قال: نعم، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أبطش بها. قال: قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: وما تصنع به؟ قال: أميز كل ما ورد على هذه الجوارح.

قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت:

وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني! إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردته إلى القلب فييقن اليقين ويبطل الشك. قال: فقلت: إنما أقام الله القلب لشك الجوارح! قال: نعم.

قال: قلت: فلا بد من القلب وإلا لم تستقم الجوارح، يقال: نعم. قال: قلت:


الصفحة 284
يا أبا مروان! إن الله - تعالى ذكره - لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح وييقن ما شك فيه، وترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم يردون إليه شكهم وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟ قال: فسكت ولم يقل شيئا. قال: ثم التفت إلي، فقال: أنت هشام؟ فقلت: لا، فقال لي: أجالسته؟ فقلت: لا.

قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: فأنت إذا هو. قال: ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وما نطق حتى قمت.

فضحك أبو عبد الله عليه السلام ثم قال: يا هشام! من علمك هذا؟ قال:

قلت: يا ابن رسول الله! جرى على لساني. قال: يا هشام! هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى (1).

(200)
هشام بن الحكم والديصاني

عن عدة من أصحابنا: أن عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم. فقال له: ألك رب؟ فقال: بلى. قال: قادر؟ قال: بلى قادر قاهر. قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها في بيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ فقال: هشام:

النظرة. فقال له: قد أنظرتك حولا، ثم خرج عنه.

فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه إسلام فاستأذن عليه، فأذن له.

فقال: يا ابن رسول الله! أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك. فقال: أبو عبد الله عليه السلام: عما ذا سألك؟ فقال: قال لي: كيت وكيت.

____________

(1) البحار: ج 61 ص 248 - 249 عن الكافي: ج 1 ص 169 - 170، والبحار: ج 23 ص 6 عن الإكمال والعلل والأمالي.

الصفحة 285
فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام! كم حواسك؟ قال: خمس.

فقال: أيها أصغر؟ فقال: الناظر، قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها. فقال: يا هشام! فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى. فقال:

أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا.

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه في العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة ولا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة. فانكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه، وقال: حسبي يا ابن رسول الله!

فانصرف إلى منزلة وغدا عليه الديصاني، فقال له: يا هشام! إني جئتك مسلما ولم أجئك متقاضيا للجواب. فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب (1).

(201)
على بن ميثم مع العلاف

قال السيد المرتضى - رحمه الله - في كتاب الفصول: سأل علي بن ميثم - رحمه الله - أبا الهذيل العلاف، فقال: ألست تعلم أن إبليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالشر كله؟ فقال: بلى. قال فيجوز أن يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه وينهى عن الخير كله وهو لا يعرفه؟ قال: لا. قال له أبو الحسن: فقد ثبت أن إبليس يعلم الشر والخير كله. قال: أبو الهذيل: أجل.

قال: فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد الرسول صلى الله عليه وآله هل يعلم الخير كله والشر كله؟ قال: لا. قال: فإبليس أعلم من إمامك إذا! فانقطع أبو الهذيل (2).

____________

(1) البحار: ج 61 ص 252 - 253 عن التوحيد.

(2) البحار: ج 10 ص 70 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 6.

الصفحة 286

(202)
علي بن ميثم مع العلاف

قال أبو الحسن علي بن ميثم يوما آخر لأبي الهذيل: أخبرني عمن أقر على نفسه بالكذب وشهادة الزور هل يجوز شهادته في ذلك المقام على آخر؟

فقال أبو الهذيل: لا يجوز ذلك، قال أبو الحسن: أفلست تعلم أن الأنصار ادعت الإمرة لنفسها ثم أكذبت نفسها في ذلك المقام؟ وشهدت بالزور ثم أقرت بها لأبي بكر وشهدت بها له؟ فكيف تجوز شهادة أكذبوا أنفسهم وشهدوا عليها بالزور مع ما أخذنا رهنك من القول في ذلك؟ (1).

(203)
علي بن ميثم مع ضرار

أخبرني الشيخ أيضا، قال: جاء ضرار إلى أبي الحسن علي بن ميثم - رحمه الله - فقال له: يا با الحسن! قد جئتك مناظرا. فقال له أبو الحسن:

وفيم تناظرني؟ قال: في الإمامة. قال: ما جئتني والله مناظرا! ولكنك جئت متحكما. قال ضرار: ومن أين لك ذلك؟ قال أبو الحسن: علي البيان عنه، أنت تعلم أن المناظرة ربما انتهت إلى حد يغمض فيه الكلام، فيتوجه الحجة على الخصم فيجهل ذلك أو يعاند، وإن لم يشعر بذلك منه أكثر مستمعيه بل كلهم، ولكنني أدعوك إلى منصفة في القول: اختر أحد الأمرين: إما أن تقبل قولي في صاحبي وأقبل قولك في صاحبك، فهذه واحدة. فقال ضرار:

لا أفعل ذلك. فقال له أبو الحسن: ولم لا تفعل؟ قال: لأني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت لي: إنه كان وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وأفضل

____________

(1) البحار: ج 10 ص 371 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 6.

الصفحة 287
من خلفه وخليفته على قومه وسيد المسلمين، فلا ينفعني بعد ذلك مثل أن أقول: إن صاحبي كان صديقا واختاره المسلمون إماما، لأن الذي قبلته منك يفسد علي هذا.

قال أبو الحسن: فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في صاحبي. قال ضرار: وهذا لا يمكن أيضا، لأني إذا قبلت قولك في صاحبي قلت لي: كان ضالا مضلا ظالما لآل محمد صلى الله عليه وآله قعد غير مجلسه ودفع الإمام عن حقه وكان في عصر النبي صلى الله عليه وآله منافقا، فلا ينفعني قبولك قولي فيه: إنه كان خيرا فاضلا وصاحبا أمينا، لأنه قد انتقض بقبولي قولك قولي فيه: إنه كان خيرا فاضلا وصاحبا أمينا، لأنه قد انتقض بقبولي قولك فيه: إنه كان ضالا مضلا.

فقال له أبو الحسن - رحمه الله -: فإذا كنت لا تقبل قولك في صاحبك ولا قولي فيه فما جئتني إلا متحكما ولم تأتني مناظرا (1).

(204)
علي بن ميثم مع نصراني

قال: وأخبرني الشيخ - أيده الله - قال: قال أبو الحسن علي بن ميثم - رحمه الله - لرجل نصراني: لم علقت الصليب في عنقك؟ قال: لأنه شبه الشئ الذي صلب عليه عيسى عليه السلام، قال أبو الحسن: أفكان عليه السلام يحب أن يمثل به؟ قال: لا. قال: فأخبرني عن عيسى أكان يركب الحمار ويمضي في حوائجه؟ قال: نعم، قال: أفكان يحب بقاء الحمار حتى يبلغ عليه حاجته؟ قال: نعم، قال: فتركت ما كان يحب عيسى بقاءه وما كان يركبه بمحبة منه، وعمدت إلى ما حمل عليه عيسى عليه السلام بالكره وأركبه بالبغض له، فعلقته في عنقك! فقد كان ينبغي على هذا القياس أن

____________

(1) البحار: ج 10 ص 371 - 372 عن الفصول المختارة ج 1 ص 10 - 11.

الصفحة 288
تعلق الحمار في عنقك وتطرح الصليب، وإلا فقد تجاهلت (1).

(205)
علي بن ميثم مع سائل

قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله عزه - قال: سئل أبو الحسن علي بن ميثم - رحمه الله - فقيل له: لم صلى أمير المؤمنين عليه السلام خلف القوم؟ فقال:

جعلهم بمثل سواري المسجد. قال السائل: فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان؟ فقال: لأن الحد له وإليه، فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة. قال: فلم أشار على أبي بكر وعمر؟ قال: طلبا منه أن يحيي أحكام الله ويكون دينه القيم، كما أشار يوسف على ملك مصر نظرا منه للخلق، ولأن الأرض والحكم فيها إليه، فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل، وإذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لا حياء أمر الله تعالى.

قال: فلم قعد عن قتالهم؟ قال: كما قعد هارون بن عمران عليه السلام عن السامري وأصحابه وقد عبدوا العجل. قال: أفكان ضعيفا؟ قال: كان كهارون حيث يقول: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " وكان كنوح عليه السلام إذا قال: " إني مغلوب فانتصر " وكان كلوط عليه إسلام إذ قال: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " وكان كهارون وموسى عليهما السلام إذ قال: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " قال: فلم قعد في الشورى؟ قال اقتدارا منه على الحجة، وعلما منه بأن القوم إن ناظروه وأنصفوه كان هو الغالب، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه، لأن من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه فإن ثبت له الحجة أعطيه، فلم

____________

(1) البحار: ج 10 ص 372 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 32.

الصفحة 289
يفعل بطل حقه، وأدخل بذلك الشبهة على الخلق، وقد قال يومئذ: اليوم أدخلت في باب إن أنصفت فيه وصلت إلى حقي، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاور.

قال: فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟ قال: لإظهاره الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله، وأراد بذل استصلاحه وكفه عنه، وقد عرض لوط بناته على قومه وهم كفار لردهم عن ضلالهم، فقال: " هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد " (1).

(206)
علي بن ميثم مع ملحد

قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله عزه - أيضا، قال: دخل أبو الحسن علي ابن ميثم - رحمه الله - على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه والناس حوله. فقال: لقد رأيت ببابك عجبا! قال: وما هو؟ قال: رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلى جانب بلا ملاح ولا حاصر. فقال له صاحبه الملحد وكان بحضرته: إن هذا أصلحك الله لمجنون! قال: قلت: وكيف ذلك؟ قال خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عقل كيف تعبر بالناس؟ قال:

فقال أبو الحسن: وأيما أعجب، هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض، والمطر الذي ينزل من السماء؟ تزعم أنه لا مدبر لهذا كله، وتنكر أن تكون سفينة تتحرك بلا مدبر وتعبر بالناس! قال: فبهت الملحد (2).

____________

(1) البحار: ج 10 ص 373، ونبذا منه ج 8 ط الكمباني ص 144 - 145.

(2) البحار: ج 10 ص 374. وروضات الجنات: ج 6 ص 167.

الصفحة 290

(207)
علي بن ميثم مع العلاف

قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله عزه - قال: سأل أبو الهذيل العلاف علي ابن ميثم - رحمه الله - عند علي بن رياح، فقال له: ما الدليل على أن عليا عليه السلام كان أولى بالإمامة من أبي بكر؟ فقال له: الدليل عل ذلك إجماع أهل القبلة على أن عليا عليه السلام كان عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مؤمنا عالما كافيا، ولم يجمعوا بذلك على أبي بكر.

فقال له أبو الهذيل: ومن لم يجمع عليه عافاك الله؟! قال له أبو الحسن: أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن،. قال له أبو الهذيل: فأنت وأصحابك ضلال تائهون. فقال له أبو الحسن: ليس جواب هذا الكلام إلا السباب واللطام (1).

(208)
مجنون مع العلاف

حكي عن أبي الهذيل العلاف أنه قال: دخلت الرقة، فذكر لي أن بدير زكي [ رجلا ] مجنونا حسن الكلام، فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالسا على وسادة يسرح رأسه ولحيته، فسلمت عليه، فرد السلام.

وقال: ممن يكون الرجل؟ قال: قلت: من أهل العراق قال: نعم!

أهل الظرف والآداب. قال: من أيها لأنت؟ قلت: من أهل البصرة، قال:

أهل التجارب والعلم! قال [ فمن ] أيهم أنت؟ قلت: أبو الهذيل العلاف، قال: المتكلم؟ قلت: بلى، فوثب عن وسادته وأجلسني عليها.

____________

(1) البحار: ج 10 ص 374 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 55.

الصفحة 291
ثم قال بعد كلام جرى بيننا: ما تقول في الإمامة؟ قلت: أي الإمامة تريد؟ قال: من تقدمون بعد النبي صلى الله عليه وآله؟ قلت: من قدم رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ومن هو؟ قلت: أبو بكر. قال لي:

يا أبا الهذيل! ولم قدمتموه؟ قلت: لأن النبي صلى الله عليه وآله قال:

" قدموا خيركم وولوا أفضلكم " وتراضى الناس به جميعا.

قال: يا أبا الهذيل! هاهنا وقعت. أما قولك: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: " قدموا خيركم وولوا أفضلكم " فإني أوجدك أن أبا بكر صعد المنبر وقال وليتكم ولست بخيركم! فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر النبي صلى الله عليه وآله لا يصعده الكاذبون. وأما قولك: " إن الناس تراضوا به " فإن أكثر الأنصار قالوا: منا أمير ومنكم أمير. وأما المهاجرون: فإن زبير بن العوام قال: لا أبايع إلا عليا فأمر به فكسر سيفه، وجاء أبو سفيان بن حرب، فقال: يا أبا الحسن! إن شئت لأملأنها خيلا ورجلا - يعني المدينة - وخرج سلمان فقال: " كردند ونكردند وندانند كه چه كردند " والمقداد وأبو ذر فهؤلاء المهاجرون أخبرني يا أبا الهذيل! عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله: " إن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني لا أقع في أشعارك وأبشاركم " فهو يخبركم على المنبر أني مجنون! وكيف يحل لكم أن تولوا مجنونا؟.

وأخبرني يا أبا الهذيل! عن قيام عمر على المنبر وقوله: " وددت أني شعرة في صدر أبي بكر " ثم قال بعدها بجمعة، فقال: " إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه " فبينا هو يود أن يكون شعرة في صدر أبي بكر يأمر بقتل من بايع مثله!

فأخبرني يا أبا الهذيل " بالذي زعم أن النبي صلى الله عليه وآله لم

الصفحة 292
يستخلف وأن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر لم يستخلف، فأرى أمركم بينكم متناقضا.

وأخبرني يا أبا الهذيل! عن عمر حين صيرها شورى في ستة وزعم أنهم من أهل الجنة، فقال: إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين، وإن خالف ثلاثة لثلاثة فاقتلوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنة؟!

وأخبرني يا أبا الهذيل " عن عمر لما طعن دخل عليه عبد الله بن العباس قال: فرأيته جزعا، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا الجزع؟ فقال: يا ابن عباس!

ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي؟!

قال: قلت: ولها طلحة بن عبيد الله، قال: رجل له حدة، كان النبي صلى الله عليه آله يعرفه، فلا أولي أمور المسلمين حديدا.

قال: قلت: ولها الزبير ن العوام، قال: رجل بخيل، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل، فلا أولي أمور المسلمين بخيلا.

قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقاص، قال: رجل صاحب فرس وقوس وليس من أحلاس الخلافة.

قلت: ولها عبد الرحمن بن عوف، قال: رجل ليس يحسن أن يكفي عياله.

قال: قلت: ولها عبد الله بن عمر، فاستوى جالسا وقال: يا ابن عباس!

ما والله أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته.

قلت: ولها عثمان بن عفان، فقال: والله لئن وليته ليحملن آل أبي معيط على رقاب المسلمين وأوشك إن فعلنا أن يقتلوه، قالها ثلاثا.

قال: ثم سكت لما عرفت معاندته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال لي، يا ابن عباس اذكر صاحبك، قال: قلت: ولها عليا، قال: والله

الصفحة 293
ما جزعي إلا لما أخذت الحق من أربابه! والله لئن وليته ليحملنهم على المحجة العظمى وإن يطيعوه يدخلهم الجنة.

فهو يقول هذا، ثم صيراها شورى بين ستة، فويل له من ربه!

قال أبو الهذيل: بينا هو يكلمني إذ اختلط وذهب عقله! فأخبرت المأمون بقصته. وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا فبعث إليه المأمون فجاء به وعالجه، وكان قد ذهب عقله بما صنع به، فرد عليه ماله وضياعه وصيره نديما. فكان المأمون يتشيع من أجله (1).

أقول: لا بأس هنا بنقل احتجاج المأمون مع العلماء، وإن كان خارجا عن شرط الكتاب.

(209)
المأموم العباسي مع أهل الحديث والكلام

روي عن إسحاق بن حماد بن زيد، قال: سمعنا يحيى بن أكثم القاضي قال: أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل الكلام والنظر، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلا، ثم مضيت بهم فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لا علمه بمكانهم، ففعلوا، فأعلمته، فأمرني بإدخالهم، ففعلت، فدخلوا وسلموا، فحدثهم ساعة وآنسهم.

ثم قال: إني أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي هذا حجة، فمن كان حاقنا أو به حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا وسلموا أخفافكم وضعوا أرديتكم، ففعلوا ما أمروا به.

فقال: يا أيها القوم! إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله عز وجل، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم! ولا تمنعكم جلالتي ومكاني من قول

____________

(1) الاحتجاج: ج 2 ص 382 والبحار: ج 49 ص 279 - 281 عنه وج 8 ص 329 ط الكمباني وفي الهامش: نقلها أيضا تذكرة الخواص ت عقلاء المجانين.

الصفحة 294
الحق حيث كان ورد الباطل على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقربوا إلى الله برضوانه وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إني رجل أزعم أن عليا خير البشر بعد النبي صلى الله عليه وآله، فإن كنت مصيبا فصوبوا قولي، وإن كنت مخطئا فردوا علي، وهلموا، فإن شئتم سألتكم وإن شئتم سألتموني.

فقال له الذين يقولون بالحديث: بل نسألك. فقال: هاتوا، وقلدوا كلامكم رجلا منكم، فإذا تكلم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد، وإن أتى بخلل فسددوه.

فقال قائل منهم:

أما نحن فنزعم أن خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله أبو بكر، ومن قبل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول صلى الله عليه وآله قال: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنه لم يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس.

فقال المأمون:

الروايات كثيرة، ولا بد من أن يكون كلها حقا، أو كلها باطلا، أو بعضها حقا وبعضها باطلا. فلو كانت كلها حقا كانت كلها باطلا من قبل أن بعضها ينقض بعضا ولو كانت كلها باطلا كان في بطلانها بطلان الدين ودروس الشريعة. فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أن بعضها حق وبعضها باطل، فإذا كان كذلك، فلا بد من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقا كان أولى ما أعتقده وآخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله أحكم الحكماء وأولى الخلق بالصدق وأبعد الناس من الأمر بالمحال وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أن هذين