قال: فقال لهم محمد بن الحنفية: جزاكم الله من صحابة خير ما جزى الصالحين الصابرين.
قال: وجد عبد الله بن الزبير في عداوة محمد بن الحنفية، كل ذلك ليبايع ابن الحنفية، وهو يأبى ذلك.
قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فكتب إلى محمد بن الحنفية:
أما بعد، فقد بلغني ما به ابن الزبير مما لست له أهل، وأنا عن قليل سائر إليه إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فانظر إذا قرأت كتابي هذا، فسر إلى ما قبلي أنت ومن معك من شيعتك، وانزل حيث شئت من أرض الشام آمنا مطمئنا إلى أن يستقيم أمر الناس فنختار أي الخصال أحببت، والسلام.
قال: فعندها عزم محمد بن الحنفية على المسير إلى الشام، وكتب عبد الله بن عباس إلى عبد الملك بن مروان:
أما بعد، فإنه قد توجه إلى بلادك رجل منا: لا يبدأ بالسوء، ولا يكافئ على الظلم، لا بعجول ولا بجهول، سريع إلى الحق، أصم عن الباطل، ينوي العدل، ويعاف الحيف، ومعه نفر من أهل بيته وعدة من رجال شيعته، لا يدخلون دارا إلا بإذن، ولا يأكلون إلا بثمن، رهبان بالليل ليوث بالنهار، فاحفظنا فيهم رحمك الله! فإن ابن الزبير قد نابذنا ونابذناه بالعداوة، والسلام.
قال: فكتب إليه عبد الملك بن مروان:
قال: فعندنا تجهز محمد بن الحنفية وخرج من مكة فيمن معه من أهل بيته وأصحابه، وبين يديه رجل من شيعته يرتجز ويقول أبياتا مطلعها
إلى آخرها.
قال: ثم جعل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني يرتجز أيضا بين يدي محمد ابن الحنفية، وهو يقول أبياتا مطلعها:
إلى آخرها.
قال: ثم سار محمد بن الحنفية حتى صار إلى مدينة مدين وبها يومئذ عامل من قبل عبد الملك بن مروان يقال له: " مطهر بن يحيى العتكي " فلما نظر هؤلاء القوم أمر بباب المدينة فأغلق ولقي من ناحيتهم، فناداهم أصحاب محمد: يا أهل مدين لا تخافوا فإنكم آمنون، إنما نريد منكم أن تقيموا لنا السوق حتى نتسوق منه ما نريد، نحن أصحاب محمد بن علي بن أبي طالب، لسنا نرزأ أحدا شيئا ولا نأكل شيئا إلا بثمن.
قال: ففتح أهل مدين باب مدينتهم وأخرجوا لهم الأنزال.
فقال محمد بن الحنفية لأصحابه: أيها الناس إني قد وطئت بكم آثار الأولين وأريتكم ما فيه معتبر وتبصرة لكم إن كنتم تعقلون، ألم تروا إلى ديار عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين! كانوا عمار الأرض من قبلكم وسكانها،
قال: ثم سار محمد بن الحنفية وأصحابه حتى نزلوا مدينة إيلة، فجعلوا يصومون النهار ويقومون الليل، وجعل كل من مر بهم وقدم إلى دمشق يحدث عنهم، ويقول: ما رأينا قوما قط خيرا من هؤلاء القوم الذين قد دخلوا أرض الشام، إنما هم صيام وقيام لا يظلمون أحدا ولا يؤذون مسلما ولا معاهدا، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فندم على كتابه إلى ابن الحنفية وسؤاله إياه أن يقدم إلى بلاد الشام لما شاع في الناس من خبره وحسن الثناء عليه.
ذكر كتاب عبد الملك بن مروان إلى محمد بن الحنفية من دمشق وجوابه إياه:
أما بعد، فإنك قدمت إلى بلادنا بإذن منا، وقد رأيت أن لا يكون في سلطاني رجل لم يبايعني، فإن أنت بايعتني فهذه مراكب قد أقبلت من أرض مصر إلى إيلة، فيها من الأطعمة والأمتعة والأشياء كذا وكذا، فخذ ما فيها لك، ومع ذلك ألف ألف درهم اعجل لك منها مائتي ألف درهم، وتؤخرني بقيتها إلى أن افرغ من أمر ابن الزبير ويجتمع الناس إلى إمام واحد، وإن أنت أبيت أن تبايع فانصرف إلى بلد لا سلطان لنا بها، والسلام.
قال: فكتب إليه محمد بن الحنفية:
أما بعد، فإننا قدمنا هذه البلاد بإذنك إذ كان موافقا لك، ونحن راحلون عنها بأمرك إذ كنت كارها لجوارنا، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: ثم خرج محمد بن الحنفية من إيلة راجعا إلى مكة ومعه أهل بيته وأصحابه، وهو يتلو هذه الآية: " قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا
قال: ثم سار ابن الحنفية حتى صار إلى مدين أقبل على أصحابه فقال: يا هؤلاء! أنتم نعم الإخوان والأنصار ما علمتم، ولو كان عندي ما يسعكم لأحببت أن لا تفارقوني أبدا حتى تنجلي هذه الغمة، فإن أحببتم فانصرفوا إلى مصركم محمودين، فإنكم تقدمون إلى الناس وبهم إليكم حاجة، وأنا سأقدم إلى مكة إلى معاندة ابن الزبير، ولا أحب أن تكونوا مجهودين.
قال: فعندها ودع أصحابه وانصرفوا إلى الكوفة، وبها يومئذ مصعب بن الزبير.
فأرسل إليهم فدعاهم، وقال: من أنتم؟ وما أقدمكم إلى مصرنا هذا ذنبكم (2)؟ فقالوا: نحن أصحاب محمد بن الحنفية ولم نقدم لسوء، إنما قدمنا إلى بلادنا، فاجعل لنا أرزاقنا واصطنعنا، وإن دخلت (3) ذلك دخلنا في بيعتك وأقررنا في بلدك وعشائرنا.
قال: فأمرهم مصعب بن الزبير فبايعوه وأقاموا عنده.
ومضى ابن الحنفية بمن معه من أهل بيته ومواليه حتى نزل بشعب أبي طالب بمكة، وبلغ عبد الله بن الزبير، فأرسل إليه: أن ارتحل عن هذا الشعب أنت وأصحابك هؤلاء الذين معك، وإلا هلم فبايع.
فقال ابن الحنفية لرسوله: ارجع إليه وقل له: إن الله تعالى قد جعل هذا البلد آمنا وأنت تخيفني فيه! ولست بشاخص عن مكاني هذا أبدا إلى أن يأذن
____________
(1) الأعراف: 88 - 89.
(2) كذا في الأصل.
(3) " فعلت " ظ
وجرى بينهم اختلاف شديد، وبلغ ذلك من كان بالكوفة من أصحابه الذين فارقوه، فرجعوا إليه في جمعهم حتى نزلوا في الشعب، قالوا: والله لا نفارقك أبدا أو لنموتن بين يديك! قال: وأمسك ابن الزبير عن ابن الحنفية وكف عنه إلى أن حجت الناس.
فلما كان يوم النفر أرسل بأخيه عروة بن الزبير وعبد الله بن مطيع العدوي في رجال من قريش إليه، فأقبل القوم حتى دخلوا الشعب إلى ابن الحنفية، فقالوا: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تتنحى عن هذا الشعب الذي أنت نازل فيه، فإنه قد عزم إن لم تفعل ولم تنتقل إلى موضع غيره أن يسير إليك حتى يناجزك، فإن أردت الشخوص فهذا يوم الجمعة قم فانفر مع الناس وامضي إلى حيث شئت من البلاد.
قال: فسكت ابن الحنفية وقام رجل من أصحابه يقال له: معاذ بن هاني، فقال: أيها المهدي! إن هذا البلد قد جعل الله عز وجل الناس فيه سواء العاكف فيه والباد، وليس أحد أحق به من أحد، وهذا الرجل قد ألحد في الحرم وسفك فيه الدم، وقد بعث إليك مرة بعد أخرى يأمرك بالتنحي عنه، فإن هو أبى إلا إشخاصك تركا لأمر الله وجرأة عليه، فقد بدأك بالظلم وبما لم تكن تستحله، وقد اضطرك وإيانا إلى ما لا صبر لك عليه، فخل بيننا وبينه، فوالله إني لأرجو أن آتيك به سلما أو يقتل هؤلاء أصحابه الفساق الجبارون وأعداء الصالحين، فإنما هم أعراب أهل اليمامة وجهال أهل مكة، ولقد قاتلهم قوم ينوون رضوان الله وثواب الآخرة، ولما ثبتوا للطعان والضراب ولا تذعروا بدعارة أولاد الحجل.
قال: فغضب عبد الله بن مطيع من ذلك، ثم أقبل على ابن الحنفية فقال:
يا أبا القاسم! لا يغرنك عن نفسك حائك أهل اليمن هذا وأشباهه، فإني أعلم
فقال ابن الحنفية: لا بل هم أنصاري وشيعتي الذين عليهم أعتمد بعد الله.
فقال عبد الله بن مطيع: اقبل مني، إما أن تبايع هذا الرجل وإلا فانج بنفسك من قبل التورط، ومن قبل أن تتمنى النجاة ولات حين نجاة.
قال: فقال معاذ بن هانئ لعبد الله بن مطيع: يا ابن نساجة العبا! نحن نسلم لك ولصاحبك هذا ولما نقتل بين يديه أو نبيدكم عن آخركم؟
قال: وارتفعت أصوات القوم فسكتهم ابن الحنفية عن آخرهم، ثم أقبل على أصحابه، فقال: أخبروني عنكم ماذا عندكم من الرأي فإني أكره سفك الدماء في حرم الله وحرم رسوله محمد صلى الله عليه وآله؟
قال أصحابه: الرأي رأيك، فانظر ما هو الصواب فالقه إلينا فإننا لن نعدوه، إن أمرتنا بقتال القوم قاتلناهم، وإن أمرتنا بالكف عنهم كففنا، وحمدنا الله على ذلك، ورجونا الخيرة فيما قضى الله عز وجل من ذلك وقدر.
قال: فأطرق ابن الحنفية ساعة، وقال: اللهم إن هذا الرجل قد ظلمني وتعدى علي في إخراجه إياي من حرمك وحرم رسولك محمد صلى الله عليه وآله، اللهم فألبسه لباس الذل والخوف وسلط عليه وعلى أشياعه وناصريه من يسومهم سوء العذاب، اللهم عاقبه بخطيئته، واجعل دائرة السوء عليه بسوء نيته وجريرته، وخذه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، وأنزل به بأسك وغضبك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
قال: ثم عزم ابن الحنفية على المسير إلى الطائف هو وأصحابه (1).
____________
(1) الفتوح لابن أعثم: ج 6 ص 237
(461)
ابن عباس وابن الزبير
قال: وبلغ ذلك عبد الله بن عباس أن ابن الحنفية يريد أن يمضي إلى الطائف فأقبل مغضبا حتى دخل على عبد الله بن الزبير فقال: يا هذا! والله ما ينفعني تعجبي منك ومن ائتزازك (1) وجرأتك على بني عبد المطلب، تخرجهم من حرم الله وحرم رسوله محمد صلى الله عليه وآله وهم بالحرم وأعظم فيه نصيبا منك، أما والله! إن عواقب الظلم لترد إلى مساءة وندامة.
فقال له ابن الزبير: يا ابن عباس، إنه قد قتل الله المختار الكذاب الذي كنتم تمدون أعينكم إلى نصرته لكم.
فقال ابن عباس: يا ابن الزبير! دع عنك المختار، فإنه قد بقيت لك عقبة تأتيك من أرض الشام، فإذا قطعتها فأنت أنت قال: فغضب ابن الزبير، ثم قال: والله يا ابن عباس ما منك أعجب بل أعجب من نفسي! كيف أدعك تنطق بين يدي بملء فيك؟
قال: فتبسم ابن عباس، ثم قال: والله ما نطقت بين يدي أحد من الولاة كما نطقت بين يديك، ولقد نطقت وأنا غلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر الصديق، فعجبوا لتوفيق الله إياي، ولقد نطقت وأنا رجل بين يدي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وكانوا يروني أحق من نطق، يستمع رأيي ويقبل مشورتي، وهؤلاء الذين ذكرتهم من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله خير منك ومن أبيك.
قال: فازداد غضب ابن الزبير، ثم قال: لقد علمت أنك ما زلت لي ولأهل بيتي مبغضا منذ كنت، ولقد كتمتم (كتمت خ ل) بغضكم يا
____________
(1) أزر: أي ماج، والائتزاز: الهجوم والازدحام
فقال ابن عباس: فازدد إذا بي غضبا، فوالله لا نبالي أحببتنا أم أبغضتنا.
قال له ابن الزبير: اخرج عني لا أراك تقربني. قال ابن عباس: أنا أزهد فيك من أن تراني عندك.
قال ابن الزبير: دع عنك هذا! واذهب إلى ابن عمك هذا فقل: ليخرج عن جواري ولا يتربص، فإني ما أظنه سالما مني أو يصيبه مني ظفر.
قال ابن عباس: ما ولوعك بابن عمي وما تريد منه؟ قال: أريد منه أن يبايع كما بايع غيره، قال: مهلا يا ابن الزبير! احذر، فإن مع اليوم غدا.
قال ابن الزبير: صدقت مع اليوم غد، وليس يجب عليك أن تكلمني في رجل ضعيف سخيف ليس له قدم ولا أثر محمود.
قال: فتنمر ابن عباس غضبا، ثم قال له: إنه ليس على هذا صبر يا ابن الزبير، والله إن أباه لأفضل من أبيك، أسرته خير من أسرتك، وإنه لفي نفسه خير منك، وبعد فرماه الله بك إن كان شرا منك في الدين والدنيا.
قال: ثم خرج ابن عباس من عند ابن الزبير مغضبا، وأقبل حتى جلس في الحجر، واجتمع إليه قوم من أهل بيته ومواليه، فقالوا: ما شأنك يا ابن عباس؟ فقال: ما شأني؟! أيظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد المطلب!
والله إن الموت معهم لأحب إلي من الحياة معه، أما والله! إن كان ابن الحنفية سخيفا ضعيفا كما يقول لكانت أنملته أحب إلي من ابن الزبير وآله الزبير، فإنه والله عندي لأوفر عقلا من ابن الزبير وأفضل منه دينا وأصدق منه حياء وورعا.
قال: فقال له رجل من جلسائه: يا ابن عباس إنه قد ندم على ما كان من كلامه وهو الذي بعثنا اعتذارا.
قال ابن عباس: فليكف عن أهل بيته، فقد قال القائل: " غثك خير من
(462)
ابن عباس وابن الزبير
قال: وبلغ ابن الزبير أن ابن عباس يقول فيه ما يقول، فخرج من منزله في عدة من أصحابه حتى وقف في الناس خطيبا، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال:
أيها الناس! إن فيكم رجلا أعمي الله قلبه كما أعصى الله بصره، يزري على عائشة أم المؤمنين ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وآله ويحل المتعة، فاجتنبوه، جنبه الله السداد.
قال: وكان ابن عباس يومئذ حاضرا، فلما سمع ذلك وثب قائما على قدميه، ثم قال: يا ابن الزبير! أما ما ذكرت من أم المؤمنين عائشة، فإن أول من هتك عنها الحجاب أنت وأبوك وخالك، وقد أمرها الله عز وجل أن تقر في بيتها، فلم تفعل، فتجاوز الله عنها ورحمها. وأما أبوك وأنت وخالك طلحة وأشياعكم، فلقد لقيناكم يوم الجمل فقاتلنا كم، فإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم المؤمنين، وإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم من الزحف. وأما ذكرك للمتعة، إني أحلها، فإني إنما كنت أفتيت فيها في خلافة عثمان بن عفان.
وقلت: إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير لمن اضطر إليها حتى نهاني عنها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقال: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله حين رخص فيها على حد الضرورة، وسمعته حين حرمها ونهى عنها بعد ذلك، وإن الله تبارك وتعالى قد حرمها ونهى أن يرخص فيها، فما رخصت فيها
____________
(1) الأرونان: الصوت والصعب من الأيام، ويوم أرونان مضافا ومنعوتا: صعب وسهل ضد (قاموس) وراجع لسان العرب.
(2) الفتوح لابن أعثم: ج 6 ص 248 - 251 وراجع نور القبس: ص 68
قال: فقال له ابن الزبير: أخرج عني لا تجاورني، فقال: نعم و الله لأخرجن خروج من يقلوك ويذمك. ثم قال ابن عباس: اللهم إنك قادر على خلقك وقائم على كل نفس بما كسبت، اللهم وإن هذا الرجل فقد أبدى لنا العداوة والبغضاء، فارمه منك بحاصب وسلط عليه من لا يرحمه.
قال: ثم خرج ابن عباس من مكة إلى الطائف ومحمد بن الحنفية في أصحابه (1).
(463)
محمد بن الحنفية وعبد الملك
قال (بعد ذكر مقتل عبد الله بن الزبير) وإذا كتاب عبد الملك بن مروان قد ورد على محمد بن الحنفية: أما بعد، فإذا أتاك كتابي وبلغك رسولي فاخرج إلى عاملي الحجاج بن يوسف فبايعه واستقم، فإن الناس قد بايعوا واستقاموا، فإن فعلت ذلك منعت مني مالك وأهلك وولدك، وإلا فوالذي لا إله إلا هو لئن أبيت وتربصت وارتبت وقدمت رجلا وأخرت أخرى لا سقيتك بكأس ابن الزبير ولأنزلنك بالمنزلة التي أنزلت بها نفسك، والسلام.
قال [ فكتب ] إليه ابن الحنفية: أما بعد، فقد أتاني كتابك ترعد لي وتبرق، وتذكر أن الناس قد بايعوا واستقاموا، وأنه لم يكن من شأني أن أبايع أحدا حتى يجتمع الناس على رجل واحد كنت أنت أم غيرك، وأيما واحد من الناس رضوا به بايعته، وإلا فهذا مكاني حتى يحكم الله بيني وبين من أرادني
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 251 - 252، وراجع ج 5 ص 451
قال: فلما ورد كتاب محمد بن الحنفية على عبد الملك بن مروان غضب لذلك ثم استشار أهل الشام في قتله فكل أشار عليه بذلك، قال: واتقى ابن الحنفية وخشي أن يكتب إلى الحجاج فيأمره فيه بأمر ولم يجد من البيعة لعبد الملك بن مروان بدا فعزم على الكتاب إليه في ذلك.
قال: فدعا ابن الحنفية برجل من شيعته يكنى أبا عبد الله ويعرف بالجدلي، وكان من خيار شيعته، فكتب معه كتابا إلى عبد الملك بن مروان:
أما بعد، فإني لما رأيت هذه الأمة قد اختلفت نيتها وضيعت دينها وسفهت أحلامها ونبذت علم كتاب الله ربها وسفكت دماءها بغير حق، اعتزلتهم إلى البيت الحرام الذي من دخله كان آمنا لأمنع بذلك دمي من الجهال والضلال والظالمين وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، وتركت الناس أشياعا وأحزابا، كل يعمل على شاكلته، والله يقضي بالحق، ويحكم يوم القيامة بين الخلق، فيجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وقد كان من رأيي ورأي من اتبعني واقتدى برأيي: أن لا نجتمع بأحد اختلف الناس عليه ولا نخالف أحدا اجتمع الناس له، قد رأينا أن قد اجتمع الناس لك، ونحن عصابة قليلون، وقد بعثنا إليك رسولا ليأخذ منك أمانا وعلى الوفاء لنا بذلك عهدا وثيقا، فإن أجبت إلى ذلك كنا إليك سراعا، وإن أبيت فأرض الله واسعة ولمن أتقى تكون العاقبة، وقد أردت بهذا الكتاب اتخاذ الحجة عليك، وفقنا الله وإياك لمراشد الأمور، والسلام.
قال: فأرسل إليه ابن الحنفية: إني كتبت إلى عبدا الملك بن مروان كتابا وأرسلت إليه رسولا ليأخذ لي منه أمانا، وإنما انتظاري لجواب الكتاب، ثم البيعة إذا أعطاني ما سألت، والسلام.
قال: فأرسل إليه الحجاج: يا ابن الحنفية وتشترط على أمير المؤمنين الشروط! والله لتبايعن طائعا أو كارها، وإلا ألحقتك بابن الزبير! قال: فكره ابن الحنفية أن يبايع الحجاج من قبل أن يقدم إليه رسوله بالأمان من عند عبد الملك بن مروان.
قال: ولج الحجاج في أمره حتى اتقاه ابن الحنفية على نفسه، وأقبل عبد الله ابن عمر بن الخطاب حتى دخل على الحجاج، فقال: أيها الأمير ما تريد من هذا الرجل؟ فوالله إنه لخير فاضل، وما أعلم في زمانه رجلا مثله ولا أزكى على الله أحدا، فكف عنه أيها الأمير، فإنه قد كتب إلى ابن عمه كتابا وإنما ينتظر الجواب، ثم يبايع.
قال: فكف عنه الحجاج، وإذا بأبي عبد الله الجدلي قد أقبل بالجواب من عبد الملك بن مروان:
أما بعد، فقد قدم رسولك بكتابك فقرأته، وفهمت ما ذكرت فيه وما نويت بذلك، وأنت لعمري عندنا البر المحمود، فأقبل إلينا آمنا مطمئنا مأمونا حبيبا قريبا، ولك بذلك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله محمد صلى الله عليه وآله، وأشد ما أخذ الله على أنبيائه ورسله من العهود والمواثيق المؤكدة الغليظة، إنك لا تهاج ولا تؤذى في سلطاننا أبدأ ما بقيت أنت ولا أهلك ولا ولدك ولا أحد من أصحابك شاهدا ولا غائبا، ولا يبدو لك منا شئ من المكروه،
قال: وجعل عبد الملك بن مروان يقول لمن عنده: وما سبيلنا على ابن الحنفية! فقد والله سلم وغنم، ودارت لنا رحاها، واضطرب بنا أمواجها.
قال: فلما ورد كتاب عبد الملك بن مروان على ابن الحنفية وقرأه أقبل إلى الحجاج فبايع لعبد الملك (1).
(464)
أشعب ورجل من ولد الزبير
روى الأغاني عن الهيثم بن عدي، قال: دخل أشعب مسجد النبي صلى الله عليه وآله فجعل يطوف الحلق، فقيل له: ما تريد؟ فقال: استفتي في مسألة، فبينا هو كذلك إذ مر برجل من ولد الزبير وهو مسند إلى سارية وبين يديه رجل علوي، فخرج أشعب مبادرا! فقيل له: أوجدت من أفتاك في مسألتك؟ قال:
لا، ولكني علمت ما هو خير لي منها، قيل: وما ذاك؟ قال: وجدت المدينة قد صارت كما قال الحارث بن خالد:
رأيت رجلا من ولد الزبير جالسا في الصدر ورجلا من ولد علي بن أبي طالب عليه السلام جالسا بين يديه، فكفى هذا عجبا! فانصرفت (2).
____________
(1) فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 283 - 286، والعقد الفريد ج 4 ص 400.
(2) قاموس الرجال: ج 2 ص 96 في ترجمة أشعب
(465)
برير ويزيد بن معقل
عن عفيف بن زهير وكان قد شهد مقتل الحسين عليه السلام: أن يزيد بن معقل خرج يوم الطف وقال لبرير بن خضير: كيف ترى الله صنع بك؟
قال: صنع الله والله بي خيرا، وصنع الله بك شرا.
قال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذابا، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إن عثمان كان على نفسه مسرفا، وإن معاوية ضال مضل، وإن إمام الحق والهدى علي؟
فقال برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي.
فقال يزيد: فإني أشهد أنك من الظالين.
فقال له برير: هل لك أباهلك؟ ولندع الله أن يلعن الكاذب ويقتل المبطل، ثم اخرج لأبارزك، فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحق المبطل.
ثم برز كل واحد منهما لصاحبه، فضرب يزيد بريرا ضربة خفيفة لم تضره شيئا وضربه برير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق الخ (1).
(466)
بهلول وأبو حنيفة
عن مجالس المؤمنين: أنه - يعني بهلول المعروف بالمجنون - سمع أبا حنيفة يقول: إن جعفر بن محمد يقول بثلاثة أشياء لا أرتضيها، يقول: الشيطان يعذب
____________
(1) قاموس الرجال: ج 2 ص 177، و ج 6 ص 275 عن الطبري. وبهج الصباغة: ج 6 ص 42، و ج 3 ص 245، و ج 4 ص 630
فأخذ البهلول حجرا وضربه به، فأوجعه! فذهب أبو حنيفة إلى هارون واستحضروا البهلول ووبخوه على ذلك. فقال لأبي حنيفة: أرني الوجع الذي تدعيه أو لا فأنت كاذب. وأيضا فأنت من تراب كيف تألمت من تراب؟
ثم ما الذي أذنبته إليك؟ والفاعل ليس هو العبد، بل الله! فسكت أبو حنيفة وقام خجلا.
وقال: ينبغي أن يكون أبو حنيفة ذهب إلى المنصور، لأنه مات قبل خلافة هارون (1).
(467)
بهلول وعمرو بن عطاء
عن إيضاح محمد بن جرير بن رستم الطبري: أن البهلول قال لعمرو بن عطاء العدوي (في مجلس محمد بن سليمان العباسي، ابن عم الرشيد): لم سمي جدك عمر أبا بكر صديقا؟ ألم يكن في زمانه سواه صديق؟ قال: لا. قال:
كذبت وخالفت قوله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون "، وحديث رسوله صلى الله عليه وآله: " إذا فعلت الخير كنت صديقا ".
فقال العدوي: سموه صديقا، لأنه أول من صدق النبي صلى الله عليه وآله، قال: مع أن ذلك تخصيص خطأ في اللغة، ومخالفة للآية.
فغالطه العدوي وقال: من إمامك يا بهلول؟
____________
(1) قاموس الرجال: ج 3 ص 252. وروضة المؤمنين: ص 6 عن محجة الاعتقاد
فقال العدوي: ويلك! أليس هارون إمامك؟
قال: بل الويل لك! حيث لم تر أمير المؤمنين لهذه المحامد أهلا، وما أخالك إلا عدوا له تظهر طاعته وتضمر مخالفته، ولئن بلغه مقالك ليؤدبنك.
فضحك العباسي وأمر بإخراج العدوي، وقال لبهلول: ما الفضل إلا فيك، وما العقل إلا من عندك، والمجنون من سماك مجنونا، أخبرني علي أفضل أو أبو بكر؟
قال: أصلح الله الأمير! إن عليا - عليه السلام - من النبي صلى الله عليه وآله كالشئ من الشئ والصنو من الصنو وكالمفصل من الذراع، وأبو بكر ليس فيه ولا يوازيه في فضله إلا مثله، ولكل فاضل فضله.
قال: أخبرني بنو علي أحق بالخلافة أم بنو العباس؟ فسكت البهلول، قال:
لم سكت؟
قال: ما للمجانين وهذا التحقيق والتمييز! ثم خرج وهو يقول:
فقال العباسي: لا إله إلا الله! لقد رزق الله علي بن أبي طالب لب كل ذي لب (1).
____________
(1) قاموس الرجال: ج 2 ص 253
(468)
بهلول وإسحاق
قال الجاحظ في بيانه: ومن مجانين الكوفة بهلول، وكان يتشيع، قال له إسحاق بن صباح: أكثر الله في الشيعة مثلك! قال: بل أكثر الله في المرجئة مثلي وأكثر في الشيعة مثلك! (1).
(469)
الكميت والكلبي
روى الأغاني عن المستهل بن الكميت، قال: قلت لأبي: إنك هجوت الكلبي ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليهم بالكفر، فهلا فخرت بعلي عليه السلام وبني هاشم الذين نتولاهم؟
فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية، فلو ذكرت عليا عليه السلام لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت عليا عليه السلام له، ولا أجد له ناصرا من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية، وقلت: إن نقضها علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غما وغلبته، فكان كما قال (2).
(470)
النوبختي مع الحلاج
عن هبة الله بن أبي جعفر العمري، قال: لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له: أن أبا سهل بن إسماعيل النوبختي ممن تجوز عليه مخرقته وتتم عليه حيلته، فوجه إليه يستدعيه وظن أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجره إليه فيتمخرق به
____________
(1) قاموس الرجال: ج 2 ص 253.
(2) قاموس الرجال: ج 3 ص 389
فأرسل إليه أبو سهل - رضي الله عنه - يقول له: إني أسألك أمرا يسيرا يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن، وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديده لأستر عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن فصار القرب بعدا والوصال هجرا، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤونته وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك وصائر إليك، وقائل بقولك وداع إلى مذهبك، مع مالي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة.
فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل - رضي الله عنه - أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل أحد. وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببا لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه (1).
(471)
الحر مع أهل الكوفة
فاستقدم - الحر بن يزيد - أمام أصحابه، ثم قال:
____________