الصفحة 206

(423)
امرأة المختار مع مصعب

قال: وأقبل مصعب حتى دخل قصر الإمارة، فجلس على سرير المختار، ثم أرسل إلى امرأتي المختار: أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزارية، وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارية، فلما أوتي بهما قال لهما مصعب: ما تقولان في المختار؟ فقالت الفزارية: نقول فيه كما تقولون فيه، فقال مصعب: أحسنت!

اذهبي فلا سبيل عليك. فقالت الأنصارية: ولكني أقول: كان عبدا مؤمنا محبا لله ورسوله وأهل بيت رسوله محمد صلى الله عليه وآله، فإنكم إن قتلتموه لم تبقوا بعده إلا قليلا، فغضب مصعب بن الزبير ثم أمر بها فقتلت، فقال بعضهم في ذلك:

إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول
قتلت هكذا على غير جرم * إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول (1)

(424)
محمد بن النعمان وهشام

عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، قال: حضرت محمد بن النعمان الأحول، فقام إليه رجل فقال له: بم عرفت ربك؟

قال: بتوفيقه وإرشاده وتعريفه وهدايته.

قال: فخرجت من عنده فلقيت هشام بن الحكم، فقلت: ما أقول لمن يسألني فيقول لي: بم عرفت ربك؟

فقال: إن سأل سائل فقال: بم عرفت ربك؟ قلت: عرفت الله جل جلاله

____________

(1) الفتوح: ج 6 ص 199

الصفحة 207
بنفسي، لأنها أقرب الأشياء إلي، وذلك أني أجدها أبعاضا مجتمعة، وأجزاء مؤتلفة، ظاهرة التركيب، متينة الصنعة، مبنية على ضروب من التخطيط والتصوير، زائدة من بعد نقصان، وناقصة من بعد زيادة، قد أنشأ لها حواس مختلفة وجوارح متبائنة: من بصر وسمع وشام وذائق ولامس، مجبولة على الضعف والنقص والمهانة، لا تدرك واحدة منها مدرك صاحبتها ولا تقوى على ذلك، عاجزة عن اجتلاب المنافع إليها ودفع المضار عنها، واستحال في العقول وجود تأليف لا مؤلف له، وثبات صورة لا مصور لها، فعلمت أن لها خالقا خلقها ومصورا صورها، مخالفا لها في جميع جهاتها، قال الله جل جلاله: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (1).

(425)
هشام بن الحكم مع هشام بن سالم

عن جعفر بن محمد بن حكيم الخثعمي، قال: اجتمع ابن سالم وهشام بن الحكم وجميل بن دراج وعبد الرحمن بن الحجاج ومحمد بن حمران وسعيد بن غزوان ونحو من خمسة عشر من أصحابنا، فسألوا هشام بن الحكم أن يناظر هشام بن سالم فيما اختلفوا فيه من التوحيد وصفة الله عز وجل وعن غير ذلك، لينظروا أيهم أقوى حجة، فرضي هشام بن سالم أن يتكلم عند محمد بن أبي عمير، ورضي هشام بن الحكم أن يتكلم عند محمد بن هشام، فتكالما وساقا ما جرى بينهما.

وقال: قال عبد الرحمن بن الحجاج لهشام بن الحكم: كفرت والله بالله العظيم وألحدت فيه، ويحك! ما قدرت أن تشبه بكلام ربك إلا العود يضرب به.

____________

(1) البحار: ج 3 ص 49 - 50 عن التوحيد

الصفحة 208
قال جعفر بن محمد بن حكيم: فكتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام يحكي له مخاطبتهم وكلامهم ويسأله أن يعلمهم ما القول الذي ينبغي أن يدين الله به من صفة الجبار.

فأجابه في عرض كتابه: فهمت رحمك الله! واعلم رحمك الله إن الله أجل وأعلى وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفوا عما سوى ذلك (1).

(426)
هشام مع الديصاني

عن محمد بن أبي إسحاق عن عدة من أصحابنا: أن عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم، فقال له:

ألك رب؟

فقال: بلى.

قال: قادر؟

قال: نعم قادر قاهر.

قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟

فقال هشام: النظرة.

فقال له: قد أنظرتك حولا.

ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فأستأذن عليه، فأذن له، فقال: يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك.

____________

(1) البحار: ج 3 ص 266 عن الكشي. وراجع قاموس الرجال: ج 9 ص 333

الصفحة 209
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: عماذا سألك؟ فقال: قال لي كيت وكيت.

فقال له أبو عبد الله عليه السلام:

يا هشام كم حواسك؟

قال: خمس.

فقال: أيها أصغر؟

فقال: الناظر.

قال: وكم قدر الناظر؟

قال: مثل العدسة أو أقل منها.

فقال: يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني.

فقال: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا.

فقال له أبو عبد الله عليه السلام:

إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة.

فانكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه، وقال: حسبي يا ابن رسول الله! فانصرف إلى منزله، وغدا عليه الديصاني.

فقال له: يا هشام إني جئتك مسلما، ولم أجئك متقاضيا للجواب.

فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب، فخرج عنه الديصاني، فأخبر أن هشاما دخل على أبي عبد الله عليه السلام فعلمه الجواب.... الخ (1).

* * *

____________

(1) البحار: ج 4 ص 140 - 141 عن التوحيد

الصفحة 210

(427)
هشام مع النظام

قال النظام لهشام بن الحكم: إن أهل الجنة لا يبقون في الجنة بقاء الأبد فيكون بقاؤهم كبقاء الله ومحال أن يبقوا كذلك.

فقال هشام: أن أهل الجنة يبقون بمبق لهم، والله يبقى بلا مبق، وليس هو كذلك.

فقال: محال أن يبقوا الأبد.

قال: قال: ما يصيرون؟

قال: يدركهم الخمود.

قال: فبلغك أن في الجنة ما تشتهي الأنفس؟

قال: نعم.

قال: فإن اشتهوا أو سألوا ربهم بقاء الأبد؟

قال: إن الله تعالى لا يلهمهم ذلك.

قال: فلو أن رجلا من أهل الجنة نظر إلى ثمرة على شجرة فمد يده ليأخذها فتدلت إليه الشجرة والثمار ثم حانت منه لفتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها، فمد يده اليسرى ليأخذها فأدركه الخمود ويداه متعلقان بشجرتين فارتفعت الأشجار، وبقي هو مصلوبا فبلغك إن في الجنة مصلوبين؟

قال: هذا محال.

قال: فالذي أتيت به أمحل منه: أن يكون قوم قد خلقوا وعاشوا فأدخلوا الجنان تموتهم فيها يا جاهل! (1)

* * *

____________

(1) البحار: ج 8 ص 143 عن الكشي. وقاموس الرجال: ج 9 ص 329 عنه

الصفحة 211

(428)
سلمان مع ابن صوريا

قال - في احتجاج رسول الله صلى الله عليه وآله مع عبد الله بن صوريا اليهودي، وأن ابن صوريا قال: كان ذلك، يعني جبرئيل عدونا فقال له سلمان الفارسي:

فما بدء عداوته لك؟

قال: نعم يا سلمان، عادانا مرارا كثيرة وكان من أشد ذلك علينا أن الله أنزل على أنبيائه أن بيت المقدس يخرب على يد رجل يقال له: " بخت نصر " وفي زمانه، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، والله يحدث الأمر بعد الأمر فيمحو ما يشاء ويثبت، فلما بلغنا ذلك الحين الذي يكون فيه هلاك بيت المقدس بعث أوائلنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل وأفاضلهم نبيا كان يعد من أنبيائهم يقال له: " دانيال " في طلب بخت نصر ليقتله، فحمل معه وقر مال لينفقه في ذلك، فلما انطلق في طلبه لقاه ببابل غلاما ضعيفا مسكينا ليس له قوة ولا منعة، فأخذه صاحبنا ليقتله، فدفع عنه جبرئيل، وقال لصاحبنا: إن كان ربكم هو الذي أمر بهلاككم، فإنه لا يسلطك عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي شئ تقتله؟ فصدقه صاحبنا وتركه، ورجع إلينا وأخبرنا بذلك، وقوى بخت نصر وملك وغزانا وخرب بيت المقدس، فلهذا نتخذه عدوا وميكائيل عدو لجبرئيل.

فقال سلمان: يا ابن صوريا بهذا العقل المسلوك به غير سبيله ضللتم! أرأيتم أوائلكم كيف بعثوا من يقتل بخت نصر، وقد أخبر الله في كتبه وعلى ألسنة رسله أنه يملك ويخرب بيت المقدس؟ أرادوا تكذيب أنبياء الله تعالى في أخبارهم واتهموهم في أخبارهم، أو صدقوهم في الخبر عن الله ومع ذلك أرادوا مغالبة الله، هل كان هؤلاء ومن وجهوه إلا كفارا بالله؟ وأي عداوة تجوز أن

الصفحة 212
يعتقد لجبرئيل وهو يصد عن مغالبة الله عز وجل، وينهى عن تكذيب خبر الله تعالى؟

فقال ابن صوريا: قد كان الله تعالى أخبر بذلك على ألسن أنبيائه، لكنه يمحو ما يشاء ويثبت.

قال سلمان: فإذا لا تثقوا بشئ مما في التوراة من الأخبار عما مضى وما يستأنف، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت! وإذا لعل الله قد كان عزل موسى وهارون عن النبوة وأبطلا في دعوتهما، لأن الله يمحو ما يشاء ويثبت! ولعل كل ما أخبراكم أنه يكون لا يكون وما أخبراكم أنه لا يكون يكون! وكذلك ما أخبراكم عما كان لعله لم يكن وما أخبراكم أنه لم يكن لعله كان! ولعل ما وعده من الثواب يمحوه ولعل ما توعد به من العقاب يمحوه، فإنه يمحو ما يشاء ويثبت! إنكم جهلتم معنى " يمحو الله ما يشاء ويثبت " فلذلكم أنتم بالله كافرون، ولإخباره عن الغيوب مكذبون، وعن دين الله منسلخون.

ثم قال سلمان: فإني أشهد أن من كان عدوا لجبرئيل، فإنه عدو لميكائيل، وإنهما جميعا عدوان لمن عاداهما سلمان لمن سالمهما، فأنزل الله تعالى عند ذلك موافقا لقول سلمان - رحمة الله عليه -: " قل من كان عدوا لجبريل " ابن عباس مع عائشة روى الطبري أيضا قال: قال ابن عباس - رحمه الله -: لما حججت بالناس نيابة عن عثمان وهو محصور، مررت بعائشة بالصلصل، فقالت: يا ابن عباس أنشدك الله - فإنك قد أعطيت لسانا وعقلا - أن تخذل الناس عن طلحة! فقد بانت لهم بصائرهم في عثمان وأنهجت ورفعت لهم المنار وتحلبوا من البلدان لأمر قد حم، وإن طلحة - فيما بلغني - قد اتخذ رجالا على بيوت الأموال، وأخذ

____________

(1) البحار: ج 9 ص 287

الصفحة 213
مفاتيح الخزائن، وأظنه يسير - إن شاء الله - بسيرة ابن عمه أبي بكر. فقال: يا أمه؟ لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا، فقالت: إيها عنك يا بن عباس! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك (1).

(429)
رجل مع عمار

عن أسماء بن حكيم الفزاري، قال: كنا بصفين مع علي تحت راية عمار ابن ياسر ارتفاع الضحى، وقد استظللنا برداء أحمر، إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا، فقال: أيكم عمار بن ياسر؟ فقال عمار: أنا عمار، قال: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قال: إن لي إليك حاجة أفأنطق بها سرا أو علانية؟ قال: اختر لنفسك أيهما شئت، قال: لا بل علانية، قال: فانطق.

قال: إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه، لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى ليلتي هذه، فإني رأيت في منامي مناديا تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله ونادى بالصلاة، ونادى مناديهم مثل ذلك، ثم أقيمت الصلاة، فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحدا ودعونا دعوة واحدة، فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبت بليلة لا يعلمها إلا الله حتى أصبحت، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له، فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت لا، قال: فألقه فانظر ماذا يقول لك عمار فاتبعه، فجئتك لذلك.

فقال عمار: تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي، فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات وهذه الرابعة، فما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن، أشهدت بدرا واحدا

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 10 ص 6. وبهج الصباغة: ج 6 ص 135

الصفحة 214
ويوم حنين؟ أو شهدها أب لك فيخبرك عنها؟ قال: لا، قال: فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإن مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب، فهل ترى هذا العسكر ومن فيه؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا - مفارقا للذي نحن عليه - كانوا خلقا واحدا فقطعته وذبحته! والله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور! أفترى دم عصفور حراما؟ قال: لا بل حلال، قال: فإنهم حلال كذلك، أتراني بينت لك؟ قال: قد بينت لي، قال:

فاختر أي ذلك أحببت.

فانصرف الرجل، فدعاه عمار، ثم قال: أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم، فيقولوا: لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا، والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل (1).

(430)
رجل من طي مع معاوية

وقام عدي بن حاتم الطائي إلى علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازى به رجل، وهو يريد أن يزور ابن عمه حابس بن سعد الطائي بالشام، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام، فقال علي عليه السلام: نعم، فأمره عدي بذلك، وكان اسم الرجل خفاف ابن عبد الله.

فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام، وحابس سيد طي بها، فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة وسار مع علي إلى الكوفة، وكان لخفاف

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 5 ص 256. وصفين نصر: ص 321

الصفحة 215
لسان وهيئة وشعر، فغدا حابس بخفاف إلى معاوية، فقال: إن هذا ابن عم لي قدم الكوفة مع علي وشهد عثمان بالمدينة، وهو ثقة.

فقال له معاوية: هات حدثنا عن عثمان، فقال، نعم حصره المكشوح [ وحكم فيه حكيم ووليه عمار وتجرد في أمره ثلاثة نفر: عدي بن حاتم ] والأشتر النخعي وعمرو بن الحمق، وجد في أمره رجلان: طلحة والزبير، وأبرأ الناس منه علي.

قال: ثم مه؟

قال: ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش حتى ضاعت النعل وسقط الرداء ووطئ الشيخ، ولم يذكر عثمان، ولم يذكر له.

ثم تهيأ للمسير، وخف معه المهاجرون والأنصار، وكره القتال معه ثلاثة نفر: سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، فلم يستكره أحدا واستغنى بمن خف معه عمن ثقل، ثم سار حتى أتى جبل طي، فأتته منا جماعة كان ضاربا بهم الناس حتى إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، فسرح رجالا إلى الكوفة يدعونهم، فأجابوا دعوته، فسار إلى البصرة فإذا هي في كفه، ثم قدم الكوفة، فحمل إليه الصبي، ودبت إليه العجوز، وخرجت إليه العروس فرحا به وشوقا إليه، وتركته وليس له همة إلا الشام.

فذعر معاوية من قوله، وقال حابس: أيها الأمير لقد أسمعني شعرا غير به حالي في عثمان، وعظم به عليا عندي.

فقال معاوية: أسمعنيه يا خفاف، فأنشده شعرا أوله:

قلت والليل ساقط الأكناف * ولجنبي عن الفراش تجافي

(يذكر فيه حال عثمان وقتله، وفيه إطالة عدلنا عن ذكره بحسبها، ومن جملته):


الصفحة 216
وفي نصر:

[ أرقب النجم مائلا ومتى الغمض * بعين طويلة التذارف
ليت شعري وإنني لسؤول * هل لي اليوم في المدينة شاف
من صحاب النبي إذ عظم الخطب * فيهم في البرية كاف
إحلال دم الإمام بذنب * أم حرام بسنة الوقاف
قال لي القوم لا سبيل إلى ما * تطلب اليوم قلت حسب خفاف
عند قوم ليسوا بأوعية العلم * ولا أهل صحة وعفاف
قلت لما سمعت قولا دعوني * إن قلبي من القلوب ضعاف ] (1)
قد مضى ما مضى ومر به الدهر * كما مر ذاهب الأسلاف
إنني والذي يحج له الناس * علي لحق البطون عجاف
تتبارى مثل القي من النبع * بشعث مثل السهام تخاف
أرهب اليوم إن أتاكم علي * صيحة مثل صيحة الأحقاف
إنه الليث غاديا وشجاع * مطرق نافث بسم زعاف
واضع السيف فوق عاتقه الأيمن * يفري به (شؤون الصحاف
[ لا يرى القتل في الخلاف عليه * ألف ألف كانوا من الأشراف
سوم الخيل ثم قال لقوم * بايعوه إلى الطعان خفاف
استعدوا لحرب طاغية الشام * فلبوه كاليدين اللطاف
ثم قالوا أنت الجناح لك الريش * القدامي ونحن منه الخوافي
[ أنت وال وأنت والدنا البر * ونحن الغداة كالأضياف
وقري الضيف في الديار قليل * قد تركنا العراق للأتحاف
وهم ما هم إذا نشب البأس * من ذوي الفضل والأمور الكوافي ]

____________

(1) نقلنا من النصر ما بين المعقوفين وتركنا اختلاف النسخ واعتمدنا على رواية ابن أبي الحديد

الصفحة 217

فانظر اليوم قبل بادرة القوم * لسلم تهم آم بخلاف
[ إن هذا رأي الشفيق على الشام * ولولاه ما خشيت نشاف ]

قال: فانكسر معاوية، وقال: يا حابس إني لأظن هذا عينا لعلي، أخرجه عنك لئلا يفسد علينا أهل الشام (1).

(431)
الأشتر وجرير

لما رجع جرير إلى علي عليه السلام (من عند معاوية وكان أمير المؤمنين عليه السلام أرسله إليه) كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية، فاجتمع جرير والأشتر عند علي عليه السلام، فقال الأشتر: أما والله يا أمير المؤمنين! أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى خناقه، وأقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه، ولا بابا يخاف أمره إلا سده.

فقال جرير: لو كنت والله أتيتهم لقتلوك - وخوفه بعمرو وذي الكلاع وحوشب - وقال: إنهم يزعمون أنك من قتلة عثمان.

فقال الأشتر: والله لو أتيتهم يا جرير لم يعييني جوابها ولم يثقل علي محملها، ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر.

قال: فائتم إذن! قال: الآن؟ وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر.

عن الشعبي قال: اجتمع جرير والأشتر عند علي عليه السلام فقال الأشتر: أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا وأخبرتك بعداوته وغشه؟ وأقبل الأشتر يشتمه ويقول: يا أخا بجيلة إن عثمان اشترى منك دينك

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 111 - 112 وقد مضى شطر منه 137 عن ابن أعثم، وراجع صفين نصر: ص 64 - 68 وما بين المعقوفتين لنصر. وراجع الإمامة والسياسة: ج 1 ص 78

الصفحة 218
بهمدان، والله ما أنت بأهل أن تترك تمشي فوق الأرض، إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم، وأنت والله منهم! ولا أرى سعيك إلا لهم، لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في حبس لا تخرجون منه حتى تستتم هذه الأمور، ويهلك الله الظالمين.

قال جرير: وددت والله أن لو كنت مكاني بعثت، إذن والله لم ترجع!

قال: فلما سمع جرير مثل ذلك من قوله فارق عليا عليه السلام فلحق بقرقيساء ولحق به ناس من قسر من قومه، فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر رجلا، ولكن شهدها من أحمس سبعمائة رجل.

وقال الأشتر فيما كان من تخويف من جرير إياه بعمرو وحوشب [ وذي الكلاع ]:

لعمرك يا جرير لقول عمرو * وصاحبه معاوي بالشام
وذي كلع وحوشب ذي ظليم * أخف علي من ريش النعام
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم * وعن باز مخالبه دوامي
ولست بخائف ما خوفوني * وكيف أخاف أحلام النيام
وهمهم الذي حاموا عليه * من الدنيا وهمي من أمامي
فإن أسلم أعمهم بحرب * يشيب لهولها رأس الغلام
وإن أهلك فقد قدمت أمرا * أفوز بفلجه يوم الخصام
وقد زادوا علي وأوعدوني * ومن ذا مات من خوف الكلام (1)

(432)
رجل ناسك مع معاوية

لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة، وقال معاوية: يا أهل الشام هذا والله أول الظفر! لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه أبدا حتى

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 116 - 117 عن كتاب صفين، وسيأتي برواية أخرى ص 368

الصفحة 219
يقتلوا بأجمعهم عليه، وتباشر أهل الشام.

فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني ناسك يتأله ويكثر العبادة يعرف بمعرى بن أقبل، وكان صديقا لعمرو بن العاص وأخا له، فقال: يا معاوية سبحان الله! لإن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعونهم الماء، أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه! أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ فينزلوا على فرضة أخرى ويجازوكم بما صنعتم، أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أول الجور! لقد شجعت الجبان، ونصرت المرتاب، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك.

فأغلظ له معاوية، وقال لعمرو: اكفني صديقك، فأتاه عمرو فأغلظ له.

فقال الهمداني في ذلك شعرا:

لعمر أبي معاوية بن حرب * وعمرو ما لدائهما دواء
سوى طعن يحار العقل فيه * وضرب حين تختلط الدماء
ولست بتابع دين ابن هند * طوال الدهر ما أرسى حراء
لقد ذهب العتاب فلا عتاب * وقد ذهب الولاء فلا ولاء
وقولي في حوادث كل خطب * على عمرو وصاحبه العفاء
ألا لله درك يا بن هند * لقد برح الخفاء فلا خفاء
أتحمون الفرات على رجال * وفي أيديهم الأسل الظماء
وفي الأعناق أسياف حداد * كأن القوم عندهم نساء
أترجو أن يجاوركم علي * بلا ماء وللأحزاب ماء
دعاهم دعوة فأجاب قوم * كجرب الإبل خالطها الهناء

قال: ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي عليه السلام (1).

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 320 - 321. ووقعة وصفين لنصر: ص 163 - 164

الصفحة 220

(433)
محمد بن أبي بكر وعمرو بن العاص ومعاوية

قال: (في مقتل محمد بن أبي بكر رحمه الله تعالى): إن عمرو بن العاص لما قتل كنانة أقبل نحو محمد بن أبي بكر، وقد تفرق عنه أصحابه، فخرج محمد متمهلا، فمضى في طريقه حتى انتهى إلى خربة فآوى إليها.

وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم: هل مر بهم أحد ينكرونه؟ قالوا: لا. قال أحدهم: إني دخلت تلك الخربة، فإذا أنا برجل جالس، قال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة! فانطلقوا يركضون حتى دخلوا على محمد، فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشا فأقبلوا به نحو الفسطاط.

قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص وكان في جنده، فقال: لا والله! لا يقتل أخي صبرا، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فأرسل عمرو بن العاص: أن ائتني بمحمد، فقال معاوية: أقتلتم كنانة بن بشر ابن عمي وأخلي عن محمد هيهات! " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ".

فقال محمد: اسقوني قطرة من الماء!

فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما محرما، فسقاه الله من الرحيق المختوم، والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن ويسقيك الله من الحميم والغسلين!

فقال له محمد: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك اليوم إليك ولا إلى عثمان، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه وهم أنت وقرناؤك ومن تولاك وتوليته، والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم.

فقال له معاوية بن حديج: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف هذا

الصفحة 221
الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار.

قال: إن فعلتم ذاك بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وأيم الله! إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها بردا وسلاما، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية وهذا - أشار إلى عمرو بن العاص - بنار تلظى كلما خبت زادها الله عليكم سعيرا.

فقال له معاوية بن حديج: إني لا أقتلك ظلما، وإنما أقتلك بعثمان بن عفان.

قال محمد: وما أنت وعثمان؟ رجل عمل بالجور وبدل حكم الله والقرآن وقد قال الله عز وجل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " فأولئك هم الظالمون " " فأولئك هم الفاسقون " فنقمنا عليه أشياء عملها، فأردنا أن يخلع من الخلافة علنا فلم يفعل، فقتله من قتله من الناس.

فغضب معاوية بن حديج فقدمه فضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار (1).

(434)
الأعرابي والحجاج

نزل الحجاج في يوم حار على بعض المياه ودعا بالغداء، وقال لحاجبه: انظر من يتغذى معي، واجهد ألا يكون من أهل الدنيا، فرأى الحاجب أعرابيا نائما عليه شملة من شعر، فضربه برجله وقال: أجب الأمير، فأتاه، فدعاه الحجاج إلى الأكل.

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 86 - 88، وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 256 و ج 7 ص 498، و راجع تفصيله في الغدير: ج 11 ص 64 وما بعدها

الصفحة 222
فقال: دعاني من هو خير من الأمير، فأجبته.

قال: من هو؟

قال: الله دعاني إلى الصوم فصمت.

قال: أفي هذا اليوم الحار؟

قال: نار جهنم أشد حرا.

قال: أفطر وتصوم غدا.

قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد!

قال: ليس ذلك إلي.

قال: فكيف أدع عاجلا لآجل لا تقدر عليه!

قال: إنه طعام طيب.

قال: إنك لم تطيبه ولا الخباز، ولكن العافية طيبته لك (1).

(435)
جعفر بن أبي طالب وعمرو عند النجاشي

عن أم سلمة بنت أبي أمية المخزومية زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله قالت:

لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله، لا نؤذى كما كنا نؤذى بمكة، ولا نسمع شيئا نكرهه.

فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في أمرنا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منه الأدم، فجمعوا أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 235، وبهج الصباغة: ج 11 ص 23 عن البيان للجاحظ، والعقد الفريد: ج 3 ص 444

الصفحة 223
بطريقا إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما:

إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم.

ثم قدما إلى النجاشي، ونحن عنده في خير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته، قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا للبطارقة:

إنه قد فر إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليه، فقالوا لهما: نعم.

ثم إنهما قربا هدايا الملك إليه فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له:

أيها الملك قد فر إلى بلادك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا فيهم إليك أشراف قومنا من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاينوه منهم.

قالت أم سلمة:

ولم يكن شئ أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم.

فقالت بطارقة الملك وخواصه حوله: صدقا أيها الملك! قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فليسلمهم الملك إليهما ليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب الملك، وقال: لا ها الله! إذا لا أسلمهم إليهما، ولا أخفر قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على سواي، حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني