فلما سمع ذلك معاوية أمر لكل واحد منهم بمائة ألف غير الحسن والحسين وابن جعفر، فإنه أمر لكل واحد منهم بألف ألف درهم (1).
(241)
بنو هاشم وبنو أمية
خاصم عمرو بن عثمان بن عفان أسامة بن زيد إلى معاوية بن أبي سفيان مقدمه المدينة في حائط من حيطان المدينة، فارتفع الكلام بينهما حتى تلاحيا، فقال عمرو: تلاحيني وأنت مولاي! فقال أسامة: والله ما أنا بمولاك، ولا يسرني أني في نسبك، مولاي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: ألا تسمعون ما يستقبلني به هذا العبد؟!
ثم التفت إليه عمرو، فقال: يا ابن السوداء ما أطغاك! فقال: أنت أطغى مني، ولم تعيرني بأمي؟ وأمي والله خير من أمك! وهي " أم أيمن " مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله بشرها رسول الله في غير موطن بالجنة، وأبي خير من أبيك " زيد بن حارثة " صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وحبه ومولاه قتل شهيدا بمؤتة على طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنا أمير على أبيك وعلى من هو خير من أبيك على أبي بكر وعمر وعلى أبي عبيدة وسروات المهاجرين والأنصار، فأنى تفاخرني يا ابن عثمان؟
فقال عمرو: يا قوم أما تسمعون ما يجيبني به هذا العبد؟ فقام مروان بن الحكم، فجلس إلى جنب عمرو بن عثمان، فقام الحسن بن علي عليهما السلام فجلس إلى جنب أسامة، فقام سعيد بن العاص، فجلس إلى جنب عمرو، فقام عبد الله بن جعفر، فجلس إلى جنب أسامة، فلما رآهم معاوية قد صاروا
____________
(1) البحار: ج 44 ص 97 - 102 عن الاحتجاج. وج 36 ص 231 عن كمال الدين والخصال وعيون الأخبار، وغيبة النعماني نبذا منه وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 39 عن سليم، وسيأتي ج 2 ص 67 عن البحار ج 8.
فأقبل عمرو بن عثمان على معاوية، فقال: لا جزاك الله عن الرحم خيرا!
ما زدت على أن كذبت قولنا، وفسخت حجتنا، وأشمت بنا عدونا. فقال معاوية: ويحك يا عمرو! إني لما رأيت هؤلاء الفتية من بني هاشم قد اعتزلوا ذكرت أعينهم تدور إلي من تحت المغافر بصفين وكاد يختلط علي عقلي، وما يؤمنني يا ابن عثمان منهم؟ وقد أحلوا بأبيك ما أحلوا ونازعوني مهجة نفسي حتى نجوت منهم بعد نبأ عظيم وخطب جسيم، فانصرف، فنحن مخلفون لك خيرا من حائطك إن شاء الله (1).
(242)
عبيد الله بن عباس وبسر
اجتمع عبيد الله بن العباس من بعد - أي بعد قتل بسر ابنيه في اليمن - وبسر ابن أرطاة عند معاوية، فقال معاوية لعبيد الله: أتعرف هذا الشيخ قاتل الصبيين؟ قال بسر: نعم أنا قاتلهما، فمه؟ فقال عبيد الله: لو أن لي سيفا! قال بسر: فهاك سيفي - وأومأ إلى سيفه - فزبره معاوية وانتهره وقال: أف لك من شيخ ما أحمقك! تعمد إلى رجل قد قتلت ابنيه فتعطيه سيفك! كأنك لا تعرف أكباد بني هاشم، والله لو دفعته إليه لبدأ بك، وثنى بي! فقال عبيد الله: بل والله كنت أبدء بك واثني به! (2).
____________
(1) البحار: ج 44 ص 107 عن أمالي المفيد - رحمه الله - وأمالي الشيخ - رحمه الله -: ج 1 ص 216.
(2) البحار: ج 44 ص 129 عن أمالي المفيد - رحمه الله - ومجالس الشيخ - رحمه الله -: ج 1 ص 75 وسيأتي عن ابن أبي الحديد برواية أخرى.
(243)
بنو هاشم وبنو أمية
في دفن الإمام السبط الأكبر الحسن عليه السلام في حديث منع بني أمية وأن الحسين أمر أن يفتح البيت فحال دون ذلك مروان بن الحكم وآل أبي سفيان ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان، وقالوا: يدفن أمير المؤمنين الشهيد القتيل ظلما بالبقيع بشر مكان ويدفن الحسن مع رسول الله؟! لا يكون ذلك أبدا حتى تكسر السيوف بيننا وتنقصف الرماح وينفده النبل.
فقال الحسين عليه السلام: أما والله الذي حرم مكة، للحسن بن علي وابن فاطمة أحق برسول الله صلى الله عليه وآله وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه، وهو والله أحق به من حمال الخطايا، مسير أبي ذر رحمه الله، الفاعل بعمار ما فعل، وبعبد الله ما صنع، الحامي الحمى، المأوي لطريد رسول الله صلى الله عليه وآله لكنكم صرتم بعده الأمراء وتابعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء.
قال: فحملناه فأتينا به قبر أمه فاطمة عليها السلام فدفناه إلى جنبها رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن عباس: وكنت أول من انصرف فسمعت اللغط وخفت أن يعجل الحسين على من قد أقبل، ورأيت شخصا علمت الشر فيه، فأقبلت مبادرا، فإذا أنا بعائشة في أربعين راكبا على بغل مرحل! تقدمهم وتأمرهم بالقتال.
فلما رأتني قالت: إلي إلي با ابن عباس! لقد اجترأتم علي في الدنيا تؤذونني مرة بعد أخرى، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحب. فقلت:
واسوأتاه! يوم على بغل، ويوم على جمل، تريدين أن تطفئي نور الله، وتقاتلي أولياء الله، وتحولي بين رسول الله وبين حبيبه أن يدفن معه! ارجعي فقد كفى الله عز وجل المؤونة ودفن الحسن عليه السلام إلى جنب أمه، فلم يزدد من الله
قال: فقطبت في وجهي ونادت بأعلى صوتها: أو ما نسيتم الجمل يا ابن عباس؟ إنكم لذوو أحقاد، فقلت: أم والله ما نسيته أهل السماء، فكيف تنساه أهل الأرض؟ فانصرفت وهي تقول:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر (1)
(244)
بنو هاشم وبنو أمية
فلما قبض الحسن عليه السلام وضع على سريره، وانطلق به إلى مصلى رسول الله الذي كان يصلي فيه على الجنائز، فصلي على الحسن عليه السلام فلما أن صلي عليه حمل فأدخل المسجد.
فلما أوقف على قبر رسول الله بلغ عائشة الخبر وقيل لها: إنهم قد أقبلوا بالحسن بن علي عليهما السلام ليدفن مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرجت مبادرة على بغل بسرج، فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجا، فوقفت فقالت: نحوا ابنكم عن بيتي! فإنه لا يدفن فيه شئ، ولا يهتك على رسول الله صلى الله عليه وآله حجابه.
فقال لها الحسين بن علي صلوات الله عليهما: قديما هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله قربه، وإن الله سائلك عن ذلك يا عائشة! إن أخي أمرني أن أقر به من أبيه رسول الله صلى الله عليه وآله ليحدث به عهدا.
واعلمي أن أخي أعلم الناس بالله ورسوله، وأعلم بتأويل كتابه من أن
____________
(1) البحار: ج 44 ص 152 عن أمالي المفيد - رحمه الله - وعن الكافي.
" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " وقد أدخلت أنت بيت رسول الله صلى الله عليه وآله الرجال بغير إذنه، وقد قال الله عز وجل:
" يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " ولعمري! لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند إذن رسول الله صلى الله عليه وآله المعاول، وقال الله عز وجل: " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " ولعمري! لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلى الله عليه وآله بقربهما منه الأذى، وما رعيا من حقه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله، إن الله حرم على المؤمنين أمواتا ما حرم منهم أحياء.
وتالله يا عائشة! لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عن أبيه صلوات الله عليهما جائزا فيما بيننا وبين الله لعلمت أنه سيدفن وإن رغم معطسك!
قال: ثم تكلم محمد بن الحنفية وقال: يا عائشة يوما على بغل، ويوما على جمل! فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم. قال، فأقبلت عليه فقالت: يا الحنفية! هؤلاء الفواطم يتكلمون فما كلامك؟ فقال لها الحسين: وأنى تبعدين محمدا من الفواطم؟! فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم:
فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الأصم بن رواحة بن حجر بن [ عبد ] معيص بن عامر. قال:
فقالت عائشة للحسين عليه السلام: نحوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون!
قال: فمضى الحسين عليه السلام إلى قبر أمه ثم أخرجه فدفنه بالبقيع (1).
____________
(1) البحار: ج 44 ص 142 عن روضة الكافي: ص 167.
(245)
ابن عباس وعائشة
فلما فرغ الحسين عليه السلام من شأنه وحمله ليدفنه - الحسن عليه السلام - مع رسول الله صلى الله عليه وآله ركب مروان بن الحكم طريد رسول الله بغلة وأتى عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين! إن الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وآله، والله إن دفن مع ليذهبن فخر أبيك وصاحبه عمر إلى يوم القيامة! قالت: فما أصنع يا مروان؟ قال: الحقي به وامنعيه من أن يدفن مع! قالت: وكيف ألحقه؟ قال: اركبي بغلتي هذه.
فنزل عن بغلته، وركبتها. وكانت تؤز الناس وبني أمية على الحسين عليه السلام وتحرضهم على منعه مما هم به، فلما قربت من قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وكان قد وصلت جنازة الحسن فرمت بنفسها عن البغلة! وقالت:
والله لا يدفن الحسن هاهنا أبدا أو تجز هذه - وأومت بيدها إلى شعرها - فأراد بنو هاشم المجادلة، فقال الحسين عليه السلام: الله الله! لا تضيعوا وصية أخي، فاعدلوا به إلى البقيع، فإنه أقسم علي إن أنا منعت من دفنه مع جده صلى الله عليه وآله أن لا أخاصم فيه أحدا، وأن أدفنه بالبقيع مع أمه عليها السلام، فعدلوا به ودفنوه بالبقيع معها عليها السلام.
فقام ابن عباس رضي الله عنه وقال: يا حميراء ليس يومنا منك بواحد، يوم على الجمل ويوم على البغلة! أما كفاك أن يقال: " يوم الجمل " حتى يقال:
" يوم البغل "؟ يوم على هذا ويوم على هذا! بارزة عن حجاب رسول الله صلى الله عليه وآله تريدين إطفاء نور الله، والله متم نوره ولو كره المشركون، إنا لله
فلما غسله وكفنه الحسين عليه السلام وحمله على سريره وتوجه إلى قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله ليجدد به عهدا، أتى مروان بن الحكم ومن معه من بني أمية، فقال: أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبي؟
لا يكون ذلك أبدا! ولحقت عائشة على بغل، وهي تقول: ما لي ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب.
فقال ابن عباس لمروان بن الحكم: لا نريد دفن صاحبنا، فإنه كان أعلم بحرمة قبر رسول الله من أن يطرق عليه هجما، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه، انصرف فنحن ندفنه بالبقيع كما وصى.
ثم قال لعائشة: واسوأتاه! يوما على بغل ويوما على جمل! وفي رواية: يوما تجملت ويوما تبغلت وإن عشت تفيلت فأخذه ابن الحجاج الشاعر البغدادي، فقال:
وفي ص 157 نقله عن الإرشاد للمفيد رحمه الله والمناقب لابن شهر آشوب بنحو يقرب مما ذكرنا.
(246)
ابن عباس ومعاوية
عن خراش، قال: سأل معاوية ابن عباس، قال: فما تقول في علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: علي أبو الحسن عليه السلام علي، كان والله علم
____________
(1) الخرائج: ص 154، البحار: ج 44 ص 141.
(2) البحار: ج 44 ص 154.
(247)
صعصعة ومعاوية
قدم وفد العراقيين على معاوية، فقد في وفد أهل الكوفة عدي بن حاتم الطائي، وفي وفد أهل البصرة الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: هؤلاء رجال الدنيا وهم شيعة علي عليه السلام الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفين، فكن منهم على حذر. فأمر لكل رجل منهم بمجلس سري واستقبل القوم بالكرامة.
فلما دخلوا عليه قال لهم: أهلا وسهلا، قدمتم أرض المقدسة والأنبياء والرسل والحشر والنشر.
فتكلم صعصعة - وكان من أحضر الناس جوابا - فقال: يا معاوية! أما قولك:
" أرض المقدسة " فإن الأرض لا تقدس أهلها، وإنما تقدسهم الأعمال الصالحة. وأما قولك: " أرض الأنبياء والرسل " فمن بها من أهل النفاق والشرك والفراعنة والجبابرة أكثر من الأنبياء والرسل. وأما قولك: " أرض الحشر والنشر " فإن المؤمن لا يضره بعد المحشر والمنافق لا ينفعه قربه.
____________
(1) البحار: ج 44 ص 112 عن الروضة والفضائل.
(248)
صعصعة ومعاوية
عن هشام بن السائب، عن أبيه، قال: خطب الناس يوما معاوية بمسجد دمشق، وفي الجامع يومئذ من الوفود علماء قريش وخطباء ربيعة ومدارهها وصناديد اليمن وملوكها.
فقال معاوية: إن الله تعالى أكرم خلفاءه فأوجب لهما الجنة وأنقذهم من النار، ثم جعلني منهم، وجعل أنصاري أهل الشام الذابين عن حرم الله، المؤيدين بظفر الله، المنصورين على أعداء الله.
قال: كان في الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان، فقال الأحنف لصعصعة: أتكفيني أم أقوم إليه أنا؟ فقال صعصعة للأحنف: بل أكفيكه أنا، ثم قام صعصعة فقال: يا ابن أبي سفيان! تكلمت فأبلغت ولم تقصر دون ما أردت، وكيف يكون ما تقول، وقد غلبتنا قسرا، وملكتنا تجبرا، ودنتنا بغير الحق، واستوليت بأسباب الفضل علينا. فأما إطراؤك لأهل الشام: فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم! قوم ابتعت منهم دينهم وأبدانهم بالمال، فإن أعطيتهم حاموا عليك ونصروك، وإن منعتهم قعدوا عنك ورفضوك.
قال معاوية: اسكت يا ابن صوحان! فوالله لولا أني لم أتجرع غصة غيظ
____________
(1) البحار: ج 44 ص 123 عن الاختصاص: ص 64 - 65.
قبلت جاهلهم حلما ومكرمة والحلم عن قدرة فضل من الكرم (1)
(249)
أبو الأسود ومعاوية
روي أن معاوية نظر إلى الحسن بن علي عليهما السلام وهو بالمدينة، وقد احتف به خلق من قريش يعظمونه، فتداخله حسد، فدعا أبا الأسود الدؤلي والضحاك بن قيس الفهري، فشاورهم في أمر الحسن والذي يهم به من الكلام.
فقال له أبو الأسود: رأي أمير المؤمنين أفضل وأرى أن لا تفعل، فإن أمير المؤمنين لن يقول فيه قولا إلا أنزله سامعوه منه به حسدا ورفعوه به صعدا، والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه، أحضر ما هو كائن جوابه، فأخاف أن يرد عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك، فيقرع بذلك ظنبوبك، ويبدي به عيوبك، فإذا كلامك فيه صار له فضلا وعليك كلا، إلا أن تكون تعرف له عيبا في أدب، أو وقيعة في حسب، وإنه لهو المهذب، قد أصبح من صريح العرب في غر لبابها وكريم محتدها وطيب عنصرها، فلا تفعل يا أمير المؤمنين، الحديث (2).
(250)
حارثة بن قدامة مع معاوية
قدم حارثة بن قدامة السعدي على معاوية، ومع معاوية على السرير
____________
(1) البحار: ج 44 ص 132 عن أمالي الشيخ رحمه الله: ج 1 ص 4 - 5.
(2) البحار: ج 44 ص 120.
فقال: لا تفعل يا معاوية! قد شبهتني بالنحلة، وهي والله حامية اللسعة حلوة البصاق، ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب، وما أمية إلا تصغير أمة، فقال معاوية: لا تفعل، قال: إنك فعلت ففعلت.
قال له: فادن اجلس معي على السرير، فقال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال:
لأني رأيت هذين قد أماطاك عن مجلسك فلم أكن لأشاركهما.
قال له معاوية: ادن أسارك، فدنا منه، فقال: يا حارثة! إني اشتريت من هذين الرجلين دينهما، قال: ومني فاشتر يا معاوية! قال له: لا تجهر (1).
(251)
أعرابي ومعاوية
يقال: دخل الحسين عليه السلام على معاوية وعنده أعرابي يسأله حاجة، فأمسك وتشاغل بالحسين عليه السلام فقال الأعرابي لبعض من حضر: من هذا الذي دخل؟ قالوا: الحسين بن علي، فقال الأعرابي للحسين عليه السلام:
أسألك يا ابن بنت رسول الله لما كلمته في حاجتي، فكلمه الحسين عليه السلام في ذلك، فقضى حاجته، فقال الأعرابي:
فقال معاوية: يا أعرابي أعطيك وتمدحه؟! فقال الأعرابي: يا معاوية!
____________
(1) البحار: ج 44 ص 133 عن أمالي المفيد.
(252)
هاني بن عروة وابن زياد
قال المفيد رحمه الله: وخاف هاني بن عروة عبيد الله على نفسه فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أرى هانئا؟ فقالوا: هو شاك، فقال: لو علمت بمرضه لعدته. ودعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي - وكانت رويحة بنت عمرو تحت هاني بن عروة، وهي أم يحيى بن هاني - فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا؟
فقالوا: ما ندري، وقد قيل: إنه يشتكي قال: قد بلغني أنه قد برئ وهو يجلس على باب داره، فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.
فأتوه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على بابه، وقالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير؟ فإنه قد ذكرك وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته، فقال لهم:
الشكوى تمنعني، فقالوا: قد بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمل السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا! فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلته فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان.
فقال لحسان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ إني والله لهذا الرجل لخائف فما ترى؟ فقال: يا عم والله ما أتخوف عليك شيئا، ولم تجعل على نفسك سبيلا؟ ولم يكن حسان يعلم في أي شئ بعث إليه عبيد الله.
فجاء هاني حتى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده القوم، فلما طلع قال
____________
(1) البحار: ج 44 ص 210 عن المناقب.
فلما دنا من ابن زياد - وعنده شريح القاضي - التفت نحوه، فقال:
وقد كان أول ما قدم مكرما له ملطفا، فقال له هاني: وما ذاك أيها الأمير؟
قال: إيه! يا هاني بن عروة، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الجموع والسلاح والرجال في الدور حولك! وظننت أن ذلك يخفى علي؟ قال: ما فعلت ذلك وما مسلم عندي، قال: بلى قد فعلت! فلما كثر بينهما وأبى هاني إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلا - ذلك العين - فجاء حتى وقف بين يديه، وقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، وعلم هاني عند ذلك أنه كان عينا عليهم وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأسقط في يده ساعة.
ثم راجعته نفسه، فقال: اسمع مني وصدق مقالتي، فوالله ما كذبت، والله ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشئ من أمره حتى جاءني يسألني النزول، فاستحييت من رده، وداخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت أن أعطيك الآن موثقا مغلظا أن لا أبغيك سوءا ولا غائلة، ولآتينك حتى أضع يدي في يدك، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك وأنطلق إليه، فأمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره.
فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به! قال: لا والله لا أجيئك به أبدا! أجيئك بضيفي تقتله؟ قال: والله لتأتيني به! قال: والله لا آتيك به! فلما كثر الكلام بينهما، قام مسلم بن عمرو الباهلي - وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره - فقال: أصلح الله الأمير! خلني وإياه حتى أكلمه، فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان.
فقال هاني: والله إن علي في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، والله لو لم يكن لي إلا واحد ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه. فأخذ يناشده وهو يقول:
والله لا أدفعه إليه أبدا.
فسمع ابن زياد - لعنه الله - ذلك، فقال: أدنوه مني، فأدنوه منه، فقال:
والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك! فقال هاني: إذا والله تكثر البارقة حول دارك! فقال ابن زياد: والهفاه عليك! أبالبارقة تخوفني؟ وهو يظن أن عشيرته سيمنعونه. ثم قال: أدنوه مني، فأدني منه، فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسال الدماء على وجهه ولحيته ونثر لحم جبينه وخده على لحيته، حتى كسر القضيب، وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي، وجاذبه [ الرجل ] ومنعه.
فقال عبيد الله: أحروري سائر اليوم؟ قد حل دمك، جروه، فجروه وألقوه في بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه، فقال: اجعلوا عليه حرسا، ففعل ذلك به.
فقام إليه حسان بن أسماء، فقال: أرسل غدر سائر اليوم، أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيلت دماءه على لحيته وزعمت أنك تقتله! فقال له عبيد الله: وإنك لهاهنا، فأمر به فلهز وتعتع واجلس ناحيته، فقال محمد بن الأشعث: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنما الأمير مؤدب.
فقيل لعبيد الله بن زياد: وهذه فرسان مذحج بالباب؟! فقال لشريح القاضي: أدخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل، فدخل شريح فنظر إليه فقال هاني لما رأى شريحا: يا لله! يا للمسلمين!
أهلكت عشيرتي، أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الضجة على باب القصر، فقال: إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنه إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني.
فلما سمع كلامه شريح خرج إليهم، فقال لهم: إن الأمير لما بلغه كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنطرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأعرفكم أنه حي، وأن الذي بلغكم من قتله باطل.
فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه: أما إذ لم يقتل فالحمد لله، ثم انصرفوا! الحديث (1).
(253)
دخول مسلم على ابن زياد
فلما دخل لم يسلم عليه بالإمرة فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟
فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه، فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن! قال: كذلك؟ قال: نعم، قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: افعل.
____________
(1) البحار: ج 44 ص 344 - 348 عن إرشاد المفيد.
فقال له: إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة، سبعمائة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني، وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين عليه السلام من يرده، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا.
فقال عمر لابن زياد: أتدري أيها الأمير ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا!
فقال ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن! أما ما له فهو له ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحب، وأما جثته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده.
ثم قال ابن زياد: إيه ابن عقيل! أتيت الناس وهم جمع فشتت بينهم وفرقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض، قال: كلا! لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى الكتاب، فقال له ابن زياد: " وما أنت وذاك يا فاسق! لم لم تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال مسلم: أنا أشرب الخمر؟ أما والله! إن الله ليعلم أنك غير صادق وأنك قد قلت بغير علم، وإني لست كما ذكرت، وإنك أحق بشرب الخمر مني، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، ويسفك الدم الذي حرم الله على الغصب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا.
أمير المؤمنين يزيد! فقال مسلم: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينك، فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس.
فقال له مسلم: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن، وأنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة، لا أحد أولى بها منك.
فأقبل ابن زياد يشتمه، ويشتم الحسين وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم لا يكلمه، الحديث (1).
(254)
سودة ومعاوية
روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟
قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بقوة سلطانك، فيحصدنا حصيد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك، وإلا كفرناك.
فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة! لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه، فينفذ فيك حكمه، فأطرقت سودة ساعة، ثم قالت:
____________
(1) البحار: ج 44 ص 355، راجع قاموس الرجال: ج 9 ص 292 في ترجمته.
فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: " اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وإني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك " ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم... الحديث (1).
نورده عن العقد الفريد أيضا لاشتماله على الزيادة:
وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر [ الأسك ] الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه، فأذن لها، فلما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال لها: أنت القائلة لأخيك:
قالت: يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي. قال: هيهات! ليس مثل مقام أخيك ينسى، قالت: صدقت والله
____________
(1) راجع كشف الغمة: ص 50. والعقد الفريد: ج 2 ص 102. والبحار: ج 41 ص 119. والإمامة والسياسة: ج 1 ص 53. ونور الأبصار: ص 109. والفصول المهمة لابن الصباغ: ص 129. ومطالب السؤول: ص 33، وبلاغات النساء: ص 30. ومحادثات النساء: ص 73.
(وفي بلاغات النساء: قالت: إي الله! ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب. قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي عليه السلام واتباع الحق، قال: فوالله ما أرى عليك من أثر علي شيئا، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين! وإعادة ما مضى وتذكار ما قد نسي، قال: هيهات! ما مثل مقام أخيك ينسى، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك، قالت: صدق فوك، لم يكن أخي ذميم المقام ولا خفي المكان، كان والله كقول الخنساء:) وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته، قال: قد فعلت، فقولي حاجتك.
قالت: يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد ولأمورهم مقلد، والله سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض [ ينوء خ ] بعزك ويبسط سلطانك [ يبطش بسلطانك خ ] فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسألنا [ يسلبنا خ ] الجليلة، هذا (بسر) بن أرطاة قدم بلادي [ قدم علينا من قبلك خ ] وقتل رجالي وأخذ مالي (يقول لي فوهي بما استعصم الله منه وألجأ إليه فيه) ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك.
فقال معاوية: إياي تهددين بقومك، والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس، فينفذ حكمه فيك، فسكتت ثم قالت:
قال: ومن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، قال: ما أرى
عليك منه أثرا، قال: بلى أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا، فكان بيننا وبينه
ما بين الغث والسمين، فوجدته قائما يصلي فانفتل من الصلاة، ثم قال برأفة