الصفحة 260
ولزوم الجماعة.

قيل لكم: وكذلك ستر عائشة إنما كشف وهودجها إنما هتك لأنها نشرت حبل الطاعة وشقت عصا المسلمين وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول علي ابن أبي طالب عليه السلام إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير. فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد، جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار والبراءة من فاعله ومن أوكد عرى الإيمان، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها وتهددها بالتحريق من أوكد عرى الدين وأثبت دعائم الإسلام ومما أعز الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة؟! والحرمتان واحدة والستران واحد.

وما نحب أن نقول لكم: إن حرمة فاطمة أعظم ومكانها أرفع وصيانتها لأجل رسول الله صلى الله عليه وآله أولى، فإنها بضعة منه وجزء من لحمه ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنما هي وصلة مستعارة، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة وكما يملك رق الأمة بالبيع والشراء. ولهذا قال الفرضيون: أرباب التوارث ثلاثة: سبب ونسب وولاء، فالنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء: ولاء العتق، فجعلوا النكاح خارجا عن النسب، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة:

قسمين.

وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة وقد أجمع المسلمون كلهم - من يحبها ومن لا يحبها منهم - أنها سيدة نساء العالمين؟

قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في زوجته وحفظ أم حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه

الصفحة 261
عليه وآله في أهل بيته؟

ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في صهره وابن عمه عثمان بن عفان، وقد قتلوهم ولعنوهم، ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة! منهم عائشة، كانت تقول: اقتلوا لعنة الله نعثلا!

ومنهم عبد الله بن مسعود.

وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء يرزقون بالعراق، وهو يلعنهم بالشام على المنابر ويقنت عليهم في الصلوات.

وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي وبرئا منه وأخرجاه من المدينة إلى الشام.

ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة.

وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.

قال: ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن، لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم، فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبي وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين، وأن يحفظ معاوية، فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة وقاتل الحسين ومخيف المسجد الحرام بمكة، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان والمحارب عليا عليه السلام في صفين.

قال: على أنه لو كان الإمساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف، ولكن محبة رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يضع أحدهم محبته لصاحبه موضع العصبية، وإنما أوجب رسول الله صلى الله عليه

الصفحة 262
وآله محبة أصحابه لطاعتهم لله، فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم له، فليس عند رسول الله صلى الله عليه وآله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبتهم، ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم.

فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب أن يعادي أعداء الله ولو كانوا عترته، كما يحب أن يوالى أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه، والشاهد على ذلك إجماع الأمة على أن الله تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر بذلك ودعا إليه.

وذلك: أنه صلى الله عليه وآله قد أوجب قطع يد السارق، وضرب القاذف، وجلد البكر إذا زنى وإن كان من المهاجرين أو الأنصار. ألا ترى أنه قال: لو سرقت فاطمة لقطعتها، فهذه ابنته الجارية مجرى نفسه لم يحابها في دين الله ولا راقبها في حدود الله. وقد جلد أصحاب الإفك، ومنهم مسطح بن أثاثة وكان من أهل بدر.

قال: وبعد، فلو كان محل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله محل من لا يعادى إذا عصى الله سبحانه ولا يذكر بالقبيح، بل يجب أن يراقب لأجل اسم الصحبة ويغضى عن عيوبه وذنوبه، لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لما اتبع هواه، فانسلخ مما أوتي من الآيات وغوى، قال سبحانه: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " ولكان ينبغي أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب موسى هذا المحل، لأن هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل الله سبحانه.

قال: ولو كانت الصحابة عند أنفسها بهذه المنزلة لعلمت ذلك من حال أنفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وإذا قدرت أفعال بعضهم

الصفحة 263
ببعض دلتك على أن القصة كانت على خلاف ما قد سبق إلى قلوب الناس اليوم.

هذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت وجميع من كان مع علي عليه السلام من المهاجرين والأنصار لم يروا أن يتغافلوا عن طلحة والزبير حتى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة، ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي حتى قصدوا له كما يقصد للمتغلبين في زماننا.

وهذا معاوية وعمرو لم يريا عليا بالعين التي يرى بها العامي صديقه أو جاره، ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ولعنه ولعن أولاده وكل من كان حيا من أهله وقتل أصحابه. وقد لعنهما هو أيضا في الصلوات المفروضات، ولعن معهما أبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري وكلاهما من الصحابة.

وهذا سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وسعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر وحسان بن ثابت وأنس بن مالك، لم يروا أن يقلدوا عليا في حرب طلحة، ولا طلحة في حرب علي، وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين، لأنهم زعموا أنهم قد خافوا أن يكون علي قد غلط وزل في حربهما، وخافوا أن يكونا قد غلطا وزلا في حرب علي.

وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بأهل الخنا والريب، وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما - بزعمهما - منه ما وعظاه لأجله، ثم فعل بهما عثمان ما تناهى إليكم، ثم فعل القوم بعثمان ما قد علمهم وعلم الناس كلهم.

وهذا عمر يقول في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو: ها أني ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم، وزعم أنه وأبو بكر كانا يقولان: إن عليا والعباس في قصة الميراث زعماهما كاذبين

الصفحة 264
ظالمين فاجرين، وما رأينا عليا والعباس اعتذرا ولا تنصلا، ولا نقل أحد من أصحاب الحديث ذلك، ولا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أنكروا عليهما ما حكاه عمر عنهما ونسبه إليهما. ولا أنكروا أيضا على عمر قوله في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: إنهم يريدون إضلال الناس ويهمون به.

ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار، ولا كسر ضلع ابن مسعود، ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان، كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة، ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما يعتقده العامة فيها. اللهم إلا أن يزعموا أنهم أعرف بحق القوم منهم!

وهذا علي وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة يكذبون الرواية:

" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " ويقولون: إنها مختلقة.

قالوا: وكيف كان النبي صلى الله عليه وآله يعرف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا ونحن الورثة؟ ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه.

وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنهم النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض، ثم يأمر بضرب أعناقهم إن أخروا فصل حال الإمامة، هذا بعد أن ثلبهم وقال في حقهم ما لو سمعته العامة اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان، ثم شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه. فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضا، فعمر بن الخطاب أرفض الناس وإمام الروافض كلهم.

ثم ما شاع واشتهر من قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. وهذا طعن في العقد وقدح في البيعة الأصلية.

ثم ما نقل عنه: من ذكر أبي بكر في صلاته وقوله عن عبد الرحمن ابنه: دويبة سوء، ولهو خير من أبيه.


الصفحة 265
ثم عمر القائل في سعد بن عبادة وهو رئيس الأنصار وسيدها: اقتلوا سعدا قتل الله سعدا، اقتلوه فإنه منافق!

وقد شتم أبا هريرة وطعن في روايته، وشتم خالد بن الوليد وطعن في دينه، وحكم بفسقه وبوجوب قتله، وخون عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفئ واقتطاعه.

وكان سريعا إلى المساءة، كثير الجبه والشتم والسب لكل أحد، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه أو يده، ولذلك أبغضوه وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها.

فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة؟ إما أن يكون عمر مخطئا وإما أن تكون العامة على الخطأ.

فإن قالوا: عمر ما شتم ولا ضرب ولا أساء إلا إلى عاص مستحق لذلك.

قيل لهم: فكأنا نحن نقول: إنا نريد أن نبرأ ونعادي من لا يستحق البراءة والمعاداة، كلا! ما قلنا هذا ولا يقول هذا مسلم ولا عاقل.

وإنما غرضنا الذي إليه نجري بكلامنا هذا أن نوضح أن الصحابة قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم من المسلمين كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات فقربت اعتقاداتهم من الضرورة، ونحن لم نشاهد ذلك فكانت عقائدنا محض النظر والفكر وبعرضية الشبه والشكوك فمعاصينا أخف لأنا أعذر.

ثم نعود إلى ما كنا فيه فنقول:

وهذه عائشة أم المؤمنين خرجت بقميص رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت للناس: هذا قميص رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته! ثم تقول:


الصفحة 266
اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا! ثم لم ترض بذلك حتى قالت: أشهد أن عثمان جيفة على الصراط غدا. فمن الناس من يقول: روت في ذلك خبرا، ومن الناس من يقول: هو موقوف عليها، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقا.

ثم قد حصر عثمان، حصرته أعيان الصحابة، فما كان أحد ينكر ذلك ولا يعظمه ولا يسعى في إزالته، وإنما أنكروا على من أنكر على المحاصرين له، وهو رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم من أشرافهم، ثم هو أقرب إليه من أبي بكر وعمر، وهو مع ذلك إمام المسلمين والمختار منهم للخلافة، وللإمام حق على رعيته عظيم. فإن كان القوم قد أصابوا، فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها به العامة، وإن كانوا ما أصابوا فهذا هو الذي نقول من أن الخطأ جائز على آحاد الصحابة، كما يجوز على آحادنا اليوم ولسنا نقدح في الإجماع، ولا ندعي إجماعا حقيقيا على قتل عثمان، وإنما نقول: إن كثيرا من المسلمين فعلوا ذلك، والخصم يسلم أن ذلك كان خطأ ومعصية، فقد سلم أن الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي وهو المطلوب.

وهذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة ادعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال: هذا محال باطل لأن هذا صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله لا يجوز عليه الزنا، وهلا أنكر عمر على الشهود وقال لهم: ويحكم! هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك، فإن الله تعالى قد أوجب الامساك عن مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وأوجب الستر عليهم!! وهلا تركتموه لرسول الله صلى الله عليه وآله في قوله: " دعوا لي أصحابي "؟ ما رأينا عمر إلا قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة الشهادة وأقبل يقول للمغيرة: يا مغيرة ذهب ربعك! يا مغيرة ذهب نصفك!

يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك! حتى اضطرب الرابع، فجلد الثلاثة. وهلا قال

الصفحة 267
المغيرة لعمر: كيف تسمع في قول هؤلاء وليسوا من الصحابة وأنا من الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وآله قد قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "؟ ما رأيناه قال ذلك بل استسلم لحكم الله تعالى.

وهاهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل، قدامة بن مظعون، لما شرب الخمر في أيام عمر فأقام عليه الحد، وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر والمشهود لهم بالجنة فلم يرد عمر الشهادة ولا درأ عنه الحد لعلة أنه بدري ولا قال: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله من ذكر مساوئ الصحابة.

وقد ضرب عمر أيضا ابنه حدا فمات، وكان ممن عاصر رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحد عليه.

وهذا علي عليه السلام يقول: ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا استحلفته عليه، أليس هذا اتهاما لهم بالكذب؟ وما استثنى أحدا من المسلمين إلا أبا بكر - على ما ورد في الخبر - وقد صرح غير مرة بتكذيب أبي هريرة، وقال: لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال أبو بكر في مرضه الذي مات فيه: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أغلق على حرب، فندم، والندم لا يكون إلا عن ذنب.

ثم ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي عليه السلام عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة، فإن كان مصيبا فأبو بكر على الخطأ في انتصابه في الخلافة، وإن كان أبو بكر مصيبا فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد.

ثم قال أبو بكر في مرض موته أيضا للصحابة: فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم لذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له لما رأيتم الدنيا قد جاءت، أما والله! لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير.

أليس هذا طعنا في الصحابة وتصريحا بأنه قد نسبهم إلى الحسد لعمر لما نص

الصفحة 268
عليه بالعهد؟

ولقد قال له طلحة لما ذكر عمر للأمر: ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده وقد وليت عليهم فظا غليظا؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أجلسوني بالله تخوفني! إذا سألني قلت: وليت عليهم خير أهلك، ثم شتمه بكلام كثير منقول.

فهل قول طلحة إلا طعن في عمر؟ وهل قول أبي بكر إلا طعن في طلحة؟

ثم الذي كان بين أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود من السباب، حتى نفى كل واحد منهما الآخر عن أبيه، وكلمة أبي بن كعب مشهورة منقولة: ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم. وقوله: ألا هلك أهل العقيدة، والله ما آسى عليهم إنما على من يضلون من الناس.

ثم قول عبد الرحمن بن عوف: ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان: يا منافق. وقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي. وقوله: اللهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك فافعل به وافعل.

وقال عثمان لعلي عليه السلام في كلام دار بينهما: أبو بكر وعمر خير منك، فقال علي: كذبت أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما.

وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قال: كنت عند عروة بن الزبير، فتذاكرنا كم أقام النبي بمكة بعد الوحي؟ فقال عروة: أقام عشرا.

فقلت: كان ابن عباس يقول: ثلاث عشرة. فقال: كذب ابن عباس.

وقال ابن عباس: المتعة حلال. فقال له جبير بن مطعم: كان عمر ينهى عنها. فقال: يا عدي نفسه من هاهنا ضللتم، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وتحدثني عن عمر!

وجاء في الخبر عن علي عليه السلام: لولا ما فعل عمر بن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي. وقيل: ما زنى إلا شفا، أي قليلا.


الصفحة 269
فأما سب بعضهم بعضا وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية فأكثر من أن يحصى، مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه القول في الفرائض: إن شاء - أو قال: من شاع - باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟

ومثل قول أبي بن كعب في القرآن: لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب.

وقال علي عليه السلام في أمهات الأولاد وهو على المنبر: كان رأيي ورأي عمر ألا يبعن، وأنا أرى الآن بيعهن. فقام إليه عبيدة السلماني فقال:

رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة.

وكان أبو بكر يرى التسوية في قسم الغنائم، وخالفه عمر وأنكر فعله.

وأنكرت عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وقالت: فروج يصقع مع الديكة.

وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف، وسفهوا رأيه حتى قيل: إنه تاب من ذلك عند موته.

واختلفوا في حد شارب الخمر حتى خطأ بعضهم بعضا.

وروى بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار والفرس. فأنكرت عائشة ذلك وكذبت الراوي، وقالت:

إنه إنما قال عليه السلام ذلك حكاية عن غيره.

وروى بعض الصحابة عنه عليه السلام أنه قال: التاجر فاجر. فأنكرت عائشة ذلك وكذبت الراوي، وقالت: إنما قال عليه السلام في تاجر دلس.

وأنكر قوم من الأنصار رواية أبي بكر: " الأئمة من قريش " ونسبوه إلى افتعال هذه الكلمة.


الصفحة 270
وكان أبو بكر يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة، كبلال وصهيب ونحوهما، قد روي ذلك في عدة قضايا.

وقيل لابن عباس: إن عبد الله بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. فقال: كذب عدو الله! أخبرني أبي بن كعب قال:

خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر كذا بكلام يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل.

وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عن ذلك. فقال معاوية: أما أنا فلا أرى به بأسا. فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية! أخبره عن الرسول صلى الله عليه وآله وهو يخبرني عن رأيه، والله لا أساكنك بأرض أبدا.

وطعن ابن عباس في أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الإناء حتى يتوضأ " وقال: " فما نصنع بالمهراس ".

وقال علي عليه السلام لعمر - وقد أفتاه الصحابة في مسألة وأجمعوا عليها -:

إن كانوا راقبوك فقد غشوك، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا.

وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا!

وقالت عائشة: أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله.

وأنكرت الصحابة على أبي موسى قوله: " إن النوم لا ينقض الوضوء " ونسبته إلى الغفلة وقلة التحصيل. وكذلك أنكرت على أبي طلحة الأنصاري قوله: " إن أكل البرد لا يفطر الصائم " وهزئت به ونسبته إلى الجهل.

وسمع عمر عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في

الصفحة 271
الثوب الواحد فصعد المنبر وقال: إذا اختلف اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع رجلين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت.

وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة، وعلي عليه السلام يأمر بها، فقلت: إن بينكما لشرا. فقال علي عليه السلام: ليس بيننا إلا الخير ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين.

قال هذا المتكلم: وكيف يصح أن يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "؟ لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى، وأن يكون أهل العراق أيضا على هدى، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتديا! وقد صح الخبر الصحيح أنه قال له:

" تقتلك الفئة الباغية " وقال في القرآن: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " فدل على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي مفارقة لأمر الله، ومن يفارق أمر الله لا يكون مهتديا.

وكان يجب أن يكون بسر بن أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن عباس الصغيرين مهتديا، لأن بسرا من الصحابة أيضا.

وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليا أدبار الصلاة وولديه مهتديين.

وقد كان في الصحابة من يزني ومن يشرب الخمر - كأبي محجن الثقفي - ومن يرتد عن الإسلام - كطليحة بن خويلد - فيجب أن يكون كل من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتديا!

قال: وإنما هذا من موضوعات متعصبة الأموية، فإن لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.

وكذا القول في الحديث الآخر، وهو قوله: " القرن الذي أنا فيه " ومما يدل

الصفحة 272
على بطلانه: أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، وهو أحد القرون التي ذكرها في النص، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين، وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه والمنتصبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور كما جرى ليزيد بن معاوية، وليزيد بن عاتكة، وللوليد بن يزيد، وأريقت الدماء الحرام، وقتل المسلمون، وسبي الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجاج.

وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرا كلها لا خير فيها، ولا في رؤسائها وأمرائها، والناس برؤوسائهم وأمرائهم، والقرن خمسون سنة فكيف يصح هذا الخبر؟

قال: فأما ما ورد في القرآن من قوله تعالى: " لقد رضي الله عن المؤمنين " وقوله: " محمد رسول الله والذين معه ".

وقول النبي صلى الله عليه وآله: " إن الله اطلع على أهل بدر " إن كان الخبر صحيحا فكله مشروط بسلامة العاقبة، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفا غير معصوم بأنه لا عقاب عليه، فليفعل ما شاء.

قال هذا المتكلم: ومن أنصف وتأمل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا يجوز عليهم ما يجوز علينا، ولا فرق بيننا وبينهم إلا بالصحبة لا غير، فإن لها منزلة وشرفا، ولكن لا إلى حد يمتنع على كل من رأى الرسول أو صحبه يوما أو شهرا أو أكثر من ذلك أن يخطأ ويزل. ولو كان هذا صحيحا ما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء، بل كان رسول الله صلى الله عليه وآله من أول يوم يعلم كذب أهل الإفك، لأنها زوجته وصحبتها له آكد من صحبة غيرها، وصفوان بن المعطل أيضا كان من الصحابة، فكان ينبغي ألا يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يحمل ذلك الهم والغم الشديدين اللذين

الصفحة 273
حملهما، ويقول: صفوان من الصحابة وعائشة من الصحابة والمعصية عليهما ممتنعة.

وأمثال هذا كثير وأكثر من الكثير لمن أراد أن يستقرئ أحوال القوم. وقد كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم مثل هذا القول، وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك.

قال: ومن الذي يجترئ على القول بأن أصحاب محمد لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول الله تعالى للذي شرفوا برؤيته: " لئن أشركت ليحبطن عملك وتكونن من الخاسرين " بعد قوله: " قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " وبعد قوله: " فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد "؟ إلا من لا فهم له ولا نظر معه ولا تمييز عنده.

قال: ومن أحب أن ينظر إلى اختلاف الصحابة وطعن بعضهم في بعض ورد بعضهم على بعض، وما رد به التابعون عليهم واعترضوا به أقوالهم واختلاف التابعين أيضا فيما بينهم وقدح بعضهم في بعض، فلينظر في كتاب النظام.

قال الجاحظ: كان النظام أشد الناس إنكارا على الرافضة، لطعنهم على الصحابة حتى إذا ذكر الفتيا وتنقل الصحابة فيها وقضاياهم بالأمور المختلفة وقول من استعمل الرأي في دين الله انتظم مطاعن الرافضة وغيرها وزاد عليها، وقال في الصحابة أضعاف قولها.

قال: وقال بعض رؤساء المعتزلة: غلط أبي حنيفة في الأحكام عظيم، لأنه أضل خلقا. وغلط حماد أعظم من غلط أبي حنيفة، لأن حمادا أصل أبي حنيفة الذي منه تفرع. وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حماد، لأنه أصل حماد.

وغلط علقمة والأسود أعظم من غلط إبراهيم، لأنهما أصله الذي عليه اعتمد.

وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا، لأنه أول من بدر إلى وضع

الصفحة 274
الأديان برأيه، وهو الذي قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني.

قال: واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة بخراسان - حيث كان مع الرشيد بن المهدي - فسألوه كتابه الذي صنفه على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي، فقال: لست على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب، وإنما كتبته على علقمة والأسود وعبد الله بن مسعود، لأنهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة.

قال: وكان بعض المعتزلة أيضا إذا ذكر ابن عباس استصغره وقال:

صاحب الذؤابة يقول في دين الله برأيه.

وذكر الجاحظ في كتاب المعروف ب " كتاب التوحيد ": أن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ولم يكن علي عليه السلام يوثقه في الرواية، بل يتهمه ويقدح فيه، وكذلك عمر وعائشة.

وكان الجاحظ يفسق عمر بن عبد العزيز ويستهزئ به ويكفره، وعمر بن عبد العزيز وإن لم يكن من الصحابة، فأكثر العامة يرى له من الفضل ما يراه لواحد من الصحابة.

وكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد من الصحابة عدل؟ ومن جملة الصحابة: الحكم بن أبي العاص وكفاك به عدوا ومبغضا لرسول الله صلى الله عليه وآله. ومن الصحابة الوليد بن عقبة الفاسق بنص الكتاب.

ومنهم حبيب بن مسلمة الذي فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية. وبسر بن أرطاة عدو الله وعدو رسوله. وفي الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم الناس.

وقال كثير من المسلمين: مات رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يعرفه الله سبحانه كل المنافقين بأعيانهم، وإنما كان يعرف قوما منهم ولم يعلم بهم أحدا إلا حذيفة فيما زعموا، فكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد ممن صحب رسول الله أو رآه أو عاصره عدل مأمون لا يقع منه خطأ ولا

الصفحة 275
معصية؟ ومن الذي يمكنه أن يتحجر واسعا كهذا التحجر أو يحكم هذا الحكم؟

قال: والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث! إذ يجادلون على معاصي الأنبياء ويثبتون أنهم عصوا الله تعالى، وينكرون على من ينكر ذلك ويطعنون فيه ويقولون: قدري معتزلي، وربما قالوا: ملحد مخالف لنص الكتاب، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب، فتارة يقولون: إن يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة، وتارة يقولون: إن داود قتل أوريا لينكح امرأته، وتارة يقولون: إن رسول الله كان كافرا ضالا قبل النبوة، وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر.

فأما قدحهم في آدم عليه السلام وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من يذكر ذلك فهو دأبهم وديدنهم، فإذا تكلم واحد في عمرو بن العاص أو في معاوية وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح احمرت وجوههم وطالت أعناقهم وتخازرت أعينهم وقالوا: مبتدع رافضي يسب الصحابة ويشتم السلف!

فإن قالوا: إنما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب، قيل لهم:

فاتبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب، فإنه تعالى قال: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " وقال: " فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " وقال: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ".

ثم يسألون عن بيعة علي عليه السلام هل هي صحيحة لازمة لكل الناس؟ فلا بد من بلى، فيقال لهم: فإذا خرج على الإمام الحق خارج أليس يجب على المسلمين قتاله حتى يعود إلى الطاعة؟ فهل يكون هذا القتال إلا البراءة التي نذكرها، لأنه لا فرق بين الأمرين، وإنما برئنا منهم لأنا لسنا في زمانهم فيمكننا أن نقاتل بأيدينا، فقصارى أمرنا الآن أن نبرأ منهم ونلعنهم، وليكون ذلك عوضا عن القتال الذي لا سبيل لنا إليه.


الصفحة 276
قال هذا المتكلم: على أن النظام وأصحابه ذهبوا أنه لا حجة في الإجماع وأنه يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ والمعصية وعلى الفسق بل على الردة. وله كتاب موضوع في الإجماع يطعن فيه أدلة الفقهاء، ويقول: إنها ألفاظ غير صريحة في كون الإجماع حجة، نحو قوله: " جعلناكم أمة وسطا " وقوله: " كنتم خير أمة " وقوله: " ويتبع غير سبيل المؤمنين ".

وأما الخبر الذي صورته: " لا تجتمع أمتي على الخطأ " فخبر واحد. وأمثل دليل للفقهاء قولهم: إن الهمم المختلفة والآراء المتباينة إذا كان أربابها كثيرة عظيمة، فإنه يستحيل اجتماعهم على الخطأ، وهذا باطل باليهود و النصارى وغيرهم من فرق الضلال (1).

هذه خلاصة ما كتبه النقيب أبو جعفر علقه بخطه على الجزء الذي أقرأناه.

(459)
الأحنف ومعاوية

سأل معاوية الأحنف عن أشعر الشعراء؟ فقال: زهير. قال: وكيف ذاك؟

قال: ألقى على المادحين فضول الكلام وأخذ خالصه وصفوته. قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله:

وما يك من خير أتوه فإنما * توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه * وتغرس إلا في منابتها النخل (2)

(460)
محمد بن الحنفية وعبد الله بن الزبير

قال: ونظر عبد الله بن الزبير أنه قد صفت له العراقان جميعا والبصرة

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 20 ص 10 - 34.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 20 ص 156

الصفحة 277
والكوفة بقتل المختار بن أبي عبيد وعبيد الله بن الحر، فأرسل إلى محمد بن الحنفية بأخيه عروة بن الزبير: أن هلم فبايع، فقد قتل الله الكذاب وابن الحر المرتاب، والأمة قد استوسقت، والبلاد قد افتتحت، فادخل فيما دخل فيه الناس من أمر البيعة، وإلا فإننا منابذوك.

قال: فغضب محمد بن الحنفية من ذلك، ثم أقبل على عروة بن الزبير، فقال: بؤسا لأخيك! ما ألجه في إسخاط الله وأغفله عن طاعة الله! أنا أبايع أخاك وعبد الملك بن مروان بالشام يرعد ويبرق؟

قال: ثم وثب رجل من أصحابه، فقال: جعلت فداك! يا ابن أمير المؤمنين علي الرضي وابن عم النبي، والله ما الرأي عندنا إلا أن توثق هذا الساعة في الحديد وتحبسه عندك، فإن أمسك عنك أخاه وبعث بالرضا، وإلا قدمت هذا فضربت عنقه.

فقال محمد بن الحنفية: سبحان الله! أو يكون هذا الذي ذكرت من أعمال الجبابرة وأهل الغدر؟ معاذ الله أن نقتل من لم يقتلنا أو نبدأ بقتال من لم يقاتلنا.

قال: ثم أقبل ابن الحنفية على عروة بن الزبير، فقال له: انطلق إلى أخيك هذا فقل له عني: إنك ذكرت أنه قد استوسق لك الناس وفتحت لك البلاد، وهذا عبد الملك بن مروان حي قائم يدعى له بالشامات كلها وأرض مصر، وفي يده مفاتيح الخلافة، ولست أدري ما يكون من الحدثان، فإذا علمت أنه ليس أحد يناويك في سلطانك بايعتك ودخلت في طاعتك والسلام.

قال: فرجع عروة إلى أخيه عبد الله، فأخبره بذلك.

قال: ثم قام محمد بن الحنفية في أصحابه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس! إن هذه الأمة قد ضلت عن رسول الله صلى الله عليه وآله في ربها وتاهت عن معالم دينها، إلا قليلا منها، فهم يرتعون في هذه الدنيا حتى

الصفحة 278
كأنهم لها خلقوا، وقد نسوا الآخرة حتى كأنهم بها لم يؤمروا، فهم يضلون على الدنيا أنفسهم، ويقطعون فيها أرحامهم، ويفرطون لها عن سنة نبيهم، ولا يبالون ما أتوه فيها من نقص دينهم إذا سلمت لهم دنياهم. اللهم فلا تنسنا ذكرك، ولا تؤمنا مكرك، ولا تجعل الدنيا لنا هما، ولا تحرمنا صحبة الصالحين في دار السلام.

قال: ثم أقبل على أصحابه، فقال:

إني أرى ما بكم من الجهد، ولو كان عندي فضل لم أدخره عنكم، وقد تعلمون ما ألقى من هذا الرجل الذي قرب دماؤه وساء جواره، وظهرت عداوته واشتدت ظغينته، يريد أن يثور بنا في مكاننا هذا، وقد أذنت لمن أحب منكم أن ينصرف إلى بلاده، فإنه لا لوم عليه مني، وأنا مقيم في هذا الحرم أبدا حتى يفتح الله لي، وهو خير الفاتحين.

قال: فقام إليه أبو عبد الله الجدلي - وكان من خيار أصحابه - فقال:

سبحان الله! يا أبا القاسم، نحن نفارقك على هذه الحالة وننصرف عنك!

لا والله! ما سمعنا إذا ولا أبصرنا ما نقلنا أقدامنا وثبتت قوائم سيوفنا في أكفنا، وعقلنا عن الله أمرنا ونهينا.

قال: ثم وثب عبد الله بن سلع الهمداني، فقال:

ثكلتني أمي وعدمتني إن أنا فارقتك وانصرفت عنك إلى أحد من الناس هو خير منك أو شبيه بك، والله ما نعلم مكان أحد هو أصلح منك في وقتنا هذا، ولكن نصير معك، فإن نمت فمجدا، وإن نقتل فشهداء، ولا والله لئن أقتل معك على بصيرة محتسبا لنفسي أحب إلي من أن أوتى أجر عشرين شهيدا معك.

قال: ثم وثب محمد بن بشر الشاكري، فقال:

يا ابن خير الأخيار وابن أبر الأبرار ما خلا النبيين والمرسلين، والله لئن