الصفحة 390
وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل، فبكى، ثم رفع يديه إلى السماء، فقال: " اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك " ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب، فكتب فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم: قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين * وما أنا عليكم بحفيظ. إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام ".

فأخذته منه يا أمير المؤمنين، ما خزمه بخزام، ولا ختمه بختام.

فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها، فقالت: ألي خاصة أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذا الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلا شاملا، وألا يسعني ما يسع قومي، قال: هيهات! لمظكم ابن أبي طالب الجرأة [ على السلطان، فبطيئا ما تفطمون، وغركم قوله:

فلو كنت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وقوله:

ناديت همدان والأبواب مغلقة * ومثل همدان سنى فتحة الباب
كالهندواني لم تفلل مضاربه * وجه جميل وقلب غير وجاب

اكتبوا لها بحاجتها (1).

أقول: أشرنا إلى بعض الخلاف بين نسختي العقد الفريد وبلاغات النساء. ونقله في قاموس الرجال عن البلاغات (2).

____________

(1) العقد الفريد: ج 1 ص 325.

(2) قاموس الرجال: ج 1 ص 461 عن بلاغات النساء.

الصفحة 391

(255)
بكارة الهلالية ومعاوية

محمد بن عبد الله الخزاعي، عن الشعبي، قال:

استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، وهو يومئذ بالمدينة، فدخلت عليه - وكانت امرأة قد أسنت وعشى بصرها وضعفت قوتها ترعش بين خادمين لها - فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال:

كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غيرك الدهر! قالت:

كذلك هو ذو غير، ومن عاش كبر، ومن مات قبر.

قال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:

يا زيد دونك فاستثر من دارنا * سيفا حساما في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة (1) * فاليوم أبرزه الزمان مصونا

قال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين:

أترى ابن هند للخلافة مالكا * هيهات! ذاك وإن أراد بعيد
منتك نفسك في الخلاء ضلالة * أغراك عمرو للشقاء وسعيد

قال سعيد بن العاص: هي والله القائلة:

قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى * فوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولت * حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم * بين الجميع لآن أحمد عائبا

ثم سكتوا.

فقالت: يا معاوية (2) كلامك أعشى بصري وقصر حجتي، أنا والله قائلة

____________

(1) قد كان مذخورا لكل عظيمة " عن البلاغات ".

(2) في البلاغات: فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني، فقصر محجني وكثر عجبي

=>


الصفحة 392
ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر! فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، أذكري حاجتك، قالت: الآن فلا (1).

(256)
الزرقاء مع معاوية

عبيد الله بن عمرو الغساني عن الشعبي، قال: حدثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا:

بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد، إذ ذكروا الزرقاء بنت عدي [ بن غالب ] بين قيس الهمدانية [ امرأة كانت من أهل الكوفة ] وكانت شهدت مع قومها صفين، فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين، قال: فأشيروا علي في أمرها، فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها، قال: بئس الرأي أشرتم به علي! أيحسن بمثلي أن يتحدث عنه أنه قتل امرأة بعد ما ظفر بها؟ فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاء لينا ويسترها بستر خصيف يوسع لها في النفقة، فأرسل إليها فأقرأها الكتاب.

فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلى فإني لا آتيه، وإن كان حتم فالطاعة أولى.

فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به، فلما دخلت على معاوية قال:

مرحبا وأهلا! قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لك النعمة، قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت:

ربيبة بيت أو طفلا ممهدا، قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟

____________

<=

وعشى بصري وإنا والله.

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 105، وراجع بلاغات النساء: ص 35، ومحادثات النساء: ص 91.

الصفحة 393
قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم؟ قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين الصفين [ يوم صفين ] تحضين على القتال وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟

قالت: يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر، قال لها معاوية: [ صدقت ] أتحفظين كلامك؟ [ يوم صفين ] قالت: لا والله! لا أحفظه، ولقد أنسيته، قال: لكني أحفظه، لله أبوك! حين تقولين:

أيها الناس! ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء بكماء.

لا تسمع لنا عقها ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضئ في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس! إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين [ والأنصار ] على الغصص، فكان قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، ودمغ الحق باطله، فلا يجهلن أحد، فيقول: كيف [ العدل ] وأنى؟ ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا، إيها في الحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين.

ثم قال لها: والله يا زرقاء! لقد شركت عليا في كل دم سفكه.

قالت: أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك! فمثلك بشر بخير وسر جليسه، قال لها: أو يسرك ذلك؟ قالت: نعم والله لقد سررت بالخير، فأنى لي بتصديق الفعل؟ فضحك معاوية وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته! اذكري حاجتك.

قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا، ومثلك أعطى عن غير مسألة وجاد من غير طلبة، قال: صدقت! وأمر لها وللذين

الصفحة 394
جاءوا معها بجوائز وكسا (1).

(257)
أم سنان ومعاوية

حبس مروان [ بن الحكم ] وهو والي المدينة غلاما من بني ليث في جناية جناها، فأتته جدة الغلام [ أم أبيه ] وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية، فكلمته في الغلام، فأغلظ [ لها ] مروان.

فخرجت إلى معاوية: فدخلت عليه فانتسبت، فعرفها، فقال لها: مرحبا بابنة خيثمة! ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتميننا وتحضين علينا عدونا؟

قالت: إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة، وأحلاما وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينقمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت. قال: صدقت نحن كذلك، فكيف قولك:

عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد * والليل يصعد بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام فشمروا * إن العدو لآل أحمد يقصد
هذا علي كالهلال تحفه * وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائق وابن عم محمد * إن يهدكم بالنور منه تهتدوا
ما زال مذ شهد الحروب مظفرا * والنصر فوق لوائه ما يفقد

قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفا [ بعده ] فقال:

رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة:

أما هلكت أبا الحسين فلم تزل * بالحق تعرف هاديا مهديا
فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت * فوق الغصون حمامة قمريا

____________

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 106. وبلاغات النساء: ص 32 وأكملناه من البلاغات. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 440. ومحادثات النساء: ص 76.

الصفحة 395

قد كنت بعد محمد خلفا كما * أوصى إليك بنا فكنت وفيا
فاليوم لا خلف يؤمل بعده * هيهات! نأمل بعده أنسيا

قالت: يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق! ولئن تحقق [ فيك ] ما ظننا فحظك الأوفر، والله ما ورثك الشناءة في قلوب المسلمين إلا هؤلاء، فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المؤمنين حبا.

قال: وإنك لتقولين ذلك؟ قالت: سبحان الله! والله ما مثلك مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله علي أحب إلينا منك، وأنت أحب إلينا من غيرك، قال: ممن؟ قالت: من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، قال: وبم استحققت ذلك عندك؟

قالت: بسعة حلمك وكريم عفوك، قال: فإنهما يطمعان في ذلك، قالت: هما والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفان - رحمه الله - قال: والله لقد قاربت! فما حاجتك؟

قالت: يا أمير المؤمنين، إن مروان تبنك بالمدينة تبنك من لا يريد منها البراح، لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنة، يتتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين، حبس ابن ابني فأتيته، فقال: كيت وكيت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمر من الصاب، ثم رجعت إلى نفسي باللائمة وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى نم هو أولى بالعفو منه، فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرا وعليه معديا.

قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه.

قالت: يا أمير المؤمنين وأنى لي بالرجعة وقد نفذ زادي وكلت راحلتي، فأمر

الصفحة 396
لها براحلة [ موطأة ] وخمسة آلاف [ درهم ] (1).

(258)
عكرشة عند معاوية

دخلت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة على معاوية متوكئة على عكاز لها، فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست، فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين؟! قالت: نعم إذ لا علي حي.

قال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس! عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إن الجنة لا يرحل عنها من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم مستظهرين بالصبر على طلب حقهم، إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب غلف القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتواكل، فإن ذلك ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق، هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى، يا معشر المهاجرين والأنصار! امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البقر [ وتروث روث العتاق ] فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة، فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فما حملك على ذلك؟

قالت: يا أمير المؤمنين [ قال الله تعالى ]: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن

____________

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 108، وراجع بلاغات النساء: ص 63، وقاموس الرجال: ج 10 ص 401، محادثات النساء: ص 78.

الصفحة 397
أشياء إن تبد لكم تسؤكم " وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته.

قال: صدقت فاذكري حاجتك [ قالت ]: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا، وإنا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير، فإن كان ذلك عن رأيك. فمثلك من انتبه عن الغفلة وراجع التوبة وإن كان عن غير رأيك، فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة.

قال معاوية: يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق وبحور تنفهق، قالت: يا سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقا فجعل فيه ضررا على غيرنا، وهو علام العيوب.

قال معاوية: [ هيهات ] بأهل العراق! نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا. ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافها (1).

(259)
الدارمية الحجونية ومعاوية

سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال:

حج معاوية فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون يقال لها:

دارمية الحجونية - وكانت سوداء كثيرة اللحم - فأخبر بسلامتها، فبعث إليها، فجيئ بها. فقال: ما حالك يا ابنة حام؟ فقالت: لست لحام إن عبتني، أنا امرأة من بني كنانة.

قال: صدقت، أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني وواليته وعاديتني؟

قالت: أو تعفيني [ يا أمير المؤمنين ] قال: لا أعفيك، قالت: أما إذا أبيت فإني

____________

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 108 - 111 وبلاغات النساء: ص 71 وقاموس الرجال: ج 11 ص 2 عنه. ومحادثات النساء: ص 81 وفتوح ابن أعثم الكوفي: ج 3 ص 101 - 105.

الصفحة 398
أحببت عليا على عدله في الرعية وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر وطلبتك ما ليس لك بحق، وواليت عليا على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه وآله من الولاء، وحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهواء.

قال: صدقت فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك، قالت: يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لأبي.

قال معاوية: يا هذه اربعي، فإنا لم نقل إلا خيرا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها، فرجعت وسكتت.

قال لها: يا هذه هل رأيت عليا؟ قالت: إي والله! قال: فكيف رأيته؟

قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.

قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله! فكان يجلو القلب من العمى كما يجلو الزيت صداء الطست، قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت: أو تفعل إذا سألتك؟ قال: نعم، قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها، قال: تصنعين بها ماذا؟ قال: أغذوا بألبانها الصغار وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر.

قال: فإن أعطيتك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت:

[ ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك يا ] سبحان الله!

أو دونه، فأنشأ معاوية يقول:

إذ لم أعد بالحلم مني عليكم * فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد * جزاك على حرب العداوة بالسلم

ثم قال: أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا، قالت: لا والله!


الصفحة 399
ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (1).

(260)
أم الخير عند معاوية

عبيد الله بن عمر الغساني، عن الشعبي، قال:

كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيرا وبالشر شرا، فلما ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه.

فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها، قال لها:

يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه مجازيني بالخير خيرا وبالشر شرا فما لي عندك؟ قالت: يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل، ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق.

فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية، فأنزلها مع الحرم، ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال لها: وعليك السلام يا أم الخير بحق ما دعوتني بهذا الاسم!

قالت: يا أمير المؤمنين [ مه! فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه و ] لكل أجل كتاب.

قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت:

لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية حتى صرت إليك، فأنا في مجلس أنيق عند

____________

(1) العقد الفريد: ج 3 ص 113. وبلاغات النساء: ص 72، والغدير: ج 10 ص 166 ط 1 عنهما وعن صبح الأعشى: ج 1 ص 259. وربيع الأبرار للزمخشري: الباب 41. والبحار: ج 8 ص 534 ط الكمباني: عن العقد. وقاموس الرجال: ج 10 ص 436. ومحادثات النساء: ص 88.

الصفحة 400
ملك رفيق.

قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم، قالت: يا أمير المؤمنين يعيذك الله من دحض المقال وما تردى عاقبته.

قال: ليس هذا أردنا، أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟

قالت: لم أكن زورته قبل ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة، فإن أحببت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت [ قال: لا أشاء ذلك ] فالتفت معاوية إلى جلسائه، فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين قال: هات، قال: كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف النسيج وهي على جمل أرمك [ وقد أحيط حولها ] وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته، تقول:

يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شئ عظيم، إن الله قد أوضح لكم الحق وأبان الدليل وبين السبيل ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء [ مبهمة ولا سوداء ] مدلهمة فأين تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارا من الزحف؟ أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله، هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والرضي التقي والصديق الأكبر، إنها أحن بدرية وأحقاد جاهلية [ وضغائن أحدية ] وثب بها واثب (1) حين الغفلة ليدرك ثارات بني

____________

(1) في بلاغات النساء: معاوية.

الصفحة 401
عبد شمس.

ثم قالت:

قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون، صبرا يا معشر المهاجرين والأنصار! قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم، فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى [ وباعوا البصيرة بالعمى ] وعما قليل ليصبحن نادمين، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة ولات حين مناص، إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل، ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها، فالله الله أيها الناس! قبل أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود [ ويظهر الظالمون ] وتقوى كلمة الشيطان، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وصهره وأبي سبطيه؟ خلق من طينته، وتفرع من نبعته [ وخصه بسره ] وجعله باب مدينته، وأبان ببغضه المنافقين، وها هو ذا مفلق الهام ومكسر الأصنام، صلى والناس مشركون، وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر، وفرق به جمع هوازن، فيا لها من وقايع! زرعت في قلوب نفاقا وردة وشقاقا، وزادت المؤمنين إيمانا، قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله.

فقال معاوية: يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت في ذلك.

قالت: والله ما يسوءني أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه.

قال: هيهات يا كثيرة الفضول! ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟

قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان؟ استخلفه الناس وهم به راضون، وقتلوه

الصفحة 402
وهم له كارهون.

قال معاوية: يا أم الخير هذا أصلك الذي تبنين عليه؟ قالت: لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدا، ما أردت بعثمان نقصا ولكن كان سابقا إلى الخير وإنه لرفيع الدرجة غدا [ قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة اغتيل من مأمنه وأتى من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وآله الجنة ] قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وحواريه و قد شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله بالجنة [ ولقد كان سباقا إلى كل مكرمة في الإسلام ] وأنا أسألك بحق الله يا معاوية - فإن قريشا تحدثت أنك أحلمها - [ أن تسعني بفضل حلمك و ] أن تعفيني من هذه المسائل، وتسألني عما شئت من غيرها.

قال: نعم ونقمة عين وقد أعفيتك منها. ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردها مكرمة (1).

(261)
أروى بنت الحارث ومعاوية

العباس بن بكار، قال: حدثني عبد الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي:

أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا عمة! فكيف كنت بعدنا؟ فقالت:

يا ابن أخي! لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، من غير بلاء كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله، فأتعس الله منكم الجدود،

____________

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 115 وبلاغات النساء: ص 36 وقاموس الرجال: ج 10 ص 394. وبهج الصباغة ج 10 ص 178، ومحادثات النساء ص 83.

الصفحة 403
وأضرع الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا هو المنصور، فوليتم علينا من بعده تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة وغايتكم النار.

فقال لها عمرو بن العاص:

كفي أيتها العجوزة الضالة! وأقصري من قولك مع ذهاب عقلك. إذ لا تجوز شهادتك وحدك.

فقالت له: وأنت يا ابن النابغة تتكلم؟ وأمك كانت أشهر امرأة تغني (بغي خ) بمكة وآخذهن لاجرة، ادعاك خمسة نفر من قريش فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني! فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاصي بن وائل، فلحقت به.

فقال مروان:

كفي أيتها العجوزة! واقصدي لما جئت له، فقالت: وأنت أيضا يا ابن الزرقاء تتكلم؟ [ والله وأنت ببشير مولى ابن كلدة أشبه منك بالحكم بن العاص، وقد رأيت الحكم سبط الشعر مديد القامة وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرف، فاسأل عما أخبرتك به أمك، فإنها ستخبرك بذلك ] عن البحار.

ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك، فإن أمك القائلة في قتل حمزة:

نحن جزينا بكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من صبر * وشكر وحشي علي دهري
حتى ترم أعظمي في قبري


الصفحة 404
فأجابتها بنت عمي، وهي تقول:

خزيت في بدر وبعد بدر * يا ابنة جبار عظيم الكفر

فقال معاوية: عفا الله عما سلف، يا عمة هات حاجتك، قالت: ما لي إليك حاجة، وخرجت عنه (1).

(262)
أم البراء عند معاوية

حدثنا العباس، قال: حدثنا سهيل بن أبي سفيان التميمي، عن جعدة بن هبيرة المخزومي، قال: استأذنت أم البراء بنت صفوان بن هلال على معاوية، فأذن لها، فدخلت في ثلاثة دروع تسحبها قد كارت على رأسها كورا كهيئة المنسف، فسلمت ثم جلست، فقال: كيف أنت يا بنت صفوان؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: فكيف حالك؟ قالت: ضعفت بعد جلد وكسلت بعد نشاط، قال: سيان بينك اليوم وحين تقولين:

يا عمرو دونك صارما ذا رونق * عضب المهزة ليس بالخوار
أسرج جوادك مسرعا ومشمرا * للحرب غير معرد لفرار
أجب الإمام ودب تحت لوائه * وافر العدو بصارم بتار
يا ليتني أصبحت ليس بعورة * فأذب عنه عساكر الفجار

قالت: قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ومثلك عفا، والله تعالى يقول: " عفا الله عما سلف " قال: هيهات! أما إنه لو عاد لعدت، لكنه اخترم دونك،

____________

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 119. وبلاغات النساء: ص 27، والغدير: ج 10 ص 167 عنهما، وثمرات الأوراق هامش المستطرف: ج 1 ص 113 وسيأتي من البحار أيضا. ومحادثات النساء: ص 92 وقاموس الرجال: ج 10 ص 377، والغدير: ج 2 ص 121 عن العقد والبلاغات وروض المناظر: ج 8 ص 4. وثمرات الأوراق: ج 1 ص 132. ودائرة المعارف للوجدي: ج 1 ص 215. وجمهرة الخطب: ج 2 ص 363.

الصفحة 405
فكيف قولك حين قتل؟ قالت: نسيته يا أمير المؤمنين.

فقال بعض جلسائه: هو والله حين تقول يا أمير المؤمنين:

يا للرجال لعظم هول مصيبة * فدحت فليس مصابها بالهازل
الشمس كاسفة لفقد إمامنا * خير الخلائق والإمام العادل
يا خير من ركب المطي ومن مشى * فوق التراب لمحتف أو ناعل
حاشا النبي لقد هددت قواءنا * فالحق أصبح خاضعا للباطل

فقال معاوية: قاتلك الله يا بنت صفوان! ما تركت لقائل فقال مقالا، اذكري حاجتك.

قالت: هيهات بعد هذا! والله لا سألتك شيئا. ثم قامت فعثرت، فقالت:

تعس شانئ علي، فقال: يا بنت صفوان زعمت إلا، قالت: هو ما علمت. فلما كان من الغد بعث إليها بكسوة فاخرة ودراهم كثيرة وقال: إذا أنا ضيعت الحلم فمن يحفظه؟ (1).

(263)
آمنة بنت الشريد ومعاوية

حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الزهري وسهل ابن أبي سهل التميمي، عن أبيه، قالا: لما قتل علي بن أبي طالب عليه السلام بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، فراغ منه، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد فحبسها في سجن دمشق سنتين.

ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة، فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الإسلام. فلما أتى معاوية الرسول بالرأس، بعث به إلى آمنة في السجن، وقال للحرسي: احفظ

____________

(1) بلاغات النساء: ص 75. وعنه في قاموس الرجال: ج 10 ص 388.

الصفحة 406
ما تكلمت به حتى توديه إلي واطرح الرأس في حجرها، ففعل هذا، فارتاعت له ساعة. ثم وضعت يدها على رأسها وقالت:

واحزنا! لصغره في دار هوان وضيق من ضيمة سلطان، فنفيتموه عني طويلا وأهديتموه إلي قتيلا، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية وأنا له اليوم غير ناسية، ارجع به أيها الرسول إلى معاوية، فقل له ولا تطوه دونه: أيتم الله ولدك وأوحش منك أهلك ولا غفر لك ذنبك.

فرجع الرسول إلى معاوية، فأخبره بما قالت، فأرسل إليها فأتته، وعنده نفر فيهم أياس بن حسل أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء عن فيه لعظم كان في لسانه وثقل إذا تكلم، فقال لها معاوية: أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني؟

قالت: نعم! غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وأن الحق لمن وراء العباد، وما بلغت شيئا من جزائك وإن الله بالنقمة من ورائك.

فأعرض عنها معاوية. فقال أياس: أقتل هذه يا أمير المؤمنين، فوالله ما كان زوجها أحق بالقتل منها! فالتفت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين ثقيل اللسان، قالت: تبا لك! ويلك! بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين، فضحك معاوية، ثم قال: لله درك! أخرجي ثم لا أسمع بك في شئ من الشام.

قالت: وأبي لأخرجن! ثم لا تسمع لي في شئ من الشام، فما الشام لي بحبيب ولا أعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد عظم فيها ديني وما قرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة ولا حيث كنت بحامدة فأشار إليها ببنانه: أخرجي، فخرجت وهي تقول:


الصفحة 407
وا عجبي لمعاوية يكف عني لسانه ويشير إلى الخروج ببنانه، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد سديد أو جمع من نوافذ الحديد أو ما أنا بابنة الشريد! فخرجت، وتلقاها الأسود الهلالي - وكان رجلا أسود أصلع أسلع أصعل - فسمعها وهي تقول ما تقول، فقال: لمن تعني هذه؟ الأمير المؤمنين تعني؟ عليها لعنة الله! فالتفتت إليه، فلما رأته قالت: خزيا لك وجدعا!

أتلعنني؟ واللعنة بين جنبيك وما بين قرنيك إلى قدميك، إخسأ يا هامة الصعل ووجه الجعل، فاذلل بك نصيرا واقلل بك ظهيرا، فبهت الأسلع ينظر إليها، ثم سأل عنها فأخبر، فأقبل إليها معتذرا خوفا من لسانها.

فقالت: قد قبلت عذرك، وإن تعد أعد، ثم لا أستقيل ولا أراقب فيك.

فبلغ ذلك معاوية، فقال: زعمت يا أسلع أنك لا تواقف من يغلبك، أما علمت أن حرارة المبتول ليست بمخالسة نوافذ الكلام عند مواقف الخصام؟

أفلا تركت كلامها قبل البصبصة منها والاعتذار إليها؟ قال: إي والله يا أمير المؤمنين؟ لم أكن أرى شيئا من النساء يبلغ من معاضيل الكلام ما بلغت هذه المرأة، حالستها، فإذا هي تحمل قلبا شديدا ولسانا حديدا وجوابا عتيدا، وهالتني رعبا وأوسعتني سبا.

ثم التفت معاوية إلى عبيد بن أوس، فقال: ابعث لها ما تقطع به عنا لسانها وتقضي به ما ذكرت من دينها، وتخف به إلى بلادها، وقال: اللهم اكفني شر لسانها، فلما أتاها الرسول بما أمر به معاوية، قالت: يا عجبي لمعاوية!

يقتل زوجي ويبعث إلي بالجوائز، فليت أبي كرب سد عني حره صله، خذ من الرضعة ما عليها، فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة فمرت بحمص، فقتلها الطاعون

____________

(1) كذا والصحيح ما في مجمع الأمثال: ج 2 ص 194: " ليت حظي من أبي كرب أن يسد عني خيره خبله ".

(2) كذا والصحيح ما في مجمع الأمثال: ج 1 ص 231: " خذ من الرضفة ما عليها ".

الصفحة 408
فبلغ ذلك الأسلع، فأقبل إلى معاوية كالمبشر له، فقال له: أفرخ روعك يا أمير المؤمنين، قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد، وقد كفيت شر لسانها.

قال: وكيف ذلك؟ قال مرت بحمص فقتلها الطاعون، فقال له معاوية:

فنفسك فبشر بما أحببت، فإن موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك، ولعمري! ما أنصفت منها حين أفرغت عليك شؤبا وبيلا، فقال الأسلع:

ما أصابني من حرارة لسانها شئ إلا وقد أصابك مثله أو أشد منه (1).

(264)
امرأة من بني ذكوان عند معاوية

عن خالد بن سعيد، عن رجل من بني أمية، قال: حضرت معاوية يوما وقد أذن للناس إذنا عاما، فدخلوا عليه لمظالمهم وحوائجهم، فدخلت امرأة كأنها قلعة ومعها جاريتان لها، فحدرت اللثام عن لون كأنما أشرب ماء الدر في حمرة التفاح، ثم قالت:

الحمد لله يا معاوية! الذي خلق اللسان فجعل فيه البيان، ودل به على النعم، وأجرى به القلم فيما أبرم وحتم، ودرأ وبرأ، وحكم وقضى، صرف الكلام باللغات المختلفة على المعاني المتفرقة، ألفها بالتقديم والتأخير، والأشباه والمناكر والموافقة والتزايد، فأدته الآذان إلى القلوب، وأدته القلوب إلى الألسن بالبيان، استدل به على العلم، وعبد به الرب، وأبرم به الأمر، وعرفت به الأقدار، وتمت به النعم، فكان من قضاء الله وقدره أن قربت زيادا وجعلت له بين آل سفيان نسبا، ثم وليته أحكام العباد، يسفك الدماء بغير حلها ولا حقها، ويهتك الحرم بلا مراقبة الله فيها، خؤون غشوم، كافر ظلوم، يتخير من المعاصي أعظمها، لا يرى لله وقارا ولا يظن أن له معادا، وغدا يعرض عمله في

____________

(1) بلاغات النساء: ص 59 - 61، وسيأتي ج 2 ص 90 عن المفيد. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 377. ومحادثات النساء: ص 67 - 71. وأعلام النساء: ج 1 ص 11. والبحار: ج 8 ص 673، ط حجري