قال: فقطع عليه ابن عباس الكلام، ثم قال:
صدقت يا معاوية نحن بنو عبد مناف، أنتم أحق الناس بمودتنا وأولاهم بنا، وقد مضى أول الأمر بما فيه، فأصلح آخره، فإنك صائر إلى ما تريد.
وأما ما ذكرت من عطيتك إيانا فلعمري ما عليك في جود من عيب.
وأما قولك: ذهب علي أفترجون مثله؟ فمهلا يا معاوية رويدا! لا تعجل فهذا الحسين بن علي حي وهو ابن أبيه، واحذر أن تؤذيه يا معاوية فيؤذيك أهل الأرض، فليس على ظهرها اليوم ابن بنت نبي سواه، فقال معاوية: إني قد قبلت منك يا ابن عباس (1).
(413)
عبد الله بن عباس ومعاوية
قال معاوية لابن عباس - رضي الله عنه -: إنكم يا بني هاشم تصابون في
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 4 ص 238 - 239
مؤمن الطاق مع الخارجي لقي الخارجي شيطان الطاق، فقال له: إن لم تتبرأ من عثمان وعلي قتلتك، فقال: أنا من علي ومن عثمان برئ. (إنما أراد أنا من علي أي من مواليه وبرئ من عثمان فتخلص من الخارجي).
(414)
مسلم بن عقيل وعبيد الله
قال: فأدخل مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد، فقال الحرسي: سلم على الأمير، فقال له مسلم: اسكت لا أم لك! ما لك وللكلام؟ والله ليس هو لي بأمير فأسلم عليه، وأخرى فما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي، فإن استبقاني فسيكثر عليه سلامي.
فقال له عبيد الله بن زياد: لا عليك سلمت أم لم تسلم فإنك مقتول، فقال مسلم بن عقيل إن قتلتني فقد قتل شر منك من كان خيرا مني.
فقال ابن زياد: يا شاق يا عاق! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين [ وألقحت الفتنة؟ فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد! والله ما كان ] معاوية [ خليفة بإجماع الأمة، بل تغلب على وصي النبي بالحيلة وأخذ عنه الخلافة بالغصب ] و [ كذلك ] ابنه يزيد. وأما الفتنة فإنك ألقحتها، أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شر بريته، فوالله ما خالفت ولا كفرت ولا بدلت، وإنما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
____________
(1) المحاضرات للراغب: ج 2 ص 481.
(2) المحاضرات للراغب: ج 2 ص 164
فقال له ابن زياد: يا فاسق! منتك نفسك أمرا أحالك الله دونه وجعله لأهله، فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد ومعاوية، فقال مسلم بن عقيل: الحمد لله كفى بالله حكما بيننا وبينكم.
فقال ابن زياد لعنه الله: أتظن أن لك من الأمر شيئا؟ فقال مسلم بن عقيل: لا والله ما هو الظن ولكنه اليقين.
فقال ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك، فقال مسلم: إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة، والله لو كان معي عشرة ممن أثق بهم وقدرت على شربة من ماء لطال عليك أن تراني في هذا القصر، ولكن إن كنت عزمت على قتلي ولا بد لك من ذلك فأقم علي رجلا من قريش أوصي إليه بما أريد.
فوثب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: أوص إلي بما تريد يا ابن عقيل، فقال: أوصيك ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى فيها الدرك لكل خير، وقد علمت ما بيني وبينك من القرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي أن تقضي حاجتي. قال: فقال ابن زياد: لا يجب (1) يا ابن عمر أن تقضي حاجة ابن عمك (كذا) وإن كان مسرفا على نفسه، فإنه مقتول لا محالة.
فقال عمر بن سعد: قل ما أحببت يا ابن عقيل، فقال مسلم - رحمه الله -:
حاجتي إليك أن تشتري فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم، وأن تستوهب جثتي إذا قتلني هذا وتواريني
____________
(1) الظاهر: " يجب " بحذف " لا "
قال: فالتفت عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد، فقال: أيها الأمير إنه يقول كذا وكذا.
فقال ابن زياد: أما ما ذكرت يا ابن عقيل من أمر دينك: فإنما هو مالك يقضي به دينك، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت. وأما جسدك: إذا نحن قتلناك فالخيار في ذلك ولسنا نبالي ما صنع الله بجثتك. وأما الحسين فإن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه.
ولكني أريد أن تخبرني يا ابن عقيل بماذا أتيت إلى هذا البلد؟ شتت أمرهم، وفرقت كلمتهم، ورميت بعضهم على بعض.
فقال مسلم بن عقيل: لست لذلك أتيت هذا البلد، ولكنكم أظهرتم المنكر، ودفنتم المعروف، وتأمرتم على الناس من غير رضى، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة، وكنا أهل ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولا تزال الخلافة لنا، فإنا قهرنا عليها، لأنكم أول من خرج على إمام هدى وشق عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصبا ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم مثلا إلا قول الله تبارك وتعالى، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ".
قال: فجعل ابن زياد يشتم عليا والحسن والحسين - رضي الله عنهم - فقال له مسلم: أنت وأبوك أحق بالشتيمة منهم، فاقض ما أنت قاض! فنحن أهل بيت موكل بنا البلاء.
فقال عبيد الله بن زياد: الحقوا به إلى أعلى القصر، فاضربوا عنقه وألحقوا رأسه جسده.
فقال مسلم رحمه الله: أما والله يا ابن زياد! لو كنت من قريش أو كان
(415)
قيس بن مسهر مع ابن زياد
قال (في سرد قصة كربلاء): فمضى قيس إلى الكوفة وعبيد الله بن زياد قد وضع المراصد والمصابيح على الطرق، فليس أحد يقدر أن يجوز إلا فتش، فلما تقارب من الكوفة قيس بن مسهر لقاه عدو الله يقال له: الحصين بن نمير السكوني، فلما نظر إليه قيس كأنه أتقى على نفسه، فأخرج الكتاب سريعا فمزقه عن آخره. قال: وأمر الحصين أصحابه، فأخذوا قيسا وأخذوا الكتاب ممزقا حتى أتوا به إلى عبيد الله بن زياد.
فقال له عبيد الله بن زياد: من أنت؟ قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين الحسين بن علي - رضي الله عنهما - قال: فلم خرقت الكتاب الذي كان معك؟
قال: خوفا حتى لا تعلم ما فيه. قال: وممن كان هذا الكتاب وإلى من كان؟
فقال: كان من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.
قال: فغضب ابن زياد غضبا عظيما، ثم قال: والله لا تفارقني أبدا أو تدلني على هؤلاء القوم الذي كتب إليهم هذا الكتاب، أو تصعد المنبر فتسب الحسين وأباه وأخاه فتنجو من يدي، أو لأقطعنك، فقال قيس: أما هؤلاء القوم فلا أعرفهم، وأما لعنة الحسين وأبيه وأخيه فإني أفعل.
قال: فأمر به فأدخل المسجد الأعظم، ثم صعد المنبر وجمع له الناس ليجتمعوا ويسمعوا اللعنة، فلما علم قيس أن الناس قد اجتمعوا وثب قائما، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على محمد وآله، وأكثر الترحم على علي وولده، ثم لعن عبيد الله بن زياد ولعن أباه ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم، ثم دعا
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 97 - 102
(416)
برير وعمر بن سعد
قال: وأرسل إليه - يعني إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص في كربلاء - الحسين - رضي الله عنه - بريرا، فقال برير: يا عمر بن سعد أتترك أهل بيت النبوة يموتون عطشا، وحلت بينهم وبين الفرات أن يشربوه وتزعم أنك تعرف الله ورسوله؟ قال: فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض ثم رفع رأسه وقال: إني والله أعلمه يا برير علما يقينا أن كل من قاتلهم وغصبهم على حقوقهم في النار لا محالة، ولكن ويحك يا برير! أتشير علي أن أترك ولاية الري فتصير لغيري؟
ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبدا ثم أنشأ يقول:
قال: فرجع برير بن خضير إلى الحسين، فقال: يا ابن بنت رسول الله إن عمر بن سعد قد رضي أن يقتلك بملك الري (3).
(417)
برير مع الشمر بن ذي الجوشن
قال: وجاء الليل فبات الحسين في الليل ساجدا وراكعا مستغفرا يدعو الله
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 146 - 147.
(2) كذا في المصدر، والظاهر أن الصحيح: " يعظم علي وسيني " أي يعظم علي نومي، أي أن هذا الخطر نفى نومي.
(3) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 172 (.)
قال: وأقبل الشمر بن ذي الجوشن - لعنه الله - في نصف الليل ومعه جماعة من أصحابه حتى تقارب من عسكر الحسين، والحسين قد رفع صوته وهو يتلو هذه الآية " ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم... " - إلى آخرها - قال: فصاح لعين من أصحاب شمر بن ذي الجوشن: نحن ورب الكعبة الطيبون؟ وأنتم الخبيثون! وقد ميزنا منكم.
قال: فقطع برير الصلاة فناداه: يا فاسق يا فاجر يا عدو الله! أمثلك يكون من الطيبين؟ ما أنت إلا بهيمة لا تعقل، فأبشر بالنار يوم القيامة والعذاب الأليم.
قال: فصاح به شمر بن ذي الجوشن - لعنه الله - وقال: أيها المتكلم! إن الله تبارك وتعالى قاتلك وقاتل صاحبك عن قريب.
فقال له برير: يا عدو الله! أبالموت تخوفني؟ والله إن الموت أحب إلينا من الحياة معكم! والله لا ينال شفاعة محمد صلى الله عليه وآله قوم (1) أراقوا دماء ذريته وأهل بيته.
قال: وأقبل رجل من أصحاب الحسين إلى برير بن خضير، فقال له: رحمك الله يا برير! إن أبا عبد الله يقول لك: ارجع إلى موضعك ولا تخاطب القوم، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحت وأبلغت في النصح (2).
____________
(1) قوما ظ.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 179 - 180 (.)
(418)
عبد الله بن عفيف وعبيد الله
قال: فصعد ابن زياد المنبر (بعد أن قتل الحسين عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه، وقال في بعض كلامه: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب! (وشيعته خ ل) قال: فما زاد على هذا الكلام شيئا ووقف.
فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي - رحمه الله - وكان من خيار الشيعة وكان أفضلهم، وكان قد ذهبت عينه اليسرى في يوم الجمل والأخرى في يوم صفين، وكان لا يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل، ثم ينصرف إلى منزله، فلما سمع مقالة ابن زياد وثب قائما ثم قال:
يا ابن مرجانة! الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه، يا عدو الله! أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين؟
قال فغضب ابن زياد، ثم قال: من المتكلم؟ فقال: أنا المتكلم يا عدو الله! أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس في كتابه وتزعم أنك على دين الإسلام؟ واعوناه! أين أولاد المهاجرين والأنصار؟ لا ينتقمون من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد نبي رب العالمين.
قال: فازداد غضبا عدو الله حتى انتفخت أوداجه، ثم قال: علي به!
قال: فتبادرت إليه الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمه فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد، فانطلقوا به إلى منزله.
ونزل ابن زياد عن المنبر ودخل القصر، ودخل عليه أشراف الناس، فقال:
أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم؟ فقالوا: قد رأينا أصلح الله الأمير! إنما الأزد فعلت ذلك فشد يديك بساداتهم، فهم الذين استنقذوه من يدك حتى صار إلى منزله.
قال: ثم دعا ابن زياد عمرا بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن الأشعث وشبث بن الربعي وجماعة من أصحابه، قال لهم: اذهبوا إلى هذا الأعمى أعمى الأزد الذي قد أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه ائتوني به.
قال: فانطلقت رسل عبيد الله بن زياد إلى عبد الله بن عفيف، وبلغ الأزد، فاجتمعوا واجتمع معهم أيضا قبائل اليمن ليمنعوا عن صاحبهم عبد الله بن عفيف... فكسروا الباب واقتحموا عليه، فصاحت ابنته: يا أبت أتاك القوم من حيث لا تحتسب! فقال: لا عليك يا ابنتي، ناوليني السيف.
قال: فناولته فأخذه وجعل يذب عن نفسه، وهو يقول:
قال: وجعلت ابنته تقول: يا ليتني كنت رجلا! فأقاتل بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة...
ثم أوتي به حتى أدخل على عبيد الله بن زياد، فلما رآه قال: الحمد الذي أخزاك!
فقال عبد الله بن عفيف: يا عدو الله! بماذا أخزاني، والله لو فرج [ الله ] عن بصري لضاق عليك موردي [ و ] مصدري.
قال: فقال ابن زياد: يا عدو نفسه! ما تقول في عثمان بن عفان رضي الله عنه؟ فقال: يا ابن عبد بني علاج يا ابن مرجانة وسمية ما أنت وعثمان بن عفان؟ أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد، والله تبارك وتعالى ولي خلقه يقضي بين خلقه وبين عثمان بن عفان بالعدل والحق، ولكن سلني عن أبيك عن يزيد وأبيه.
____________
(1) (جدلته خ)
فقال ابن زياد: اضربوا عنقه! فضربت رقبته وصلب، رحمة الله عليه. (1)
(419)
جندب بن عبد الله مع ابن زياد
قال: ثم دعا ابن زياد بجندب بن عبد الله الأزدي، فقال: يا عدو الله!
ألست صاحب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في يوم صفين؟ فقال: بلى والله يا ابن زياد، أنا صاحب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولا زلت له وليا ولا أبرأ إليك من ذلك.
فقال ابن زياد: أظن أني أتقرب إلى الله - تعالى - بدمك. فقال جندب: والله ما يقربك دمي من الله، ولكنه يباعدك منه، وبعد فإنه لم يبق من عمري إلا أقله، وما أكره أن يكرمني الله بهوانك.
فقال ابن زياد: أخرجوه عني فإنه شيخ قد خرف وذهب عقله.
قال: فأخرج عنه، وخلي سبيله (2).
(420)
محمد بن الحنفية وأصحابه وابن الزبير
نظر عبد الله بن الزبير إلى المختار وغلبته على البلاد، فعلم أنه إنما يفعل ذلك بظهر محمد بن الحنفية، فأرسل إليه أن هلم فبايع، فإن الناس قد بايعوا، فأرسل
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 229 - 234، وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 85، وبهج الصباغة: ج 9 ص 384.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 234 - 235
قال: فأبى ابن الزبير أن يتركه، وأبى ابن الحنفية أن يبايع، وجرى بينهم كلام كثير، فأرسل ابن الزبير إلى نفر من أصحاب ابن الحنفية، فدعاهم، ثم قال لهم: إني أراكم لا تفارقون هذا الرجل، فمن أنتم؟ فإني لا أعرفكم. فقالوا نحن قوم من أهل الكوفة، قال: فما يمنعكم من بيعتي وقد بايعني أهل بلدكم؟
لعله قد غركم هذا المختار الكذاب! فقالوا: يا هذا ما لنا وللمختار؟ إننا لو أردنا أن نكون مع المختار لما قدمنا هذه البلدة، نحن قوم قد اعتزلنا أمور الناس وأتينا هذا الحرم، فنزلناه لكي لا نقتل ولا نقتل ولا نؤذي ولا نؤذى، فنحن هاهنا مقيمون عند هذا الرجل محمد بن علي، فإذا اجتمعت الأمة على رجل واحد دخلنا فيما دخل فيه الناس.
قال: فقال عبد الله بن الزبير: فأنا لا أفارقكم أو تبايعوا طائعين أو مكرهين. قالوا: فإننا لا نبايع أبدا أو نرى صاحبنا هذا قد بايع.
قال: فغضب ابن الزبير، ثم قال: ومن صاحبكم؟ فوالله ما صاحبكم هذا برضى في الدين ولا محمود الرأي ولا راجح العقل ولا لهذا الأمر بأهل!
قال: فقال له رجل من القوم يقال له: " معاذ بن هانئ ": أيها الرجل!
إننا لا ندري ما يقول، ولكنا رأيناه على مثل هدانا وأمرنا وطريقتنا، وقد اعتزل الناس وما هم فيه ونحن قعود بهذا الحرم لكي لا نقتل ولا نؤذى إلى أن يجمع الله أمر الأمة على ما شاء من خلقه، فندخل فيما دخل فيه الأسود والأبيض، فأجبناه على ذلك ولزمنا هداه وطريقته ومذهبه، ومع ذلك فإنه لا يعيش والسلام (1) ولا يكافئ بالسوء ولا يغتاب الغائب ولا يمكر به، ثم إنه قد أمرنا أن نكف أيدينا ولا نسفك دماءنا، ففعلنا ما أمرنا به، ولعمري يا ابن الزبير لئن لم
____________
(1) كذا في المصدر
قال: ثم تقدم عبد الله بن هانئ - وهو أخو هذا المتكلم - فقال: يا ابن الزبير إننا قد سمعنا كلامك وما ذكرت به ابن عمك من السوء، ونحن أعلم به منك وأطول له معاشرة، وهو والله الرجل البر، الطيب الطعمة، الكريم الطبيعة، الطاهر الأخلاق، الصادق النية، وهو مع ذلك أنصح لهذه الأمة منك، لأنك أنت رجل تدعو الناس إلى بيعتك، فمن لا يبايعك استحللت ماله ودمه، وهو رجل لا يرى ذلك، وبعد يا ابن الزبير! فإننا ما خليناك وتركنا هذا الأمر أن تكونوا ولاة علينا إلا لمكان الرسول محمد صلى الله عليه وآله، لأنكم أولى الناس بمنزلته وميراثه و قيامه في أمته، إذ كنتم من قريش، فإننا سلمنا إليكم هذا الأمر من هذا الطريق فإن أنتم عدلتم بينكم كما عدلنا عليكم علمت أنت خاصة، إن صاحبنا هذا محمد بن علي هو أهل لهذا الأمر وأولى الناس به، لمكان أبيه علي به أبي طالب، فإن أبيت أن تقر بهذا الأمر أنه مكذب، فإننا وجدناه رجلا من صالحي العرب، معروف الحسب، ثابت النسب، ابن أمير المؤمنين، وابن أول ذكر صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فغضب ابن الزبير وقال: من هاهنا؟ اهزؤه وأوجؤه في قفاه! قال ابن هانئ: يا ابن الزبير! إن حرم الرحمن وجوار البيت الحرام الذي من دخله كان آمنا!.
قال: ثم تقدم أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، فقال: يا ابن الزبير! " إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين " فقال ابن الزبير: وأنت هاهنا يا ابن واثلة؟ فقال: نعم أنا هاهنا يا ابن الزبير، فاتق الله! ولا تكن ممن " إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم " قال: أفلا تسمع إلى كلام هذا الرجل الذي يضرب لي الأمثال ويأتيني بالمقاييس؟ فقال
قال: فخرجوا من بين يديه، وأقبلوا إلى محمد بن الحنفية، فأخبروه بما كان بينهم وبين ابن الزبير، فقال لهم: جزاكم الله عني من قوم خير الجزاء! أما إني أتقي عليكم من هذا المسرف على نفسه، وأرى لكم من الرأي أن تعتزلوني ولا تكونوا قريبا مني إلى أن تنظروا ما يكون من عاقبة أمري وأمره، فإني أكره أن تكونوا معي، ولعله يناله منكم أمر أغتم لكم منه.
قال: فقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني: جعلت فداك يا ابن أمير المؤمنين! والله ما أنطق إلا بما في قلبي ولا أخبر إلا عن نفسي، وأنا أشهد الله في وقتي هذا أني قد رضيت أن أقتل إن قتلت، وأن أوسر إن أسرت، وأن أحبس إن حبست، وأن أشبع إن شبعت، وأن أجوع إن جعت، وأن أظمأ إن ظمئت، ولا والله لا أفارقك في عسر ولا يسر ولا ضيق ولا جهد ما أردتني وقبلتني، أرى لك ذلك علي فرضا واجبا وحقا لازما، وما لا أبغي به منك جزاء وإكراما، ولا أريد بذلك إلا ثواب الله والدار الآخرة ودفع الظلم عن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ثم وثب معاذ بن هانئ الكندي، فقال: جعلت فداك! نحن شيعتك وشيعة أبيك من قبلك نواسيك بأنفسنا ونقيك بأيديا، ونحن معك على الخوف والأمن والخصب والجدب إلى أن يأتيك الله تبارك وتعالى بالفرج من عنده، غضب ابن الزبير بذلك أم رضي.
قال: فقال محمد بن الحنفية: إن قدرتم على ذلك فأنا استأنس بكم، وإن عرضت لكم مآرب وأشغال فأنتم في أوسع العذر.
قال: فبينا القوم كذلك إذا بعمر بن عروة بن الزبير قد أقبل! حتى دخل
قال: فسكت القوم، وأقبل عليه ابن الحنفية فقال له: ارجع إلى عمك فقل له: يقول لك محمد بن علي: يا ابن الزبير! أصبحت منتهكا للحرمة متلبثا في الفتنة جريا على نفسك الدم الحرام، فعش رويدا! فإن أمامك عقبة كؤدا وحسابا طويلا وسؤالا حفيا، وكتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبعد فوالله لا بايعتك أبدا أو لا يبقى أحد إلا بايعك، فاقضي ما أنت قاض!
قال فرجع عمر بن عروة بن الزبير إلى عمه عبد الله بن الزبير، فأخبره بذلك.
قال: وهم أصحاب محمد بن الحنفية بالوثوب على عبد الله بن الزبير، فقال لهم محمد: مهلا يا قوم! لا تفعلوا، فوالله ما أحب أني أمرتكم بقتل حبشي أجدع، وأنه أجمع لي بعد ذلك سلطان العرب قاطبة من المشرق إلى المغرب.
قال - بعد ذكر استعانة محمد بن الحنفية من المختار وإرساله الجند إلى مكة لإخراجه من حصار ابن الزبير -: ثم أرسل ابن الزبير إلى أبي عبد الله الجدلي وأصحابه القادمين من الكوفة، فدعاهم، ثم قال:
أخبروني عنكم يا أهل الكوفة، أما كفاكم خروجكم مع المختار وإفسادكم علي العراق؟ حتى قدمتم هذا البلد تناوؤني في سلطاني، أتظنون أني أخلي صاحبكم هذا دون أن يبايع وتبايعوا أنتم أيضا معه صاغرين؟
قال: فقال له أبو عبد الله الجدلي: إي والركن والمقام والحل والحرام وهذا البلد الحرام وحرمة الشهر الحرام! لتخلين سبيل صاحبنا ابن علي، ولينزلن
قال: وإذا محمد بن الحنفية قد أقبل في جماعة من أصحابه حتى دخل المسجد الحرام. قال: ونظر ابن الزبير فإذا أصحابه كثير وأصحاب ابن الحنفية قليل غير أنهم مغضبون مجمعون على الحرب محبون لذلك، فعلم أن جانبهم خشن، وأن وراءهم شوكة شديدة من قبل المختار، فجعل يتشجع ويقول لإخوته وأصحابه:
ومن ابن الحنفية وأصحابه هؤلاء؟ والله ما هم عندي شئ! ولو أني هممت بهم لما مضى ساعة من النهار حتى تقطف رؤوسهم كما يقتطف الحنظل.
قال له رجل من أصحاب ابن الحنفية:
والله يا ابن الزبير! لئن رمت ذلك منا، فإني أرجو أن يوصل إليك من قبل أن ترى فينا ما تحب.
قال: ثم ضرب الطفيل بيده إلى سيفه فاستله، فهم أن يفعل شيئا.
فقال ابن الحنفية لأبيه: يا أبا الطفيل قل لابنك فليكف عما يريد أن يصنع، ثم أقبل على أصحابه، فقال:
يا هؤلاء مهلا! فإني أذكركم الله إلا كففتم عنا أيديكم وألسنتكم فإني ما أحب أن أقاتل أحدا من الناس ولا أقول للناس إلا حسنا، ولا أريد أيضا أن أنازع ابن الزبير في سلطانه ولا بني أمية في سلطانهم، ولا أدعوكم إلى أن يضرب بعضكم بعضا بالسيف، وإنما آمركم أن تتقوا الله ربكم وأن تحقنوا دماءكم، فإني قد اعتزلت هذه الفتنة التي فيها ابن الزبير وعبد الملك بن مروان إلى أن تجتمع الأمة على رجل واحد، فأكون كواحد من المسلمين.
قال: فقال رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير: صدق والله الرجل - يعني
قال: فصاح به ابن الزبير وقال: اسكت أيها الرجل! فإنك لا تعقل ما يأتي، وما تدري من هذا حتى يسمع قوله ويؤخذ برأيه، إنما كان هذا مع أخويه الحسن والحسين كالعسيف الذي لا يؤامر ولا يشاور.
قال: فقال له محمد بن الحنفية: كذبت والله لومت! ما كان إخواني بهذه المنزلة، ولكنهم كانوا أخوي وشقيقي، وكنت أعرف لهم فضلهم ونسبهم وقرابتهم من الرسول محمد صلى الله عليه وآله، وقد كانوا يعرفون لي من الحق مثل ذلك، وما قطعوا أمرا دوني مذ عقلت. وأما قولك: أنه لا ينبغي أن يسمع قولي ولا يؤخذ برأيي فأنا والله أوجب حقا على الأمة منك وأحق بالمودة والنصر، لحق علي بن أبي طالب وقرابته من الرسول محمد صلى الله عليه وآله ولو أني أعتمد على الناس بحق النبوة أنها في بني هاشم دون غيرهم لكان ينبغي لذوي الرأي والعلم أن يأخذوا برأيي ويستمعوا لقولي ويكونوا لي أود ومني أسمع ولي أنصح منهم لك يا ابن الزبير.
قال: فلم يزل هذا الكلام بين محمد بن الحنفية وبين عبد الله بن الزبير وقد ضاق الناس بعضهم بعضا في المسجد الحرام عليهم السلاح، والمعتمرون يمشون بينهم بالصلح حتى سكت ابن الزبير ولم يقل شيئا (1).
(421)
الأحوص مع عوف بن ضبعان
قال - في ذكر حرب إبراهيم بن الأشتر مع عبيد الله بن زياد -: وتقدم رجل من عتاة أهل الشام ومردتهم يقال له: " عوف بن ضبعان الكلبي " حتى وقف بين يدي الجمعين على فرس أدهم، ثم نادى: ألا يا شيعة أبي تراب! ألا يا
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 125 - 136، وراجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 20 ص 124
يا رجال، فما لبث أن خرج إليه الأحوص بن شداد الهمداني، وهو يرتجز ويقول:
قال: فجعل الشامي يشتم الأحوص بن شداد، فقال له الأحوص: يا هذا لا تشتم إن كنت غريبا، فإن الذي بيننا وبينكم أجل من الشتيمة، أنتم تقاتلون عن بني مروان ونحن نطالبكم بدم ابن بنت نبي الرحمن، فادفعوا إلينا هذا الفاسق اللعين عبيد الله بن زياد الذي قتل ابن بنت نبي رب العالمين محمد صلى الله عليه وآله حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلوا مع الحسين بن علي، فإننا لا نراه للحسين كفؤا فنقتله به، فإذا دفعتموه إلينا فقتلناه جعلنا بيننا وبينكم حكما من المسلمين.
فقال له الشامي:
إننا قد جربناكم في يوم صفين عندما حكمنا وحكمتم، فغدرتم ولم ترضوا بما حكم عليكم.
قال: فقال له الأحوص بن شداد:
يا هذا إن الحكمين لم يحكما برضا الجميع، وأحدهما خدع صاحبه الآخر، والخلافة لا تعقد في الخديعة، ولا يجوز في الدين إلا النصيحة، ولكن ما اسمك أيها الرجل؟ فقال الشامي: اسمي منازل الاقران حلال، فقال له الأحوص
(422)
رجل مع مصعب
وقال - بعد ذكر قتل المختار -: ثم أقبل مصعب وأصحابه حتى أحدقوا بالقصر، فجعلوا ينادون لمن في القصر ويقولون: أخرجوا ولكم الأمان، فقد قتل الله صاحبكم!
قال: ففتح القوم باب القصر وخرجوا فأخذوا بأجمعهم حتى أتى بهم مصعب بن الزبير، فقدموا حتى وقفوا بين يديه، وجعل رجل منهم يقول:
قال: فرفع مصعب رأسه إليهم، فقال: الحمد لله الذي أمكن منكم يا شيعة الدجال.
قال: فتكلم رجل منهم يقال له: بحير بن عبد الله السلمي، فقال:
لا والله! ما نحن بشيعة الدجال، ولكنا شيعة آل محمد صلى الله عليه و آله، وما خرجنا بأسيافنا إلا طلبا بدمائهم، وقد ابتلانا الله بالأسر وابتلاك بالعفو أيها الأمير والصفح والعفاف، وهما منزلتان منزلة رضا ومنزلة سخط، فمن عفا عفي عنه، ومن عاقب لم يأمن من القصاص، وبعد، فإننا إخوانكم في دينكم وشركاؤكم في حظكم، ونحن أهل قبلتكم، لسنا بالترك ولا بالديلم، وقد كان منا ما كان من أهل العراق وأهل الشام، فاصفح إن قدرت (2).
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 176 - 177.