قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم، قال: ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء. قال: فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري، ففعل.
وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في الإمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة.
قال: فحضروا وحضر هشام وحضر عبد الله بن يزيد الإباضي - وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم وكان يشاركه في التجارة - فلما دخل هشام سلم على عبد الله بن يزيد من بينهم، فقال: يحيى بن خالد لعبد الله ابن يزيد: يا عبد الله! كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الإمامة، فقال هشام:
أيها الوزير! ليس لهم علينا جواب ولا مسألة، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل، ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة، فلا حين كانوا معنا عرفوا الحق ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا! فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.
فقال بيان - وكان من الحرورية -: أنا أسألك يا هشام! أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين: أكانوا مؤمنين، أم كافرين؟
قال هشام: كانوا على ثلاثة أصناف: صنف مؤمنون، وصنف مشركون، وصنف ضلال. فأما المؤمنون: فمن قال مثل قولي، الذين قالوا: إن عليا إمام من عند الله ومعاوية لا يصلح لها، فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي وأقروا به. وأما المشركون: فقوم قالوا: علي إمام ومعاوية يصلح لها فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي. وأما الضلال: فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر لم يعرفوا شيئا من هذا وهم جهال.
قال: وأصحاب معاوية من كانوا؟ قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف
إن معاوية إمام وعلي لا يصلح لها، فكفروا من جهتين: أن جحدوا إماما من الله، ونصبوا إماما ليس من الله. وأما المشركون: فقوم قالوا: معاوية إمام وعلي يصلح لها، فأشركوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر.
فانقطع بيان عند ذلك.
فقال ضرار: فأنا أسألك يا هشام! في هذا، فقال هشام: أخطأت، قال:
ولم؟ قال: لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب، قال ضرار: فسل.
قال: أتقول: إن الله عدل لا يجور؟ قال: نعم هو عدل لا يجور تبارك وتعالى، قال: فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد والجهاد في سبيل الله وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب أتراه كان عادلا أم جائرا؟ قال ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك، قال هشام: قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك، ولكن على سبيل الجدل والخصومة إن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا؟ وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه؟ قال: لو فعل ذلك لكان جائرا.
قال: فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟ قال: بلى، قال: فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين، أو كلفهم ما لا دليل على وجوده فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟
قال: فسكت ضرار ساعة، ثم قال: لا بد من دليل وليس بصاحبك، قال: فضحك هشام! وقال: تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة!
قال ضرار: فإني أرجع إليك في هذا القول: قال: هات! قال ضرار:
كيف تعقد الإمامة؟ قال هشام: كما عقد الله النبوة، قال: فإذا هو نبي؟!
قال هشام: لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء والإمامة يعقدها أهل الأرض فعقد النبوة بالملائكة وعقد الإمامة بالنبي والعقدان جميعا بإذن الله عز وجل.
قال: فما الدليل على ذلك؟ قال هشام: الاضطرار في هذا، قال ضرار:
وكيف ذلك؟ قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله فلم يكلفهم ولم يأمرهم ولم ينههم وصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها، أفتقول هذا يا ضرار: إن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا أقول هذا، قال هشام: فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه، أفتقول هذا: إن الناس قد استحالوا علماء حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟ قال: لا أقول هذا ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال: فبقي الوجه الثالث، لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم، لا يسهو ولا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد، قال: فما الدليل عليه؟ قال هشام: ثمان دلالات: أربع في نعت نسبه، وأربع في نعت نفسه.
فأما الأربع التي في نعت نسبه: بأن يكون معروف الجنس، معروف القبيلة، معروف البيت، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة،
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتصل دعوته إلى كل بر وفاجر وعالم وجاهل ومقر ومنكر في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا، ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لا تضاله بصاحب الملة والدعوة، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة، وهي قريش، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة، ولما كثر أهل هذا البيت وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه: أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه وأحكامه حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها، وأن يكون أشجع الناس، وأن يكون أسخى الناس، قال: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟ قال: لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود، فمن وجب عليه القطع حده ومن وجب عليه الحد قطعه، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا.
قال: فمن أين قلت: إنه معصوم من الذنوب؟ قال: لأنه إن لم يكن
قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الناس؟ قال: لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب وقال الله عز وجل: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله " فإن لم يكن شجاعا فر، فيبوء بغضب من الله، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجة لله على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أسخى الناس؟ قال: لأنه خازن المسلمين، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها، فكان خائنا، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن.
فقال عند ذلك ضرار: فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟ فقال:
صاحب العصر أمير المؤمنين! وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله فقال عند ذلك: أعطانا والله من جراب النورة! ويحك يا جعفر - وكان جعفر ابن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين يعني موسى ابن جعفر، قال: ما عنى بها غير أهلها، ثم عض على شفته وقال: مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟ فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس ما مائة ألف سيف!
وعلم يحيى أن هشاما قد أتى فدخل الستر، فقال: ويحك يا عباسي! من هذا الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين تكفى تكفى!
ثم خرج إلى هشام، فغمزه فعلم هشام أنه قد أتي، فقام يريهم أنه يبول أو يقضي حاجة، فلبس نعليه وانسل ومر ببنيه وأمرهم بالتواري، وهرب، ومر من فوره نحو الكوفة ونزل على بشير النبال - وكان من حملة الحديث من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام فأخبره الخبر، ثم اعتل علة شديدة، فقال له
فلما حضره الموت قال لبشير: إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف الليل وضعني بالكناسة واكتب رقعة وقل: هذا هشام بن الحكم الذي طلبه أمير المؤمنين مات حتف أنفه! وكان هارون قد بعث إلى إخوانه وأصحابه، فأخذ الخلق به، فلما أصبح أهل الكوفة رأوه! وحضر القاضي وصاحب المعونة والعامل والمعدلون بالكوفة، وكتب إلى الرشيد بذلك، فقال: الحمد لله الذي كفانا أمره فخلى عمن كان أخذ به (1).
(232)
سعيد بن جبير والحجاج
قال أبو عبد الله عليه السلام: إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين عليهما السلام فكان علي يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر، وكان مستقيما.
وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال: أنت شقي بن كسير؟
قال: أمي أعرف بي سمتني " سعيد بن جبير " قال: ما تقول في أبي بكر وعمر، هما في الجنة أو في النار؟ قال: لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها، قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال: أيهم أحب إليك؟ قال:
أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: أبيت أن تصدقني؟ قال: بل لم أحب أن أكذبك (2).
____________
(1) البحار: ج 48 ص 197 - 203 عن إكمال الدين.
(2) البحار: ج 46 ص 136 - 137 عن روضة الواعظين. وقاموس الرجال: ج 4 ص 354 عن الكشي ص 119 ويأتي برواية ابن قتيبة ج 2 ص 301.
(233)
داود وبعض الخوارج
عن داود الرقي، قال: سألني بعض الخوارج عن قول الله تبارك وتعالى " ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين - إلى قوله - ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " الآية، ما الذي أحل الله من ذلك؟ وما الذي حرم الله؟ قال: فلم يكن عندي في ذلك شئ، فحججت فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: جعلت فداك! إن رجلا من الخوارج سألني عن كذا وكذا.
فقال عليه السلام: إن الله عز وجل أحل في الأضحية بمنى الضأن والمعز الأهلية وحرم فيها الجبلية، وذلك قول الله عز وجل: " ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين " وإن الله عز وجل أحل في الأضحية بمنى الإبل العراب وحرم فيها البخاتي، وأحل فيها البقر الأهلية وحرم فيها الجبلية، فذلك قوله: " ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ".
قال: فانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته بهذا الجواب، فقال: هذا شئ حملته الإبل من الحجاز (1).
(234)
أعرابي والوليد
على الخليل بن أحمد العروضي، قال: حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقد اسحنفر في سب علي واثعنجر في ثلبه، إذ خرج عليه أعرابي على ناقة له وذفراها يسيلان لإغذاذ السير دما! فلما رآه الوليد - لعنه الله - في منظرته قال: ائذنوا لهذا الأعرابي، فإني أراه قد قصدنا.
____________
(1) الاختصاص: ص 48.
قال: فقبل مدحته وأجزل عطيته، وقال له: يا أخا العرب! قد قبلنا مدحتك وأجزلنا صلتك، فاهج لنا عليا أبا تراب، فوثب الأعرابي يتهافت قطعا ويزأر حنقا ويشمذر شفقا! وقال:
والله! إن الذي عنيته بالهجاء لهو أحق منك بالمديح وأنت أولى منه بالهجاء! فقال له جلساؤه: اسكت نزحك الله! قال: علام ترجوني؟ وبم تبشروني؟ ولما أبديت سقطا ولا قلت شططا ولا ذهبت غلطا، على أنني فضلت عليه من هو أولى بالفضل منه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه الذي تجلبب بالوقار، ونبذ الشنار، وعاف العار، وعمد الإنصاف، وأبد الأوصاف، وحصن الأطراف، وتألف الأشراف، وأزال الشكوك في الله بشرح ما استودعه الرسول من مكنون العلم الذي نزل به الناموس وحيا من ربه، ولم يفتر طرفا، ولم يصمت ألفا، ولم ينطق خلفا، الذي شرفه فوق شرفه، وسلفه في الجاهلية أكرم من سلفه، لا تعرف المأديات في الجاهلية إلا بهم ولا الفضل إلا فيهم، صفة من اصطفاها الله واختارها.
فلا يغتر الجاهل بأنه قعد عن الخلافة بمثابرة من ثابر عليها وجالد بها، والسلال المارقة والأعوان الظالمة، ولئن قلتم ذلك كذلك إنما استحقها
قال: فأربد وجه الوليد وتغير لونه وغص بريقه وشرق بعبرته، كأنما فقئ في عينه حب المض الحاذق، فأشار عليه بعض جلسائه بالانصراف، وهو لا يشك أنه مقتول به! فخرج فوجد بعض الأعراب الداخلين. فقال له: هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وآخذ خلعتك السوداء وأجعل لك بعض الجائزة حظا، ففعل الرجل.
وخرج الأعرابي، فاستوى على راحلته، وغاص في صحرائه، وتوغل في بيدائه. واعتقل الرجل الآخر فضرب عنقه! وجئ به إلى الوليد، فقال:
ليس هو هذا، بل صاحبنا! وأنفذ الخيل السراع في طلبه، فلحقوه بعد لاي، فلما أحس بهم أدخل يده إلى كنانته يخرج سهما سهما يقتل به فارسا، إلى أن قتل من القوم أربعين، وانهزم الباقون.
فجاءوا إلى الوليد فأخبروه بذلك، فأغمي عليه يوما وليلة أجمع! قالوا:
ما تجد؟ قال: أجد على قلبي غمة كالجبل من فوت هذا الأعرابي، فلله دره (1).
(235)
رجل مع عبد الملك
قال رجل لعبد الملك بن مروان: أناظرك وأنا آمن؟ قال: نعم.
فقال له: أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أبنص من الله ورسوله؟ قال: لا، قال: اجتمعت الأمة فتراضوا بك؟ فقال: لا، قال:
فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها؟ قال: لا، قال: فاختارك أهل
____________
(1) البحار: ج 46 ص 321 - 323 عن الإرشاد للديلمي.
(236)
رجل مع عمر بن عبد العزيز
روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان: أن أوفد إلي من علماء بلادك مائة رجل أسألهم عن سيرتك فجمعهم، وقال لهم ذلك، فاعتذروا وقالوا: إن لنا عيالا وأشغالا لا يمكننا مفارقته، وعدله لا يقتضي إجبارنا، ولكن قد أجمعنا على رجل منا يكون عوضنا عنده ولساننا لديه، فقوله قولنا ورأيه رأينا، فأوفد به العامل إليه.
فلما دخل عليه سلم وجلس، فقال له: أخل لي المجلس! فقال له: ولم ذلك وأنت لا تخلو أن تقول حقا فيصدقوك أو تقول باطلا فيكذبوك؟ فقال له: ليس من أجلي أريد خلو المجلس، ولكن من أجلك، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه.
فأمر بإخراج أهل المجلس، ثم قال له: قل، فقال: أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك؟ فسكت طويلا، فقال له: ألا تقول؟ فقال: لا! فقال:
ولم؟ فقال له: إن قلت: بنص من الله ورسوله كان كذبا، وإن قلت:
بإجماع المسلمين قلت: فنحن أهل بلاد المشرق ولم نعلم بذلك ولم نجمع عليه، وإن قلت: بالميراث من آبائي قلت: بنو أبيك كثير فلم تفردت أنت به دونهم؟
____________
(1) البحار: ج 46 ص 335 عن أعلام الدين للديلمي.
فقال له: أخبرني لو لم تل هذا الأمر ووليه غيرك وفعل ما فعل من كان قبله أكان يلزمك من إثمه شئ! فقال: لا، فقال له: فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك وسلامته بخطرك؟ فقال له: إنك لواعظ قط! فقام ليخرج. ثم قال له: والله لقد هلك أولنا بأولكم، وأوسطنا بأوسطكم، وسيهلك آخرنا بآخركم! والله المستعان عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل (1).
(237)
رجل مع عبد الملك
عن الثمالي، قال: حدثني من حضر عبد الملك بن مروان وهو يخطب الناس بمكة، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته قام إليه رجل، فقال له:
مهلا! مهلا! إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتعظون، أفاقتداء بسيرتكم أم طاعة لأمركم؟ فإن قلتم: اقتداء بسيرتنا، فيكف يقتدى بسيرة الظالمين؟ وما الحجة في اتباع المجرمين؟ الذين اتخذوا مال الله دولا وجعلوا عباد الله خولا. وإن قلتم: أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه؟ أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة؟
وإن قلتم: خذوا الحكمة من حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها، فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم،
____________
(1) البحار: ج 46 ص 336.
وحكمناكم في أموالنا وأبداننا وأدياننا لتسيروا فينا بسيرة الجبارين! غير أنا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه وكتاب لا بد أن يتلوه، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. قال: فقام إليه بعض أصحاب المسالح، فقبض عليه، وكان آخر عهدنا به، ولا ندري ما كانت حاله (1).
(238)
كلام برير بن خضير في كربلاء
ركب أصحاب عمر بن سعد فقرب إلى الحسين فرسه، فاستوى عليه، وتقدم نحو القوم في نفر من أصحابه، وبين يديه برير بن خضير، فقال له الحسين عليه السلام: كلم القوم، فتقدم برير، فقال:
يا قوم اتقوا الله! فإن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم؟ فقالوا:
نريد أن نمكن منهم الأمير ابن زياد، فيرى رأيه فيهم، فقال لهم برير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟ يا ويلكم! أدعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئس ما خلفتم نبيكم في ذريته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة! فبئس القوم أنتم!
فقال له نفر منهم: يا هذا ما ندري ما تقول! فقال برير: الحمد لله الذي
____________
(1) البحار: ج 46 ص 337 عن أمالي المفيد رحمه الله وأمالي الشيخ ج 1 ص 106 - 107.
فجعل القوم يرمونه بالسهام، فرجع برير إلى ورائه (1).
(239)
كلام للحر - رحمه الله - في كربلاء
فاستقدم الإمام الحسين عليه السلام فقال:
يا أهل الكوفة! لأمكم الهبل والعبر! أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه؟ وزعمتم أنكم قاتلوا نفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكلكله، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه إلى بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم! لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله من ماء الفرات الجاري تشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم، وهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمأ (2)!
(240)
بنو هاشم ومعاوية
روى سليم بن قيس، قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال:
قال لي معاوية: ما أشد تعظيمك للحسن والحسين! ما هما بخير منك ولا أبوهما بخير من أبيك، لو أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله لقلت:
ما أمك أسماء بنت عميس بدونها! قال: فغضبت من مقالته وأخذني ما لا أملك، فقلت: إنك لقليل المعرفة بهما وبأبيهما وأمهما، بلى والله! هما خير مني، وأبوهما
____________
(1) البحار: ج 45 ص 5 عن محمد بن أبي طالب.
(2) البحار: ج 45 ص 11 عن المفيد رحمه الله.
فقال معاوية - وليس في المجلس غير الحسن والحسين عليهما السلام وابن جعفر رحمه الله وابن عباس وأخيه الفضل -: هات ما سمعت، فوالله ما أنت بكذاب! فقال: إنه أعظم مما في نفسك، قال: وإن كان أعظم من أحد وحرى! فإنه ما لم يكن أحد من أهل الشام لا أبالي، أما إذا قتل الله طاغيتكم وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله ومعدنه فلا نبالي ما قلتم ولا يضرنا ما ادعيتم.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من كنت أولى به من نفسه فأنت يا أخي أولى به من نفسه وعلي بين يديه عليهما السلام [ في البيت والحسن والحسين وعمر بن أم سلمة وأسامة بن زيد ] (1) وفي البيت فاطمة عليها السلام وأم أيمن وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام وضرب رسول الله صلى الله عليه وآله على عضده وأعاد ما قال فيه ثلاثا ثم نص بالإمامة على الأئمة تمام الاثني عشر عليهم السلام.
ثم قال صلوات الله عليه: ولا متي اثنا عشر إمام ضلالة كلهم ضال مضل، عشرة من بني أمية ورجلان من قريش وزر جميع الاثني عشر وما أظلوا في أعناقهما، ثم سماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسمى العشرة معهما.
قال: فسمهم لنا، قال: فلان، وفلان، وفلان، وصاحب السلسلة وابنه من آل أبي سفيان، وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، أولهم مروان.
قال معاوية: لئن كان ما قلت حقا لقد هلكت وهلكت الثلاثة قبلي وجميع من تولاهم من هذه الأمة، ولقد هلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين والأنصار والتابعين غيركم أهل البيت وشيعتكم. قال ابن
____________
(1) قال في هامش البحار: ما بين العلامتين ساقط عن نسخة الكمپاني موجود في نسخة المصنف والمصدر ص 146.
قال معاوية للحسن والحسين وابن عباس: ما يقول ابن جعفر؟ قال ابن عباس - ومعاوية بالمدينة أول سنة اجتمع عليه الناس بعد قتل علي عليه السلام -: أرسل إلى الذين سمى.
فأرسل إلى عمر بن أم سلمة وأسامة فشهدوا جميعا أن الذي قال ابن جعفر حق قد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله كما سمعه (1).
ثم أقبل معاوية إلى الحسن والحسين وابن عباس والفضل وابن أم سلمة وأسامة، فقال: كلكم على ما قال ابن جعفر؟ قالوا: نعم. قال معاوية: فإنكم يا بني عبد المطلب لتدعون أمرا عظيما! وتحتجون بحجة قوية، فإن كانت حقا فإنكم لتصبرون على أمر وتسترونه والناس في غفلة وعمى، ولئن كان ما تقولون حقا لقد هلكت الأمة ورجعت عن دينها وكفرت بربها وجحدت نبيها إلا أنتم أهل البيت ومن قال بقولكم، فأولئك قليل في الناس.
فأقبل ابن عباس على معاوية، فقال: قال الله: " وقليل من عبادي الشكور " وقال: " وقليل ما هم " وما تعجب مني يا معاوية أعجب من بني إسرائيل، إن السحرة قالوا لفرعون: " فاقض ما أنت قاض " فآمنوا بموسى وصدقوه، ثم سار بهم ومن أتبعهم من بني إسرائيل، فأقطعهم البحر وأراهم العجائب، وهم مصدقون بموسى وبالتوراة يقرون له بدينه، ثم مروا بأصنام تعبد، فقالوا: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون "، وعكفوا على العجل جميعا غير هارون! فقالوا: " هذا إلهكم وإله موسى "! وقال لهم موسى بعد ذلك: " ادخلوا الأرض المقدسة " فكان من جوابهم ما قص الله عز وجل عليهم، فقال موسى عليه السلام: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق
____________
(1) إلى هنا تجد الحديث في الكافي: ج 1 ص 529 مع تغيير ما عن سليم بن قيس فراجع.
فما اتباع هذه الأمة رجالا سودوهم وأطاعوهم لهم سوابق مع رسول الله ومنازل قريبة منه وإصهار مقرين بدين محمد وبالقرآن حملهم الكبر والحسد أن خالفوا إمامهم ووليهم بأعجب من قوم صاغوا من حليهم عجلا ثم عكفوا عليه يعبدونه ويسجدون له ويزعمون أنه رب العالمين! واجتمعوا على ذلك كلهم غير هارون وحده.
وقد بقي مع صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون من موسى من أهل بيته ناس: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، ثم رجع الزبير وثبت هؤلاء الثلاثة مع إمامهم حتى لقوا الله.
وتتعجب يا معاوية أن سمى الله من الأئمة واحدا بعد واحد؟ قد نص عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم وفي غير موطن، واحتج بهم عليهم وأمرهم بطاعتهم، وأخبر أن أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعده وأنه خليفته فيهم ووصيه، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله جيشا يوم مؤتة، فقال: عليكم جعفر، فإن هلك فزيد، فإن هلك فعبد الله بن رواحة، فقتلوا جميعا أفتراه يترك الأمة ولم يبين لهم من الخليفة بعده؟ ليختاروا هم لأنفسهم الخليفة! كأن رأيهم لأنفسهم أهدى لهم وأرشد من رأيه واختياره! وما ركب القوم ما ركبوا إلا بعدما بينه، وما تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله في عمى ولا شبهة.
فأما ما قال الرهط الأربعة الذين تظاهروا على علي عليه السلام وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وزعموا أنه قال: " إن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة " فقد شبهوا على الناس بشهادتهم وكذبهم ومكرهم.
قال معاوية: ما تقول يا حسن؟ قال: يا معاوية قد سمعت ما قلت وما قال ابن عباس، العجب منك يا معاوية ومن قلة حيائك، ومن جرأتك على الله
إن الناس قد اجتمعوا على أمور كثيرة ليس بينهم اختلاف فيها ولا تنازع ولا فرقة، على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وعبده، والصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، ثم أشياء كثيرة من طاعة الله التي لا تحصى ولا يعدها إلا الله. واجتمعوا على تحريم الزنا، والسرقة، والكذب، والقطيعة، والخيانة، وأشياء كثيرة من معاصي الله لا تحصى ولا يعدها إلا الله.
واختلفوا في سنن اقتتلوا فيها، وصاروا فرقا يلعن بعضهم بعضا، وهي الولاية، ويبرأ بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم بعضا، أيهم أحق وأولى بها إلا فرقة تتبع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فمن أخذ بما عليه أهل القبلة الذي ليس فيه اختلاف ورد علم ما اختلفوا فيه إلى الله سلم ونجا به من النار ودخل الجنة، ومن وفقه الله ومن عليه واحتج عليه بأن نور قلبه بمعرفة ولاة الأمر من أئمتهم ومعدن العلم أين هو، فهو عند الله سعيد ولله ولي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رحم الله امرءا علم حقا فقال فغنم، أو سكت فسلم.
نحن نقول أهل البيت: إن الأئمة منا، وإن الخلافة لا تصلح إلا فينا، وإن الله جعلنا أهلها في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، وإن العلم فينا ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره، وإنه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي عليه السلام بيده.
ولم؟ قال: لأن الله تعالى قال: " والراسخون في العلم " قال: إياي عنى، ولم يعنك ولا أصحابك، فغضب عمر.
ثم قال: إن ابن أبي طالب يحسب أن أحدا ليس عنده علم غيره، من كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتني، فإذا جاء رجل فقرأ شيئا معه فيه آخر كتبه وإلا لم يكتبه، ثم قالوا: قد ضاع منه قرآن كثير، بل كذبوا والله! بل هو مجموع محفوظ عند أهله.
ثم أمر عمر قضاته وولاته: أجهدوا آراءكم واقضوا بما ترون أنه الحق، فلا يزال هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة، فيخرجهم منها أبي ليحتج عليهم بها، فتجتمع القضاة عند خليفتهم وقد حكموا في شيئ واحد بقضايا مختلفة، فأجازها لهم لأن الله لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب.
وزعم كل صنف من مخالفينا من أهل هذه القبلة: أن معدن الخلافة والعلم دوننا، فنستعين بالله على من ظلمنا وجحدنا حقنا وركب رقابنا وسن للناس علينا ما يحتج به مثلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إنما الناس ثلاثة: مؤمن يعرف حقنا ويسلم لنا ويأتم بنا، فذلك ناج محب لله ولي، وناصب لنا العداوة يتبرأ منا ويلعننا ويستحل دماءنا ويجحد حقنا ويدين الله بالبراءة منا، فهذا كافر مشرك فاسق، وإنما كفر وأشرك من حيث لا يعلم، كما سبوا الله [ عدوا ] بغير علم، كذلك يشرك ما بالله بغير علم.
ورجل آخذ بما لا يختلف فيه ورد علم ما أشكل عليه إلى الله مع ولايتنا ولا يأتم بنا ولا يعادينا ولا يعرف حقنا فنحن نرجو أن يغفر الله له ويدخله الجنة، فهذا مسلم ضعيف.