قال: ثم مر الشيخ على وجهه حتى لحق بالعير، وبقي هشام حيرانا لا يدري بما يقول، ثم أقبل على غلامه ربيع، فقال: ويلك يا ربيع! رأيت ما منينا به في هذا اليوم من هذا الشيخ، والله لقد أظلمت الدنيا علي حتى ظننت أني لا أبصر شيئا! ولكن هل تحفظ من كلامه شيئا؟ فقال ربيع:
يا أمير المؤمنين والله لقد بقيت متحيرا لا أعقل من أمري شيئا، ولقد هممت أن أعلوه بالسيف مرارا لولا هيبتك، فكيف أحفظ ما قال؟ فقال هشام: لكني والله قد حفظته! ولو علمت أنك تحفظه لضربت عنقك.
قال: ثم رجع هشام إلى أصحابه، ووجه الخيل في طلب الشيخ وعزم على قتله. قال: فكان الشيخ داهيا، فوقع في قلبه أنه هشام بن عبد الملك، واتقى ما قال وخشي الطلب، فعدل عن الطريق وأخذ في البرية على مياه بني كلاب، فطلب فلم يقدر عليه، ومضى حتى دخل الكوفة، فلم يزل هشام متأسفا على ما فاته من قتل الشيخ.
قال: فكان ربيع يقول: والله ما شذ عني من كلام الشيخ شئ وإني لأحفظه، و [ ما ] حدثت بهذا الحديث أحدا حتى مات هشام (1).
(383)
رجل من أهل السكاسك ومعاوية
ذكر في تهيؤ معاوية لحرب صفين وخدعه شرحبيل، أنه قال: وجعل
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 481 وما بعدها
قال: فوثب رجل من أهل السكاسك، وكان مجتهدا فاضلا وكان شاعرا، واسمه الأسود بن عرفجة، فوقف بين يدي معاوية، وأنشأ [ وجعل ] يقول أبياتا من الشعر مطلعها:
قال: فقطع عليه معاوية كلامه، ثم قال: من هذا الأسد الورد؟ فقال:
هذا والله علي بن أبي طالب، أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمه، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، الذي قتل جدك وعم أمك و أخاك وخالك يوم
____________
(1) كذا في الأصل والصحيح: " أقبل ".
(2) و (3) ما بين المعقوفتين اقتبسناه من الهامش
فقال معاوية: خذوه، فوثب إليه غلامان من غلمان معاوية.
وقام إليه شرحبيل، فقال: كف عنه يا معاوية، فإنه رجل من سادات قومه، فلا تؤذيه فانقض والله ما في عنقي من بيعتك. قال معاوية: فإني قد وهبته لك.
قال: فهرب الرجل إلى مصر، ثم كتب إلى علي - رضي الله عنه - أبياتا من الشعر، مطلعها:
(384)
عبد الرحمن وشرحبيل
قال: فلما ورد كتاب معاوية على شرحبيل وقرأه، أقبل إلى عبد الرحمن
____________
(1) ما بين المعقوفتين في الهامش.
(2) فتوح بن أعثم: ج 2 ص 407 - 409
فقال له عبد الرحمن: ويحك يا شرحبيل! إن الله تعالى لم يزل يريد بك خيرا مذ هاجرت إلى وقتك هذا، وإنه لن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنت رجل من خيار كندة، وإن القالة قد فشت في الناس أن عليا قتل عثمان، ولو كان علي قتله لما بايعه المهاجرون والأنصار وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وهم الحكام على الناس، وإنما معاوية إنما يدعوك إلى نفسه ليأخذ من دينك ويعطيك من دنياه، كما فعل بعمرو بن العاص، فإن كان ولا بد أن تكون أميرا فسر إلى علي بن أبي طالب، فإنه أحق الناس بهذا الأمر من معاوية وغير معاوية، ثم جعل يقول أبياتا، مطلعها:
قال: فلما سمع شرحبيل بن السمط هذا الشعر كأنه [ وقع ] بقلبه ثم أقبل على عبد الرحمان بن غنم، فقال: إني سمعت ما قلت وقد أحببت أن أسمع كلام معاوية، الخبر (2).
(385)
ابن عم عمرو وعمرو
لما بايع عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان وبايع دينه بمصر، أخذ عمرو الكتاب وانصرف إلى منزله مسرورا، فقال له ابن عم له: أبا عبد الله ما لي أراك فرحا مستبشرا وقد بعت دينك بدنياك! أتظن أن أهل مصر يسلمون إليك مصر وهم الذين قتلوا عثمان بن عفان؟ فتبسم عمرو، ثم قال: يا ابن أخي إن الأمر لله عز وجل دون علي ومعاوية.
قال: فأنشأ ذلك الفتى يقول شعرا:
____________
(1) ما بين المعقوفتين من الهامش.
فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 198
قال: فقال له عمرو: يا ابن أخي إني لو كنت مع علي لوسعني بيتي، ولكني مع معاوية. فقال له الفتى: أما معاوية فإنه لم يردك، ولكنه أراد دينك واردت دنياه.
قال: وبلغ ذلك معاوية وما تكلم به الفتى معه وهم بقتله فهرب فصار إلى علي رضي الله عنه فحدثه بالقصة وكيف بايع عمرو معاوية، فقربه علي وأدناه وفرض له في كل أصحابه (2).
(386)
رجل من طي مع معاوية
قال: ثم إن معاوية ذات يوم ركب وخرج إلى الصحراء ومعه جماعة من وجوه أهل الشام، فبينا هو كذلك إذا بشخص قد أقبل من ناحية العراق على قعود له، فقال: علي بهذا المقبل، فأتوا به.
فقال له معاوية: ممن الرجل؟ قال: من طي. قال: فمن أين أقبلت؟
قال: من الكوفة. قال: وأين تريد؟ قال: أريد ابن عم لي يكون في ناحيتك يقال له: حابس بن سعد الطائي.
فقال معاوية: علي بحابس، فأقبل إليه، فلما نظر إلى ابن عمه رحب به وقربه وفرح برؤيته وأحضره بين يدي معاوية.
فقال له معاوية: كيف خلفت علي بن أبي طالب وأين تركته وعلى ماذا قد عزم؟ فقال: نعم يا معاوية أخبرك أنه قدم من البصرة إلى الكوفة، فلما
____________
(1) هذه الأشعار بين المعقوفتين اقتبسناها من الهامش.
(2) فتوح ابن الأعثم: ج 2 ص 388. وسيأتي ص 384 عن نصر
فقال معاوية: ما اسمك؟ قال: اسمي خفاف. قال: هل تقول شيئا من الشعر؟ قال: نعم فأنشأ يقول شعرا:
قال: فلما سمع معاوية هذا الشعر كأنه انكسر بذلك، ثم أقبل على حابس بن سعد، فقال: ويحك يا حابس! أرى ابن عمك هذا عينا علينا لأهل
____________
(1) ما بين المعقوفتين من الهامش
فقال: والله ما قدمت الشام رغبة مني فيها ولا في أهلها، وإني لراحل عنها وزاهد في جوارك (1).
(387)
الإمام الحسن عليه السلام مع عائشة
ذكر ابن أعثم في الفتوح (2) (بعد ذكر إرسال أمير المؤمنين عليه السلام ابن عباس إلى عائشة وذكر مجئ أمير المؤمنين إليها بنفسه) قال:
فلما كان من الغد بعث إليها ابنه الحسن [ فجاء الحسن ] فقال لها: يقول لك أمير المؤمنين: أما والذي خلق الحبة وبرأ النسمة! لئن لم ترحلي الساعة لأبعثن عليك بما تعلمين.
قال: وعائشة في وقتها ذلك قد ضفرت قرنها الأيمن وهي تريد أن تضفر الأيسر. فلما قال لها الحسن ما قال وثبت من ساعتها وقالت: رحلوني!!.
فقالت لها امرأة من المهالبة: يا أم المؤمنين جاءك عبد الله بن عباس فسمعناك وأنت تجاوبيه حتى علا صوتك، ثم خرج من عنك وهو مغضب، ثم جاءك الآن هذا الغلام برسالة أبيه فأقلقك وقد كان أبوه جاءك فلم نر منك هذا القلق والجزع؟.
فقالت عائشة: إنما أقلقني لأنه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فمن أحب أن ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فلينظر إلى هذا الغلام، وبعد فقد بعث إلي أبوه بما قد علمت لا بد من الرحيل.
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 360. ونقله ابن أبي الحديد في شرحه: ج 3 ص 111 بنحو آخر يأتي. وراجع الإمامة والسياسة: ج 1 ص 84.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 339
إن رسول الله صلى الله عليه وآله أصاب من مغازيه نفلا، فجعل يقسم ذلك، فسألناه أن يعطينا منه شيئا وألححنا عليه في ذلك، فلامنا علي رضي الله عنه وقال: حسبكن أضجرتن رسول الله صلى الله عليه وآله، فتجهمناه وأغلظنا له في القول، فقال: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " فأغلظنا له أيضا في القول وتجهمناه، فغضب النبي صلى الله عليه وآله من ذلك وما استقبلنا به عليا، فأقبل عليه، ثم قال: يا علي إني قد جعلت طلاقهن إليك، فمن طلقتها منهن فهي بائنة، ولم يوقت النبي صلى الله عليه وآله في ذلك وقتا في حياة ولا موت، فهي تلك الكلمة، وأخاف أن أبين من رسول الله صلى الله عليه وآله (1).
(388)
أم كلثوم وحفصة
(لما بلغ حفصة بنت عمر بن الخطاب أن جمعا من أهل البصرة وافقوا عائشة ووازروها واجتمعوا إليها) فأرسلت إلى أم كلثوم فدعتها، ثم أخبرتها باجتماع الناس إلى عائشة، كل ذلك ليغمها بكثرة الجموع إلى عائشة.
قال: فقالت لها أم كلثوم: على رسلك يا حفصة! فإنكم إن تظاهرتم على أبي فقد تظاهرتم على رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان الله مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 339 - 340. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 317. وبهج الصباغة:
ج 6 ص 417. والايضاح: ص 79 ولكن فيه: " أرسل إليها الحسين عليه السلام بعد أن أرسل الحسن عليه السلام " وفي هامشه: عن ابن شهرآشوب والبحار وغيرهما
قال: لامت النساء حفصة على ذلك لوما شديدا (1).
(389)
أم سلمة وعائشة
(نقلنا فيما مضى موقف أم سلمة - رحمة الله عليها - مع عائشة، ونقله ابن أعثم في الفتوح، ونقل في ذيله وقال:) ثم جعلت أم سلمة - رحمة الله عليها - تذكر عائشة فضائل علي رضي الله عنه وعبد الله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله، فصاح بأم سلمة! قال:
يا بنت أبي أمية إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير.
فقالت أم سلمة: والله لتوردنها ثم لا تصدرنها أنت ولا أبوك، أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة، وعلي بن أبي طالب حي، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ فقال عبد الله بن الزبير: ما سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة قط.
فقالت أم سلمة رحمة الله عليها: إن لم تكن أنت سمعته فقد سمعته خالتك عائشة، ها هي فاسألها، فقد سمعته صلى الله عليه وآله يقول: " علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي، فمن عصاه فقد عصاني " أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟ فقالت عائشة: اللهم نعم.
قالت أم سلمة رحمة الله عليها: فاتق الله يا عائشة في نفسك، واحذري
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 299 - 300. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 472. ويأتي برواية أخرى ص 237
(390)
رجال الشيعة وعثمان
قال: فجلس نفر من أهل الكوفة، منهم: يزيد بن قيس الأرجي، ومالك ابن حبيب اليربوعي، وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وزياد بن حفيظة التميمي، وعبيد الله بن الطفيل البكائي، وزياد بن النضر الحارثي، وكرام بن الحضرمي المالكي، ومعقل بن قيس الرياحي، وزيد بن حصن السنبسي، وسليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نخية الفزاري، ورجال كبير (2) من قرى أهل الكوفة ورؤسائهم، فكتبوا إلى عثمان بن عفان:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من الملأ المسلمين من أهل الكوفة: سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد، فإننا كتبنا إليك هذا الكتاب نصيحة لك واعتذارا وشفقة على هذه الأمة من الفرقة، وقد خشينا أن تكون خلقت لها فتنة، وإن لك ناصرا ظالما وناقما عليك مظلوما، فمتى نقم عليك الناقم ونصرك الظالم أخلفت الكلمتان وتباين الفريقان، وحدثت أمور متفاقمة أنت جنيتها بأحداقك يا عثمان، فاتق الله! والزم سنة الصالحين من قبلك، وانزع عن ضرب قرابتنا ونفي صلحائنا وقسم فيئنا بين أشرارنا والاستبدال عنا واتخاذك بطانة من الطلقاء وأبناء الطلقاء دوننا، فأنت أميرنا ما أطعت الله واتبعت ما في كتابه وأنبت إليه وأحييت أهله، وجانبت الشر وأهله، وكنت للضعفاء، ورددت من
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 282 - 283، وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 399 عنه.
(2) كذا في الأصل والصحيح " كثير "
قال: فلما كتبوا الكتاب وفرغوا منه، قال رجل منهم: من يبلغه عنا كتابنا؟ فوالله أن ما نرى أحدا يجترئ على ذلك. قال: فقال (1) رجل من عنزة آدم ممشوق، فقال: والله ما يبلغ هذه الكتاب إلا رجل لا يبالي أضرب أم حبس أم قتل أم نفي أم حرم، فأيكم عزم على أن يصيبه خصلة من هذه الخصال فيأخذه! فقال القوم: ما هاهنا أحد يحب أن يبتلي بخصلة من هذه الخصال، فقال العنزي: هاتوا كتابكم! فوالله إني لا عافية [ لي ] وإن ابتليت فما أنا يائس أن يرزقني ربي صبرا وأجرا، قال: فدفعوا إليه كتابهم.
وبلغ ذلك كعب بن عبيدة النهدي - وكان من المتعبدين - فقال: والله لأكتبن إلى عثمان كتابا باسمي واسم أبي بلغ ذلك من عنده ما بلغ! ثم كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من كعب بن عبيدة:
أما بعد، فإني نذير لك من الفتنة متخوف عليك فراق هذه الأمة، وذلك أنك قد نفيت خيارهم، ووليت أشرارهم، وقسمت فيأهم في عدوهم،
____________
(1) كذا في المصدر، والصحيح " فقام "
ثم جاء كعب بن عبيدة بكتابه هذا إلى العنزي - وقد ركب يريد المدينة - فقال: أحب أن تدفع كتابي هذا إلى عثمان، فإن فيه نصيحة له وحثا على الإحسان إلى الرعية والكف عن ظلمها، فقال: أفعل ذلك.
قال: ثم أخذ الكتاب منه ومضى إلى المدينة.
ورجع كعب بن عبيدة حتى دخل المسجد الأعظم فجعل يحدث أصحابه بما كتب إلى عثمان. فقالوا: والله يا هذا لقد اجترأت وعرضت نفسك لسطوة هذا الرجل! فقال: لا عليكم فإني أرجو العافية والأجر العظيم، ولكن ألا أخبركم بمن هو أجرأ مني؟ قالوا: بلى ومن ذلك؟ فقال: الذي ذهب بالكتاب. فقالوا: بلى صدقت إنه لكذلك! وإنا لنرجو أن يكون أعظم هذا المصر أجرا عند الله غدا.
ذكر قدوم العنزي على عثمان وما كان من قصته معه:
قال: وقدم العنزي على عثمان - رض - بالمدينة، فدخل وسلم عليه، ثم ناوله الكتاب الأول - وعنده نفر من أهل المدينة - فلما قرأه عثمان ارتد لونه وتغير وجهه! ثم قال: من كتب إلي هذا الكتاب؟ فقال العنزي: كتبه إليك ناس كثير من صلحاء الكوفة وقرائها وأهل الدين والفضل. فقال عثمان:
كذبت إنما كتبه السفهاء وأهل البغي والحسد، فأخبرني من هم؟ فقال
جردوه!
فقال العنزي: وهذا كتاب آخر، فاقرأه من قبل أن تجردني. فقال عثمان: آت به، فناوله إياه، فلما قرأه قال: من كعب بن عبيدة هذا؟ قال العنزي: إيه! قد نسب لك نفسه. قال عثمان فمن أي قبيل هو؟ قال العنزي:
ما أنا مخبرك عنه إلا ما أخبرك عن نفسه.
قال: فالتفت عثمان إلى كثير بن شهاب الحارثي، فقال: يا كثير هل تعرف كعب بن عبيدة؟ قال كثير: نعم يا أمير المؤمنين هو رجل من بني نهد.
قال: فأمر عثمان بالعنزي، فجردوه من ثيابه ليضرب. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لماذا يضرب هذا الرجل؟ إنما هو رسول جاء بكتاب وأبلغك رسالة حملها، فلم يجب عليه في هذا ضرب. فقال عثمان رض: أفترى أن أحبسه؟ قال: لا ولا يجب عليه الحبس.
قال: فخلى عثمان عن العنزي وانصرف إلى الكوفة، وأصحابه لا يشكون أنه قد حبس أو ضرب أو قتل.
قال: فلم يشعروا به إلا وقد طلع عليهم، فما بقي في الكوفة رجل مذكور إلا أتاه ممن كان على رأيه، ثم سألوه عن حاله، فأخبرهم بما قال وما قيل له: ثم أخبرهم بصنع علي - رضي الله عنه - فعجب أهل الكوفة من ذلك ودعوا لعلي بخير وشكروه على فعله.
قال: وكتب عثمان إلى سعيد بن العاص: أن تسرح إلي كعب بن عبيدة مع سائق عنيف حتى يقدم علي به، والسلام.
قال: فلما ورد كتاب عثمان رضي الله عنه على سعيد بن العاص ونظر فيه، أرسل إلى كعب بن عبيدة، فشده في وثاق ووجه به إلى عثمان مع رجل
فلما سلم عليه جعل عثمان ينظر إليه، ثم قال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! أنت تعلمني الحق وقد قرأت القرآن وأنت في صلب أب مشرك؟
قال كعب: على رسلك يا ابن عفان! فإن كتاب الله لو كان للأول دون الآخر لم يبق للآخر شئ، ولكن القرآن للأول والآخر.
فقال عثمان: والله ما أراك تدري أين ربك! قال: بلى يا عثمان هو لي ولك بالمرصاد! فقال مروان: يا أمير المؤمنين حلمك على مثل هذا وأصحابه أطمع فيك الناس. فقال كعب: يا عثمان إن هذا وأصحابه أغمروك وأغرونا بك.
قال عثمان: جردوه! فجردوه وضربه عشرين سوطا، ثم أمر به فرد إلى الكوفة، وكتب إلى سعيد بن العاص: أما بعد، فإذا قدم عليك كعب بن عبيدة هذا فوجه به مع رجل فظ غليظ إلى جبال كذا، فليكن منفيا عن بلده وقراره.
قال: فلما قدم كعب على سعيد بن العاص دعا به فضمه إلى رجل من أصحابه يقال له: بكير بن حمران الأحمري، فخرج به حتى جعله كذلك حيث أمر عثمان.
قال: وأقبل طلحة والزبير حتى دخلا على عثمان (فذكر اعتراضهما على أعمال عثمان. ثم قال) قال: فدعا عثمان من ساعته بدواة وقرطاس وكتب إلى عامله بالكوفة سعيد بن العاص.
قال: فلما ورد الكتاب على سعيد بن العاص دعا ببكير بن حمران الأحمري وأنفذه إلى كعب بن عبيدة فأشخصه إليه، ثم وجه به إلى المدينة.
فلما أدخل على عثمان سلم فرد عليه السلام، ثم أدنى مجلسه وقال: يا أخا بني نهد إنك كتبت إلي كتابا غليظا، ولو كتبت أنت لي فيه بعض اللين وسهلت بعض التسهيل لقبلت مشورتك ونصيحتك، ولكنك أغلظت لي وتهددتني واتهمتني حتى أغضبتني فنلت منك ما نلت، وإنه وإن كان لكم علي حق فلي عليكم مثله مما لا ينبغي أن تجهلوه.
قال: ثم نزع عثمان قميصه ودعا بالسوط فدفعه إليه، وقال: قم يا أخا بني نهد اقتص مني ما ضربتك! فقال كعب بن عبيدة: أما أنا فلا أفعل ذلك، فإني أدعه لله تعالى، ولا أكون أول من سن الاقتصاص من الأئمة، والله لئن تصلح أحب إلي من أن تفسد، ولئن تعدل أحب إلي من أن تجور، ولئن تطيع الله أحب إلي من أن تغضبه.
ثم وثب كعب بن عبيدة، فخرج من عند عثمان، فتلقاه قوم من أصحابه، فقالوا: ما منعك أن تقتص منه وقد أمكنك من نفسه؟ فقال:
سبحان الله! والي أمر هذه الأمة! ولو شاء لما أفداني (1) من نفسه، وقد وعد التوبة وأرجو أن يفعل (2).
____________
(1) كذا في المصدر أيضا ولعل الصحيح: " أقداني ".
(2) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 179 - 188. وراجع الغدير: ج 9 ص 47 وما بعدها
(391)
الأشتر وسعيد بن العاص
قال: فبينا سعيد بن العاص ذات يوم في مسجد الكوفة - وقت صلاة العصر - وعنده وجوه أهل الكوفة، إذ تكلم حسان بن محدوج الذهلي، فقال:
والله إن سهلنا لخير من جبلنا. فقال عدي بن حاتم: أجل! السهل أكثر برا وخصبا وخيرا. فقال الأشتر: وغير هذا أيضا، السهل أنهاره مطردة ونخله باسقات، وما من فاكهة ينبتها الجبل إلا والسهل ينبتها، والجبل خور وعر يحفي الحافر، وصخره يعمي البصر ويحبس عن السفر، وبلدتنا هذه لا ترى فيها ثلجا ولا قرا شديدا.
قال: فقال عبد الرحمن بن خنيس الأسدي صاحب شرطة سعيد بن العاص: هو لعمري كما تذكرون، ولوددت أنه كله للأمير ولكم أفضل منه.
فقال له الأشتر: يا هذا يجب عليك أن تتمنى للأمير أفضل منه ولا تتمنى له أموالنا، فما أقدرك أن تتقرب إليه بغير هذا! فقال عبد الرحمان بن خنيس:
وما يضرك من ذلك يا أشتر؟ فوالله إن شاء الأمير لكان هذا كله له. فقال له الأشتر: كذبت والله يا ابن خنيس! والله أن لو رام ذلك لما قدر عليه، ولو رمته أنت لفزعت دون فزعا يذل يخشع.
قال: فغضب سعيد بن العاص من ذلك، ثم قال: لا تغضب يا أشتر! فإنما السواد كله لقريش، فما نشاء منه أخذنا وما نشاء تركنا، ولو أن رجلا قدم فيه رجلا لم يرجع إليه أو قدم فيه يدا لقطعتها! فقال له الأشتر: أنت تقول هذا أم غيرك؟ فقال سعيد بن العاص: لا بل أنا أقوله. فقال الأشتر: أتريد أن تجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بأسيافنا بستانا لك ولقومك؟ والله ما يصيبك من العراق إلا كل ما يصيب رجلا من المسلمين.
قال: ثم التفت الأشتر إلى عبد الرحمن بن خنيس، فقال: وأنت يا عدو الله
فأخذته الأيدي حتى وقع لجنبه، ثم جروا برجله.
فوثب سعيد بن العاص مسرعا حتى دخل إلى منزله.
وقام الأشتر فخرج من المسجد، وخرجوا معه أصحابه وهم يقولون: وفقك الله فيما صنعت وقلت! فوالله لئن رخصنا لهؤلاء قليلا لزعموا أن دورنا وموارثنا التي ورثناها عن آبائنا وبلادنا لهم دوننا.
قال: فكتب سعيد بن العاص من ساعته بذلك إلى عثمان كتابا في أوله: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من سعيد بن العاص، أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أني ما أملك من الكوفة شيئا مع الأشتر النخعي، ومعه قوم يزعمون أنهم القراء وهم السفهاء! فهم يردون علي أمري ويعيبون علي صالح أعمالي، وإن الأشتر كان بينه وبين صاحب شرطي كلام ومراجعة في شئ لا أصل له، فأغرى به الأشتر سفهاء أصحابه وأشرار أهل المصر حتى وثبوا عليه وأنا جالس، فضربوه حتى وقع لجنبه وهو لما به، فليكتب إلي أمير المؤمنين برأيه أعمل به إن شاء الله.
فكتب إليه عثمان كتابا في أوله:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنك لا تملك من الكوفة شيئا مع الأشتر، ولعمري إنك منها العريض الطويل، وقد كتبت إلى الأشتر كتابا وضمنته كتابك، فادفعه إليه، وانظر أصحابه هؤلاء الذين ذكرتهم فألحقهم به، والسلام.
قال: ثم كتب عثمان إلى الأشتر: أما بعد، فقد بلغني يا أشتر أنك تلقح وتريد أن تنبح، وأيم الله أني لا أظن أنك تستر أمرا لو أنك أظهرته لحل به
فانظر إذا أتاك كتابي هذا فقرأته ورأيت أن لي عليك طاعة فسر إلى الشام فتكون بها مقيما حتى يأتيك أمري، واعلم أني إنما أسيرك إليها لا لشئ إلا لإفسادك علي الناس، وذلك بأنك لا تألوهم خبالا ولا ضلالا.
قال: فلما ورد كتاب عثمان على الأشتر وقرأه عزم على الخروج عن الكوفة، وأرسل إليه سعيد بن العاص: أن اخرج وأخرج من كان معك على رأيك، فأرسل إليه الأشتر: أنه ليس بالكوفة أحد إلا وهو يرى رأيي فيما أظن لا يحبون أن تجعل بلادهم بستانا لك ولقومك، وأنا خارج فيمن اتبعني، فانظر فيما يكون من بعد هذا.
قال: ثم خرج الأشتر من الكوفة ومعه أصحابه، وهم: صعصعة بن صوحان العبدي، وأخوه، وعائذ بن حملة الظهري، وجندب بن زهير الأزدي، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، وأصغر بن قيس الحارثي، ويزيد بن المكفف، وثابت بن قيس بن منقع، وكميل بن زياد، ومن أشبههم من إخوانهم، حتى صاروا إلى كنيسة يقال لها: " كنيسة مريم " فأرسل إليهم معاوية، فدعاهم فجاءوا حتى دخلوا ثم سلموا وجلسوا.
فقال لهم معاوية:
يا هؤلاء اتقوا الله! ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات.
قال: ثم سكت معاوية، قال له كميل بن زياد:
يا معاوية! فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فنحن أولئك الذين هداهم الله.
فقال له معاوية: كلا يا كميل! إنما أولئك الذين أطاعوا الله ورسوله وولاة
الأمر، فلم يدفنوا محاسنهم ولا أشاعوا مساويهم