الصفحة 448
عليه السلام في جنود من الملائكة، فكان علي عليه السلام يغسله والفضل بن العباس مربوط العينين يصب الماء والملائكة يقلبونه له كيف شاء، ولقد أراد علي عليه السلام أن ينزع قميص رسول الله صلى الله عليه وآله فصاح به صائح:

لا تنزع قميص نبيك يا علي، فأدخل يده تحت القميص فغسله، ثم حنطه وكفنه، ثم نزع القميص عند تكفينه وتحنيطه).

فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر من بني هاشم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي صلى الله عليه وآله في الحجرة وأتفقد وجوه قريش، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر! وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر!! فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمر بهم أحد إلا خبطوه، فإذا عرفوه مدوا يده على يد أبي بكر شاء ذلك أم أبى، فأنكرت عند ذلك عقلي جزعا منه مع المصيبة برسول الله صلى الله عليه وآله فخرجت مسرعا حتى أتيت المسجد، ثم أتيت بني هاشم والباب مغلق دونهم، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا وقلت: يا أهل البيت! فخرج إلي الفضل بن العباس، فقلت: قد بايع الناس أبا بكر!! فقال العباس: قد تربت أيديكم منها آخر الدهر! أما إني قد أمرتكم فعصيتموني.

فمكثت أكابد ما في نفسي، فلما كان الليل خرجت إلى المسجد، فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرآن، فانبعثت من مكاني فخرجت نحو الفضاء، فوجدت نفرا يتناجون، فلما دنوت منهم سكتوا، فانصرفت عنهم، فعرفوني وما عرفتهم، فدعوني فأتيتهم، وإذا المقداد وأبو ذر وسلمان وعمار بن ياسر وعبادة بن الصامت وأبو الهيثم بن

الصفحة 449
التيهان وحذيفة بن اليمان والزبير بن العوام، وحذيفة يقول: " والله ليفعلن ما أخبرتكم به! فوالله ما كذبت ولا كذبت! " وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين والأنصار، فقال: حذيفة: انطلقوا بنا إلى أبي بن كعب، فقد علم مثل ما علمت.

قال: فانطلقنا إلى أبي بن كعب، وضربنا عليه بابه، فأتى حتى صار خلف الباب، ثم قال: من أنتم؟ فكلمه المقداد، فقال: ما جاء بك؟ فقال له: افتح فإن الأمر الذي جئنا فيه أعظم من أن يجري وراء الباب، فقال: ما أنا بفاتح بابي وقد علمت ما جئتم له وما أنا بفاتح بابي، كأنكم أردتم النظر في هذا العقد؟ فقلنا: نعم، فقال: أفيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم، فقال: القول ما قال حذيفة، فأما أنا فلا أفتح بابي حتى يجري علي ما هو جار عليه، وما يكون بعدها شر منها! وإلى الله جل ثناؤه المشتكى. قال: فرجعوا ثم دخل أبي بن كعب بيته.

قال: وبلغ أبا بكر وعمر الخبر، فأرسلا إلى أبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة فسألاهما الرأي، فقال المغيرة بن شعبة: أرى أن تلقوا العباس بن عبد المطلب، فتطمعوه في أن يكون له في هذا الأمر نصيب يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعوه بذلك عن ابن أخيه علي بن أبي طالب، فإن العباس لو صار معكم كانت الحجة على الناس، وهان عليكم أمر علي بن أبي طالب وحده.

قال: فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة رسول الله قال: فتكلم أبو بكر، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، وقال:

إن الله ابتعث لكم محمدا صلى الله عليه وآله نبيا وللمؤمنين وليا، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم حتى اختار له ما عنده، وترك للناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم واليا

الصفحة 450
ولأمورهم راعيا، فتولوني ذلك، وما أخاف بعون الله وهنا ولا حيرة ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني، فيقول بخلاف قول العامة، فيتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع وخطبه البديع، فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه أو صرفتموهم عما مالوا إليه، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك، إذ كنت عم رسول الله صلى الله عليه وآله وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك، فعدلوا بهذا الأمر عنكما (وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم).

فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته، فقال:

إي والله! وأخرى يا بني هاشم على رسلكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم، ولم نأتك حاجة منا إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم وللعامة!.

فتكلم العباس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت ووليا للمؤمنين، فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده، فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت الأمر هذا فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم، ما تقدمنا في أمركم فرطا ولا حللنا منكم وسطا وبرحنا شحطا، فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين؟ وما أبعد قولك: إنهم طعنوا عليك من قولك: إنهم مالوا إليك! وأما ما بذلت لنا فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض، وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه، ولكن للحجة نصيبها

الصفحة 451
من البيان. وأما قولك يا عمر: " إن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم " فإن رسول الله صلى الله عليه وآله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. وأما قولك يا عمر: " إنك تخاف الناس علينا " فهذا الذي قدمتموه أول ذلك، وبالله المستعان.

فخرجوا من عنده، وأنشأ العباس يقول:

ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفا * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن!
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالآثار والسنن؟
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له بالغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم * وليس في الناس ما فيه من الحسن
من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه؟ * ها إن بيعتكم من أول الفتن (1)

(281)
راع وأبو بكر

روى رافع بن أبي رافع الطائي عن أبي بكر وقد صحبه في سفر، قال: قلت له: يا أبا بكر علمني شيئا ينفعني الله به.

قال، كنت فاعلا ولو لم تسألني، لا تشرك بالله شيئا، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم شهر رمضان، وحج البيت واعتمر، ولا تتأمرن على اثنين من المسلمين.

قال: قلت له: أما ما أمرتني به من الإيمان والصلاة والحج والعمرة والزكاة فأنا أفعله، وأما الإمارة: فإني رأيت الناس لا يصيبون هذا الشرف وهذا الغنى

____________

(1) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 1 ص 219 وج 2 ص 51. والبحار: ج 28 ص 285. وقد دخل رواية بعضهم في بعض. وراجع قاموس الرجال: ج 5 ص 234 - 235. وبهج الصباغة: ج 5 ص 40 - 41. والغدير: ج 5 ص 374. والإمامة والسياسة: ج 1 ص 21.

الصفحة 452
والعز والمنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وآله إلا بها.

قال: إنك استنصحتني فأجهدت نفسي لك.

فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله واستخلف أبا بكر جئته وقلت له: يا أبا بكر! ألم تنهني أن أتأمر على اثنين؟ قال: بلى، قلت: فما لك تأمرت على أمة محمد صلى الله عليه وآله؟ قال: اختلف الناس وخفت عليهم الضلالة ودعوني، فم أجد من ذلك بدا (1).

(282)
سلمان يخطب

خطب الناس سلمان الفارسي - رحمه الله - بعد أن دفن النبي عليه وآله السلام بثلاثة أيام، فقال فيها:

ألا أيها الناس! اسمعوا عني حديثي ثم أعقلوه عني، ألا! إني أوتيت علما كثيرا، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لقال طائفة منكم: هو مجنون، وقال طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان، ألا! إن لكم منايا تتبعها بلايا، ألا! وإن عند علي بن أبي طالب عليه السلام المنايا والبلايا وميراث الوصايا وفصل الخطاب وأصل الأنساب على منهاج هارون بن عمران بن موسى عليهما السلام إذ يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنت وصيي في أهلي وخليفتي في أمتي وبمنزلة هارون من موسى، ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق، تعلمون فلا تعملون، أما والله! لتركبن طبقا عن طبق على سنة بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. أما والذي نفس سلمان بيده! لو وليتموها عليا عليه السلام لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، ولو دعوتم الطير في جو السماء لأجابتكم، ولو دعوتم الحيتان من

____________

(1) البحار: ج 8 ص 86 ط الكمباني عن الاحتجاج.

الصفحة 453
البحار لأتتكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، ولكن أبيتم فوليتموها غيره، فأبشروا بالبلاء، واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم على سواء، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء، عليكم بآل محمد عليهم السلام فإنهم القادة إلى الجنة والدعاء إليها يوم القيامة.

عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مرارا جمة مع نبينا، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه؟ وقد حسد قابيل هابيل فقتله، وكفارا قد ارتدت أمة موسى بن عمران عليه السلام فأمر هذه الأمة كما أمر بني إسرائيل، فأين يذهب بكم أيها الناس؟ ويحكم! ما أنا وأبو فلان وفلان؟ أجهلتم أم تجاهلتم؟

أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافرين بالنجاة.

ألا! وإني أظهرت أمري وسلمت لنبيي، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة عليا أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين وإمام الصديقين والشهداء والصالحين (1).

(283)
أبي وأبو بكر

احتجاج أبي بن كعب مع أبي بكر برواية الاحتجاج، وقد مر برواية كشف اليقين، ولقد أوردنا الروايتين لما بينهما من الاختلاف.

عن علي بن أبي طلب صلوات الله عليه قال: لما خطب أبو بكر قام أبي

____________

(1) البحار: ج 8 ص 87 ط الكمباني عن الاحتجاج: ج 1 ص 151.

الصفحة 454
ابن كعب، فكان يوم الجمعة أول يوم من شهر رمضان، فقال:

يا معاشر المهاجرين الذين اتبعوا مرضات الله وأثنى الله عليهم في القرآن!

ويا معاشر الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان وأثنى الله عليهم في القرآن!

تناسيتم أم نسيتم؟ أم بدلتم أم غيرتم؟ أم خذلتم أم عجزتم؟

ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قام فينا مقاما أقام فيه عليا فقال: من كنت مولاه فهذا مولاه - يعني عليا - ومن كنت نبيه فهذا أميره؟

ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى، طاعتك واجبة على من بعدي كطاعتي في حياتي، إلا أنه لا نبي بعدي؟

ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أوصيكم بأهل بيتي خيرا، فقدموهم ولا تتقدموهم، وأمروهم ولا تتأمروا عليهم؟

ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أهل بيتي منار الهدى والدالون على الله؟

ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي: أنت الهادي لمن ضل؟

ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: علي المحيي لسنتي، ومعلم أمتي، والقائم بحجتي، وخير من أخلف من بعدي، وسيد أهل بيتي، أحب الناس إلي، طاعته كطاعتي على أمتي؟

ألستم تعلمون أنه لم يول على علي عليه السلام أحدا منكم وولاه في كل غيبته عليكم؟

ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحدا، وارتحالهما وأمرهما واحدا؟

ألستم تعلمون أنه قال: إذا غبت فخلفت فيكم عليا فقد خلفت فيكم

الصفحة 455
رجلا كنفسي؟

ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل موته قد جمعنا في بيت ابنته فاطمة عليها السلام فقال لنا: إن الله أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اتخذ أخا من أهلك فأجعله نبيا، وأجعل أهله لك ولدا أطهرهم من الآفات وأخلصهم من الريب، فاتخذ موسى هارون أخا وولده أئمة لبني إسرائيل من بعده، يحل لهم في مساجدهم ما يحل لموسى، وإن الله أوحى إلي أن أتخذ عليا عليه السلام أخا كموسى اتخذ هارون أخا واتخذ ولده ولدا، فقد طهرتهم كما طهرت ولد هارون، إلا أني ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك، فهم الأئمة الهادية؟

أفما تبصرون؟ أفما تفقهون؟ أما تسمعون؟ ضربت عليكم الشبهات، فكان مثلكم كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شديد حتى خشي أن يهلك، فلقي رجلا هاديا في الطريق فسأله عن الماء، فقال له: أمامك عينان: أحدهما مالحة والأخرى عذبة، فإن أصبت المالحة ضللت، وإن أصبت العذبة هديت ورويت، فهذا مثلكم أيتها الأمة المهملة كما زعمتم.

وأيم الله! ما أهملتم، لقد نصب لكم علم يحل لكم الحلال ويحرم عليكم الحرام، لو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم ولا تقاتلتم، ولا برئ بعضكم من بعض.

فوالله! إنكم بعده لمختلفون في أحكامكم، وإنكم بعده لناقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنكم على عترته لمختلفون، إن سئل هذا عن غير من يعلم أفتى برأيه.

فقد أبعدتم وتجاريتم (1) وزعمتم الاختلاف رحمة، هيهات! أبى الكتاب ذلك عليهم (2)، يقول الله تبارك وتعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد

____________

(1) في الاحتجاج: " تخارستم ".

(2) في الاحتجاج: " عليكم ".

الصفحة 456
ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " ثم أخبرنا باختلافكم، فقال:

" ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " أي الرحمة وهم آل محمد.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " يا علي أنت وشيعتك على الفطرة والناس منهم براء " فهلا قبلتم من نبيكم صلى الله عليه وآله، كيف!

وهو خبركم بانتكاصكم عن وصيه عليه السلام وأمينه ووزيره وأخيه ووليه دونكم أجمعين، أطهركم قلبا، وأعلمكم علما، وأقدمكم سلما، وأعظمكم غناء عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أعطاه تراثه، وأوصاه بعداته، واستخلفه على أمته، ووضع عنده سره، فهو وليه دونكم أجمعين، وأحق به منكم على التعيين (1)، سيد الوصيين، وأفضل المتقين، وأطوع الأمة لرب العالمين، سلمتم عليه بخلافة المؤمنين في حياة سيد النبيين وخاتم المرسلين.

فقد أعذر من أنذر، وأدى النصيحة من وعظ، وبصر من عمى، فقد سمعتم كما سمعنا، ورأيتم كما رأينا، وشهدتم كما شهدنا.

فقام عبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل - لعنهم الله - فقالوا: يا أبي! أصابك خبل؟ أم بك جنة؟ فقال: بل الخبل فيكم! كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله يوما فألفيته يكلم رجلا أسمع كلامه ولا أرى وجهه، فقال فيما يخاطبه: ما أنصحه لك ولأمتك! وأعلمه بسنتك! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفترى أمتي تنقاد له من بعدي؟ قال: يا محمد تتبعه من أمتك أبرارها وتخالف عليه من أمتك فجارها، وكذلك أوصياء النبيين من قبلك، يا محمد صلى الله عليه وآله إن موسى بن عمران عليه السلام أوصى ليوشع بن نون، وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله وأطوعهم له، وأمره

____________

(1) في الاحتجاج " منكم أكتعين ".

الصفحة 457
الله أن يتخذه وصيا، كما اتخذت عليا وصيا وكما أمرت بذلك، فحسده بنو إسرائيل سبط موسى خاصة، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا منه، فإن أخذت أمتك سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك وجحدوا أمره وابتزوا خلافته وغالطوه في علمه.

فقلت: يا رسول الله من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا ملك من ملائكة الله ربي عز وجل ينبئني أن أمتي تختلف (1) على وصيي علي بن أبي طالب عليه السلام، وإني أوصيك يا أبي بوصية إن حفظتها لم تزل بخير: يا أبي عليك بعلي، فإنه الهادي المهدي والناصح لأمتي، المحيي لسنتي، وهو إمامكم بعدي، فمن رضي بذلك لقيني على ما فارقته عليه. يا أبي ومن غير وبدل لقيني ناكثا لبيعتي، عاصيا أمري جاحدا لنبوتي، لا أشفع له عند ربي ولا أسقيه من حوضي.

فقامت إليه رجال من الأنصار، فقالوا: قد رحمك الله يا أبي! فقد أديت ما سمعت ووفيت بعهدك (2).

(284)
أسامة وأبو بكر

روي عن الباقر عليه السلام: أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اكتب إلى أسامة يقدم عليك، فإن في قدومه قطع الشنعة عنا، فكتب أبو بكر إليه:

من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أسامة بن زيد، أما بعد: فانظر إذا أتاك كتابي فأقبل إلي أنت ومن معك، فإن المسلمين قد اجتمعوا وولوني أمرهم، فلا تتخلفن فتعصي ويأتيك مني ما تكره، والسلام.

____________

(1) في الاحتجاج: تتخلف.

(2) البحار: ج 8 ص 87 ط الكمباني عن الاحتجاج: ج 1 ص 153.

الصفحة 458
قال: فكتب إليه أسامة جواب كتابه:

من أسامة بن زيد عامل رسول الله صلى الله عليه وآله على غزوة الشام أما بعد، فقد أتاني لك كتاب ينقض أوله آخره! ذكرت في أنك خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وذكرت في آخره أن المسلمين اجتمعوا عليك فولوك أمورهم ورضوا بك! واعلم أني أنا ومن معي من جماعة المسلمين والمهاجرين، فلا والله ما رضينا بك ولا وليناك أمرنا!

وانظر أن تدفع الحق إلى أهله وتخليهم وإياه، فإنهم أحق به منك، فقد علمت ما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام يوم غدير خم، فما طال العهد فتنسى. انظر بمركزك ولا تخالف فتعصي الله ورسوله وتعصي ما استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله عليك وعلى صاحبك، ولم يعزلني حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنك وصاحبك رجعتما وعصيتما فأقمتما في المدينة بغير إذني، الخ (1).

(285)
خطبة الزهراء عليها السلام في المسجد

روى عبد الله بن الحسن بإسناده، عن آبائه عليهم السلام: أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكا وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم.

فنيطت دونها ملاءة، فجلست، ثم أنت أنه أجهش القوم لها بالبكاء!

فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم،

____________

(1) البحار: ج 8 ص 88 ط الكباني عن الاحتجاج وكشف اليقين.

الصفحة 459
افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت عليها السلام:

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم: من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جم عن الاحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته تعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده من نقمته وحياشة لهم إلى جنته.

وأشهد أن أبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إد الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله تعالى بما يلي الأمور (بمآيل الأمور خ) وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور.

ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه (رحمته خ) فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمدا صلى الله عليه وآله ظلمها، وكشف

الصفحة 460
عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها (عماها خ) وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم ودعاهم إلى الطريق المستقيم.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد صلى الله عليه وآله من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي نبيه وأمينه وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

ثم التفتت إلى أهل المجلس، وقالت:.

أنتم عباد الله! نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان اتباعه (1)، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله، المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للاخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا للفرقة، والجهاد عزا للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منساة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية

____________

(1) في الاحتجاج: " قائدا إلى الرضوان أتباعه ".

الصفحة 461
المكائيل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، ترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية " فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".

ثم قالت:

أيها الناس! اعلموا أني فاطمة وأبي محمدا صلى الله عليه وآله أقول عودا وبدوا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل شططا " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولتعم المعزي إليه صلى الله عليه وآله وسلم فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجف (يكسر خ) الأصنام، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماصر وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله.

بعد اللتيا والتي وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها (صماخها خ) بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر

الصفحة 462
الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال.

فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير شربكم.

هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة، " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ".

فهيهات منكم! وكيف بكم! وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم: أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ " بئس للظالمين بدلا "! " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ".

ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسوا في ارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء، ويصبر منكم على مثل حز المدى ووخز السنان في الحشا.


الصفحة 463
وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا! " أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون "؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية.

إني ابنته أيها المسلمون! أأغلب على إرثي؟!

يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول " وورث سليمان داود " وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا عليهما السلام إذ قال: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " وقال: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وقال: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " وقال: " إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ".

وزعمتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون " لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ".

ثم رمت بطرفها نحو الأنصار، فقالت:

يا معشر الفتية (1) وأعضاد الملة وحضنة الإسلام! ما هذه الغميزة في حقي والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله أبي يقول:

" المرء يحفظ في ولده "؟ سرعان ما أحدثتم! وعجلان ذا إهالة! ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون: مات محمد؟ فخطب جليل:

____________

(1) في الاحتجاج: " النقيبة ".

الصفحة 464
استوسع وهنه، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته [ واكتأبت خيرة الله لمصيبته ] (1) وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأحدت الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى! لا مثلها نازلة، ولا بائقة (باقية خ) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم (يهتف في أفنيتكم خ) هتافا وصراخا وتلاوة وألحانا، ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله، حكم فصل وقضاء حتم " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ".

إيها بني قيلة! أأهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدى ومجمع، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة، وأنتم ذووا العدد والعدة والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنى حزتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤسا لقوم! " نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ".

ألا! قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط

____________

(1) ما بين العلامتين لم يرد في الاحتجاج.

الصفحة 465
والقبض، وخلوتم بالدعة، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغتم " فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " ألا!

وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة، وبثة الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها! فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب الله وشنار الأبد، موصولة ب " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة "! فبعين الله ما تفعلون " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "، وأنا ابنة " نذير لكم بين يدي عذاب شديد "، " فاعملوا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ".

فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان، وقال:

يا ابنة رسول الله! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما وعقابا عظيما، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفك دون الأخلاء، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا سعيد ولا يبغضكم إلا شقي بعيد، فأنتم عترة رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبون الخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وآله ولا عملت إلا بإذنه، وإن الرائد لا يكذب أهله، فإني أشهد الله وكفى به شهيدا: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا، وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه " وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار ويجالدون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي، ولم

الصفحة 466
أستبد بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي، ومالي هي لك وبين يديك لا تزوى عنك ولا ندخر دونك، وإنك وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا ندفع مالك بن فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، وحكمك نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله؟!

فقالت عليها السلام:

سبحان الله! ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله عن كتاب الله صادفا ولا لأحكامه مخالفا، بل كان يتبع أثره ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكما عدلا وناطقا فصلا يقول: " يرثني ويرث من آل يعقوب " ويقول: " وورث سليمان داود " فبين عز وجل فيما وزع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة المبطلين، وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا! " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ".

فقال أبو بكر:

صدق الله ورسوله وصدقت ابنته! أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابك ولا أنكر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.

فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس، وقالت:

معاشر الناس! المسرعة إلى قيل الباطل، والمغضية على الفعل القبيح الخاسر " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "؟ كلا! بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ولبئس ما تأولتم! وساء ما به أشرتم!