(449)
الأشتر وأبو موسى
قال أبو جعفر: وأتت الأخبار عليا عليه السلام باختلاف الناس بالكوفة، فقال للأشتر: أنت شفعت في أبي موسى أن أقره على الكوفة، فاذهب فأصلح ما أفسدت.
فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة، فأقبل حتى دخلها والناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم، وقال: اتبعوني إلى القصر حتى وصل القصر فاقتحمه وأبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر ويثبطهم، وعمار يخاطبه والحسن عليه السلام يقول: اعتزل عملنا وتنح عن منبرنا، لا أم لك!
قال أبو جعفر: فروى أبو مريم الثقفي، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ، إذ دخل علينا غلمان أبي موسى يشتدون ويبادرون أبا موسى: أيها الأمير هذا الأشتر قد جاء فدخل القصر فضربنا وأخرجنا! فنزل أبو موسى من المنبر وجاء حتى دخل القصر، فصاح به الأشتر: أخرج من قصرنا لا أم لك! أخرج الله نفسك! فوالله إنك لمن المنفقين قديما. قال: أجلني هذه العشية، قال: قد أجلتك ولا تبيتن في القصر [ الليلة ] ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر، وقال: إني قد أخرجته وعزلته عنكم، فكف الناس حينئذ عنه (1).
(450)
محمد بن معد مع ابن أبي الحديد
قال: حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية - رحمه الله - في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان وستمائة، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي، فقرأ:
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 20 - 21، وبهج الصباغة: ج 6 ص 372 عن الطبري
فأشار ابن معد إلى: أن اسمع، فقلت: وما في هذا؟ قال: هذه كناية عنهما، فقلت: ويجوز ألا يكون عنهما لعله عن غيرهما، قال: ليس في الصحابة من يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما. قلت له: هذا وهم، فقال: دعنا من جدلك ومنعك، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما، وأنه لو كان غيرهما لذكره صريحا، وبان في وجهه التنكر من مخالفتي له (1).
(451)
قيس ومعاوية
قال أبو الفرج: فلما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة فجاءه، وكان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان في الأرض وما في وجهه طاقة شعر وكان يسمى خصي الأنصار، فلما أرادوا إدخاله إليه، قال: إني حلفت ألا ألقاه إلا وبيني وبينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه ليبر يمينه.
قال أبو الفرج: وقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف فارس: فأبي أن يبايع، فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع، فأقبل على الحسن، فقال: أفي حل أنا من بيعتك؟ قال: نعم، فألقى له
____________
(1) شرح النهج لابن الحديد: ج 15 ص 23 - 24
(452)
وليد بن جابر مع معاوية
روى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عمران المرزباني، قال: كان الوليد ابن جابر بن ظالم الطائي ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلم ثم صحب عليا عليه السلام وشهد معه صفين، وكان من رجاله المشهورين، ثم وفد على معاوية في الاستقامة، وكان معاوية لا يثبته معرفة بعينه، فدخل عليه في جملة الناس، فلما انتهى إليه استنسبه فانتسب له، فقال: أنت صاحب ليلة الهرير؟ قال: نعم، قال: والله ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة وقد علا صوتك أصوات الناس وأنت تقول:
قال: نعم أنا قائلها.
قال: فلما ذا قلتها؟
قال: لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة ولا فضيلة تصير إلى التقدمة إلا وهي مجموعة له، كان أول الناس سلما وأكثرهم علما وأرجحهم حلما، فات الجياد فلا يشق غباره، يستولي على الأمة فلا يخاف عثاره، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره، وسلك القصد فلا تدرس آثاره، فلما ابتلانا الله
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 16 ص 48
قال معاوية: وإنك لتهددني يا أخا طي بأوباش العراق! أهل النفاق ومعدن الشقاق.
فقال: يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق، وحبسوك في المضيق، وذادوك عن سفن الطريق، حتى لذت منهم بالمصاحف ودعوت إليها من صدق بها وكذبت وآمن بمنزلها وكفرت وعرف من تأويلها ما أنكرت.
فغضب معاوية وأدار طرفه فيمن حوله، فإذا جلهم من مضر ونفر قليل من اليمن، فقال: أيها الشقي الخائن! إني لأخال أن هذا آخر كلام تفوه به.
وكان عقير (عفيرة خ) بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ، فعرف موقف الطائي ومراد معاوية، فخافه عليهم فهجم عليهم الدار وأقبل على اليمانية فقال: شاهت الوجوه! ذلا وقلا وجدعا وقلا! كشم الله هذه الأنف كشما مرعبا.
ثم التفت إلى معاوية، فقال: إني والله يا معاوية ما أقول قولي هذا حبا لأهل العراق ولا جنوحا إليهم، ولكن الحفيظة تذهب الغضب، لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة - يعني صعصعة بن صوحان - وهو أعظم جرما عندك من هذا وأنكأ لقلبك وأقدح في صفاتك وأجد في عداوتك وأشد انتصارا في حربك، ثم أثبته وسرحته، وأنت الآن مجمع على قتل هذا - زعمت - استصغارا لجماعتنا، فإنا لا نمر ولا نحلى، ولعمري! لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر وذكرك الداثر وحدك المغلول وعرشك المثلول، فاربع على ظلعك واطونا على بلالتنا، ليسهل لك حزننا ويتطامن لك شاردنا،
فقال معاوية: الغضب شيطان، فاربع نفسك أيها الإنسان! فإنا لم نأت إلى صاحبك مكروها ولم نرتكب منه مغضبا ولم ننتهك منه محرما، فدونكه!
فإنه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره.
فأخذ عفير بيد الوليد وخرج به إلى منزلة وقال له: والله لتؤوبن بأكثر مما آب به معدي من معاوية! وجمع من بدمشق من اليمانية وفرض على كل رجل دينارين في عطائه فبلغت أربعين ألفا، فتعجلها من بيت المال ودفعها إلى الوليد ورده إلى العراق (1).
(453)
رجل من المنصور
قال الأحمدي: وجدت كلاما جديرا بأن ينقل وإن كان لعله خارج عن شرط الكتاب:
روى ابن قتيبة في كتاب " عيون الأخبار " قال: بينما المنصور يطوف ليلا بالبيت سمع قائلا يقول: " اللهم إليك أشكو ظهور البغي والفساد وما يحول بين الحق وأهله من الطمع ".
فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة. فقال المنصور: ما الذي سمعتك تقوله، من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني (2).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 129 ص 131.
(2) ارمضيني: أي شدد الحرارة علي (.)
قال: أنت آمن على نفسك، فقل.
فقال: إن الذي دخلها الطمع حتى حال بينه وبين إصلاح ما ظهر من البغي والفساد لأنت.
قال: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟
قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله عز وجل استرعاك المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجبا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، فقويتهم بالسلاح والرجال والكراع، وأمرت بألا يدخل عليك إلا فلان وفلان - نفر سميتهم - ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع والفقير، ولا الضعيف والعاري، ولا أحد ممن له في هذا المال حق، فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك، يجبون الأموال ويجمعونها ويحجبونها، وقالوا: هذا رجل قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخرنا! فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شئ إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه عندك وبغوه الغوائل حتى تسقط منزلته ويصغر قدره.
فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذو والقدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء شركاؤك في سلطنتك وأنت غافل، فإن جاء
ولقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة، وقد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا، فحداه جلساؤه على الصبر، فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة، ولكن أبكي للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إذ ذهب سمعي، فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما.
فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك، فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ماله في الأرض مال، وما من مال يومئذ إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي، ولكن الله يعطي من يشاء ما يشاء.
وإن قلت: إنما أجمع المال لتشييد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغني عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد.
وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه، انظر هل
فبكى المنصور! وقال:
ليتني لم أخلق، ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بقولهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك.
قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني!
قال: نعم خافوا أن تحملهم على طريقك، ولكن افتح بابك وسهل حجابك، وانظر المظلوم واقمع الظالم، وخذ الفئ والصدقات مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذنون فسلموا عليه ونادوا بالصلاة، فقام وصلى وعاد إلى مجلسه، فطلب الرجل فلم يوجد (1).
(454)
الأعرابي وسليمان بن عبد الملك
وقال ابن قتيبة في الكتاب المذكور: وقد قام أعرابي بين يدي سليمان ابن عبد الملك بنحو هذا، قال له:
إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام [ فيه بعض الغلظة ] فاحتمله إن
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 18 ص 144 - 147
قال: قل.
قال: إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحق الله، (1) إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم (2) فهم حرب الآخرة سلم الدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا والأمة خسفا وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره.
قال: فقال سليمان: أما أنت يا أعرابي فإنك قد سللت علينا عاجلا لسانك وهو أقطع سيفيك، فقال: أجل! لقد سللته، ولكن لك لا عليك (3).
(455)
صعصعة ومعاوية
سأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي عن قبائل قريش، فقال: إن قلنا غضبتم، وإن سكتنا غضبتم! فقال: أقسمت عليك. قال: فيمن يقول شاعركم:
____________
(1) وحق إمامتك (العقد).
(2) ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك (العقد) (3) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 18 ص 148 واللفظ له، والعقد الفريد: ج 3 ص 166، وعيون الأخبار: ج 2 ص 333.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 18 ص 289
(456)
يحيى بن عبد الله مع ابن مصعب
روى أبو الفرج علي بن الحسين الاصبهاني (في كتاب مقاتل الطالبيين): إن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام لما أمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم وصار إليه بالغ إليه في إكرامه وبره، فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري إلى الرشيد - وكان يبغضه - وقال له: إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا وحسن له نقض أمانه، فأحضره وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به ورفعه عليه، فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد وادعى عليه الحركة في الخروج وشق العصا.
فقال يحيى: يا أمير المؤمنين أتصدق هذا علي وتستنصحه وهو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك عبد الله وولده الشعب وأضرم عليهم النار، حتى خلصه أبو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام منه عنوة، وهو الذي ترك الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله أربعين جمعة في خطبته، فلما التاث عليه الناس قال: إن له أهيل سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره، فأكره أن أسرهم أو أقر أعينهم، وهو الذي كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتى ورم كبده فمات، ولقد ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت، فقال علي ابنه: أما ترى كبد هذه البقرة يا أبت؟ فقال: يا بني هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك.
ثم نفاه إلى الطائف، فلما حضرته الوفاة قال لابنه علي: يا بني إذا مت فالحق بقومك من بني عبد مناف بالشام ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة، فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير، ووالله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء، ولكنه قوي علي بك وضعف عنك، فتقرب بي إليك ليظفر منك بي ما يريد إذا لم يقدر على مثله
يحرض أخي فيها على الوثوب والنهوض إلى الخلافة، ويمدحه ويقول له:
فتغير وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر وتغيظ على ابن مصعب، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له وأنه لسديف.
فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا، وإن الله عز وجل إذا مجده العبد في يمينه فقال: " والله الطالب الغالب الرحمان الرحيم " استحيى أن يعاقبه، فدعني أن أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل.
فضرب يحيى بين كتفيه، وقال: يا بن مصعب قطعت عمرك، لا تفلح بعدها أبدا.
قالوا: فما برح من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام، استدارت عيناه وتفقأه وجهه، وقام إلى بيته، فتقطع وتشقق لحمه وانتثر شعره ومات بعد ثلاثة أيام، وحضر الفضل بن الربيع جنازته، فلما جعل في القبر انخسف اللحد به حتى خرجت منه غبرة شديدة! وجعل الفضل يقول: التراب التراب! فطرح التراب وهو يهوى فلم يستطيعوا سده حتى سقف بخشب وطم عليه.
فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل: أرأيت يا عباسي ما أسرع ما اديل ليحيى من ابن مصعب (1).
(457)
أبو دلف والمأمون
روى أبو الفرج الاصبهاني عن عبدوس بن أبي دلف، قال: حدثني أبي، قال: قال لي المأمون: يا قاسم أنت الذي يقول فيك علي بن جبلة:
" إنما الدنيا أبو دلف " البيتين.
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 19 ص 91 - 94، وراجع قاموس الرجال: ج 5 ص 452، و ج 6 ص 148 (.)
ومع قول بكر بن النطاح في:
قال: فلما انصرفت، قال المأمون لمن حوله: لله دره! حفظ هجاء نفسه حتى انتفع به عندي، وأطفأ لهيب المنافسة (1).
(458)
يحيى بن محمد مع ابن أبي الحديد
حضرت عند النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد، وعنده جماعة وأحدهم يقرأ في الأغاني لأبي الفرج، فمر ذكر المغيرة بن شعبة، وخاض القوم، فذمه بعض، وأثنى عليه بعضهم، وأمسك عنه آخرون.
فقال بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على رأي الأشعري: الواجب الكف والامساك عن الصحابة وعما شجر بينهم، فقد قال أبو المعالي الجويني: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن ذلك، وقال: " إياكم وما شجر بين صحابتي " وقال: " دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وقال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقال: " خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 19 ص 97 - 98
ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها، فلا يليق بنا أن نخوض فيها، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب [ أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه ومن المروءة ] أن يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في عائشة زوجته وفي الزبير ابن عمته وفي طلحة الذي وقاه بيده.
ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه؟
وأي ثواب في اللعنة والبراءة؟ إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف لم لم تلعن؟ بل قد يقول: لم لعنت؟ ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصيا ولا آثما، وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة " استغفر الله " كان خيرا له.
ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة؟ وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم؟ أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقاق أمور الملك وأحواله وشؤونه التي تجري بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه؟
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله صهرا لمعاوية وأخته أم حبيبة تحته، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة - وهي أم المؤمنين - في أخيها.
وكيف يجوز أن يلعن من جعل الله تعالى بينه وبين رسوله مودة؟ أليس المفسرون كلهم قالوا: هذه الآية أنزلت في أبي سفيان وآله، وهي قوله تعالى:
فقال أبو جعفر - رحمه الله -:
قد كنت منذ أيام علقت بخطي كلاما وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى نقضا وردا على أبي المعالي الجويني فيما اختاره لنفسه من هذا الرأي، وأنا أخرجه إليكم لاستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا الفقيه، فإني أجد ألما يمنعني من الاطالة في الحديث، لا سيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم. ثم أخرج من بين كتبه كراسا قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون، وأنا أذكر هاهنا خلاصة:
قال: لولا أن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه كما أوجب موالاة أوليائه، وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها أو صح الخبر عنها بقوله:
سبحانه: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " وبقوله تعالى: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " وبقوله سبحانه: " لا تتولوا قوما غضب الله عليهم "، ولاجماع المسلمين على أن الله تعالى فرض عداوة أعدائه وولاية أوليائه، وعلى أن البغض في الله واجب والحب في الله واجب، لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ولا البراءة منه، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا.
ولو ظننا أن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا: " يا رب غاب أمرهم عنا فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى " لاعتمدنا على هذا العذر
فأما لفظة " اللعن " فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها، ألا ترى إلى قوله:
" أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " فهو إخبار معناه الأمر، كقوله:
" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " وقد لعن الله العاصين بقوله:
" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " وقوله: " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا " وقوله:
" ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " وقال الله تعالى لإبليس: " وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " وقال: " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ".
فأما قول من يقول: أي ثواب في اللعن؟ وأن الله تعالى لا يقول للمكلف: " لم لم تلعن؟ " بل قد يقول له: " لم لعنت؟ " وأنه لو جعل مكان " لعن الله فلانا " " اللهم اغفر لي " لكان خيرا له، ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك، فكلام جاهل لا يدري ما يقول.
اللعن طاعة ويستحق عليها الثواب إذا فعلت على وجهها، وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفي الله، لا في العصبية والهوى، إلا أن الشرع قد ورد بها في نفي الولد ونطق بها القرآن، وهو أن يقول الزوج في الخامسة " إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين " فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وأنه قد تعبدهم بها، لما جعلها من معالم الشرع، ولما كررها في كثير
وكيف يقول القائل: إن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن؟ ألا يعلم هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوليائه وأمر بعداوة أعدائه؟ فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري، ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بأن يقال له:
تلفظ بكلمة الشهادتين ثم قل: برئت من كل دين يخالف دين الإسلام؟
فلا بد من البراءة، لأن بها يتم العمل ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:
فمودة العدو خروج عن ولاية الولي، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة، لأنه لا يجوز أن يكون الإنسان في درجة متوسطة مع أعداء الله وعصاته - بألا يودهم ولا يبرأ منهم - بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة.
وأما قوله: " لو جعل عوض اللعنة استغفر الله لكان خيرا له " فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه، لأنه يكون عاصيا لله تعالى مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه البراءة وإظهار البراءة منه، والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الآخر.
وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس: فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو
قال: ثم يقال للمخالفين: أرأيتم لو قال قائل: قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، فليس ينبغي أن نخوض في قصتهما ولا أن نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما، هل كان هذا إلا كقولكم: قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة بن شعبة وأضرابهما فليس لخوضنا في قصتهم معنى؟
وبعد، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه وقد غاب عنكم؟ وبرئتم من قتلته ولعنتموهم؟
وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه؟ فإنكم لعنتموه وفسقتموه، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر علي والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقه وحقوقهما.
وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم، ولعن ظالم علي والحسن والحسين تكلفا؟!
وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها ومن القائل لها: يا حميراء أو إنما هي حميراء، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها؟!
فإن قلتم: إن بيت فاطمة إنما دخل وسترها إنما كشف حفظا لنظام
الإسلام وكي لا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة