فقال كميل: يا معاوية! لولا أن عثمان بن عفان وفق منك بمثل هذا الكلام وهذه الخديعة لما اتخذك لنا سجنا.
فقال له الأشتر: يا كميل ابتدانا (1) بالمنطق وأنت أحدثنا سنا. قال:
فسكت كميل وتكلم الأشتر، فقال:
أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة برسوله محمد صلى الله عليه وآله فجمع به كلمتها وأظهرها على الناس، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث ثم قبضه الله عز وجل إلى رضوانه ومحل جنانه صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا. ثم ولي من بعده قوم صالحون عملوا بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وجزاهم بأحسن ما أسلفوا من الصالحات. ثم حدثت بعد ذلك أحداث، فرأى المؤمنون من أهل طاعة الله أن ينكروا الظلم وأن يقولوا بالحق، فإن أعاننا ولاتنا - أعفاهم الله من هذه الأعمال التي لا يحبها أهل الطاعة - فنحن معهم ولا نخالف عليهم، وإن أبوا ذلك فإن الله تبارك وتعالى قد قال في كتابه وقوله الحق: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون " فلسنا يا معاوية بكاتمي برهان الله عز وجل ولا بتاركي أمر الله لمن جهله حتى يعلم مثل الذي علمنا، وإلا فقد غشتنا أئمتنا وكنا كمن نبذ الكتاب وراء ظهره.
فقال له معاوية: يا أشتر إني أراك معلنا بخلافنا مرتضيا بالعداوة لنا، والله لأشدن وثاقك ولأطيلن حبسك!.
فقال له عمرو بن زرارة: يا معاوية! لئن حبسته لتعلمن أن له عشيرة كثيرة عددها لا يضام، شدها شديد على من خالفها ونبزها.
____________
(1) كذا في المصدر أيضا ولعل الصحيح: " ابتدأتنا "
قال: فذهبوا بهم إلى السجن.
فقام زيد بن المكفكف، فقال: يا معاوية! إن القوم بعثوا بنا إليك لم يكن بهم عجز في حبسنا في بلادنا لو أرادوا ذلك، فلا تؤذينا وأحسن مجاورتنا ما جاورناك، فما أقل ما نجاورك حتى نفارقك! إن شاء الله تعالى.
قال: ثم وثب صعصعة بن صوحان، فقال: يا معاوية! إن مالك بن الحارث الأشتر وعمرو بن زرارة رجلان لهما فضل في دينهم وحالة حسنة في عشيرتهم وقد حبستهم، فأمر بإخراجهم فذلك أجمل في الرأي.
قال معاوية: علي بهم، فأوتي بهم من الحبس، فقال معاوية: كيف ترون عفوي عنكم يا أهل العراق بعد جهلكم واستحقاقكم الحبس؟ رحم الله أبا سفيان لقد كان حليما ولو ولد الناس كلهم لكانوا حلماء.
فقال صعصعة بن صوحان: والله يا معاوية لقد ولدهم من هو خير من أبي سفيان فسفهاؤهم وجهالهم أكثر من حلمائهم!.
فقال معاوية: قاتلك الله يا صعصعة! قد أعطيت لسانا حديدا، اخرجوا واتقوا الله وأحسنوا الثناء على أئمتكم، فإنهم جنة لكم فقال صعصعة: يا معاوية! إننا لا نرى لمخلوق طاعة في معصية الخالق.
فقال معاوية: اخرج عني أخرجك الله إلى النار! فلعمري أنك حدث.
فخرج القوم من عند معاوية وصاروا إلى منازلهم فلم يزالوا مقيمين بالشام، وقد وكل بهم قوم يحفظونهم أن لا يبرحوا (1). إلى هنا انتهى الأصل بخط المؤلف.
قال - بعد ذكر منع معاوية الماء -: فدعا علي - رضي الله عنه - بشبث بن
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 170 - 177. وراجع الغدير ج 9 ص 30 - 36 و 37 وما بعدها
قال: فأقبل شبث، فقال: يا معاوية إنك لست بأحق من هذا الماء منا، فخل عن الماء فإننا لا نموت عطشا وسيوفنا على عواتقنا.
ثم تكلم صعصعة بن صوحان، فقال: يا معاوية إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول لك: إننا قد سرنا مسيرنا هذا وإني أكره قتالكم قبل الاعذار إليكم، فإنك قدمت خيلك، فقاتلتنا من قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكف حتى نعذر إليك ونحتج عليك، وهذه مرة أخرى قد فعلتموها، حلتم بين الناس والماء، وأيم الله لنشربن منه شئت أم أبيت! فامنن إن قدرت عليه من قبل أن نغلب فيكون الغالب هو الشارب.
فقال لعمرو بن العاص: ما ترى أبا عبد الله؟ فقال: أرى أن عليا لا يظمأ وفي يده أعنة الخيل، وهو ينظر إلى الفرات دون أن يشرب منه، وإنما جاء لغير الماء، فخل عن الماء حتى يشرب ونشرب.
قال: فقال الوليد بن عقبة: يا معاوية إن هؤلاء قد منعوا عثمان بن عفان الماء أربعين يوما وحصروه! فامنعهم إياه حتى يموتوا عطشا واقتلهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون!
قال: ثم تكلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال: صدق الوليد في قوله فامنعهم الماء، منعهم الله إياه يوم القيامة.
فقال صعصعة: إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة الفسقة الفجرة مثلك ومثل نظرائك هذا الذي سماه الله في الكتاب فاسقا الوليد بن عقبة الذي صلى بالناس الغداة أربعا وهو سكران، ثم قال: أزيدكم؟ فجلد الحد في الإسلام.
(392)
الخليل وابن المقفع
كان ابن المقفع والخليل يحبان أن يجتمعا، فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلا عقله زائد على علمه، وسئل الخليل عنه، فقال: وجدت رجلا علمه فوق عقله (2).
(393)
الأحنف ومعاوية
قال معاوية: ما من شئ يعدل التثبت، فقال الأحنف: إلا أن تبادر بالعمل الصالح أجلك، تعجل إخراج ميتك، وتنكح الكفوء ابنتك (3).
(394)
أبو الأسود وزياد
قال زياد لأبي الأسود: لولا أنك كبرت لاستعملتك واستشرتك، فقال:
إن كنت تريدني للصراع فليس في، وإن كنت تريد الرأي فهو وافي (4).
(395)
الأعرابي وعبد الملك
انقطع عبد الملك عن أصحابه فانتهى إلى أعرابي، فقال: أتعرف عبد الملك؟ قال: نعم جائر بائر! قال: ويحك أنا عبد الملك! قال: لا حياك الله ولا بياك ولا قربك، أكلت مال الله وضيعت حرمته. قال: ويحك! أنا أضر وأنفع، قال: لا رزقني الله نفعك، ولا دفع عني ضرك! فلما وصلت خيله علم صدقه، فقال: يا أمير المؤمنين اكتم ما جرى، فالمجالس بالأمانة (5).
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 1 - 3.
(2) المحاضرات للراغب: ج 1 ص 16.
(3) المحاضرات: ج 1 ص 26.
(4) المحاضرات: ج 1 ص 28.
(5) المحاضرات: ج 1 ص 231
(396)
الأعرابي والحجاج
سأل الحجاج أعرابيا عن أخيه محمد بن يوسف، كيف تركته؟ فقال:
تركته سمينا عظيما. قال: إنما سألت عن سيرته؟ قال: ظلوما غشوما. قال: أما علمت أنه أخي؟ قال: نعم ما هو بك أعز مني بالله. فأمر بضربه، فقيل له:
اعتذر إليه، فقال: معاذ الله! أن أعتذر من حق أوردته (1).
(397)
رجل مع الحجاج
خطب الحجاج يوما فأطال، فقام رجل، فقال: الصلاة! الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه فأتاه قومه، وزعموا أنه مجنون، فإن رأى أن يخلي سبيله. فقال: إن أقر بالجنون خليته، فقيل له ذلك، فقال: معاذ الله! لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني، فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه (2).
(398)
يحيى والحجاج
قال الحجاج ليحيى: أنت تزعم أن الحسن والحسين أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: نعم. قال: والله! لأقتلنك إن لم تأت بآية تدل على ذلك، فقال: نعم إن الله تعالى يقول: " ومن ذريته داود وسليمان وأيوب - إلى قوله - وزكريا ويحيى وعيسى " وهو ابن مريم وقد نسبه إليه. فقال الحجاج: أولى لك! قد نجوت (3).
____________
(1) المحاضرات: ج 1 ص 238.
(2) المحاضرات: ج 1 ص 239.
(3) المحاضرات: ج 1 ص 345، وسيأتي بنقل أبسط
(399)
حماد بن عيسى وصديقه
كان حماد بن موسى يترفض، وكان له صديق يثق إليه ويوافقه في مذهبه، فأودعه حماد دراهم وطالبه بها بعد مدة فجحده، فاضطر إلى أن مضى لمحمد بن سليمان وسأله أن يحضره ويحلف له بحق علي بن أبي طالب، فإنه يتحرج من ذلك، فقال: أعز الله الأمير! هذا الرجل أجل عندي من أن أحلف له بالبراءة من مختلف في ولايته وإيمانه، ولكني أحلف له بالمتفق على إيمانهما وخلافتهما - أبي بكر وعمر - فضحك محمد بن سليمان والتزم بعض ما ادعي عليه وصالحه على بعض (1).
(400)
رجل مع معاوية
قال (لما منع معاوية الماء بصفين ورجع رسل علي عليه السلام من عند معاوية وأصر هو على المنع): فوثب رجل من أهل الشام، يقال له: المعراء بن الفيل بن الأهول فقال: ويحك يا معاوية! و الله لو سبقك علي إلى الماء فنزل عليه من قبلك إذا لما منعك منه أبدا، و لكن أخبرني عنك [ أنك ] إذ أنت منعته الماء من هذا الموضع ألا تعلم أنه يرحل من موضعه هذا وينزل على مشرعة أخرى فيشرب منه ثم يحاربك على ما صنعت؟ ألا تعلم أن فيهم العبيد والإماء والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أول البغي والفجور، والله لقد حملت من لا يريد قتالك على قتالك [ و ] يمنعك هذا الماء، فإن شئت فاغضب وإن شئت فارض، فإني لا أدع القول بالحق ساءك أم سرك.
ثم أنشأ يقول:
____________
(1) المحاضرات: ج 1 ص 485
قال: فأمر معاوية بقتل هذا الرجل، فوثب قوم من بني عمه فاستوهبوه منه فوهبه لهم، فلما كان الليل هرب إلى علي بن أبي طالب فصار معه (1).
(401)
سعيد بن قيس وأصحابه مع معاوية
قال (بعد أن نقل أنه أخذ مشرعة الفرات من أيدي عساكر الشام بالحرب الشديد بين جنود العراق والشام): ثم دعا علي - رضي الله عنه - سعيد بن قيس الهمداني وبشير بن عمرو الأنصاري، فقال لهما: انطلقا إلى معاوية فادعواه إلى الله عز وجل وإلى الطاعة والجماعة واحتجا عليه، وانظرا ما رأيه وعلى ماذا قد عزم.
قال: فأقبلا حتى دخلا على معاوية، فتقدم بشير بن عمرو، فقال: يا معاوية! إن الدنيا غدارة غرارة، سفيهة جائرة، وعنك زائلة، وإنك راجع إلى
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 4 - 5
قال: فقطع معاوية عليه الكلام، ثم قال: فهلا بهذا أوصيت صاحبك؟
فقال الأنصاري: يا سبحان الله العظيم! إن صاحبي ليس مثلك، إنه أحق بهذا الأمر منك للفضل في الدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وآله.
فقال معاوية: فيقول ماذا؟ قال: إني آمرك بتقوى الله وإجابة الحق والدخول فيما دخلت فيه المهاجرون والأنصار والتابعون، فإن ذلك أسلم لك في دنياك وآخرتك.
فقال معاوية: ونطل دم عثمان، لا والله! لا كان ذلك أبدا، وما لكما ولا لصاحبكما عندي إلا السيف، فاخرجا عني.
قال: فوثبا قائمين والتفت إليه سعيد فقال: والله يا ابن هند لتغلبن سيوف صاحبنا ما تود أن أمك هند لم تلدك ولم تكن في العالمين! فقال معاوية: يد الله فوق يدك.
قال: وأقبلا إلى علي - رضي الله عنه - يخبرانه بذلك، فدعا علي بشبث بن ربعي الرياحي ويزيد بن قيس الأرجي وزياد بن خصفة التميمي وعدي بن حاتم الطائي، فأرسلهم إلى معاوية وقال [ لهم ]: اعذروا إليه وأنذروه قبل الإقدام على الحرب.
قال: فجاء القوم حتى دخلوا على معاوية وتقدم عدي بن حاتم، فقال:
يا معاوية إننا قد أتيناك ندعوك إلى أمر الله يجمع الله [ به ] كلمتنا ويحقن دماء المسلمين، وندعوك إلى أفضل الناس سابقة وأحسنهم في الإسلام أثرا وقد اجتمع الناس إليه وأرشدهم الله تعالى بالذي رأوا، فاتق الله يا معاوية! وانته عما قد أزمعت عليه من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بما أصاب به أنصار الجمل.
فقال معاوية: كأنك إنما جئت متهددا، كلا والله يا عدي! إني لابن
يا معاوية [ لقد ] أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فصرت تضرب لنا الأمثال التي لا ينتفع بها [ أحد ].
قال: ثم تكلم يزيد بن قيس، فقال: يا معاوية إننا لم نأتك إلا لنبلغ ما بعثنا به ونؤدي عنك ما نسمعه منك، وإن صاحبنا هو من قد عرفته وعرفه المسلمون، وإننا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أهدى في الدين ولا أجمع خصال الخير كلها منه.
قال معاوية: إنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعما هي. وأما الطاعة لصاحبكم، فإننا لا نراها واجبة علينا، لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا، وهو يزعم أنه لم يقتل ولم يأمر، ونحن لا نرد ذلك عليه غير أن قتلة صاحبنا عنده، فليدفعهم إلينا لنفديهم بصاحبنا، ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
قال شبث: لو مكنت من عمار بن ياسر هل كنت قاتله؟ فقال معاوية:
وما يمنعني من قتله؟ والله لو قدرت على ابن سمية لما قتلته بعثمان، ولكني كنت أقتله بقاتل مولى عثمان بن عفان! فقال شبث بن ربعي: إذا والله ما عدلت يا معاوية! والله لا تصل إلى قتل عمار أو ترى الهامات، وقد ندرت عن الكواهل وتضيق عليك أرض الفضاء برحبها.
قال: ثم خرج القوم من عند معاوية، فصاروا إلى علي - رضي الله عنه - فأخبروه بالذي كان بينهم وبين معاوية من الكلام (1)
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 3، ص 23 وما بعدها، وشرح النهج لابن أبي الحديد: ج 5 ص 14 و 20 و 21 و 22 عن نصر ويأتي ص 426 عن لفظ نصر أيضا لما بين الروايتين من الاختلاف
(402)
عمار وعمرو بن العاص
قال (في ذكر وقعة صفين): فأصبح القوم، فدنا بعضهم من بعض ومع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يومئذ رجل من حمير يكنى بأبي نوح، وكان مفوها متكلما، وكان له فضل وقدر وطاعة في الناس، فقال لعلي: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في كلام ذي الكلاع؟ فإنه رجل من قومي وهو سيد عند أهل الشام، فلعلي أشككه فيما هو فيه، فقال له علي: يا أبا نوح إن رد مثل ذي الكلاع شديد عند أهل الشام، فإن أحببت لقاءه فالقه بالجميل، وإياك والكتب!
قال: فبعث أبو نوح إلى ذي الكلاع: إني أريد لقاءك، فاخرج إلي أكلمك.
قال: فجاء ذو الكلاع إلى معاوية، فقال: إن أبا نوح يريد كلامي ولست مكلمه إلا بإذنك، فما ترى في كلامه أكلمه أم لا؟ فقال معاوية: وما تريد إلى كلامه؟ فوالله ما نشك في هداك ولا في ضلالته ولا في حقك ولا في باطله.
فقال ذو الكلاع: على ذلك ائذن لي في كلامه، فقال معاوية: ذاك إليك.
وفشا أمر أبي نوح وذي الكلاع في الناس، فأنشأ رجل من أصحاب علي يقول:
قال: وأقبل [ أبو ] نوح حتى وقف بين الجمعين، وخرج ذو الكلاع حتى وقف قبالته، فقال أبو نوح: يا ذا الكلاع! إنه ليس في هذين الجمعين أحد أولى بنصيحتك مني، إن معاوية بن أبي سفيان أخطأ وأخطأتم معه في خصال كثيرة لخطأة واحدة، إنه من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، فأخطأ بادعائه إياه وأخطأتم باتباعه وأخطأ في الطلب بدم عثمان وأخطأتم معه، لأن غيره أولى بطلب دم عثمان منه، وأخطأ أنه رمى عليا بدم عثمان وأخطأتم بتصديقكم إياه ونصركم له، وهذا أمر قد شهدناه وغبتم عنه، فاتق الله ويحك يا ذا الكلاع!
فإن عثمان بن عفان أبيح له (أتيح له - خ) قوم فقتلوه بدعوى ادعوا عليه، والله الحاكم في ذلك يوم القيامة، وقد بايعت الناس عليا برضاء منه ومنهم، لأنه لم يك للناس بد من إمام يقوم بأمرهم، وليس لأهل الشام مع المهاجرين والأنصار أمر، فإن قلت: إن عليا ليس بخير من معاوية ولا بأحق منه بهذا الأمر، فهات رجلا من قريش ممن ترضى دينه حتى يعدل بينهم في شئ من الدين والشرف والسابقة في الإسلام.
فقال له ذو الكلاع: إنني قد سمعت كلامك أبا نوح ولم يخف علي منه شئ، ولكن هل فيكم عمار بن ياسر؟ فقال أبو نوح: نعم هو فينا، قال: فهل يتهيأ لك أن تجمع بينه وبين عمرو بن العاص فيتكلمان وأنا أسمع؟ فقال أبو نوح: نعم.
ثم ولى إلى عسكره، فصار إلى عمار وطلب إليه وسأله أن يلقى عمرو بن العاص.
قال: فخرج عمار في ثلاثين رجلا من المهاجرين والأنصار ليس فيهم رجل إلا وقد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله غير رجلين: عمرو بن
قال: وقام الصباح الحميري إلى معاوية، فقال له: إني أرى لك أن لا تأذن لذي الكلاع أن يلقى أبا نوح، فإنه قد طمع فيه، وأخاف أن يشككه في دينه! فقال معاوية: إني قد نهيته فلم ينته عن ذلك، وهو رجل من سادات حمير، وأنا أرجو أن لا يخدع.
قال: فأنشأ رجل من أصحاب معاوية في ذلك يقول:
قال: قأقبل ذو الكلاع إلى عمرو بن العاص إذ هو واقف يحرض الناس على القتال، فقال له: أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح صادق لبيب شفيق يخبرك عن عمار بن ياسر بالحق؟ فقال له عمرو: [ و ] من هذا معك؟ فقال:
هذا ابن عم لي من أهل العراق غير أنه جاء معي بالعهد والميثاق على أنه لا يؤذى ولا يهاج حتى يرجع إلى عسكره. فقال عمرو: إنا لنرى عليه سيماء أبي تراب، فقال أبو نوح: بل سيماء محمد وأصحابه علي وعليك سيماء جهل بن أبي جهل وسيماء فرعون ذي الأوتاد.
قال: فوثب أبو الأعور السلمي فسل سيفه ثم قال: أرى هذا الكذاب الأثيم يشاتمنا وهو بين أظهرنا، وعليه سيماء أبي تراب. فقال ذو الكلاع: مهلا يا أبا الأعور! لأقسم بالله لو بسطت يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف! ابن عمي وجاري قد عقدت له ذمتي وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه
قال: فسكت أبو الأعور وتكلم عمرو بن العاص، فقال: ألست أبا نوح؟
فقال: بلى أنا أبو نوح. قال عمرو: فأنا أذكرك الله أبا نوح إلا صدقتنا ولم تكذبنا أفيكم عمار بن ياسر؟ قال أبو نوح: ما أنا بمخبرك حتى تخبرني لم تسألني عنه؟ فإن معنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله - وكلهم جاد في قتالكم، فقال عمرو: لأني سمعت رسول الله وهو يقول لعمار:
" تقتلك الفئة الباغية " وإنه " ليس ينبغي لعمار بن ياسر أن يفارق الحق ولا تأكل النار منه شيئا " فقال أبو نوح: لا إله إلا الله والله أكبر! إن عمارا معنا وإنه لجاد في قتالكم، فقال عمرو: إنه والله لجاد على قتالنا؟ فقال أبو نوح: والله لقد حدثني يوم الجمل إننا سنظهر عليهم، فكان كما قال: ولقد حدثني بالأمس أن لو هزمتمونا حتى تبلغونا إلى سعفات هجر لعلمنا بأننا على حق وأنكم على باطل، وأن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال عمرو: فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قال أبو نوح: نعم، وها هو واقف في ثلاثين رجلا من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
فأقبل عمرو بن العاص حتى وقف قريبا من أصحاب علي، ومعه نفر من أصحاب معاوية. قال: ونظر إليهم عمار، فأرسل إليهم برجل من عبد القيس يقال له: عوف بن بشر، فأقبل حتى إذا كان قريبا منهم نادى بأعلى صوته:
أين عمرو بن العاص؟ فقال عمرو: ها أنا فهات ما عندك، فقال: هذا عمار قد حضر، فإن شئت فتقدم إليه. قال عمرو: فسر إلينا حتى نكلمك، فقال:
أنا أخاف غدراتك. قال عمرو: فما الذي جرأك وأنت على هذه الحالة؟ فقال له عوف بن بشر: الله جرأني عليك وبصرني فيك وفي أصحابك، فإن شئت نابذتك، وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك. فقال له عمرو: من أنت يا أخي؟ قال: أنا عوف بن بشر الشني رجل من عبد القيس. قال عمرو: فهل
ثم أقبل إليه أبو الأعور حتى واقفه، فقال له عوف: إني لأرى رجلا لا أشك أنه من أهل النار إن كان مصرا على ما أرى، فقال له أبو الأعور: لقد أعطيت لسانا حديدا أنكبك الله في نار جهنم! فقال عوف: كلا! والله إني لا أتكلم إلا بالحق ولا أنطق إلا بالصدق، وإني أدعو إلى الهدى وأقاتل أهل الضلال وأفر من النار، وأنت رجل تشتري العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدى، فانظر إلى وجوهنا ووجوهكم وسيمانا وسيماكم، واسمع إلى دعوانا ودعواكم، فليس منا أحد إلا وهو أولى بمحمد صلى الله عليه وآله وأقرب إليه منكم.
فقال أبو الأعور: أكثرت الكلام وذهب النهار، فاذهب وادع أصحابك وأدعو أصحابي وأنا جار لك حتى تأتي موقفك هذا الذي أنت فيه، ولست أبدأك بغدر حتى تأتي أنت وأصحابك.
قال: فرجع عوف بن بشر إلى عمار بن ياسر ومن معه، فأخبرهم بذلك، وأقبل عمار ومعه الأجلاء من أهل عسكره، وتقدم عمرو بن العاص في أجلاء عسكره حتى اختلفت أعناق الخيل، فنزلوا هؤلاء وهؤلاء عن خيولهم واحتبوا بحمائل سيوفهم، وذهب عمرو [ يتكلم ] التشهد، فقال عمار: اسكت! وقد تركتها في حياة محمد صلى الله عليه وآله وبعد موته، ونحن أحق بها منك، فاخطب بخطبة الجاهلية، وقل قول من كان في الإسلام دنيا ذليلا وفي الضلال رأسا محاربا، فإنك ممن قاتل النبي صلى الله عليه وآله في حياته وبعد موته وفتن أمته من بعده، وأنت الأبتر ابن الأبتر شانئ محمد صلى الله عليه وآله وشانئ أهل بيته.
قال: فغضب عمرو، ثم قال: أما إن فيك لهنات! ولو شئت أن أقول لقلت.
هل تعلم أن عثمان بن عفان كان عليه الناس بين خاذل له ومحرض عليه [ و ] ما هم فيه من نصره بيده ولا نهي عنه بلسانه؟ وقد حصر أربعين يوما في جوف داره ليس له جمعة ولا جماعة، وتظن ما كان فيه قبل أن يقتل ما كان من طلحة والزبير وعائشة بنت أبي بكر حين منعها أرزاقها فقالت فيه ما قالت وحرضت على قتله، فلما قتل خرجت فطلبت بدمه بغير حق ولا حكم من الله تعالى في يدها، ثم إن صاحبك هذا معاوية قد طلب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن يترك له ما في يده، فأبى علي ذلك، فانظر في هذا، ثم سلط الحق على نفسك فاحكم لك وعليك.
قال: فقال عمرو: صدقت أبا اليقظان قد كان ذلك كما ذكرت في أمر عائشة وطلحة والزبير. وأما معاوية فله أن يطلب بدم عثمان، لأنه رجل من بني أمية وعثمان من بني أمية وليس لهذا جئت... إذا رسل هذا الأمر الذي قد شجر بيننا وبينكم، لأني رأيتك أطوع هذا العسكر، فاذكر الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم وحرضت على ذلك، ويحك أبا اليقظان! على ماذا تقاتلنا؟ ألسنا نعبد الله واحدا؟ ألسنا نصلي إلى قبلتكم وندعو بدعوتكم ونقرأ كتابكم ونؤمن بنبيكم؟
فقال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك! القبلة والله لي ولأصحابي،
أيها الأبتر! ألست تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله "؟ فأنا مولى لله ولرسوله وعلي مولاي من بعده، وأنت فلا مولى لك.
فقال عمرو بن العاص: ويحك أبا اليقظان! لم تشتمني ولست أشتمك؟
فقال عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ فقال عمار: قد أخبرتك كيف قتل عثمان. فقال عمرو: فعلي قتله، فقال عمار: بل الله قتله. قال عمرو: فهل كنت فيمن قتله؟ قال عمار: أنا مع من قتله وأنا اليوم أقاتل لمن قتله، لأنه أراد أن يقتل الدين، فقتل.
فقال عمرو: يا أهل الشام إنه قد اعترف بقتل عثمان أمامكم! فقال عمار: قد قالها فرعون لقومه " ألا تسمعون "، أخبرني يا ابن النابغة! هل أقررت أني أنا الذي قتلت عثمان حتى تشهد علي أهل الشام؟ فقال عمرو يا هذا:
إنه كان من أمر عثمان ما كان [ و ] أنتم الذين وضعتم سيوفكم على عواتقكم وتحربتم علينا مثل لهب النيران حتى ظننا أن صاحبكم لا بقية عنده، فإن تنصفونا من أنفسكم فادفعوا إلينا قتلة صاحبنا وارجعوا من حيث جئتم، ودعوا لنا ما في أيدينا، وإن أبيتم ذلك فإن دون ما تطلبون منا والله خرط القتاد!.
قال: ثم تبسم عمار، ثم قال: ليس أول كلامك هذا يا ابن النابغة! يا دعي يا ابن الدعي! يا ابن حرار قريش! يا من ضرب على خمسة بسهامهم كل يدعيك حتى قاربك شرهم! أفي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تغتمز؟ أما
قال: فقام أهل الشام فركبوا خيولهم ولهم زجل فصاروا إلى معاوية، فقال له معاوية: ما وراء كم؟ فقالوا: وراءنا والله إننا قد سمعنا من عمار بن ياسر كلاما يقطر الدم! ووالله لقد أخرس عمرو بن العاص حتى ما قدر له على الجواب! فقال معاوية: هلكت العرب بعد هذا ورب الكعبة!
قال: ورجع عمار في أصحابه إلى علي بن أبي طالب فأخبره بالذي دار بينه وبين عمرو بن العاص، فأنشأ رجل من أصحاب علي يقول:
قال: وقد كان مع معاوية رجل من حمير يقال له: الحصين بن مالك، وكان يكاتب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويدله على عورات معاوية، وكان له صديق من أصحاب معاوية يقال له: الحارث بن عوف السكسكي، فلما كان ذلك اليوم قال الحصين بن مالك للحارث بن عوف: يا حارث إنه قد آتاك الله ما أردت، هذا عمرو وعمار وأبو نوح وذو الكلاع قد التقوا، فهل لك أن تسمع من كلامهم؟ فقال الحارث بن عوف: إنما هو حق وباطل، وفي يدي من الله هدى، فسر بنا يا حصين.
قال: فجاء الحصين والحارث حتى سمعا كلام عمرو وعمار، فلما سمع الحارث بن عوف كلام عمار وتظاهر الحجة على عمرو بقي متحيرا، فقال له الحصين: ما عندك الآن يا حارث؟ فقال الحارث: ما عندي وقعة والله بين العار والنار، ووالله لا أقاتل مع معاوية بعد هذا اليوم أبدا، فقال له: ولا أنا
قال: ثم هربا من عسكر معاوية جميعا فصار أحدهم إلى حمص وأظهر التوبة، وصار الحارث بن عوف إلى مصر تائبا من قتال علي - رضي الله عنه - وأنشأ يقول:
قال: وأقبل نفر من أصحاب معاوية إلى عمرو بن العاص، فقال له بعضهم:
أبا عبد الله ألست الذي رويت لنا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " يدور الحق مع عمار حيث ما دار "؟ فقال عمرو: بلى قد رويت ذلك ولكنه يصير إلينا ويكون معنا.
فقال له ذو الكلاع: هذا والله محال من الكلام! والله لقد أفحمك عمار حيث بقيت وأنت لا تقدر على إجابته، قال عمرو: صدقت وربما كان كلام
____________