الصفحة 333
حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله، فقال له: اصعد إلى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب، فصعد ثم قال:

أيها الناس إن هذا الحسين خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسوله، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر (1) فأجيبوه. ثم لعن عبيد الله وأباه، واستغفر لعلي عليه السلام.

فأمر به عبيد الله أن يرمى به من فوق القصر، فرمي به فتقطع فمات رحمه الله (2).

(517)
كريم بن عفيف وعبد الرحمان ومعاوية

(لما أخذ حجر وأصحابه وقتل هو وجمع معه) قال كريم بن عفيف الخثعمي وعبد الرحمن بن حسان العنزي من أصحاب حجر: ابعثوا بنا إلى معاوية نقول في هذا الرجل مثل مقالته، ولما أرادا الشخوص قالا لحجر: لا تبعد يا حجر ولا يبعد مثواك، فنعم أخو الإسلام كنت.

فلما دخل كريم على معاوية قال له: الله الله يا معاوية! إنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ومسؤول عما أردت بقتلنا وفيم سفكت دماءنا!

فقال له: ما تقول في علي؟

قال: أقول فيه قولك: أتتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به؟ (3).

(518)
الشيخ الطوسي والخليفة العباسي

حكى جماعة: أنه وشي بالشيخ - أي الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى - إلى

____________

(1) الحاجر: موضع بطريق مكة " الأساس ".

(2) قاموس الرجال: ج 7 ص 405.

(3) قاموس الرجال: ج 7 ص 420. وسيأتي تفصيله في باب عبد الرحمان بن حسان العنزي ومعاوية

الصفحة 334
الخليفة العباسي بأنه وأصحابه يسبون الصحابة، وكتابه " المصباح " يشهد بذلك، فإنه ذكر: أن من دعاء يوم عاشوراء: " اللهم خص أنت أول ظالم باللعن مني... إلى آخره ".

فأجاب: بأن المراد بالأول: قابيل قاتل هابيل وهو أول من سن القتل والظلم، وبالثاني: عاقر ناقة صالح، وبالثالث: قاتل يحيى، وبالرابع:

عبد الرحمان بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب عليه السلام.

فرفع الخليفة شأنه، وانتقم من الساعي وأهانه (1).

(519)
محمد بن الحنفية والسائل

قيل لمحمد - أي ابن الحنفية -: لم يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين عليهما السلام؟ فقال: إنهما عيناه، وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينه بيمينه (2).

(520)
الزهري والوليد

وفي العقد: إن الوليد بن عبد الملك قال له - أي لمحمد بن شهاب الزهري -:

حدثنا أهل الشام: " إن الله إذا استرعى عبدا رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات ".

فقال الزهري: حديث باطل، أنبي خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟

قال: بل خليفة نبي، قال: فإن الله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى

____________

(1) قاموس الرجال: 8 / 135.

(2) قاموس الرجال: 8 / 159

الصفحة 335
فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " فهذا وعيد لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي؟

فقال: إن الناس ليغروننا عن ديننا (1).

(521)
جهني مع محمد بن طلحة

في الطبري: أقبل - يوم الجمل - غلام من جهينة على محمد بن طلحة - وكان محمد رجلا عابدا - فقال: أخبرني عن قتلة عثمان؟ فقال: نعم، دم عثمان ثلاثة أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج - يعني: عائشة - وثلث على صاحب الجمل الأحمر - يعني: طلحة - وثلث على علي بن أبي طالب.

فضحك الغلام وقال: " ألا أراني على ضلال " ولحق بعلي عليه السلام وقال في ذلك شعرا:

سألت ابن طلحة عن هالك * بجوف المدينة لم يقبر
فقال: ثلاثة رهط هم * أماتوا ابن عفان واستعبر
فثلث على تلك في خدرها * وثلث على راكب الأحمر
وثلث على ابن أبي طالب * ونحن بدوية قرقر
فقلت: صدقت على الأولين * وأخطأت في الثالث الأزهر (2)

(522)
أبو العيناء وموسى بن عبد الملك

لما وكل موسى بن عبد الملك الاصبهاني بنجاح بن سلمة ليستأديه ما عليه من الأموال عاقبه موسى فهلك.

____________

(1) قاموس الرجال: 8 / 215.

(2) قاموس الرجال: 8 / 223، وبهج الصباغة 6: 122 و 4: 689 عن الطبري أيضا، والإمامة والسياسة:

1 / 61

الصفحة 336
فقال أبو العيناء: " فوكزه موسى فقضى عليه " فبلغت كلمته موسى، فلقيه وقال له: أبي تولع؟ والله لأقومنك، فقال: " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " (1)

(523)
أبو العيناء والمتوكل

قال الخطيب: روي أن المتوكل قال: أشتهي أن أنادم أبا العيناء لولا أنه ضرير، فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة ونقش الخواتيم فإني أصلح. وقال له المنتصر: ما أحسن الجواب! فقال: ما أسكت المبطل وحير المحق! فقال:

أحسنت والله (2).

(524)
أبو العيناء والمتوكل

قاله له (3) المتوكل: هل رأيت طالبيا حسن الوجه؟ قال: نعم، رأيت ببغداد منذ ثلاثين واحدا، فقال المتوكل: نجده كان مؤاجرا وكنت أنت تقود عليه فقال: يا أمير المؤمنين، أو يبلغ هذا من فراغي أدع مواليي مع كثرتهم وأقود على الغرباء؟ فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشتفي منهم، فاشتفى لهم مني (4).

(525)
أبو العيناء ورجل من بني العباس

قال له: بلغني أنك بغاء، فقال: وما أنكرت مع ذلك مع قول النبي

____________

(1) قاموس الرجال: 8 / 344.

(2) المصدر نفسه.

(3) أي: لأبي العيناء مولى العباسيين.

(4) قاموس الرجال: 8 / 345 عن الكتاب الأدباء.

(5) أي: قال لأبي العيناء رجل من بني هاشم، أي من العباسيين

الصفحة 337
صلى الله عليه وآله: " مولى القوم منهم "، فقال: إنك دعي فينا، فقال: بغائي صحح نسبي فيكم (1).

(526)
ابن السكيت والمتوكل

في طبقات السيوطي: قال: وبينا هو (2) مع المتوكل في بعض الأيام إذ مر به ولداه المعتز والمؤيد، فقال له: يا يعقوب، من أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين عليهما السلام؟ فغض من ابنيه وقال: " قنبر خير منهما "، وأثنى على الحسن والحسين عليهما السلام بما هما أهله.

وقيل: قال: " والله إن قنبرا خادم علي عليه السلام خير منك ومن ابنيك، فأمر الأتراك فداسوا بطنه، فحمل فعاش يوما وبعض يوم. وقيل:

حمل ميتا في بساط، وقيل: قال: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك فمات (3).

(527)
ابن السكيت واللحياني

في تاريخ بغداد: قال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتابه (4) في المنطق، وكان اللحياني عازما على أن يملي نوادر له ضعف ما أملى، فقال يوما: تقول العرب: " مثقل استعان بذقنه "، فقام إليه ابن السكيت - وهو حدث - فقال: إنما تقول: " مثقل استعان بدفيه "، يريدون: أن الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه. فقطع الإملاء.

____________

(1) قاموس الرجال: 8 / 346.

(2) أي: ابن السكيت يعقوب بن إسحاق.

(3) قاموس الرجال: 9 / 460، وبهج الصباغة: 3 / 338 و 9 / 383 عن المعجم، وتاريخ الخلفاء:

ص 348.

(4) أي: كتاب ابن السكيت

الصفحة 338
فلما كان في المجلس الثاني أملى، فقال: تقول العرب: " هو جاري مكاشري "، فقام إليه ابن السكيت، فقال: وما معنى " مكاشري "؟ إنما هو:

" مكاسري " يعني: كسر بيتي إلى كسر بيته.

فقطع اللحياني الإملاء فما أملى بعد ذلك شيئا. وكان من أهل الفضل والدين موثوقا بروايته.

وسأل الفراء السكيت أباه عن نسبه؟ فقال: خوزي من قرى دورق من كور الأهواز (1).

(528)
ابنا عباس وابن الزبير

مر عبد الله بن صفوان بن أمية يوما بدار عبد الله بن عباس بمكة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه. ومر بدار عبيد الله بن عباس فرأى فيها جماعة ينتابونها للطعام، فدخل على ابن الزبير فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر:

فإن تصبك من الأيام قارعة * لم نبك منك على دنيا ولا دين

قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عباس أحدهما يفقه الناس والآخر يطعم الناس فما بقيا لك مكرمة.

فدعا عبد الله بن مطيع وقال: انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: اخرجا عني أنتما ومن أصغى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت.

فقال عبد الله: والله ما يأتينا إلا رجلان: رجل يطلب فقها ورجل يطلب فضلا، فأي هذين تمنع؟ وكان بالحضرة أبو الطفيل، فجعل يقول:

لا در در الليالي كيف تضحكنا * منها خطوب أعاجيب وتبكينا

____________

(1) قاموس الرجال: 9 / 459

الصفحة 339

ومثل ما تحدث الأيام من عبر * في ابن الزبير عن الدنيا تسلينا
كنا نجئ ابن عباس فيسمعنا * فقها ويكسبنا أجرا ويهدينا
ولا يزال عبيد الله مترعة * جفانه مطعما ضيفا ومسكينا
فالبر والدين والدنيا بدارهما * ننال منها الذي نبغي إذا شينا
إن النبي هو النور الذي كشطت * به عمايات ماضينا وباقينا
ورهطه عصبة في دينه لهم * فضل علينا وحق واجب فينا (1)

(529)
محمد بن وهيب ويزيد بن هارون

في أغاني أبي الفرج: قال أبو هفان: كان محمد بن وهيب يتردد إلى مجلس يزيد بن هارون، فلزمه عدة مجالس يملي فيها كلها فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ولم يذكر شيئا من فضائل علي عليه السلام. فقال ابن وهيب:

آتي يزيد بن هارون ادالجه (2) * في كل يوم ومالي وابن هارون
فليت لي بيزيد حين أشهده * راحا وقصفا وندمانا تسليني
أغدو إلى عصبة صمت مسامعهم * عن الهدى بين زنديق ومأفون
لا يذكرون عليا في مشاهدهم * ولا بنيه بني البيض الميامين
إني لأعلم أني لا أحبهم * كما هم بيقين لا يحبوني
لو يستطيعون من ذكرى أبا حسن (3) * وفضله قطعوني بالسكاكين
ولست أترك تفضيلي له أبدا * حتى الممات على رغم الملاعين (4)

____________

(1) قاموس الرجال: 6 / 62 عن الإستيعاب.

(2) أدالجه: يقال أدلج بالتخفيف إذا سار من أول الليل، وبالتشديد إذا سار من آخره. مجمع البحرين:

مادة دلج.

(3) هكذا في الأصل والصحيح: " أبي الحسن ".

(4) قاموس الرجال: 8 / 423، و 9 / 451 باستثناء البيت الأخير

الصفحة 340
وقال إسحاق بن محمد بن القاسم بن يوسف: كان محمد بن وهيب يأتي أبي، فقال له أبي يوما: إنك تأتينا وقد عرفت مذهبنا، فنحب أن تعرفنا مذهبك فنوافقك أو نخالفك، فقال: في غد أبين أمري، فلما كان من غد كتب إليه:

أيها السائل قد بينت إن كنت ذكيا * أحمد الله كثيرا بأياديه عليا
شاهدا ألا إله غيره من دمت حيا * وعلى أحمد بالصدق رسولا ونبيا
ومنحت الود قرباه وواليت الوصيا * وأتاني خبر مطرح لم يك شيا
إن على غير اجتماع عقدوا الأمر بديا * فوفقت (1) القوم تيما وعديا وأميا
غير شتام، ولكني توليت عليا (2)

(530)
هشام والجاثليق

عن هشام بن الحكم، عن جاثليق من جثالقة النصارى يقال له: بريهة، قد مكث جاثليق النصرانية سبعين سنة (3)، وكان يطلب الإسلام، ويطلب من يحتج عليه ممن يقرأ كتبه ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته، قال: وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس، حتى افتخرت به النصارى، وقالت: لو لم يكن في دين النصرانية إلا بريهة لأجزأنا، وكان طالبا للحق والإسلام مع ذلك.

وكانت معه امرأة تخدمه طال مكثها معه، وكان يسر إليها ضعف النصرانية وضعف حجتها، قال: فعرفت ذلك منه، فضرب بريهة الأمر ظهرا لبطن، وأقبل

____________

(1) وفق الشئ: ما لاءمه، وقد وافقه موافقة (لسان العرب). (2) قاموس الرجال: ج 8 / 424.

(3) الجاثليق: صاحب مرتبة من المراتب الدينية النصرانية، وقوله: جاثليق النصرانية بالنصب حال من فاعل مكث، أي مكث بريهة سبعين سنة حال كونه صاحب هذه المرتبة في النصرانية

الصفحة 341
يسأل فرق المسلمين والمختلفين في الإسلام من أعلمكم؟ وأقبل يسأل عن أئمة المسلمين وعن صلحائهم وعلمائهم وأهل الحجى منهم، كان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئا، وقال: لو كانت أئمتكم أئمة على الحق لكان عندكم بعض الحق، فوصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم.

فقال يونس بن عبد الرحمان: فقال لي هشام: بينما أنا على دكاني على باب الكرخ جالس وعندي قوم يقرأون علي القرآن، فإذا أنا بفوج النصارى معه ما بين القسيسين إلى غيرهم نحو من مائة رجل عليهم السواد والبرانس، والجاثليق الأكبر فيهم بريهة حتى نزلوا حول دكاني، وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه، فقامت الأساقفة والرهابنة على عصيهم وعلى رؤوسهم برانسهم.

فقال بريهة: ما بقي من المسلمين أحد ممن يذكر بالعلم بالكلام إلا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شئ، وقد جئت أناظرك في الإسلام.

قال: فضحك هشام فقال: يا بريهة إن كنت تريد مني آيات كآيات المسيح فليس أنا بالمسيح ولا مثله ولا أدانيه، ذاك روح طيبة خميصة (1) مرتفعة، آياته ظاهرة، وعلاماته قائمة.

قال بريهة: فأعجبني الكلام والوصف.

قال هشام: إن أردت الحجاج فهاهنا.

قال بريهة: نعم فإني أسألك ما نسبة نبيكم هذا من المسيح نسبة الأبدان؟

قال هشام: ابن عم جده [ لامه ] لأنه من ولد إسحاق ومحمد من ولد إسماعيل.

قال بريهة: وكيف تنسبه إلى أبيه؟

قال هشام: إن أردت نسبه عندكم أخبرتك، وإن أردت نسبه عندنا

____________

(1) أي خالية منزهة من الرذائل النفسية والكدورات المادية

الصفحة 342
أخبرتك.

قال بريهة: أريد نسبه عندنا، وظننت أنه إذا نسبه نسبتنا أغلبه، قلت: فانسبه بالنسبة التي ننسبه بها.

قال هشام: نعم تقولون: أنه قديم من قديم، فأيهما الأب وأيهما الابن؟

قال بريهة: الذي نزل إلى الأرض الابن.

قال هشام: الذي نزل إلى الأرض الأب.

قال بريهة: الابن رسول الأب.

قال هشام: إن الأب أحكم من الابن، لأن الخلق خلق الأب.

قال بريهة: إن الخلق خلق الأب وخلق الابن.

قال هشام: ما منعهما أن ينزلا جميعا كما خلقا إذا اشتركا؟

قال بريهة: كيف يشتركان وهما شئ واحد؟ إنما يفترقان بالاسم.

قال هشام: إنما يجتمعان بالاسم.

قال بريهة: جهل هذا الكلام.

قال هشام: عرف هذا الكلام.

قال بريهة: إن الابن متصل بالأب.

قال هشام: إن الابن منفصل من الأب.

قال بريهة: هذا خلاف ما يعقله الناس.

قال هشام: إن كان ما يعقله الناس شاهدا لنا وعلينا فقد غلبتك، لأن الأب كان ولم يكن الابن، فتقول هكذا يا بريهة؟

قال: ما أقول هكذا.

قال: فلم استشهدت قوما لا تقبل شهادتهم لنفسك؟

قال بريهة: إن الأب اسم والابن اسم يقدر به القديم.

قال هشام: الاسمان قديمان كقدم الأب والابن؟


الصفحة 343
قال بريهة: لا، ولكن الأسماء محدثة.

قال: فقد جعلت الأب ابنا والابن أبا إن كان الابن أحدث هذه الأسماء دون الأب فهو الأب، وإن كان الأب أحدث هذه الأسماء دون الابن فهو الأب، والابن أب وليس هاهنا ابن.

قال بريهة: إن الابن اسم للروح حين نزلت إلى الأرض.

قال هشام: فحين لم تنزل إلى الأرض فاسمها ما هو؟

قال بريهة: فاسمها ابن نزلت أو لم تنزل.

قال هشام: فقبل النزول هذه الروح كلها واحدة واسمها اثنان.

قال بريهة: هي كلها واحدة، روح واحدة.

قال: قد رضيت أن تجعل بعضها ابنا وبعضها أبا.

قال بريهة: لا، لأن اسم الأب واسم الابن واحد.

قال هشام: فالابن أبو الأب، والأب أبو الابن، والابن واحد.

قالت الأساقفة بلسانها لبريهة: ما مر بك مثل ذا قط تقوم، فتحير بريهة وذهب ليقوم فتعلق به هشام، قال: ما يمنعك من الإسلام أفي قلبك حزازة؟

فقلها، وإلا سألتك عن النصرانية مسألة واحدة تبيت عليها ليلك هذا فتصبح وليس لك همة غيري. قالت الأساقفة: لا ترد هذه المسألة لعلها تشكك.

قال بريهة: قلها يا أبا الحكم.

قال هشام: أفرأيتك الابن يعلم ما عند الأب؟

قال: نعم.

قال: أفرأيتك الأب يعلم كل ما عند الابن؟

قال: نعم.

قال: أفرأيتك تخبر عن الابن، أيقدر على حمل كل ما يقدر عليه الأب؟

قال: نعم.


الصفحة 344
قال: أفرأيتك تخبر عن الأب أيقدر على كل ما يقدر عليه الابن؟

قال: نعم.

قال هشام: فكيف يكون واحد منهما ابن صاحبه وهما متساويان؟

وكيف يظلم كل واحد منهما صاحبه؟

قال بريهة: ليس منهما ظلم.

قال هشام: من الحق بينهما أن يكون الابن أب الأب، والأب ابن الابن، بت عليها يا بريهة.

وافترق النصارى وهم يتمنون أن لا يكونوا رأوا هشاما ولا أصحابه.

قال: فرجع بريهة مغتما مهتما حتى صار إلى منزله، فقالت امرأته التي تخدمه: ما لي أراك مهتما مغتما؟ فحكى لها الكلام الذي كان بينه وبين هشام، فقالت لبريهة: ويحك أتريد أن تكون على حق أو على باطل؟ فقال بريهة: بل على الحق، فقالت له: أينما وجدت الحق فمل إليه، وإياك واللجاجة فإن اللجاجة شك، والشك شؤم، وأهله في النار، قال: فصوب قولها، وعزم على الغدو على هشام.

قال: فغدا عليه وليس معه أحد من أصحابه، فقال: يا هشام ألك من تصدر عن رأيه، وترجع إلى قوله، وتدين بطاعته؟

قال هشام: نعم يا بريهة.

قال: وما صفته؟

قال هشام: في نسبه، أو في دينه؟

قال: فيهما جميعا صفة نسبه، وصفة دينه.

قال هشام: أما النسب خير الأنساب، رأس العرب، وصفوة قريش، وفاضل بني هشام، كل من نازعه في نسبه وجده أفضل منه، لأن قريشا أفضل العرب، وبني هاشم أفضل قريش، وأفضل بني هاشم خاصهم ودينهم وسيدهم،

الصفحة 345
وكذلك ولد السيد أفضل من ولد غيره وهذا من ولد السيد.

قال: فصف دينه.

قال هشام: شرائعه أو صفة بدنه وطهارته؟

قال: صفة بدنه وطهارته.

قال هشام: معصوم فلا يعصي، وسخي فلا يبخل، شجاع فلا يجبن، وما استودع من العلم فلا يجهل، حافظ للدين، قائم بما فرض عليه، من عترة الأنبياء، وجامع علم الأنبياء، يحلم عند الغضب، وينصف عند الظلم، ويعين عند الرضا، وينصف من الولي والعدو، ولا يسأل شططا في عدوه، ولا يمنع إفادة وليه، يعمل بالكتاب، ويحدث بالأعجوبات، من أهل الطهارات، يحكي قول الأئمة الأصفياء، لم تنقض له حجة، ولم يجهل مسألة، يفتي في كل سنة، ويجلو كل مدلهمة.

قال بريهة: وصفت المسيح في صفاته، وأثبته بحججه وآياته، إلا أن الشخص بائن عن شخصه، والوصف قائم بوصفه، فإن يصدق الوصف نؤمن بالشخص.

قال هشام: إن تؤمن ترشد، وإن تتبع الحق لا تؤنب.

ثم قال هشام: يا بريهة ما من حجة أقامها الله على أول خلقه إلا أقامها على وسط خلقه وآخر خلقه، فلا تبطل الحجج، ولا تذهب الملل، ولا تذهب السنن.

قال بريهة: ما أشبه هذا بالحق، وأقر به من الصدق، وهذه صفة الحكماء، يقيمون من الحجة ما ينفون به الشبهة.

قال هشام: نعم.

فارتحلا حتى أتيا المدينة والمرأة معهما وهما يريدان أبا عبد الله عليه السلام فلقيا موسى بن جعفر عليهما السلام، فحكى له هشام الحكاية فلما فرغ قال موسى بن جعفر عليهما السلام: يا بريهة كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به عالم، قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه.


الصفحة 346
قال: فابتدأ موسى بن جعفر عليهما السلام بقراءة الإنجيل.

قال بريهة: والمسيح لقد كان يقرأ هكذا، وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح. ثم قال بريهة: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة، أو مثلك.

قال: فآمن وحسن إيمانه، وآمنت المرأة وحسن إيمانها.

قال: فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله عليه السلام، وحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى عليه السلام وبريهة.

فقال أبو عبد الله عليه السلام: " ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " (1).

فقال بريهة: جعلت فداك أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟

قال: هي عندنا وراثة من عندهم، نقرؤها كما قرؤوها، ونقولها كما قالوها، إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شئ فيقول: لا أدري... (2).

(531)
هشام والمتكلمون

في الاكمال صحيحا عن محمد بن أبي عمير قال: أخبرني علي الأسواري قال: كان ليحيى بن خالد مجلس بداره يحضره المتكلمون من كل فرقة يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم، يحتج بعض على بعض، فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيى: يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ قال: ما شئ رفعني به الخليفة وبلغ بي من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس، يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم على بعض، ويعرف المحق من بينهم، ويبين لنا فساد كل مذهب من

____________

(1) آل عمران: 34.

(2) توحيد الصدوق: ص 270، وراجع قاموس الرجال: ج 9 / 348

الصفحة 347
مذاهبهم.

فقال له الرشيد: أنا أحب أن أحضر هذا المجلس وأسمع كلامهم، على أن لا يعلموا بحضوري فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم، قال: ذلك إلى الخليفة إن شاء ومتى شاء، قال: فضع يدك على رأسي أن لا تعلمهم بحضوري ففعل ذلك، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا بينهم، وعزموا أن لا يتكلموا (1) هشاما إلا في الإمامة، لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة. فحضروا وحضر هشام وحضر عبد الله بن يزيد الأباظي، وكان من أصدق الناس لهشام وكان يشاركه في المحاورة.

فلما دخل هشام، وسلم على عبد الله من بينهم، فقال يحيى لعبد الله: كلم هشاما في ما اختلفتم فيه من الإمامة.

فقال هشام: أيها الوزير ليس لهؤلاء علينا مسألة ولا جواب.

فقال بنان - وكان من الحرورية -: أنا أسألك يا هشام، أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين، كانوا مؤمنين أم كافرين؟

قال هشام: كانوا ثلاثة أصناف: صنف مؤمنون، وصنف مشركون وصنف ضالون، فأما المؤمنون فمن قال مثل قولي: إن عليا عليه السلام إمام من عند الله عز وجل ومعاوية لا يصلح لها، فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي عليه السلام وأقروا به. وأما المشركون فقوم قالوا: علي إمام ومعاوية يصلح لها فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضالون فقوم خرجوا بالحمية والعصبية للقبائل والعشائر، فلم يعرفوا شيئا من هذا وهم جهال.

قال: فأصحاب معاوية؟

قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف كافرون، وصنف مشركون، وصنف

____________

(1) هكذا في الأصل والظاهر أنه " لا يكلموا "

الصفحة 348
ضالون. أما الكافرون فالذين قالوا: إن معاوية إمام وعلي لا يصلح لها فكفروا من جهتين، إذ جحدوا إماما من الله عز وجل ونصبوا إماما ليس من الله. وأما المشركون فقوم قالوا: معاوية إمام وعلي يصلح لها فأشركوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضالون فعلى سبيل أولئك خرجوا بالحمية والعصبية للقبائل والعشائر.

فانقطع بنان عند ذلك.

فقال ضرار: وأنا أسألك يا هشام. قال: أخطأت. قال: ولم؟ قال: لأنكم كلكم مجتمعون على رفع إمامة صاحبي، وقد سألني هذا عن مسألة، وليس لكم أن تثنوا علي بالمسألة حتى أسألك يا ضرار عن مذهبك في هذا الباب، فقال ضرار: فسل.

قال: أتقول: إن الله تعالى عدل لا يجور؟

قال: نعم.

قال: فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد والجهاد في سبيله وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب أتراه كان عادلا؟

قال ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك.

قال هشام: قد علمت أن الله لا يفعل ذلك، ولكن ذلك على سبيل الجدال والخصومة.

قال ضرار: لو فعل كان جائرا، قال: فأخبرني عن الله تعالى كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه، لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم، قال: بلى.

قال: فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين، أو كلفهم ما لا دليل لهم على وجوده، فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب والمقعد المشي إلى الجهاد والمساجد، فسكت ضرار ساعة ثم قال: لا بد من دليل وليس كصاحبك.

فتبسم هشام وقال: تشيع شطرك، وصرت إلى الحق ضرورة ولا خلاف

الصفحة 349
بيني وبينك إلا في التسمية.

قال ضرار: فإني أرجع القول عليك في هذا.

قال: هات.

قال: كيف تعقد الإمامة؟ قال: كما عقد الله النبوة.

قال: فهو إذن نبي؟

قال هشام: لا، لأن النبوة تعقدها أهل السماء والإمامة تعقدها أهل الأرض، فعقد النبوة بالملائكة وعقد الإمامة بالنبي صلى الله عليه وآله والعقدان جميعا بأمر الله جل جلاله.

قال: فما الدليل على ذلك؟

قال هشام: الاضطرار في هذا.

قال ضرار: وكيف ذلك؟

قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله ولم يكلفهم لا يأمرهم ولا ينهاهم، فصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها، أفتقول هذا يا ضرار؟

قال: لا.

قال هشام: فالوجه الثاني: ينبغي أن الناس المكلفين استحلوا بعد الرسول صلى الله عليه وآله، علما في مثل علم الرسول صلى الله عليه وآله حتى لا يحتاج أحد إلى أحد؟

قال ضرار: لا أقول هذا أيضا.

قال: فبقي الوجه الثالث: وهو أنه لا بد لهم من عالم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا، يحتاج الناس إليه ولا يحتاج إلى أحد.


الصفحة 350
قال ضرار: فما الدليل عليه؟

قال هشام: ثمان دلالات: أربع في نعت نسبه وأربع في نعت نفسه، فأما الأربع التي وقعت في نعت نسبه: فإنه يكون معروف الجنس، معروف القبيلة، معروف البيت، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إشارة إليه، فلم تر جنسا من هذا الخلق أشهر من جنس العرب الذي منهم صاحب الملة والدعوة الذي ينادى باسمه كل يوم خمس مرات على الصوامع " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله " تصل دعوته إلى كل بر وفاجر وعالم وجاهل مقرر منك في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن يكون الحجة من الله تعالى على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده، ولجاز أن يطلبه في أجناس من هذا الخلق، ولكان من حيث أراد تعالى أن يكون صلاح يكون فساد، ولا يجوز هذا في حكمته تعالى وعدله أن يفرض على الناس فريضة لا توجد، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يكون من غير هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة، ولم يجز من ذلك أن يكون هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهو قريش.

ولما لم يجز أن يكون هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة، ولما أكثر أهل البيت التشاجر في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد، فلم يجز إلا أن يكون إليه إشارة من صاحب الملة والدعوة بعينه واسمه ونسبه، لئلا يطمع فيها غيره.

وأما الأربع التي في نعت نفسه: فأن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسنته وأحكامه حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون معصوما من الذنوب، كلها وأن يكون أشجع الناس، وأسخى الناس.

فقال عبد الله بن يزيد الأباضي: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟