ثم عطفت على قبر النبي صلى الله عليه وآله وقالت:
ثم انكفأت عليها السلام وأمير المؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها إليه ويتطلع طلوعها عليه، فلما استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين عليه السلام:
يا ابن أبي طالب! اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي وبلغة ابني، لقد أجهد في خصامي، وألفيته ألد في كلامي، حتى حبستني قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة وعدت راغمة، أضرعت خدك يوم أضعت حدك، افترست الذئاب وافترشت التراب، ما كففت قائلا ولا أغنيت طائلا، ولا
____________
(1) في البحار: " اعتضتم ".
(2) في الاحتجاج: " بإورائه ".
فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
لا ويل لك، بل الويل لشانئك، ثم نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة فما ونيت عن ديني، ولا أخطأت مقدوري، فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون وكفيلك مأمون، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك، فاحتسبي الله.
فقالت: حسبي الله، وأمسكت.
((مصادر الخطبة))
أقول: هذه الخطبة الشريفة التي فيها مسحة من النبوة ولمعة من الرسالة منقولة عن سيدة النساء بطرق كثيرة أخرجها الأعلام في كتبهم من المؤرخين والمحدثين واللغويين والأدباء.
ولأهمية المورد نورد كل ما عثرنا عليه من المصادر، وإن كان بعضها مشتملا على نقل الخطبة تماما وبعضها على نقلها بعضا أو إيعازا، ونحن نقلناها عن الاحتجاج: ج 1 ص 131 - 146:
1 - نقلها الطبرسي في الاحتجاج مع التزامه في أول الكتاب بأن لا ينقل فيه إلا ما كان مؤيدا بالإجماع أو العقل أو الشهرة بين المخالف والمؤالف.
واللفظ له.
2 - وأخرجها المسعودي في كتابيه " أخبار الزمان " و " الكتاب الأوسط " على ما ذكره في تاريخه المختصر " مروج الذهب " قال ما لفظه: وما كان من قصة
إلى آخر الشعر، إلى غير ذلك مما تركنا ذكره من الأخبار في هذا الكتاب، إذ كنا قد أتينا على جميع ذلك في كتاب أخبار الزمان والكتاب الأوسط (1).
3 - وأخرها السيد - رحمه الله تعالى - في الشافي في رد قاضي القضاة بإسناده وفي تلخيصه للشيخ - رحمه الله - قال (2): أخبرنا جماعة عن أبي عبد الله محمد بن عمران المرزباني، قال: حدثني محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثنا أحمد بن عبيد ناصح النحوي، قال: حدثني الزنادي، قال: حدثني شرقي بن قطامة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثنا صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة، قالت...
ثم قال: قال المرزباني: وحدثني أبو بكر أحمد بن محمد المكي، قال: حدثنا محمد بن القاسم التمامي أبو العيناء، قال: حدثنا ابن عائشة، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله...
4 - وأو عز إليها اليعقوبي في تاريخه المعروف، وذكر بعض جمل الخطبة (3).
5 - ونقل أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم (المتوفى 568) في مقتل الحسين عليه السلام (4) الخطبة كما تقدم باختلاف يسير زيادة ونقصانا بهذا الإسناد: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، أخبرنا عبد الله ابن إسحاق، أخبرنا محمد بن عبيد، أخبرنا محمد بن زياد، أخبرنا شرقي بن
____________
(1) مروج الذهب: 2 / 304.
(2) ج 3 ص 139 الطبعة الثالثة.
(3) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 127.
(4) ج 1 ص 77 ط نجف سنة 1367.
6 - وقال الإربلي في كشف الغمة: وحيث انتهى القول إلى هنا، فلنذكر خطبة فاطمة عليها السلام فإنها من محاسن الخطب وبدايعها، عليها مسحة من نور النبوة، وفيها عبقة من أرج الرسالة، وقد أورده المؤالف والمخالف. ونقلتها من كتاب السقيفة عن عمر بن شبه تأليف أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها المذكور، وقرئت عليه في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، روى عن رجاله بعدة طرق. ثم نقل الخطبة كما مر عن الاحتجاج مع اختلاف في الألفاظ، ثم قال بعد نقلها: هذه الخطبة نقلتها من كتاب السقيفة وكانت مع قدمها مغلوطة، فحققتها من مواضع آخر.
7 - وفي دلائل الإمامة لأبي جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري (1) نقلها بهذا الإسناد:
حدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، حدثنا أحمد بن محمد بن عثمان بن سعيد الزيات، حدثنا محمد ابن الحسين العضباني، حدثنا أحمد بن محمد بن نصر البزنطي السكوني، عن أبان بن عثمان الأحمر، عن أبان بن تغلب الربعي، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون التلعكبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، حدثني محمد بن المفضل بن إبراهيم ابن قيس الأشعري، حدثنا علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن
____________
(1) ط نجف ص 30.
قال أبو العباس: وحدثنا محمد بن المفضل بن إبراهيم، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن محمد بن عمرو بن عثمان الجعفي، حدثني أبي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن عمته زينب بنت أمير المؤمنين وغير واحد.
وحدثني القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد بن جعفر بن سهل بن حمران الدقاق، حدثتني أم الفضل خديجة بنت محمد بن أبي الثلج، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الصفواني، حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا جعفر بن عمارة الكندي، حدثني أبي، عن الحسن بن صالح بن حي، قال: وما رأت عيناي مثله، حدثني رجلان من بني هاشم عن زينب بنت علي.
قال الصفواني: حدثني محمد بن محمد بن يزيد مولى بني هاشم، حدثني عبد الله بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن، عن جماعة من أهله.
قال الصفواني: حدثني أبي، عن عثمان، حدثنا نابل بن نجيح، عن عمر ابن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر، عن آبائه.
قال الصفواني: حدثنا عبد الله بن ضحاك، حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه وعوانة.
قال الصفواني: حدثنا ابن عائشة ببعضه.
وحدثنا العباس بن بكار، حدثنا حرب بن ميمون، عن زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام، ثم ساق الخطبة بتمامها كما في الاحتجاج، مع تفاوت في النظم والألفاظ.
8 - أشار ابن الأثير في النهاية في مادة " لمم " إلى هذا الحديث، وتشييد
9 - وأخرجها ابن شهر آشوب في المناقب (1).
10 - أخرجها الصدوق - رحمه الله - في كتبه بهذه الأسانيد:
محمد بن موسى المتوكل، عن علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أحمد بن محمد بن جابر (2) عن زينب بنت علي.
علي بن حاتم، عن محمد بن أسلم، عن عبد الجليل الباقطاني، عن الحسن ابن موسى الخشاب، عن عبد الله بن محمد العلوي، عن رجال من أهل بيته عن زينب بنت علي عليه السلام.
ومحمد بن أبي عمير، عن محمد بن عمارة، عن محمد بن إبراهيم المصري، عن هارون بن يحيى الناشب، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن عبيد الله ابن موسى العمري، عن حفص الأحمر، عن زيد بن علي، عن عمته زينب بنت علي عليه السلام (3).
11 - روى العلامة المحقق المجلسي - رحمه الله - هذه الخطبة عن الاحتجاج بتمامها، ثم عن بلاغات النساء لكثرة الاختلاف بين الروايتين (ونحن أيضا نقتفي أثره إن شاء الله تعالى) وذكر مصادرها من شرح ابن أبي الحديد، وكشف الغمة والطرائف لابن طاوس، والمسعودي، والصدوق - رحمه الله - والسيد المرتضى - رحمه الله تعالى - وشرحها شراح وافيا (راجع البحار) (4).
____________
(1) المناقب: ج 1 ص 381 الطبعة القديمة.
(2) أخرجها في الفقيه: 3 / 567 في باب معرفة الكبائر بهذا السند وفيه " أحمد بن محمد عن جابر " ولعله الصحيح.
(3) العلل: 1 / 248 باب 182 علل الشرائع وأصول الإسلام حديث 2 و 3 و 4.
(4) راجع البحار: ج 8 ص 105 وما بعدها.
13 - نقل ابن أبي الحديد في شرح كتابه عليه السلام إلى عثمان بن حنيف هذه الخطبة بهذه الأسانيد:
قال أبو بكر (يعني أبا بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة وفدك، كما صرح به في أول الفصل الأول): فحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي، قال: حدثني أبي، عن الحسين بن صالح بن حي، قال: حدثني رجلان من بني هاشم عن زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال: وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه.
قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام.
قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد بن يزيد، عن عبد الله بن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن الحسن، قالوا جميعا: لما بلغ فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار، فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء - وقال بعضهم قبطية، وقالوا: قبطية بالكسر والضم - ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت:
أبتدئ محمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم.
وذكر خطبة طويلة جيدة، قالت في آخرها:
ثم ذكرت كلاما طويلا سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني، تقول في آخره:
ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ".
إيها معاشر المسلمين! ابتز إرث أبي! أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.
ثم التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة:
قال: ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ! ثم عدلت إلى مسجد الأنصار، فقالت:
إيها بني قيله! اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع، تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت، وفيكم العدة والعدد، ولكم الدار والجنن، وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار، باديتم العرب، وبادهتم الأمور، وكافحتم البهم، حتى دارت بكم رحى الإسلام، ودر حلبه، وخبت نيران الحرب، وسكنت فورة الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوثق نظام الدين، أفتأخرتم بعد الإقدام؟ ونكصتم بعد الشدة؟ وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم " نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " ألا! وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فجحدتم الذي وعيتم، وسغتم الذي سوغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد، ألا! وقد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم وخور القناة وضعف اليقين، فدونكموها، فاحتووها مدبرة الظهر، ناقبة الخف، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة ب " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة " فبعين الله ما تعملون " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ثم نقل كلام أبي بكر في جوابها، فقال:
قال أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول، قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها، فصعد المنبر وقال: أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ألا! من سمع فليقل ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا! إني لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت. ثم التفت إلى الأنصار، فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا! إني لست باسطا يدا ولسانا على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل.
فانصرفت فاطمة عليها السلام إلى منزلها.
قلت: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له: بمن يعرض؟! فقال: بل يصرح، قلت: لو صرح لم أسألك، فضحك وقال: بعلي بن أبي طالب عليه السلام، قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله! قال: نعم إنه الملك يا بني! قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال:
هتفوا بذكر علي عليه السلام، الخ (1).
أقول: وذكر في الفصل الثاني إسنادا آخر، قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، قال: حدثني محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثنا
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16 ص 211 - 215.
قال المرتضى: وأخبرنا المرزباني، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي، قال: حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني، قال: حدثنا ابن عائشة، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها - ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا - ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم قالت:
" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة، مائلا عن سنن المشركين، ضاربا ثبجهم يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذا بأكظام المشركين، يهشم الأصنام، ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، وحتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين، وتمت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار، نهزة الطامع ومذقة الشارب، وقبسة العجلان وموطأ الأقدام، تشربون الطرق
إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة. وأما عروة عن عائشة، فزاد بعد هذا: حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه، طهرت حسيكة النفاق، وشمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفكين، وهدر فنيق المبطلين، فحظر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخا بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، ولقربه متلاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " فهيهات! وأني بكم وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم، زواجره بينة وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه تريدون؟ أم لغيره تحكمون؟
بئس للظالمين بدلا! " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ".
ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون حسوا في ارتغاء، ونحن نصبر منكم على مثل حز المدى، وأنتم الآن تزعمون ألا إرث لنا " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ".
يا ابن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا
ثم انكفأت إلى قبر أبيها عليه السلام فقالت:
وروى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا:
ثم بعد ذكره جواب أبي بكر قريبا مما مر، قال:
قال المرتضى: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني، قال: حدثني علي بن هارون، أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، عن أبيه، قال: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام كلام فاطمة عليها السلام عند منع أبي بكر إياها فدك، وقلت له: إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام منسوق البلاغة.
فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه أولادهم، وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء، وقد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام.
ثم قال أبو الحسين زيد: وكيف تنكرون هذا من كلام فاطمة عليها السلام وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة عليها السلام ويحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت؟! ثم ذكر
____________
(1) في المصدر " إذا ".
قال: فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم.
قال المرتضى: وقد روي هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه كثيرة، فمن أرادها أخذها من مواضعها، فكيف يدعى أنها عليها السلام كفت راضية وأمسكت قانعة لولا البهت وقلة الحياء؟! (1).
14 - نقل في بلاغات النساء (2) الخطبة مختصرا قريبا مما مر عن ابن أبي الحديد. ثم نقل في ص 15 وقال:
حدثني جعفر بن محمد - رجل من أهل ديار مصر لقيته بالرافقة - قال:
حدثني أبي، قال: أخبرنا موسى بن عيسى، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: أخبرنا جعفر الأحمر، عن زيد بن علي - رحمة الله عليه - عن عمته زينب بنت (3) الحسين عليهما السلام قالت: لما بلغ فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها، وخرجت في حشدة نسائها ولمة من قومها، تجر أذراعها، ما تخرم من مشية رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا، حتى وقفت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فأنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء، فلما سكنت فورتهم قالت: أبدأ بحمد الله، ثم أسبلت بينها وبينهم سجفا، ثم قالت:
____________
(1) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 16 ص 211 - 253. وقاموس الرجال: ج 11 ص 10 وبهج الصباغة: ج 5 ص 44.
(2) بلاغات النساء: ص 12.